من يعرف ألمانيا اليوم، لا يُمكن أن يستوعب حقًا ما كتبه الصحفي اللبناني كامل مروّة عن رحلته إليها عام 1942، وكيف أجهشت شابة نمساوية بالبكاء حين أهداها هذا العربي قطعة صابون، كما أن من يسمع عن الفترة النازيّة من بعيد لا يُمكن أن يستوعب أن
نسبة لا بأس بها من الأجانب كانت تعيش في ألمانيا حينها، ومن بينهم عرب بالطبع، ولكن المثير أن وصف مروّة لأجواء الحرب والقصف تذكرنا كثيرًا ببلادنا العربية اليوم، أكثر من أي شيء آخر!
أجواء الحرب.. الكريهة!
قبل أن يصل إلى برلين، عاش مرّوة دوي القصف أول مرّة في بلغاريا وصدُم عندما رأى كيف اعتاد الناس على القصف -كما يحصل في سوريّا اليوم- إلا أن صدمته بالإفطار في أفخم فنادق فيننا كانت أقوى، فقد كان طعام الفطور كريهًا جدًا، حيث لم يكن هناك أي شيء طبيعيّ على المائدة، فالجبنة ذات طعم كيماوي والشاي عبارة عن ماء ملون بالكيمياء، وحين اعترض على ذلك وجد النادل يقول له: "نحن لا نأكل لنعيش بل نعيش الآن لننتصر وسنأكل بعد النصر ما نشتهي"!
الأعجب من الطعام، هي أن هذا الصحفي العربي وجد رائحة الناس كريهة، وقد أدهشه ذلك، بالأخص لأنه يعلم أن الألمان مشهورين بالنظافة، ولكنه يوضح أنه اكتشف لاحقًا أن المُشكلة كانت في الصابون الذي توزعه الحكومة "النازية" والتي كان تعاني من نقص في الزيوت، وكان الصابون يُصنع من مواد تُنظِّف الأوساخ ولكن مُشكلتها أنها تترك رائحة كريهة، حتى إنه يروي كيف أجهشت فتاة نمساوية بالبكاء بعد أن أهداها قطعة صابون أصليّة، فالحصول على الصابون كان حُلمًا صعبًا في النمسا في تلك الأيام.
لم يكن الصابون وحده عزيزًا، فقد بلغت أسعار القهوة الأصلية التي كانت تباع سرًا مبالغ خياليّة، كأن يحصل الإنسان على كيلو من القهوة مقابل معطف من الفرو الثمين، والأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة للقهوة فقد كانت الحكومة توزع على المدني المدخن 6 سجائر يوميًا، ثم هبط الرقم إلى أربعة، حيث أوقفت معظم مصانع السجائر وأرسل عمالها إلى الجبهات كما أرسل معظم الدخان للجنود.. كما يذكر الكاتب كيف قام بإهداء موظف "المخابرات" لوحًا من الشوكولاتة لابنه المريض، ففرح بها فرحًا عظيمًا حتى قال له: "إن ابني سيشفى بمجرد رؤية الشوكولاتة!".
400 عربي في برلين
حين دخل "مروّة" برلين لأولى مرّة لم يبهره شيء كما أبهرته نظافتها، فهي عنده أنظف من كُل العواصم الأوروبية التي زارها في تلك الأيام، بل راح يتمنى أن يجد في بيروت سلّة بلديّة واحدة يستطيع المرء أن يلقي فيها بالنفايات البسيطة، بينما في برلين كانت هناك عام 1942 سلّة كُل خمسين مترًا.
وقد نتخيّل أحيانًا، أن برلين في الفترة النازيّة كانت خالية من "الأجانب" وهذا مُجرد وهم، ينفيه مروّة أيضًا، فيقول: "كم كانت دهشتي عظيمة عندما سمعت شتى اللغات تتردد على ألسنة المارة، إلا اللغة الألمانية" فراح يسأل وكانت الإجابة بأن الرجال في الجبهة والنساء في المصانع، كما أن أكثر العمال في برلين كانوا من بلجيكا وفرنسا وهولندا وحتى النرويج.
حتى العرب كانوا في برلين، وكان تعدادهم حينها حوالي 400 نسمة، وكان بينهم طُلاب وتجار ونشطاء سياسيون، وأبرز من كان يتردد على برلين حينها الحاج أمين الحسيني ورشيد علي الكيلاني - رئيس الوزارة العراقية حينها - وكان مُعظم العرب يجتمعون حولهم.
تحت القصف
كصحفي، لم يكن "مروّة" ليهدأ دون أن يعرف آراء الألمان من الحرب، ولم يكن يعجبه تكتمهم الشديد وخوفهم من الحديث في السياسة، إلا أنه لم ييأس، فوجد عجوزًا راح يؤكد له أن البطاطا هي سبب الحرب، فالألمان وهم "أكلة البطاطا رقم 1" شبعوا من البطاطا بينما الإنجليز ينهبون ثروات العالم، كما وجد من الناس من لم يكن يتوقع اندلاع الحرب عام 1939، بل كانوا يتخيّلون أن هتلر سيتجنب الحرب بأعجوبة فهو "يكره الحرب" كما كانوا يقولون!
يعترف مروّة أن رحلته علمته أن للطبيعة بما فيها من ميزات جغرافية وجيولوجيّة يمكن أن تؤثر على شخصيّة الإنسان، وأن الطبيعة في ألمانيا قد قست على الإنسان وحبست عنه جميع أسباب الرفاهية، ولهذا يقول: "إذا كان الألماني قاسيًا، فذلك لأن أرضه ومناخه لا يوحيان إلا القسوة والجد، خاصّة في الشمال".
هذه القسوة، لم يجدها مروّة في وجوه البرلينيين العابسة، بل وجدها في قصف برلين التي زارها لاحقًا للتنسيق مع الحاج أمين الحسيني، فقد وجد نفسه تحت نيران غارة جويّة كبرى لم يعهدها من قبل، وذلك عام 1943، حين وجد الناس تهرع إلى الملاجئ، بينما هو منشغل بألا يضيّع القطار، فلم تمض لحظات حتى وجد نفسه تحت القصف.
"الانفجارات تترى من كل جهة، والحرائق تبدأ في كل مكان، تشعلها مئات الألوف من قنابل الفسفور المتساقطة.. كنت أعدو بكل قواي، رائحة الزرنيخ تكاد تخنفني، الدخان يتكاثف والشظايا تتساقط حولي والمباني "تكر" كورق اللعب"!
كانت هذه برلين وألمانيا عام 1943، وهي مشاهد لا يُمكن لمن يعرف ألمانيا وبرلين اليوم أن يصدقها، ولكنها حصلت بالفعل، بل إن أجمل ما فيها أنها حصلت وتكاد تكون اليوم نسيًا منسيًا، ولعلها أجمل برهان لنا.. أن دوام الحال من المحال، وأن الحروب التي تعيشها بلادنا.. قد تكون يومًا ما مُجرد مذكرات يُطالعها أحفادنا، تبهرهم فيكتبون عنها.. وكأنهم لا يصدقون أنها كانت يومًا ما حقيقة!
*عمر عاصي
مدون فلسطيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق