يعتبر ابن حزم الأندلسي [علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خَلَف بن معدان بن سفيان بن يزيد، كنيته أبو محمد، وشهرته ابن حزم (384 ــ 456 هـ)]، واحداً من أعلام الحضارة الإسلامية بوجه عام، ومن أبرز علماء الأندلس على نحو خاص.
وقد تجلّت في شخصيته تلك الظاهرة الموسوعية. فقد كتب في الفقه، وأصول الفقه، والأنساب، والتاريخ، والمنطق، ومقارنة الأديان، كما كتب في الأخلاق، وترك كتاباً متميزاً في الأدب العربي هو "طوق الحمامة، في الألفة والألاف". كان ابن حزم شاعراً وأديباً، فهو لم يمرّ على واحد من المجالات السابقة مروراً عابراً، بل إنه تعمّقه، وبدا كما لو كان متخصصاً فيه وحده.
درس ابن حزم نص العهد القديم، دراسة نقدية على المستوى النصى والمصدرى والدينى والتاريخى والجغرافى والأخلاقى واللغوى والأدبى. وانقسم نقده إلى قسمين رئيسين، ينتمي أوّلهما إلى الخطة الأصلية لكتاب "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، أما ثانيهما فهو الجزء الأول من الملحق الخاص بنقد أسفار الكتاب المقدس، وهو - سمّاه ابن حزم- "فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة في الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة وفي سائر كتبهم، وفي الأناجيل الأربعة يتيقن بذلك تحريفها وتبديلها وأنها غير الذي أنزل الله".
توافرت لأبن حزم في هذا السبيل أدوات البحث، إلا أنه لم يكن يعرف اللغة العبرية، كما يذكر، د. إحسان عباس، في تحقيقه لكتاب "رسائل ابن حزم، الجزء الثالث، الرد على ابن النغريلة اليهودي". وكما يفصل في هذا ابن حزم نفسه، في كتابه "الفصل في الملل والنحل" بقوله: "وقد أخبرني بعض أهل البصر بالعبرانية". اطلع ابن حزم باعترافه على نسختين مختلفتين للتوراة، إذ نجده يقول "ورأيت في نسخة أخرى منها". وقد كانت مترجمة، والدليل على ذلك قوله: "إن لم يكن أحدهما خطأ من المترجم وإلا فلا أدري كيف هذا؟".
قال د. محمد خليفة حسن ود. أحمد محمود هويدى، في كتابها "إتجاهات نقد العد القديم": "ولا يمكن تحديد الترجمة التي أخذ عنها ابن حزم على وجه الدقة، ففي عصره انتشرت ترجمات العهد القديم مثل ترجمة سعدديا الفيومي وترجمة يافث بن على اللاوى، وهناك ترجمات أقدم من هاتين الترجمتين أشار إليهما المسعودي، وهذه الترجمات هي: ترجمة إبراهيم التسترى وترجمة يهوذا بن يوسف المعروف بأبي الثناء".
ومن علامات الدقة العلمية لدى ابن حزم، وصفه المفصل لإحدى مخطوطات التوراة التي اعتمدها، حيث قال: "وإنما هي مقدار مائة ورقة وعشرة أوراق، في كل صفحة منها ثلاثة وعشرون سطراً إلى نحو ذلك، بخطِّ هو إلى الانفساح أقرب، يكون في السطر بضع عشرة كلمة". يقول عدنان المقراني، في كتابه "نقد الأديان عند ابن حزم الأندلسي": وبالحساب نجد، عدد الصفحات: 110 X 2 = 220 صفحة.
عدد السطور: 220 X 23 = 5060 سطراً.
وفي السطر الواحد بضع عشرة كلمة، أي ما بين 13 و19 كلمة.
الحد الأدنى لعدد الكلمات: 5060 X 13 = 65780 كلمة.
الحد الأدنى لعدد الكلمات: 5060 X 19 = 96140 كلمة.
وهذان الحدان مقبولان، لأن العدد الإجمالي لكلمات التوراة يقع بينهما، وهو يساوى: 81573 كلمة. يضيف قائلاً: لم يرد الرقم أعلاه في الكتاب المقدس، ولكن ذكرت أعداد الكلمات في كل سفر من أسفار التوراة الخمسة، كما يلي: التكوين 20967، الخروج 16773، اللاويين 12007، العدد 16852، التثنية 14874. واطلع ابن حزم أيضاً على الأسفار الأخرى، وعلى كتب وشروح لليهود لا يسميها ويكتفي بأن يشير إليها بقوله: "وفي بعض كتبهم" أو "وفي بعض كتبهم المعظمة". كما يشير إلى سفرين من أسفار التلمود يسمى أحدهما شعر توما ويسمي الثاني سادر ناشيم. وقرأ أيضاً تاريخ يوسيفوس (أو يوسف بن هارون الهاروني ــ كما يسميه ــ).
اعتمد منهج ابن حزم في نقد التوراة على وجهين كبيرين أو مسلكين:
الوجه الأول: النقد الداخلي.. تتّبع ابن حزم، على الترتيب، فصول التوراة "السبعة والخمسين"، كل فصل على حدة، مبيناً ما فيه من أدلة تكشف عن فساد نسبته إلى موسى، وتثبت أنه "من وضع مُدلِّسٍ جاهل"، أو "ملحد متستر باليهودية". فنظر إلى النصوص ذاتها من حيث اختلافها وتناقضها، حيث كان يتخذ نصاً أساسياً محوراً للنقد، ويقارنه بنصوص أخرى سواء من نفس السفر أم من غيره. وبذلك استطاع أن يجعل التوراة نفسها تحمل بين ثناياها دليل تناقضها وبرهان بطلانها.
الوجه الثاني: النقد الخارجي.. إذ بحث الظروف العامة والخاصة لوضع التوراة وحفظها ونقلها. وهنا كان على ابن حزم تتبع التاريخ السياسي والديني لليهود، حتى يبرز الأدوار المختلفة التي مرّت بها التوراة، ولدى من كان يُحتفظ بها؟ وأحوال الحَفَظة؟ والمكان الذي كانت تُحَفظ فيه؟
يؤكد هذه الريادة المنهجية (متمثلة في ابن حزم) ما قرَّره المستشرق مرجليوث، في مقالة "أسفار العهد القديم والعهد الجديد في الإسلام"، حين رأى أن دراسة ابن حزم لأسفار العد القديم، جعلته "سبَّاقاً" في إيراد الملاحظات النقدية المنهجيَّة التي أَدلَى بها النقَّاد في العصر الحديث، مثل: الأسقف J.H.Colenso صاحب الكتاب الضخم "الفحص النقدي للأسفار الخمسة وسفر يوشع"، الذي نشره في سبعة أجزاء، من سنة 1862 ــ 1879م.
وهذا يبرهن على خلاف ما يذهب إليه د. حسن حنفي، في مقدمة ترجمته القيمة لــ "رسالة سبينوزا"، حيث يقول: "يعتبر النقد التاريخي للكتاب المقدس، أحد المناهج العلمية التى وضعتها الفلسفة الحديثة، كما يعتبر من أهم مكاسب الحضارة الأوروبية بالنسبة لدراسة التوراة والإنجيل، نتجت عن تأليه العقل في القرن السابع عشر، وإخضاع الطبيعة له، فكما أن هناك نظاماً للطبيعة، هناك أيضاً قوانين لضبط صحة الرواية، ولا فرق بين الظاهرة الطبيعية والنص الديني.... كلاهما يخضع للعقل وقواعده".
في هذا السياق، يقول د. محمد عبد الله الشرقاوي، في كتابه "منهج نقد النص بين ابن حزم الأندلسي واسبينوزا": "النقد التاريخي للكتاب المقدس لم يكن وليد الفلسفة الحديثة بحال، وليس من أهم مكاسب الحضارة الغربية الحديثة، وليس وليد القرن السابع عشر الميلادي؛ بل هو وليد الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، وابن حزم مثلاً سابق للقرن السابع عشر والفلسفة الحديثة بستة قرون أو أكثر، وأن حركة نقد الكتاب المقدس في الغرب قد تأثر فلاسفتها وأعلامها بالفكر الإسلامي واستمدوا منه بشكل مباشر، وغير مباشر". في موضع آخر يقول: "يمكن القول إن الفيلسوف اسبينوزا ــ في نقده الداخلي ــ قد لخّص، وهدَّب، ونسق وعمق الحيثيات التي أوردها ابن حزم من قبل، ثم انتهى إلى نفس النتائج التي انتهي إليها ابن حزم؛ بل إنه صاغها ــ أحياناً ــ بنفس عبارة ابن حزم الأندلسى". ويضيف: "وما يثير العجب حقاً أن اسبينوزا قد استخدم عبارات ابن حزم ذاتها في تعليقاته النقدية قائلاً عن هذه الأسفار الخمسة: إنها تاريخ مُؤلف، ألف بعد موسى بقرون عديدة، إن كتاب موسى كان يقرأ في مجلس واحد... إلخ".
يقول مؤلفو كتاب "إتجاهات نقد العد القديم": يتصف عمل ابن حزم في نقد العهد القديم بالشمولية في الموضوع والمنهج. فقد غطت العملية النقدية التي قام بها العهدين القديم والجديد كما اشتملت على كل اتجاهات النقد الرئيسية وأهمها النقد النصي والمصدري والأدبي واللغوي والتاريخي والديني والأخلاقي. وهي نفس اتجاهات النقد التي اشتملت عليها حركة نقد الكتاب المقدس في الغرب، وهي الحركة التي أسسها المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن. ولا تختلف هنا سوى في التفاصيل التي حصل عليها النقاد في العصر الحديث من خلال التقدم في علمي التاريخ والآثار وفي منهج النقد التاريخي والأدبي، وكذلك التقدم في الدراسات اللاهوتية والدينية والفلسفية. ويؤكدان: على استفادة يوليوس فلهاوزن من التراث الإسلامي في نقد الكتب المقدسة وبخاصةالاستفادة من أعمال ابن حزم على وجه التحديد.
ويعتبر فلهاوزن حلقة الوصل بين التراث الإسلامى والتراث الغربى الحديث في نقد الكتاب المقدس. فقد تخصص فلهاوزن في الدراسات العربية والاسلامية قبل أن يتحول إلى نقد العهد القديم ويؤسس علم نقد الكتاب المقدس في الغرب. وصلة فلهاوزن بأعمال ابن حزم وغيره من علماء المسلمين لا تحتاج إلى دليل؛ فهو من كبار المستشرقين المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية. من هنا يتضح لنا ان ابن حزم الأندلسي، يستحق لقب "مؤسس علم نقد الكتاب المقدس".
*أحمد الدبش
كاتِب وباحِث في التاريخِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق