كتب محمد عبد الله عنان، في كتابه "تراجم إسلامية شرقية وأندلسية": "كثيرا ما تُغير حقائق التاريخ أو تشوه، ويغمرها معترك من الخرافة، فتغدو على كرّ الأجيال وقد غاضت معالمها الحقيقة، ورسخت صورها التي ينسجها الخيال، وأضحت تحجب ما عداها من الصور التي تعتمد على الحقائق التاريخية".
وهذا القول ينطبق على بهاء الدين قراقوش (أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي الملقب بهاء الدين)، والي عكا، فإن الفيلم السينمائي "الناصر صلاح الدين"، للمخرج يوسف شاهين، إنتاج عام 1963، يقدمه إلينا مثالا للخيانة، في عدة مشاهد متكررة، حيث ظهر والي عكا، والذي جسد دوره الفنان توفيق الدقن، يصدر الأوامر برَمي السلاح في البحر، وفي مشهد آخر، نسمع صيحات الجند: "أين السلاح.. خيانة.. خيانة". وفي مشهد ثالث يظهر وهو يحتفل بسقوط مدينة عكا في يد الفرنجة، ويقوم بتقديم الخمور إلى قادة الفرنجة، وفي مشهد أخير، يتم إلقاء القبض عليه ومحاكمته بتهمة خيانة الوطن! تداول الناس هذه الصورة المبتذلة لـ"والي عكا"، ولصقت به تهمة "خيانة" منذ عرض الفيلم! فما وجه الحقيقة في ذلك؟!
يقول المقريزي (تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي بن عبد القادر العبيدي المقريزي)، في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك، الجزء الأول"، تحت عنوان "سنة أربع وثمانين وخمسمائة"، إن السلطان "استدعى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي من مصر، فاستخلف على عمارة سور القاهرة، وقدم والسلطان على كوكب، فندبه لعمارة عكا، فشرع في تجديد سورها وتعلية أبراجها، بمن قدم به معه من مصر من الأسرى والأبقار والآلات والدواب"، مما مكنه من مقاومة الغزاة طيلة مدة حصار عكا. وكان من جملة ما أنشأه الأبراج المتعددة للحمام الزاجل الذي كان يستعمله للاتصال مع السلطان.
كتب عماد الدين الكاتب الأصفهاني (أبو عبد الله بن محمد بن حامد)، في كتابه "الفتح القُسِّي في الفتح القُدْسي"، تحت عنوان "ذكر وصول بهاء الدين قراقوش لتولي عمارة عكا": "فقال السلطان: ما أرى لكفاية الأمر المهم، وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، المضئ الفهم، الهمام المحرب، النقاب المجرب، المهذب اللوذعي، المرجب الألمعي، الراجح الرأي، الناجح السعي، الكافي الكافل بتذليل الجوامح، وتعديل الجوانج، وهو الثبت الذي لا يتزلزل، والطود الذي لا يتحلل، بهاء الدين قراقوش الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش، وهو الذي أدار السور على مصر والقاهرة وفات وفاق الفحو بآثار مساعيه الظاهرة، فنأمره أن يستنيب هناك من يستكفيه لتمام تلك العمارة، ونأمره لهذا الأمر فهو جدير بالأمر والإمارة.
وكوتب بالحضور لتولي الأمور وعمارة السور، فوصل متكفلا بالشغل، متحملا للثقل، منشرح الصدر بالعمل، منفسح السر والأمل، مبتهجا بالأمر، ملتهجا بالشكر. وقد استصحب معه كل ما يفتقر إليه من أسباب العمارة وآلاتها وأدويتها وأدواتها، وأنفارها وأبقارها، ورجالها وعمالها وعمارها، ومهندسيها وماسيها، وحجاريها ومعماريها، والأسارى والصناع، والنحات والقطاع والمال الكثير للنفقة، والذهب الإبريز والرقة.
*أحمد الدبش
كاتِب وباحِث في التاريخِ
فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق