" ستصبح بعد عشرين عاما وحيدا كالمجذومين تتجول في شوارع بلدتك المهجورة، تبحث عن أير معفن تمصه.. أي أير، كل ذلك عبثا ، ففي تعابير يختلط فيها القرف والشفقة.. لن يرضى أحد الاقتراب منك، حتى التبوّل عليك"
هذا ما قاله سمير عشيق إميل الأول في مساكن الطلبة في معهد الهندسة التطبيقية –التخنيون في حيفا، بعد أن قال له أميل في خضام شجار عنيف وطويل..
"لا تنسى أنك بنهاية الأمر فلاح، نعم فلاح.. رائحة جسمك وحل وتبن، أشكر ربك أنني أوافق النوم معك أصلا، كل محاولاتك لتبدو مدنيا فاشلة ومزيفة حتى كلمة ماما التي تنادي بها أمك أو تذكرها بها تبدو كالشتيمة أو النكتة البايخة وسط نظرات جميع النزلاء الساخرة والمستهزئة وخاصة بشير ومأمون أبناء قريتك أو بلدك.. لا أعرف ماذا تسمون هذا الشيء".
وكأن دعاوى سمير والسيناريو الذي رسمه انتقاما على شتيمة "فلاح" سترافق إميل طيلة حياته وسوف تنافس لعنة سوسن التي حلت بالعائلة جمعاء وكأن إميل سيسير منتصب القامة وبإصرار لا غبار عليه نحو تلك النهاية.. نحو تحقيق ما تمناه له سمير من مصير بائس أو ربما قد لا يكون بائسا.. فقد يكون مثيرا، وذلك يتعلق بالزاوية التي ينظر المرء منها وما الذي يعتبر مثيرا بالنسبة له وما الذي يعتبر تعيسا وباهتا.
ثم منذ متى تعتبر كلمة "فلاح" شتيمة، ما هي اللحظة التاريخية التي حملت هذه الكلمة كل هذه الحمولة المريبة
ثم أن رائحة جسم سمير لم تكن تبنا أو ترابا عميقا، بل كانت خليطا من أمور غير محسوسة أخرى ولكنها بالتأكيد مثيرة للحيرة ... رائحة تحمل عوالم جديدة... كما أن بشرته الداكنة ملساء بدون شعر باستثناء شعر العانة والقليل منه عند منطقة الصدر، لا ينبت الشعر الكثيف في منطقة الظهر والمؤخرة خلافا للرجال المسيحيين في الشمال وكأن إميل كان قد نام معهم جميعا وهم عراة، لكن لا شك أن في جسم سمير وعيونه السوداء الداكنة الوحشية كان هنالك ما يطرح الرغبة بالمزيد والمزيد وقد كان ذلك عبارة عن مزيج من الوعي الإكزوتيكي العميق والمتأصل من جيل إلى جيل ومن الإعتقاد أو ربما الوهم من أن سميرا هذا يحمل أسرار عديدة ستنكشف كل مرة من جديد كلما تم إطفاء الأنوار في مسكن طلبة 25\6 في حي كندا أو في مسكن 25\3 من الحي نفسه.
عام 1992، كانت تلك المرة الأولى التي يهطل فيها الثلج على ارتفاع منخفض نسبيا من جبل الكرمل وتحديدا على "نافيه شئنان" الذي كانت تسميه الجدات والطنطات بإصرار وعند "النبي شعنان" وهو نبي لم يتواجد أصلا لا ضمن الموروث المحكي ولا ضمن الكتب السماوية والدنيوية، فقد ولد النبي شعنان عندما قررت الصهيونية إطلاق تسمية "نافيه شئنان" على سفح الكرمل هذا. كان الثلج يتساقط بهدوء شديد بفراغات هندسية دقيقة وكان يبدو لشدة الضوء المنبعث من الأرض أشبه بالنجوم التي سئمت العتمة والظلمة وقررت الانتحار بعذوبة وأناقة تليق بالحدث عندها قرر التلفزيون الأردني وكعادته في العواصف الثلجية عرض برامج ترفيهية جديدة ولم يسبق عرضها من قبل... وهكذا كانت النجوم تنتحر خارجا والعرض الأول لفيلم "الراعي والنساء" من بطولة سعاد حسني بعد غيابها عن السينما والإشاعات حول صحتها واكتئابها حيث كان شكلها بالفعل صادما لأول وهلة وخاصة بشاشة الأبيض والأسود وصعوبة التقاط البث في تلك الأيام دون هوائي محترم، لكن الأمر لم يكن كذلك على السرير الطلابي الضيق الملاصق للحائط الملاصق لغرفة الطالب الآخر.
كان ثلج النبي شعنان يفصل بين عالمين أو فلنقل بين مرحلتين.. تلك الما-قبل والتي كان من المستحيل أن يتخيل أميل أو يفكر أن شفاه سمير المكتنزة والكاسحة من الممكن أن تلامس شفتيه التي كان قد تربى بطريقة غير مباشرة على كنها ناعمة وضئيلة وهشة.. والأكثر من ذلك... طاهرة ومحمية أما المرحلة الثانية فقد كانت بطبيعة الحال مرحلة الما-بعد والتي أصبحت شفاه سمير فيها مرتع للذة.. مرتع تتصاعد فيه الرغبة بدالة خطية كلما لطخ الدنس شفاه إميل وكلما امتزج اللعابين أكثر وأكثر ليصبح واحدا، جديدا، يخلق محيطا ثالثا من اللعاب الهجين، محيطا لا يمكن الفرار منه أو العودة من حيث أتيت، عليك المضي فيه قدما نحو الأمام حتى من دون وجود أسهم تشير للاتجاه ، وقد تغرق في يم اللعاب هذا وعلى الأرجح أنك ستغرق...
بعدها كان هنالك شيء مفضوح ما في تصرفات سمير تجاه إميل في محيط طلاب الشقة في مساكن الطلبة وكذلك أصدقائهم ما كشف علاقتهما بسرعة وما جعل الجميع يتواطؤون مع قصة الحب المثلية الجديدة والتي اخترقت حيز الملل والتجانس الظاهري على الأقل الذي ميز أجواء الطلاب الريفيين في تلك المساكن وخاصة مع الغياب شبه التام للفتيات عن ذلك الحيز التعليمي والمعيشي الجديد والمتطلب...كان التواطؤ صامتا وقد بدا حينها أن الجميع يستمتعون به وخاصة سمير الذي نجح في إيقاع هذا الفتي النصراوي الدلوع الذي يحادث أمه نصف الكلام بالهاتف العمومي بالفرنسية ذلك الفتى الذي كان على حافة كل شيء.. على حافة الجمال.. على حافة الذكاء.. على حافة النحافة المرضية... على حافة التفكك.. على حافة الهروب.. على حافة الجنون...
كان الجميع متواطئون مع المتعة الإيروتيكية التي خلقها انبعاث هذا الزوج وذلك التوتر الاستيتيكي بين ما يمثلانه سوية عبر ذلك الفرق بينهما وكل على حدة عبر حب سمير الطاهر لإميل واستعداده عدم اخفاء أي شيء من هذه اللهفة وذلك الحب أمام أي كان مقابل ذلك الدلع الشرير لإميل والذي لا يشبه شيئا سبقه... وهكذا تحول إميل بفعل حب سمير الخالص له من مجرد شخص معزول ومنطوي ولا يتحادث سوى مع أبناء مدينته إلى دمية الشقة المدللة التي استطاعت اختراق النواة الصلبة للوجود الريفي الإسلامي لمساكن الطلبة وخاصة أنه لم يكن استغرابه بحركات طريفة وكيدية استغرابه من الطريقة التي يلتهم فيها حسين زميله في الشقة دجاجة كاملة خلال دقائق وبطريقة غية في الغرائزية..
ففين حين كان سمير يتفنن في سبل عطائه والغاء ذاته للحفاظ على هذا الحب وعدم إضاعة إميل من يديه، كان إميل يفكر بأنه يريد أن ينام مع المزيد والمزيد من أصدقاء سمير.. أمثال نضال الذي يملك جسدا أكثر فتاوة وامتلاءا في ذات الوقت من سمير ومع بشير ومع نبيل ومع موسى ومع رزق... فتحت شفاه سمير الماجنة التي لا تشبهه أبواب الخيانة من أول لحظة.. منذ لحظة تساقط الثلج لأول مرة على سفوح الكرمل المنخفضة بعد عشرات وربما مئات السنين ومذ ظهرت سعاد حسني بوجه شبحي باهت ليضع حد للحب...
عندما كان إميل يحدث أمه بالهاتف العمومي بفرنسية مشوهة لم يكونا يتفقان على موعد إجازة التزلج على الجليد في سويسرا أو الشوبينج في لندن كما كان يعتقد غالبا جميع نزلاء الشقة.. بل كانا ينصتان سويا لصراخ سوسن بصمت ليفكر هو في أثناء ذلك بجسد نضال المشتهى.. يخترقه بعنف قذر.
*راجي بطحيش
كاتب من فلسطين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مقابلة مع راجي بطحيش...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق