اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

القضايا النقدية التجديدية عند الناقد اللبناني ميخائيل نعيمة


*لامية مراكشي
إنّ رحلة شعرنا الحديث والمعاصر قد تنوعت دروبها وتعددت طرقها ، ونحن نعلم أنّ التجديد سمة الحيوية ، وأن الثابت صورة من صور الجمود وبعض من صفات التوقف، وأن محاولة الخروج من مأزق الثبات تصاحبها معاناة الإنتقال من حال إلى حال. فقد كان هناك دوما طموح إلى تغيير أو خلخلة في نظام الشعر الموروث.

يحاول نعيمة على أساس من ذلك فك هيكل الشعر التقليدي وترتيبه كما يراه ضروريا هذا ما يستدعيه للبحث عن القصيدة الحديثة كبناء ليجدد السكن في عصر يختلف عن العصر القديم .
لتوخي الغاية المستهدفة سعى لإرساء مجموعة من الأسس يراها أرضية لمفهوم القصيدة الشعرية الحديثة .
هذه الأسس النقدية تقتضي من منظوره إطارين هما؛ الإطار الداخلي الذي يتركز على دور الشعر ومصدره فيحاول تغيير توجّهه عما كان عليه من قبل، وذلك من خلال سعيه لفرض سمة كانت بيت القصيد بالنسبة له ألا وهي – تدفق المد العاطفي– هذا المد الذي يحاول نعيمة أن يكسّر به الحواجز، ومن ضمن ذلك الإطار الخارجي الذي يتضمن تغيير طريقة استخدام أدوات الشعر من خلال محاولة تطوير اللغة الشعرية والشكل الموسيقي، لزومية الصدق الفني، الخيال الشعري، الصورة الشعرية وضرورة الوحدة العضوية .
تبعا لذلك يتحول مفهوم الشعر والشاعر وما تستدعيه هذه القضايا من تغيير لمفهوم النقد والناقد والمنهج النقدي والمقاييس الأدبية ؛ والتي تنصب على القصيدة الشعرية بالتصحيح وبنائها بناءً مغايرا يتماشى مع العصر . وغيرها ممّا يسهم بشكل أساس في تطوير بنية القصيدة الشعرية .
إضافة إلى هذه المسائل التي يعالجها نعيمة من خلال تنظيره لها أو ممارسته نقدها ، دعا للإهتمام بالترجمة الأدبية للشعر ويهدف من وراء ذلك إلى ربط الحداثة العربية بالحداثة الغربية .
يشكل مضمون – الحداثة – الخيط الذي يربط بين هذه المسائل رباطا حركيا إنطلاقا من الثورة على التقليد فهو يسعى لحمل مشروع تكويني للقصيدة الشعرية خاصة . فيشرع في التحدث قضية التجربة الشعرية

ومن خلالها تصبح القصيدة قطاعا من حياة الشاعر النفسية والعقلية قد تركزت فيها وتجمعت طاقته الشعورية والذهنية ليعبر عن تجربة له ، وبذلك لا تكون القصيدة جمع كلام في أوزان وقواف يسترسل فيه الشاعر ويكدسه تكديسا ، وإنّما تكون حدثا أحسه خلال نفسه حدثا يعصر فيه قلبه وعواطفه . ويقر نعيمة بأن التجربة ، هي خلق لحدث شعري وجداني وثورة يطرحها عمق الشّاعر ، لكن هذا الحدث يتدرّج فيه الشاعر خطوة خطوة ، وليس عملا سهلا ، بل هو عمل صعب ، فقد يبدو له بعد أن بدأ فيه أن ينصرف عنه ، لأنه لا يستطيع أن يسوّى الحدث كما يريد ، وقد يمضى فيه لأنه يراه أهلا للخلق والوجود فهو نبع يفيض في نفسه بالمشاعر وفي عقله بالأفكار.
ومع ذلك فهو يصلح فيه ويحذف ويضيف، وقد يهدمه ويعود إلى بنائه، وقد يهدم جزء فيه ويعيد بناءه من جديد وما يزال يجهد نفسه في تصحيحه وتعديل أجزائه، حتى يرتسم كاللّوحة الباهرة بجميع خطوطه وظلاله وأضوائه وألوانه.
ويكون ذلك تبعا لتلك النفس التي " كثيرا ما تلفظ عواطفها وأفكارها قبل الأوان فتظهر ناقصة مشوهة، لكنها أبدا تعود فتحمل وتعود فتلد، والنفس التي تلد عواطف جميلة وأفكارا حية، ناضجة".
وإذا كان العمل الأدبي وحدة مؤلفة من الشعور والتعبير، وفي العالم الأدبي لا وجود للتجربة الشعورية قبل أن يعبر عنها في هذه الصورة اللفظية، فقد تغير مفهومه في العصر الحديث تماما عما كان عليه الأمر في تراثنا القديم.
أصبحت مهمته الأساسية أن يعرض التجارب الإنسانية وأن يصف جزئياتها ويسجل الإنفعالات التي صاحبتها في نفس من عاناها ويصور ما أحاط بهذا التصوير من انفعال، والحرارة التي صاحبت الإنفعال، وكلما كان دقيقا في سرد التفصيلات التي مرت بها التجربة من خلال النفس، كان ذلك أدعى إلى اكتمال العمل الأدبي وأضمن لاستجاشة النفوس واستثارة المشاعر، وحرارة الاستجابة .
والأدب الذّي يريده نعيمة؛ يتمثل في ذلك الأدب الذّي يجب أن يكون نابعا من اعتقاد زملائه بأنه أدب رسالة ، وليس مهما في اعتقاده أن يكون زملاؤه مخطئين فيما يذهبون إليه من آراء ، إنما الأهم أن يكونوا صادقين مخلصين في أداء الرسالة الملقاة على عواتقهم ، وما دام الأمر كذلك فإن هذا الصدق وذلك الإخلاص يشفعان بخطئهم .
والشعر في المفهوم النعيمي أزلي ، حيث وجد بوجود الإنسان ذاته «الشعر رافق الإنسان من أول نشأته، وتدرج معه من مهد حياته حتى ساعته الحاضرة، من الهمجية إلى البربرية إلى الحضارة إلى مدنية اليوم، تمشت الإنسانية والشّعر سميرها ومعزّيها ومشجعها ومقومها».
غير أنّ هذا الشّعر ليس بالضرورة أن يفهم على أساس الوزن والقافية أنّه كل نغمة ذات جرس موسيقي، ومشاعر إنسانية عمادها الكلمة أو الصورة ، وللشعر قيمة ووظيفة في الحياة ، ومن ثم فعبثا يحاول النّاس التقليل من شأنه ما دام في الإنسان ميل إلى الغناء في حالتي الطرب والحزن ، ومادامت اللّغة وسيلة التعبير عن العواطف والأفكار والآمال ، وسيظل حاجة من الحاجات الإنسانية الروحية، إذ يجسم أحلامه عن الجمال والعدل والخير
وللشعر عنده صفات وليس تعريفا دقيقا ، فقد جعل منه كل شيء في الحياة لكن دون أن نستطيع وضع أيدينا على شيء معين فهو يبدي وجهة نظره نحو الشعر في ضوء نقطتين جوهريتين:
النظرة إلى الشعر من حيث تركيبه وتنسيق عباراته وأوزانه وقوافيه.
النظرة المتمثلة في أن الشعر قوة حيوية، قوة خلاقة، قوة مندفعة دوما إلى الأمام.
«هو انجذاب أبدي لمعانقة الكون والاتّحاد ومع كل ما في الكون من جماد ونبات وحيوان، هو الذات الروحية تتعدد حتى تلامس أطرافها الذات العالمية» ويضيف أنّ: «الشعر تعبير عن معاناة الإنسان وتجربته مع قوى الحياة من خير وشر، وتفاؤل وتشاؤم، وحق وباطل، وروح ومادة وسعادة وشقاء، وبالإجمال، الشعر هو الحياة باكية وضاحكة وناطقة وصامتة ومولولة ومهللة، وشاكية ومسبحة، ومقبلة ومدبرة » .

إنّ الشعر عنده سبيل لتصوير الحياة بكل ما فيها، وأنّ الشاعر بواسطة الشعر يستطيع أن يبلغ أرقى المراتب الإنسانية، وإنّه يستطيع كذلك أن يعانق الكون بواسطته، وهنا إشارة إلى ذلك الإتحاد الصّوفي بالكون، وذلك الانجذاب الرّوحي في عالم الخيال، والتّطلع إلى المعلوم والمجهول، إلى ما هنالك من خطرات فلسفية.
فميخائيل نعيمة يتجاوب من خلال تعريفاته للشعر، مع الشّعر، الذّي يعلي من شأن الوجدان وهذا يوضح ميله إلى التيار الرومانسي.
لقد أعلن ميخائيل نعيمة حربا على الشعر الإحيائي وانحطاطه حيث أنكر أن يكون للعرب شعراء يوازون الشّعراء الغربيين أمثال شكسبير وموليير لهذا عزا الانحطاط الذّي انتهى إليه الشّعر إلى الشاعر العربي نفسه لأنه لم يكن شاعرا وإنما كان نظاما يقلّد الأقدمين فيما جروا عليه من وصف أشعارهم واستعمال لغتهم التي لا تمسّ الحياة اليومية .
لتفادي هذا الانحطاط، ركزّ على مهمة الشّاعر وهي"الابتعاد عن التقريرية" أو التسّطيح لأنها توقع الشّاعر في شرك النظم، كما أنّه نادى بـ " صدق العاطفة" في كل أثر أدبي وفي الشعر على الخصوص لأن جمود الأدب العربي يرجع إلى انعدام هذه الخاصية وهي التي يسميها نعيمة " الإخلاص" فيما يقول الشاعر أو الأديب أي الصوت الداخلي الذي يولد بين أنامله والقلم تجاذبا بين المغناطيس والحديد .
إن في مفهومه هذا تلمسا للفردية، لكنها ليست الفردية التي تعنى العزلة عن روح الجماعة، لأن الفرد في المجتمع الإنساني الحديث قد أصبح جزءا من بناء كبير، لا يستطيع أن ينسلخ عنه إلا بمقدار ما تستطيع الخلية أن تنسلخ عن بقية الخلايا في نسيج الكائن الحي، ولا يمكن أن يسمى الفن فنا إلاّ إذا قام على هذه الحقيقة التي أصبحت من مسلمات الدّراسات الأدبية والنقدية ولا سبيل الآن إلى وجود كاتب أو شاعر يقدم لنا عملا لا نرى فيه أنفسنا ولا نحس من خلاله بأنه يتحدث عنّا.
نعيمة يقصد بترجمة النفس هذا الاتصال الوثيق بالحياة، وبما تشمل عليه من مظاهر وأشكال وأحوال –فترجمة النفس– عنده هي الإحساس بالحياة، جزئياتها وكليّاتها، آلامها وآمالها، أشكالها المادية والروحية على السواء. فهي عنده ليست شعورا ذاتيا محضا بل هي شعور إنساني عام يتكيف بنفس الشاعر الخاصة. ولهذا يصعب جدا، في نظري أن يرمي مندور نعيمة بالذاتية المغرقة في دعوته للشعر، أو بالدعوة إلى مذهب الفن للفن رغم اعتراف نعيمة الصريح بالبعد عن هذا المذهب واتجاهه.
لأنّ نعيمة بقوله أن الشعر ترجمان النفس لا يدْعُ إلى الانكماش والذاتية، بل دعا دائما إلى ألا يقول الشاعر شعرا في موضوع إلا ّ إذا شعر به شعورا صادقا في تعبيره، ومن أن ينظم بالتالي شعرا رفيعا، لأنه إذا فقد الشاعر هذا الصدق في التعبير نتيجة لفقدان الإحساس الصادق عجز عن تأدية رسالته المنتظرة منه .
ونجد نعيمة يعتبر الشاعر ذو تركيبة خاصة ، فهو ليس إنسانا عاديا – على الأقل – في أثناء تعامله مع هذه المادة التي تحتاج إلى خصائص وصفات يفترض ألاّ تتوافر عند غيره .
إنّه يسم الشّاعر "بالنبي" ؛ لأنّه تميز برؤية روحية لا تتوافر في كل النّاس، ومن ثم فهو يرى الأشياء بعين متميزة تختلف عن أعين الناس العاديين ، وهو بذلك يستطيع أن يدرك حقيقة المعرفة الإنسانية ، ولعل ذلك يعود إلى تلك الموهبة التّي وهبه اللّه إيّاها ، المتمثلة في عينه الروحية التي يستطيع بواسطتها أن يعانق ذات الكون ، وأن يلامس الحقيقة ويبرزها لنا .
هو كذلك" مصور" ؛ لأنّه يستطيع سحب ما يراه وما يسمعه من خلال تشكيل شعري بخصائص أسلوبية جمالية ، وذلك لما لديه من مقدرة خارقة وملكة تصويرية عميقة ، تمكنه من تصوير ما يراه وما يسمعه في قالب جميل من صور الكلام التي تكمن في شعره .
كما أنه "موسيقي" ؛ لأنّه يلتقط بحاسته السمعية أصواتا متوازنة في حين يسمع الناس العاديون غير الهدير والجعجعة ، بمعنى أنه يضفي عليه صفة الموسيقى الصافية المتميزة ، ذلك أن الشاعر يختلف عنا في إدراك ما نسمع فقد نسمع ما يسمعه الشاعر ، غير أنه يستطيع أن يحول ما يسمعه إلى موسيقى عذبة .
ثم إنّ الشاعر " كاهن" ؛ لأنّه يفني ذاته في خدمة إله ، هو الحقيقة والجمال ، ويتبدى هذا الإله في صور شتى ، وأحوال متنوعة ، لكنه يعرفه أينما رآه ويقدم له تسابيح حيثما أحست روحه بوجوده .
يراه في الزهرة الزاوية والزهرة الناظرة . يراه في وجنة الفتاة وفي اصفرار وجه الميت ، يراه في السماء الزرقاء ، والسماء المتلبدة بالغيوم، في ضجة النهار وسكينة اللّيل .
فالشاعر المجيد عند نعيمة هو الذّي تتوفر فيه تلك الصفات الإنسانية التي تميزه عن باقي البشر»؛ «نبي وفيلسوف ومصور وموسيقي وكاهن، نبي لأنه يرى بعينيه الروحية ما لا يراه كل بشر . ومصور لأنه يقدر أن يسكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام . وموسيقي لأنه يسمع أصوات متوازنة حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة ... هو يسمع موسيقى في ترنيمة العصفور وولولة العاصفة... وأخيرا الشاعر كاهن لأنه يخدم إلها هو الحقيقة والجمال...».
فالشاعر هو الذّي يملك من قوة الحسّ ونفاذ البصيرة وجمال الإدراك ما يجعله يرى في الحياة من حوله ما لا يراه بقية النّاس، فالقدرة على استشفاف المعاني الخفيّة، والنفاذ إلى أعماق الكائنات المادية صغيرة كانت أم كبيرة للإحاطة بصورها التي تكمن وراءها هي خاصية من خصائص الشاعر الملهم لا تتوفر لغيره.
والشاعر هو الذي يستطيع بكل ما مُنحه من اقتدار فنّي على التعبير والإبانة أن ينقل أحاسيسه في صورة رائعة من الكلام الجميل الذي يستطيع بما توفر له من عناصر الجمال أن يؤثر بمضمونه ويوحي به إيحاءا كاملا.
وإذا كان هناك فرق بين الشّاعر وبين من يتطفّل على الشّعر، فهو فرق بين الشاعر والنظام- كما يدعوه نعيمة- فالشاعر لا يأخذ القلم بين أنامله إلاّ مدفوعا بوازع داخلي لا سلطة عليه، فهو من هنا عبد لهذه السلطة الداخلية لكنّه حر مطلق الحرّية، حين يجلس لينحت لمشاعره وأحاسيسه تماثيل من الألفاظ والقوافي
إذا الشاعر الجدير بهذه التسمية ينبغي أن يحس إحساسا عميقا بالمسؤولية الملقاة على عاتقه لا أن يجعل من الشعر حرفة أو هواية للتسلية ، وبالتالي ، فللشاعر رسالة إنسانية مقدّسة ، وهنا يبدوا ذلك العبء الثقيل الذّي يتحمّله .
أما النظام ، فيأخذ قلما وقرطاسا ثم يبدأ بوخز دماغه وقريحته علّه يتمكن من أن يهيجهما ولو قليلا ، غايته لا أن يترجم عن عواطف أو أن يعبّر عن أفكار بل أن "ينظم قصيدة " لذاك إذا خدعنا هذا بطلاوة نسقه فلا يطول أن نكتشف تصنّعه وخداعه فننساه وننسى قصيدته » .
فالمقلد ليس إلاّ نظاما لا يعنيه أن يدور بكلامه حول عاطفة صادقة أو تجربة إنسانية عامة ، ولكن همّه الأوّل والأخير أن يأخذ قلمه وقرطاسه لينظم قصيدة ، أيّ قصيدة ، ثم لا يعنيه شيء بعد ذلك .
السبب في ذلك أن الشّعر الذي يضمن البقاء يخرج من نفس شاعرة ملهمة تترجم الحياة بمختلف ملابساتها وتناقضاتها من منظور إنساني يعرب عن الوجدان الإنساني وما يختلج في هذا الوجدان من شعور بالألم والأمل، بالسعادة والشقاء....، في حين يأتي النظّام ليتصنّع في الإعراب عن هذا الإحساس فتبدوا آثار الصنعة والتكلف منذ الوهلة الأولى، وبذلك يفقد هذا المصطنع نسمة الحياة التي تضمن له البقاء .
وقد كانت قضية اللغة هاجسا ظل عالقا في تنظير ميخائيل نعيمة لتبرز هذه القضية هما حداثيا لم يستطع تجاوزه ، فقد مثلت هذه القضية جانبا من الشكل الذي ارتآه لاحتضان مفهومه الحديث، فيرى أن الكلام لا قيمة له من أجل حروفه، وأن الألفاظ كلها سواء من حيث هي ألفاظ، وإنما قيمته وفصاحته وبلاغته وتأثيره تكون من التأليف الذي تقع به المزية في معناه لا من أجل جرسه .
فالشاعر من منظور نعيمة مطالب بأن يعطي شعرا ملتصقا بالحياة، يخدم أغراضها كفن جميل نافع. يسهم بتصوير آلام الناس وأحزانهم ومشكلاتهم ليوقظ الغافل من ضمائرهم، ويخلق فيهم الشوق إلى حياة لا تكون غريبة معها، كلمات من نوع حرية مساواة وعدل.
لقد أقر حقيقة أخرى، هي أن اللغة في أصل وضعها رمز إلى العاطفة والفكر فهي كائنة بعدهما ، ومهما بلغت دقتها فإنها لا تتجسم الأفكار والعواطف كما تنبت في النفس وتنمو فيها .
ثم إن اللغة ليست الرمز الوحيد الذي توصلت إليه البشرية لنقل ما يعتمل في داخلها من فكر وعاطفة، فهناك الألوان والظلال في الرسم والتجسيم في النحت، والألحان في الموسيقى، وكلها رموز إلى أفكار ومشاعر معينة، بل إن الصندوق الذي يصنعه النجار ، والجدار الذي يشيده البناء ، والعباءة التي يحوكها الحائك هي رموز قلبية فكرية .
اللغة العربية بحكم هذا الارتباط بالعقيدة تخضع في تطورها لرقابة علماء اللغة منذ القرون الأولى للهجرة وعنايتهم الفائقة بأمرها وتحديدا لعصور الاحتجاج بها ، واعتزازا بنصوصها القديمة ، وحرصا على استمداد المفردات والقواعد اللغوية من بينها صونا للألسنة من الانحراف .
إنّ موقف النّاقد ميخائيل نعيمة من قضية الأوزان والقوافي في الشّعر العربي هو امتداد لموقفه من قضية التحرّر اللّغوي، فهو يعتبر أنّ كل ميراثنا القديم ليس إلاّ قيودًا ثقيلة لحياتنا يجب الخلاص منها . إذ لا سبيل إلى الارتقاء بهذه الحياة والنهوض بها إلاّ إذا حرّرناها من عبودية الماضي . إذن، فلا غرابة أن يبذل قصارى جهده لتحقيق هذه الغاية فراح يهاجم قواعد اللّغة ، كما راح يلهب ظهر الخليل وعروضه بأسواط من نار .
لقد أقام النّاقد ميخائيل نعيمة عراكا عنيفا مع الخليل ومع أوزانه وقوافيه وزحافاته وعلله، وقد أدرك هذا العراك حول تصوّر خاطئ، هو أنّ هذا العروض بكلّ قيوده الثقيلة قد كبّل عواطف الإنسان وأفكاره وحبسها في هذه الدّائرة العنيفة التي قامت عليها بحور هذا العروض، وأن اشتغال النّاس بزحافاته وعلله قد صرفهم عن الشّعر إلى النّظم، بل قد صرفهم عن كثير من مواهب الخلق والإبداع في مجالات النّشاط الفكري والفني المختلفة.
فليس عندنا روايات ولا مسرحيات واكتشافات ولا اختراعات، وكل هذا بسبب العروض الذي استهلك اهتمام النّاس واستأثر بكل جهدهم. وغايتهم حتى أصبح كل طالب شهرة يلجأ إلى العروض كأنّه أقرب الموارد.
يحمل على زحافات الأوزان وعللها ويذهب إلى أنّ القوافي وحتى الأوزان يمكن الاستغناء عنها في الشّعر :
بناءًا على ذلك راح نعيمة يفتّش عن طريقة حديثة في الشّعر تمكّنه من الإنفلات من جمود القصيدة العربية التي تعتمد على القافية الواحدة، ذلك أنّ مثل هذه القصيدة في رأي نعيمة لم تعد قادرة على مماشاة روح الحياة العصرية لاختلاف المفاهيم الفكرية والحضارية من جهة، وعدم تهيّئ الشّاعر فطريًا وبيئيًا للسّير على هذا المنوال الذي كان شائعا في العصور الماضية .
وينطلق نعيمة في تحديده لمفهوم النّقد من المثل العربي الشّائع: من غربل النّاس نخلوه؛ حيث يقول:« إنّ مهنة النّاقد الغربلة. لكنّها ليست غربلة النّاس. بل غربلة ما يدوّنه قسم من النّاس من أفكار وشعور وميول. وما يدوّنه النّاس من الأفكار والشّعور والميول هو ما تعوّدنا أن ندعوه أدبًا. فمهنة النّاقد، إذن، هي غربلة الآثار الأدبية. لا غربلة أصحابها.».
ثمّ إنّ وظيفة النّقد - في المفهوم النعيمي إذا - لا تقتصر على الغربلة للتّمييز بين جيّد الأعمال ورديئها فحسب ، بل تتعداها إلى عملية الخلق ، فالنّاقد حسب هذه النّظرة يجمع بين مجموعة من المعادلات ، فإلى جانب التمحيص والتثمين والترتيب هناك الإبداع والتّوليد والإرشاد .
فيرى نعيمة أنّ النّاقد لا يكون بالضرورة شاعرا ، لكن ذلك لا يعوقه عن إدراك ما في النّص من خبايا النفس وتموّجاتها من خصائص روحية ؛ ويبيّن عملية التمثيل الإبداعي من خلال القراءة النّقدية حين يقسم هذه القراءة إلى قسمين ، أولها هو روح النّص أو معايشة ما يحتويه داخله ، وثانيهما البحث في طبيعة الشكل الخارجي للنّص .
«إلاّ أنّ هناك خلة لا يكون النّاقد ناقدا إذا تجرّد منها . وهي قوة التمييز الفطرية ، تلك القوة التي توجد لنفسها قواعد ولا توجدها القواعد ، والتي تبتدع لنفسها مقاييس وموازين ولا تبتدعها المقاييس والموازين ».
يكون هذا النّقد عبر اللّغة الأدبية التي اعتبرها نعيمة مستودعا للرّموز لا ركاما من الكلمات والمفردات والقواعد ، ولهذا تتصارع في الأدب العربي فكرتان : "فكرة تحصر غاية الأدب في اللّغة . وفكرة تحصر غاية اللّغة في الأدب".
وقد انتصر نعيمة للفكرة الثانية ؛ لأنها ترى في الأدب معرض أفكار وعواطف ، معرض نفوس حساسة تسطر ما ينتابها من عوامل الوجود ، وقلوب حيّة تنثر أم تنظم نبضات الحياة فيها ، لا معرض قواعد صرفية نحوية ، وكشاكيل عروضية بيانية .
ولعل طبيعة المنهج الذي اختاره نعيمة لنقده هو منهج ذوقي تأثري ، إذ إن ملامح هذا المنهج تلوح لنا من خلال حديثه عن قوة التّمييز الفطرية التي تتجاوز القواعد ، بل تخلق لنفسها قواعد .
ثم يتساءل نعيمة في مستهل حديثه عن المقاييس الأدبية على الآلية التي تقيس بها الأدب ، فهو في حاجة إلى الأدوات أو الإجراءات المنهجية التي تمكّنه من ضبط النّص المنقود وتشريحه ، من حيث الطول أو القصر ، من حيث المبنى أو المعنى أو بإقبال النّاس على عمل إبداعي ما لأي جنس من الأجناس الأدبية . كما يتساءل عمّ إذا كانت هناك استحالة هذه المقاييس بحكم اعتمادها على الحاسة الذوقية وما يترتب على ذلك من اختلاف الأذواق بإختلاف النّاس والأزمنة والأمكنة .
بالإضافة إلى تساؤله عمّ إذا كانت هذه المقاييس القيمية، ومنها المقاييس الأدبية شبيهة بالأزياء التي يصيبها التّبديل بتبدل الأيّام والأماكن والأذواق والمدارك، فما جدوى التمييز بين الأمور والفصل بين الغث والسمين منها، ما دام يبدو لنا اليوم جميلا أو قبيحا قد يتغيّر موقفنا منه غدا.
تلك أهم التساؤلات التي يطرحها النّاقد ليصل من وراءها إلى تأكيد نسبية القيم النّقدية وربما نسبية الأشياء في حد ذاتها.
يقرر الناقد أنّ لكلّ شيء قيمتين إحداهما مادّية والأخرى روحية، وهو يرى أنّ في الحياة ما ليس له إلاّ روحية من ذلك الفنون ، ومن ذلك الأدب .
لقد حدد- نعيمة - المقاييس الأدبية من خلال أربعة محاور جوهرية ، ربطها بالحاجات الإنسانية ، وذهب إلى أنّ هذه الحاجات هي المقاييس الثابتة التي يجب أن تقاس بها قيمة الأدب ، وأهمّها في اعتقاده :
الحاجة إلى الإفصاح عمّ ينتاب الإنسانية من العوامل النّفسية كالأمل واليأس، والفوز والفشل، والشك واليقين، والحب والكره....
الحاجة إلى نور الحقيقة التي نهتدي بسراجها في حياتنا الداخلية، وحقيقة ما في العالم من حولنا، أنها الحقيقة التي لا تتبدل بتبديل الزمان والبشر.
الحاجة إلى الجمال في كلّ شيء، إذ إن في الروح ميلا إلى الجمال. لا ينطفئ وكل ما فيه مظهر من مظاهر الجمال، وحتى وإن اختلفنا في تجسيد كل ما هو جميل فهناك في الحياة جمال مطلق لا يختلف فيه ذوقان.
حاجة الإنسان إلى الموسيقى، لاسيما أنّ من أسرار الألوهية ميلاً عجيبا إلى الأصوات والألحان العذبة الشجية لا تدرك حقيقتها، فالنفس تهتزّ طربا لسماع خرير المياه وحفيف الأوراق، ولكنّها تنفر من سماع الأصوات النشاز.
إذن فمدار هذه المقاييس التمس للأدب الجيد أربعة أشياء:
النّاحية الانفعالية العاطفية.
إلقاء الضوء على الحياة وفهمها وتفسيرها التفسير الذي ينسجم مع حقائق الكون
التعطّش للجمال.
الموسيقى.
هذه الحاجات هي المقاييس الثابتة التي يجب أن نقيس بها الأدب فتكون قيمته بمقدار ما يسد من بعض هذه الحاجات أو كلّها. ويكون أثمنه أجلاه بيانا، وأغناه حقيقة، وأطلاه رونقا، وأشجاه وقعا .
عموما يمكن القول إن تطوير نعيمة للقصيدة كان تطويرًا أشبه بالنمو الوئيد الأصم منه إلى الثورة النقيضة المتصلة بجذورها العميقة وكينونتها الداخلية ، فرغم دعواته العنيفة خاصة في مقالاته – الحباحب- ، - الزحافات والعلل- ، - نقيق الضفادع -... فالقصيدة بقيت-في تلك الفترة- هي هي، وعمود الشعر هو هو، والعروض لم يجر عليه غير تعديل طفيف . فقد كانت دعواته التجديدية دعوات فجّة، وظلت تحمل من خصائص الشعر التقليدي الشيء الكثير، بالتالي لم يستطع قطع كل صلة له بالقديم.
لأن التجديد الذي جاء به هذا الناقد، لم يكن قضية تحرّر مطلق من الأطر المفروضة، بقدر ما كان قضية "ثقافة" و "عقلية" إنها طريقة نظر و طريقة فهم، وهي من حيث المبدأ الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة في تغيير هذا النظام . في الوقت نفسه استطاع أن يرسي دعائم مدرسة جديدة. وأن يؤصل لها قواعدها، وأن يغير من الشكل والمضمون الذين استقرا للقصيدة العربية على أيدي شعراء مدرسة الإحياء .
هكذا فقد فهم نعيمة أن الطريق الصحيح للتجديد هو الموازنة الدقيقة الذكية بين القديم والجديد.
لأن ناقدنا افتتانا منه بالشعر الأوروبي حاول تقليده، لكن بفضل بروز رؤيته الإبداعية بقي مرتكزًا على التراث ومنطلقا منه في تجديده . بهذا أعتبره ناقدًا مجددًا، فقد نقل الشعر العربي من حيز التقليد إلى حيز التجديد، ولم يكن مجرّد مستهلك لنظريات النقد الغربي بل مسهمًا في إنتاج نظرية متميزة، وذلك من خلال اقتناعه بثلاث مسلمات برزت في خطابه النقدي هي :
1-الخروج عن الشعر العربي القديم ضرورة لا مفر منها .
2-اعتماد الشعر الغربي معيارًا للشّعر و الشاعرية.
3-إعادة قراءة الشعر العربي قديمه وحديثه في ضوء معطى روح العصر.
من هنا فإبداعه كان إبداع خلق لأنه تعاطى النقد بالأخذ من معطيات سابقة وانطلق منها فأضاف إضافات هامة لقضايا الشعر وإن لم تكن عصرية تمامًا، وبدأت مسلمات الماضي وبديهياته تتهدم تدريجيا منذ عصره. هذا يدل على أنّ تجديده لم يكن فوضى قاصرة؛ وإنما كان تجديدًا مسؤولا. بهذا كان الإنسان الذي قدمه في الماضي وعينه في المستقبل بتقديمه مقالات تجديدية تمكنت من كسر "قداسة" عمود الشعر ومد الظلال إلى المستقبل.

*لامية مراكشي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قائمة المصادر و المراجع.
ميخائيل نعيمة: الغربال، بناية نوفل، شارع المعماري، بيروت، لبنان، ط15 1991.
إبراهيم الحاوي: حركة النقد الحديث والمعاصر في الشعر العربي، د.ط 1402هـ-1983م.
إبراهيم خليل: مدخل لدراسة الشعر العربي الحديث، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، ط1، 1424هـ-2003م.
إبراهيم رامي: أوراق في النقد الأدبي، دار الشهاب للطباعة والنشر، ط1 1985.
إبراهيم رماني: الغموض في الشعر العربي الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية، الساحة المركزية بن عكنون، الجزائر، د.ط/د.ت.
إبراهيم محمود خليل: النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، د.ط/د.ت.
إبراهيم صحراوي: تحليل الخطاب الأدبي، دراسة تطبيقية (رواية جهاد المحبين لجرجي زيدان نموذجًا) دار الآفاق، الجزائر، ط1، 1999م.
أحمد بزون: قصيدة النثر العربية (الإطار النظري)، دار الفكر الجديد، بيروت لبنان، ط1، 1996.
أحمد الرقب: يوسف بكار ناقدًا، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، ط1، 2007.
أحمد أمين: النقد الأدبي، طبع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية وحدة الرغاية الجزائر، د.ط، 1992.
أحمد سليمان الأحمد: الشعر الحديث بين التقليد والتجديد، الدار العربية للكتاب، د.ط، 1983م.
أحمد محمود المصري: قضايا نقدية قراءة في تراث العرب النقدي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ط1، 2007م.
أحمد يوسف خليفة: دراسات أدبية ونقدية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر الإسكندرية، ط1، 2006م.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...