في هدأ ة من ليلِ بهيم ، فوجئ بكسر قضبان نافذة زنزانته ، تملكته الدهشة ، تحطّمَ سكون عزلته غلى جدار الصمت ، طفق يفرك عينيه الشاحبتين ويحد النظر صوب النافذة المحطّمة، ينهض واقفا، تقوده قدماه بهدوء حذر ، يعاينها باستغراب ، أصابعه تمسّان حديدها بتؤدة ، يتأكّد له أن قواعد ها مخلوعة من أماكنها الغائرة في عمق الجدار ، روحه اليائسة أشعلها جمر الوهم ،تصارعت في رأسه هواجس القلق والخوف والفرح الآتي ، يحاول أن يرمّم ما تبقّى من محطّاته البعيدة الثاوية على رصيف الانتظار.
النار تصهل في قلبه ، ظله الممدود خلف الوهم يتسرب إليه شعاع فجر جديد. الفرصة
مواتية الآن ، لن يتغاضى عن خبث العسس والسجانين إزاء نافذة كانت مقفلة طوال السنوات الماضية ..لا يرغب البتّة في معرفة من كسرَ ها ، كل همّه أن ينفذ منها إلى خارج أسوار السجن . أحلامه المبعثرة سيلمُّ شتاتها ، والدروب التي نسيها سيمشيها مهما كانت التضحيات.
.لن يعبأ للريح لو استفاقت لتضرب وجوه أبواب الرجاء المعقودة ،
_أيها الليل ألا أنجلي.. دع لي كوّة لأهرب منها قبل أن يداهمني الطوفان.. أعرف أن الموت في كل الدروب مباح .
الأوجاع التي كانت تصرخ في كل جزء من جسده هدأت وتناست ضرب الهراوات ولسع السياط، سيمضي الليلة ، وسيحطّم أسطورة الموت البطيء. و قف منتصباً على ساقيه المتعبتين ، لن يعييه بعد هذه الليلة إلتهاب المفاصل الرثوي، ولا سعال أواخر الليل، ولا رئة مثقوبة تتسوّل الهواء النقي ، كلمّا لطمت خياشيمه رائحة البول وعفونة المكان ، تستفيق مشاعره وتتوثب أعضاءه، الآن يشعر أنه يُبعث من جديد،
يطلّ بعنقه من النافذة. لاشيء يبعث على الريبة. الأضواء المنعكسة على الأشجار الكثيفة تعانقها نسمات هواء لذيذ يحّرك المصابيح المعلقة بذؤابات الأشجار السامقة. لا يعلم أي طريق سيسلكه لو ُقيّضَ له أن يعبر النافذة ،الروح المثقلة بالحزن تطرح ثمارها الُمرّة وتبتسم له . بات حلمه مشدوداً بعبورها والقفز إلى الأرض المفتوحة ، يخشى أن يبزغ الفجر وهو يغالب انفعالاته وتوجساته. ارتقى الجدار ومدّ رأسه ليلقي نظرة أخيرة على الساحة الخضراء، تحرّكت تحت كفه ورقة مطوية تحت درفة النافذة، تمعَّن بقراءة سطورها مستغرباً، قرأ فيها ( متى ما وجدتَ النافذة محطّمة .أهرب حالاّ ..اهرب يميناً ولا تلتفت إلاّ وأنت خارج الأسوار) لم يستطع تمييز صاحب الخط .لم يشغله التفكير بأمر الورقة .هبط منها عبر الجدار .سقط فو ق شجيرة صغيرة ، لا مست قدمه العشب المبلول ، تذكّر رفاقه في الزنازين الأخرى :
_ يا ترى هل كُسرت لهم النوافذ مثلي ..أم في الأمر سرٌ لا أعرفه ؟!
أسرعََ يجري محني الظهر، متحاشياً الارتطام بعوائق الطريق. شرع يركض على غير هدى ،لا شيء يشغله غير معرفة السبيل ، إنه بالكاد يتذكره ، كان قد قطع مسافة ليست بالقليلة وهو يرقب السور العالي الذي بدا يبتعد عنه رويداً رويداً . خطواته لما تزل تقطع المدى وقلبه يخفق بين أضلاعه ، ما كان في الحسبان أن تنطلق صفارة الإنذار بهذه السرعة ، لتعلن للجميع _ أن سجينًا قد هرب _ كل الدروب أُغلقت، والقناديل اليدوية أُسرجت. والشرطة على أهبة الاستعداد لكل طارئ.
الهراوات اتخذت سبيلها نحو جسده الهزيل، أعقاب البنادق سلخت فروة رأسه وأدمت عينيه بمنتهى السرعة والحماس .
لم يتبين ملامحهم، الدم النازل على عينيه أفقده الرؤيا .لم يسمع غير همهمات وكلمات مبتورة ولهاث غاضب . رائحة دمه ملأت أجواء الزنزانة وسالت القطرات المستباحة فوق بلاطها النتن ، رموه جثة بلا حراك ، أنين ووجع ممض ، أعقاب البنادق رسمت أخاديدا بعيدة الغور في جسده العاري، توقف عن الأنين عند الفجر ولا ذت الظلمة في تلافيف أشجار السرو السامقة ،استفاق قليلاً ..اعتدل في جلسته بصعوبة ، كل عضو في جسده يتألم ، راودته أحداث الليلة الماضية ، حانت منه إلتفاته نحو النافذة . لم تكن هناك نافذة البتة. ثمة جدار مثقوب مفتوح على فراغ مهول شاسع ..ليس ثمة قضبان ولا عسس ولا سجّان .
ينهضَ من مكانه ، يسير نحو الجدار ، يتلمسه بأصابعه المتورمة .يندفع من رحم الغرفة المظلمة ، تقوده قدماه نحو حديقة خضراء ممتدة بلا حدود، تغفو فو ق مروجها أزهار ملونة تمتد على مرمى البصر ، تجوّل بين الأشجار الباسقة، رأى جداول الماء المنسابة بين الأحراش والزهور . طيور ملونة و نوارس تحلّق في السماء ، يجد نفسه خفيفاً بسير بلا آلام ولا جراح ، يشعر أنه يعدو بلا قدمين.
طوى انكساراته وراح يتقافز مبتسماً، فارداً ذراعيه بانتشاء . عبرَ مسافات طويلة، يشدّه الوهج القادم من شعاع الشمس .
راح يضحك مبتهجاً تتعالى ضحكاته في الفضاء الفسيح ، يلتفت ليرى كم المسافة بينه وبين الأسوار العالية التي تركها وراءه ، لم يجد أثرا للأسوار ولا لتلك البنايات الشاحبة بلون الموت . واجهه نهر واسع يمتد أمامه بلا جسور ، خلع ملابسه وقفز في عمق الماء ليعبر إلى الضفة الأخرى ، بعد قليل شعرَ بالتعب وهو يجذف بذراعيه ، تلاحقت أنفاسه ، أتعبه اللهاث أحسّ بيد قويه تدفع به نحو الأعماق ، يد هائلة لحيوان أسطوري تضغط به نحو القاع ، يحاول التخلص منها بلا جدوى، لمّا أوشك على الإختناق ، عنّ له أن يصرخ، أحسّ بحذاء ثقيل يدوس على رأسه، يفتح عينه ليجد نفسه أمام السجّان واقفاً ينظر إليه ، يلتفت نحوه بذهول .
قدم السجّانالضخمة فوق رأسه..تناهى له صوت السجان وهو يزمجر :
_ إجمع أشياؤك حالاً .. لقد صدرت الأوامر بنقلك إلى زنزانة أخرى..
_لماذا ؟!
_لقد خالفتَ اللوائح والتعليمات .
_ لم أكسر القضبان ولم أخالف التعليمات .
_ كنتَ تحلم .... والأحلام ممنوعة !
.
* عادل المعموري
النار تصهل في قلبه ، ظله الممدود خلف الوهم يتسرب إليه شعاع فجر جديد. الفرصة
مواتية الآن ، لن يتغاضى عن خبث العسس والسجانين إزاء نافذة كانت مقفلة طوال السنوات الماضية ..لا يرغب البتّة في معرفة من كسرَ ها ، كل همّه أن ينفذ منها إلى خارج أسوار السجن . أحلامه المبعثرة سيلمُّ شتاتها ، والدروب التي نسيها سيمشيها مهما كانت التضحيات.
.لن يعبأ للريح لو استفاقت لتضرب وجوه أبواب الرجاء المعقودة ،
_أيها الليل ألا أنجلي.. دع لي كوّة لأهرب منها قبل أن يداهمني الطوفان.. أعرف أن الموت في كل الدروب مباح .
الأوجاع التي كانت تصرخ في كل جزء من جسده هدأت وتناست ضرب الهراوات ولسع السياط، سيمضي الليلة ، وسيحطّم أسطورة الموت البطيء. و قف منتصباً على ساقيه المتعبتين ، لن يعييه بعد هذه الليلة إلتهاب المفاصل الرثوي، ولا سعال أواخر الليل، ولا رئة مثقوبة تتسوّل الهواء النقي ، كلمّا لطمت خياشيمه رائحة البول وعفونة المكان ، تستفيق مشاعره وتتوثب أعضاءه، الآن يشعر أنه يُبعث من جديد،
يطلّ بعنقه من النافذة. لاشيء يبعث على الريبة. الأضواء المنعكسة على الأشجار الكثيفة تعانقها نسمات هواء لذيذ يحّرك المصابيح المعلقة بذؤابات الأشجار السامقة. لا يعلم أي طريق سيسلكه لو ُقيّضَ له أن يعبر النافذة ،الروح المثقلة بالحزن تطرح ثمارها الُمرّة وتبتسم له . بات حلمه مشدوداً بعبورها والقفز إلى الأرض المفتوحة ، يخشى أن يبزغ الفجر وهو يغالب انفعالاته وتوجساته. ارتقى الجدار ومدّ رأسه ليلقي نظرة أخيرة على الساحة الخضراء، تحرّكت تحت كفه ورقة مطوية تحت درفة النافذة، تمعَّن بقراءة سطورها مستغرباً، قرأ فيها ( متى ما وجدتَ النافذة محطّمة .أهرب حالاّ ..اهرب يميناً ولا تلتفت إلاّ وأنت خارج الأسوار) لم يستطع تمييز صاحب الخط .لم يشغله التفكير بأمر الورقة .هبط منها عبر الجدار .سقط فو ق شجيرة صغيرة ، لا مست قدمه العشب المبلول ، تذكّر رفاقه في الزنازين الأخرى :
_ يا ترى هل كُسرت لهم النوافذ مثلي ..أم في الأمر سرٌ لا أعرفه ؟!
أسرعََ يجري محني الظهر، متحاشياً الارتطام بعوائق الطريق. شرع يركض على غير هدى ،لا شيء يشغله غير معرفة السبيل ، إنه بالكاد يتذكره ، كان قد قطع مسافة ليست بالقليلة وهو يرقب السور العالي الذي بدا يبتعد عنه رويداً رويداً . خطواته لما تزل تقطع المدى وقلبه يخفق بين أضلاعه ، ما كان في الحسبان أن تنطلق صفارة الإنذار بهذه السرعة ، لتعلن للجميع _ أن سجينًا قد هرب _ كل الدروب أُغلقت، والقناديل اليدوية أُسرجت. والشرطة على أهبة الاستعداد لكل طارئ.
الهراوات اتخذت سبيلها نحو جسده الهزيل، أعقاب البنادق سلخت فروة رأسه وأدمت عينيه بمنتهى السرعة والحماس .
لم يتبين ملامحهم، الدم النازل على عينيه أفقده الرؤيا .لم يسمع غير همهمات وكلمات مبتورة ولهاث غاضب . رائحة دمه ملأت أجواء الزنزانة وسالت القطرات المستباحة فوق بلاطها النتن ، رموه جثة بلا حراك ، أنين ووجع ممض ، أعقاب البنادق رسمت أخاديدا بعيدة الغور في جسده العاري، توقف عن الأنين عند الفجر ولا ذت الظلمة في تلافيف أشجار السرو السامقة ،استفاق قليلاً ..اعتدل في جلسته بصعوبة ، كل عضو في جسده يتألم ، راودته أحداث الليلة الماضية ، حانت منه إلتفاته نحو النافذة . لم تكن هناك نافذة البتة. ثمة جدار مثقوب مفتوح على فراغ مهول شاسع ..ليس ثمة قضبان ولا عسس ولا سجّان .
ينهضَ من مكانه ، يسير نحو الجدار ، يتلمسه بأصابعه المتورمة .يندفع من رحم الغرفة المظلمة ، تقوده قدماه نحو حديقة خضراء ممتدة بلا حدود، تغفو فو ق مروجها أزهار ملونة تمتد على مرمى البصر ، تجوّل بين الأشجار الباسقة، رأى جداول الماء المنسابة بين الأحراش والزهور . طيور ملونة و نوارس تحلّق في السماء ، يجد نفسه خفيفاً بسير بلا آلام ولا جراح ، يشعر أنه يعدو بلا قدمين.
طوى انكساراته وراح يتقافز مبتسماً، فارداً ذراعيه بانتشاء . عبرَ مسافات طويلة، يشدّه الوهج القادم من شعاع الشمس .
راح يضحك مبتهجاً تتعالى ضحكاته في الفضاء الفسيح ، يلتفت ليرى كم المسافة بينه وبين الأسوار العالية التي تركها وراءه ، لم يجد أثرا للأسوار ولا لتلك البنايات الشاحبة بلون الموت . واجهه نهر واسع يمتد أمامه بلا جسور ، خلع ملابسه وقفز في عمق الماء ليعبر إلى الضفة الأخرى ، بعد قليل شعرَ بالتعب وهو يجذف بذراعيه ، تلاحقت أنفاسه ، أتعبه اللهاث أحسّ بيد قويه تدفع به نحو الأعماق ، يد هائلة لحيوان أسطوري تضغط به نحو القاع ، يحاول التخلص منها بلا جدوى، لمّا أوشك على الإختناق ، عنّ له أن يصرخ، أحسّ بحذاء ثقيل يدوس على رأسه، يفتح عينه ليجد نفسه أمام السجّان واقفاً ينظر إليه ، يلتفت نحوه بذهول .
قدم السجّانالضخمة فوق رأسه..تناهى له صوت السجان وهو يزمجر :
_ إجمع أشياؤك حالاً .. لقد صدرت الأوامر بنقلك إلى زنزانة أخرى..
_لماذا ؟!
_لقد خالفتَ اللوائح والتعليمات .
_ لم أكسر القضبان ولم أخالف التعليمات .
_ كنتَ تحلم .... والأحلام ممنوعة !
.
* عادل المعموري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق