اعتدت أنْ أسلك درباً واحدة، خطوات معدودة توصلني إلى الشارع العام ثمّ أركب أول سيارة أجرة تصادفني كي تقلني، لا أدري ما الخاطر الغريب الذي دعاني إلى التغيير فقررت أنْ أقطعَ المسافة مشياً على قدميّ ..
فوق أرض حجريّة بين حارات ضيقة تتقابل جدرانها بشموخ، وأخشاب نوافذ تتعانق بودّ، شعرت ببعض الراحة.
قرأتُ ملامح ذكريات مرسومة بالدهان على الأحجار، استنشقتُ عبيرَ حُبّ صاف مع رائحة زهور عراتلية تتدلى جدائلها بسحر ودلال، سحبت أنفاس الرضا بعمق فارتاحت نفسي قليلاً ..
بودّي أنْ أقطف زهرة بيضاء مُزركشة، مِن عبّ الأوراق المتعانقة..
أرفع كعبيّ لأقف على رؤوس أصابعي، لا فائدة بقيت دون نوال أيّ زهرة، لا أدري الأغصان عصيّة أمْ يدي قصيرة الحيلة؟
أتابع السير وفي قلبي حسرة على زهرة يتيمة تداعب أرنبة أنف راغب بمزيد من العبق الدمشقي الساحر.
نسيت الأمر حين شغل فضولي كلمات معترضة سمعتها مِن وراء ستائر شبابيك مفتوحة، أحدهم يقول بصوت عريض: الحرب هلكت الجميع الله وكيل. مِن نافذة أخرى بصوت ناعم: الله لا يسامح من يُخرّب الشام. صوت مخنوق: كأنّ القيامة قامت يا ناس. بحزم: ما عادت الأمور تُحتمل تعبنا.
استوقف فضولي نشرة أخبار تنطلق بحريّة مِن نافذة منخفضة بعض الشيء دون ستائر. حاولت استراق نظرة إلى الداخل، رآني صاحب البيت الضخم فهبّ كالنمر
وقال واثقاً: - أهلاً تفضلي.
هربت كفأرة جبانة. وروح غريبة سحبتني خارج نطاق الحارات الشعبية كي تبعدني عن صخب ثرثرة وخيالات إلى وحشة طريق شبه مقطوعة، كأنّ تلك الروح تريد أنْ تريني بعض لقطات فتبعت إرادتها علّني أكتشف طعماً
أجهل كيمياء مذاقه ..
على الطريق الطويلة التي اختارها قدر لحظة غريبة ولبرهة قصيرة حسبت أنّني ليلى الحكاية الخيالية التي حكتها أمّي على طرف سريري الصغير، فتخيلت الذئب الضخم ينتظرني على فارغ الصبر فاتحاً فمه على مصراعيه وراء شجرة هرمة يريد أكلي دون ملح أو بهارات. هل أرجع؟ لا سأتابع، مَنْ يختار التغيير عليه أن يتحمّل أنواع المفاجآت
وإلاّ لا معنى للعناء ..
سأمتحن طعم الخوف، ما سمعت عن خوف تجسّد وقطع الرؤوس أو أكل أيّ مخلوق، لأنّه مُجرّد حالة وهم يصنعها خيالنا بلحظة ضعف ..
يعود الزمن إلى الوراء خطوات معدودة ويفتح أبواب دهاليز مُغبّرة: انتابني الخوف أول مرّة في حياتي حين سمعت عن عالم الجن المخيف ثمّ الفئران والحشرات،
تخيلتُ الخوف حينئذ وحشاً مفترساً سيهجم علينا يمزقنا ويأكلنا بأسنان طويلة. حكايات الرعب، الغول الذي يسرق البنات، أبو كيس العملاق، ذئب ليلى، رهبة الامتحانات، خسوف القمر، كسوف الشمس، جنون البقر، الإيدز، انفلونزا الطيور. خوف وخوف يا ويلي ..
أحاول جاهدة تغيير موجة الرعب هذه، لكي أتناسى موضوع الذئب المزعوم والغيلان والأمراض، أفتح باباً جانبياً لدخول مشاعر رقيقة، أحاول أنْ أستدرج إلى المُخيّلة شريطاً آخر من صور الماضي الجميل ..
أنبّه وأحرّض بعض حواس بعاطفة فاترة لأستفزّ دواخل مُتقلصة، كيف كانت الأيّام حلوة؟ كيف كان لجمال ضوء القمر طعم وهو يداعب بأصابع طويلة جسد أرض مُستلقية تحت ظلال هادئة بدلال واستسلام؟
كيف كنت ألحظه نوراً راقصاً يلامس أطراف الأشجار بروعة الجمال؟ - سقى الله أيّام زمان، لماذا أشعر بغيمة سوداء تخيفني وتخنقني على مدار الوقت؟ خوفي عليكِ يا شام،
آه كم غزلك يُطربني، كم أنتِ جميلة في الليل والنهار لكنّني ألامس نسيج وجعك في هذا الوقت حيث يبهت عبق ياسمينك المُدلل الذي كان يُتسربل الجدران بفرح
مخضوضر الوجدان ..
أتطلع نحو جبل قاسيون أجده ما زال واقفاً بكبرياء، ألقي عليه تحيّة المساء: سلام الله عليك أيّها القوي، يا مَن تبهر بسحرك جميع الأضواء، أيّها العظيم القابع كأمّ حنون تسهر لترعى بيوتات الشام، عجباَ كمْ قصّة وراء كل ضوء، وراء كلّ جدار؟ أسألني: تُرى نُشعل الأضواء كي نرى الأشياء أم كي لا نخاف منها، أمْ لترانا هي ولا تشعر بطعم الرعب من وقع خطواتنا القاسية؟ مِن تفجير ورصاص وأوهام ..
خوف يلبس شراييني أنْ تفقد بلادنا الحلوة بريق عينيها من عمى ألوان الوقت النشاز ..
بينما تسبح أفكاري في محيط عام وخاص مِن قبح وجمال، أنعطفُ شاردة البال فألمح بعض قساة ملثمون يضربون فتى بعمر الزهور بقضبان حديديّة ..
أقرفصُ خلف حاوية نفايات بلا قوّة، أغطي أنفي وفمي بيد مُرتجفة قصيرة لا حيلة لها ويُطلق على الفتى المسكين أربع رصاصات في غفلة ضمير وغياب رحمة ..
أضغط كفّ يميني أكثر لأصمت مُرغمة وتصرخ دواخل مُعترضة مُزمجرة ..
اهتزازات ثارت عاصفة ثمّ تلاشت في فضاء لا يريد الاستماع للمزيد من القصص المؤلمة.
سمعتْ ملائكة السماء نداء أرواح بيضاء فنزلت إلى سطح الأرض المغدورة وحملت الشهيد على بساط مُفعم بعبق الحسرة والغار.
فوق أرض حجريّة بين حارات ضيقة تتقابل جدرانها بشموخ، وأخشاب نوافذ تتعانق بودّ، شعرت ببعض الراحة.
قرأتُ ملامح ذكريات مرسومة بالدهان على الأحجار، استنشقتُ عبيرَ حُبّ صاف مع رائحة زهور عراتلية تتدلى جدائلها بسحر ودلال، سحبت أنفاس الرضا بعمق فارتاحت نفسي قليلاً ..
بودّي أنْ أقطف زهرة بيضاء مُزركشة، مِن عبّ الأوراق المتعانقة..
أرفع كعبيّ لأقف على رؤوس أصابعي، لا فائدة بقيت دون نوال أيّ زهرة، لا أدري الأغصان عصيّة أمْ يدي قصيرة الحيلة؟
أتابع السير وفي قلبي حسرة على زهرة يتيمة تداعب أرنبة أنف راغب بمزيد من العبق الدمشقي الساحر.
نسيت الأمر حين شغل فضولي كلمات معترضة سمعتها مِن وراء ستائر شبابيك مفتوحة، أحدهم يقول بصوت عريض: الحرب هلكت الجميع الله وكيل. مِن نافذة أخرى بصوت ناعم: الله لا يسامح من يُخرّب الشام. صوت مخنوق: كأنّ القيامة قامت يا ناس. بحزم: ما عادت الأمور تُحتمل تعبنا.
استوقف فضولي نشرة أخبار تنطلق بحريّة مِن نافذة منخفضة بعض الشيء دون ستائر. حاولت استراق نظرة إلى الداخل، رآني صاحب البيت الضخم فهبّ كالنمر
وقال واثقاً: - أهلاً تفضلي.
هربت كفأرة جبانة. وروح غريبة سحبتني خارج نطاق الحارات الشعبية كي تبعدني عن صخب ثرثرة وخيالات إلى وحشة طريق شبه مقطوعة، كأنّ تلك الروح تريد أنْ تريني بعض لقطات فتبعت إرادتها علّني أكتشف طعماً
أجهل كيمياء مذاقه ..
على الطريق الطويلة التي اختارها قدر لحظة غريبة ولبرهة قصيرة حسبت أنّني ليلى الحكاية الخيالية التي حكتها أمّي على طرف سريري الصغير، فتخيلت الذئب الضخم ينتظرني على فارغ الصبر فاتحاً فمه على مصراعيه وراء شجرة هرمة يريد أكلي دون ملح أو بهارات. هل أرجع؟ لا سأتابع، مَنْ يختار التغيير عليه أن يتحمّل أنواع المفاجآت
وإلاّ لا معنى للعناء ..
سأمتحن طعم الخوف، ما سمعت عن خوف تجسّد وقطع الرؤوس أو أكل أيّ مخلوق، لأنّه مُجرّد حالة وهم يصنعها خيالنا بلحظة ضعف ..
يعود الزمن إلى الوراء خطوات معدودة ويفتح أبواب دهاليز مُغبّرة: انتابني الخوف أول مرّة في حياتي حين سمعت عن عالم الجن المخيف ثمّ الفئران والحشرات،
تخيلتُ الخوف حينئذ وحشاً مفترساً سيهجم علينا يمزقنا ويأكلنا بأسنان طويلة. حكايات الرعب، الغول الذي يسرق البنات، أبو كيس العملاق، ذئب ليلى، رهبة الامتحانات، خسوف القمر، كسوف الشمس، جنون البقر، الإيدز، انفلونزا الطيور. خوف وخوف يا ويلي ..
أحاول جاهدة تغيير موجة الرعب هذه، لكي أتناسى موضوع الذئب المزعوم والغيلان والأمراض، أفتح باباً جانبياً لدخول مشاعر رقيقة، أحاول أنْ أستدرج إلى المُخيّلة شريطاً آخر من صور الماضي الجميل ..
أنبّه وأحرّض بعض حواس بعاطفة فاترة لأستفزّ دواخل مُتقلصة، كيف كانت الأيّام حلوة؟ كيف كان لجمال ضوء القمر طعم وهو يداعب بأصابع طويلة جسد أرض مُستلقية تحت ظلال هادئة بدلال واستسلام؟
كيف كنت ألحظه نوراً راقصاً يلامس أطراف الأشجار بروعة الجمال؟ - سقى الله أيّام زمان، لماذا أشعر بغيمة سوداء تخيفني وتخنقني على مدار الوقت؟ خوفي عليكِ يا شام،
آه كم غزلك يُطربني، كم أنتِ جميلة في الليل والنهار لكنّني ألامس نسيج وجعك في هذا الوقت حيث يبهت عبق ياسمينك المُدلل الذي كان يُتسربل الجدران بفرح
مخضوضر الوجدان ..
أتطلع نحو جبل قاسيون أجده ما زال واقفاً بكبرياء، ألقي عليه تحيّة المساء: سلام الله عليك أيّها القوي، يا مَن تبهر بسحرك جميع الأضواء، أيّها العظيم القابع كأمّ حنون تسهر لترعى بيوتات الشام، عجباَ كمْ قصّة وراء كل ضوء، وراء كلّ جدار؟ أسألني: تُرى نُشعل الأضواء كي نرى الأشياء أم كي لا نخاف منها، أمْ لترانا هي ولا تشعر بطعم الرعب من وقع خطواتنا القاسية؟ مِن تفجير ورصاص وأوهام ..
خوف يلبس شراييني أنْ تفقد بلادنا الحلوة بريق عينيها من عمى ألوان الوقت النشاز ..
بينما تسبح أفكاري في محيط عام وخاص مِن قبح وجمال، أنعطفُ شاردة البال فألمح بعض قساة ملثمون يضربون فتى بعمر الزهور بقضبان حديديّة ..
أقرفصُ خلف حاوية نفايات بلا قوّة، أغطي أنفي وفمي بيد مُرتجفة قصيرة لا حيلة لها ويُطلق على الفتى المسكين أربع رصاصات في غفلة ضمير وغياب رحمة ..
أضغط كفّ يميني أكثر لأصمت مُرغمة وتصرخ دواخل مُعترضة مُزمجرة ..
اهتزازات ثارت عاصفة ثمّ تلاشت في فضاء لا يريد الاستماع للمزيد من القصص المؤلمة.
سمعتْ ملائكة السماء نداء أرواح بيضاء فنزلت إلى سطح الأرض المغدورة وحملت الشهيد على بساط مُفعم بعبق الحسرة والغار.
*هُدى محمد وجيه الجلاّب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق