نحتاج أن نتكلم أحيانًا لنقول أشياء بداخلنا ولكن سرعان ما نصمت لإحساسنا أنَّ
من يسمعنا لن يهتمَّ لنا ، ولأنَّ أبشع شيء في الحياة هو الغدر الذي يسير
في قلوب الناس ، إذن فإذا أجبرت على التعايش مع وضع يؤلمك فإبتسم فالرسول
صلى الله عليه وسلم قال( وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ).
فهل يمكن لنا إيقاف عذاب الروح ؟ وصيرورة سحابة ملاَّحة في الفضاء العالي ؟
هل لنا بمخطط ونظرات تَطْلَع بنا الدرج أو تُوَسِط بنا السامي روايةوالداني وتعيد
إلى السطح ما خاب في شبر وحلٍ؟ شاور الروح والنفس تلك التحفة الباهية علَّها
توضح الرؤية ، وماذا عن القلب ودليله عن الحياة ووعيه هو النبض ؟ هل نغلب
رغبتنا أم نسير على حبل الصبر ؟، أم نستمتع بلحن الدهر ونتحمَّل طول
الدرب علَّنا نُبصر الرؤية للسعادة أو يهلَّ علينا الزمن بفوج وبومضات ما بين
العِناد فتطل علينا صورة الأيام في كل الحالات ؟.
أين ما للسماء وأين سحابها ، أين الشمس وضياؤها ، أين الليل ونجومه ؟ كلها
دعوات تواقة للرحب ، تحبوا لنور النهار وتنفذ للمواقف الاَخذة بأسباب الحياة .
السعي الحياتي هو أصل إستمرار الأيام بسفن بأشرعة مُهجرة ، أفعال هل تعبّر
عن الحال ؟ أم تريد تغيير الحال؟ ألم لا يُعلم ، وأقدام مُهَمَلة على الأرض
بالعيون نار وثوران والقلب يشتعل بنبض محتر ، بالروح روائح لا معنى لها
وبالجسد أكثر من مقال .
إنطلقت الأرواح بالحيلة ، وإنطلت السحنات بكل الألوان ، نارُ التُهم نستشعر
حرارتها وقوة ضلالها تغزوا النظر ،عقلية عادية العقول تسيطر ، والمرء
تُهمَه مثَّلها الحال في أمراض ، وإذا ما مرَّ نصف العمر في همجية يسير أسرعنا
وراءه ، ووقف الوصف ما بين معارض ومتفهّم ومتقصّد ومترصّد ، فهل نقرأ
الأشياء من باب معرفتنا ونردف ما خبرناه ؟ وهل يجوز لنا فهم المستقبل إذا لم
نعتبر من ماضينا ، الماضي قوة بأيدينا نحوزه ونُشكله وهذا بلا إعتراض ولا
تقارير ، والزمن في كل حال هو نفوذ وأصول في الحياة سواء تواصلت
مزاياها أم تشققت تبقى الأفكار تسبح ، والكلمات تقارب وتباعد المفاهيم ويستمر
نبض الروح كما لو كانت لسكان القبور وتحملت التربة المفارقة في زيارة كريمة
لأهل الأرض ، وتناوبت الأيام بين الأحياء والأموات .
إختفت الحياة الهادئة ليتوسع مأوى المساكين والفقراء وبان بالتربة واد شريط
ضيق يشق يابسة الأرض بخضرة للحياة .
الحياة تاريخ هنا وبيوت على هضبة تتربّع عليها جدران يؤم الأرواح ، توسعت
ساحة القرية بمحاذاة المقبرة ، وهذا سوق يُميزه نشاط ساخن ، صناعة السجاد
المطرز تبرز بالمكان ، وفي المسلك المتشابك ترتفع أصوات متعددة :
اللؤلؤ هنا تجد ما تريد .
وهنا نجد ما بُني في عهد العثمانيين وبقي أثره من بيوت هي محلات شعبية
بالسوق ، لا يزال يستغلونها الباعة كدكاكين شخصية .
بالسوق الشعبية كل ما تبحث عنه حُلي تقليدية ، ملابس ، خزف وباعة حتى
للخيول والحيوانات الأليفة ، وطيور نادرة ، وعصافير جميلة . وعقاقير متنوعة
عطور وبضائع وملابس جلدية ، وزرابي عليها رسومات لنباتات
برية عرضة أمام السائح والمترنم ، ولا تزال صناعة الزجاج وفن الرسم عليه
تجذب الإهتمام ، حتى وإن كان في غرف تزداد ضيقة وظلمة ، هي إجحاف
في حق هذا الفن والذي لن يكون متقن إلا بين أيدي هؤلاء الحرفين الباعة
كل هذا وأنت تخطو بتمهل على الأرض الترابية للسوق العتيق والذي تواجد
منذ العثمانيين الماريين ، مساحة واسعة على رصيف الطريق الداخلي للقرية
كثر به الناس ، وجاءوه حتى من خارج المدينة ، وشهد يومه عدة طوائف من
البشر ، ونقطة إلتقائهم هي :
مقهى الشاي والزنجبيل المعسل ، ونرجيلة تبعث النشوة في الروح ، وتطرد
الجفا من عمق النفس ، وهناك يبرز جامع من القرون الوسطى ، وتلك مأذنته
العالية عن كل المباني الرمادية الصباغة تفتح لها التهوية نوافذ مربعة الشكل
هنا تنبعث عطور العصور الخوالي ، عبق العثمانيين وشتات القبائل المتعاقبة
لا تزال الفنون التقليدية تحفظ تواجدها أواني عليها نقوش تاريخية ، وتحف
منزلية متراصة .
الجو نقي يطرد الوحشة وعلامات التضمر والغبن عن العيون فلا من يقول لك
من أنت ؟ من أين أتيت ؟ إرحل عن المكان ؟ لا عصبية هنا ولا فرض لمقال لا
نَهرٍ للنفوس ، الراحة والحب عزف قوي وبنغم متعدد ، الأماكن المظلمة تنيرها
والبعيدة عن نور النهار تنيرها مصابيح حتى لا يكاد الظلام يحجبها .
وإستحسن النظر الجالسين على حافة الوادي وهم في حركات خفيفة منظمة
منهم من ألقى بالسنّارة في المياه ومنهم من يجهزها يريد إصطياد السمك
شريان بشري حياتي لبعضهم ، وأفضل جزء من المكان تلك التربة الخصبة
المنحدرة نحو الوادي واجهة تطل على الطريق الترابي للقرية .
وفي مؤخرة الطريق تراصت غرفة كبيرة مبنية بالطين البني ، هي قاعة فسيحة
إمتدت على طول أمتار حولت نحوها الأنظار تمارس بها الرياضة .
ولا عجب أن تشاهد أسراب الأطفال وهي تلهو على الكثبان الترابية مكسوة أتربة
وغبار أو تجدهم في بركة من برك بقايا أمطار الأمس أو النهار ، لا تحتج إذا
كنت غريبًا ومررت أمام بيت بحي شعبي من أحياء القرية فلن تسلم من أذى
اللسان وستقاد حتى إلى مخفر الشرطة الوحيد ، أما الفتيات فإذا ما وقفت إحداهن
وحيدة فلن تسلم من ملاسنة الرجال ، كلام متشتت وإنتقاد لاذع وقيّم هشة تظهر
لأنَّهم إعتادوا أفعالهم ، في الربوع الغريبة تنفتح أبواب لبيوت ملتصقة بالأرض
الهش هنا يبيت ، العهود البالية هنا لا روح شاذة لكن المتاع بالجمال الطبيعي هنا
الرؤى التي يطويها الزمان وعرفت الجفون عن العيون وتلبست الحياة وبعثت
الراحة والشفاء للروح ، هنا دروب العاطفة وإن كانت على همل .
تجوفت الصخور وجمعت بديع الورود ، وسار الناس في الحقول وجلسوا إلى
مجالس النرجيلة أو الشيشة وإستمتعوا بذوق العالم الروحي ، تبصر عيونك كل ما
ترغب الأذن سماعه ، وفي متاع الريف الهادئ ووعظ النفس للإنسان .
إتّبع الناس الإستمتاع وأفضل الأماكن هي المقاهي الشعبية حتى كثر مُناصروها
الأوقات أفضلها بالقرية هي أوقات الصباح ، ورغم قلة السكان والمحافظة على
القديم غلا أن التغيير إجتهد في التمرر إليها ، وتدافعت أغراض الناس مساهمة
في تحريك أذناب الأحاديث وإبتعدت في المبالغة رغم عزلة المكان ، وعلى طول
السنين النشطة والتي خلت فالعيون تتقصد المكان ، وتعددت الأقاويل تنعت
الحاضر بالميت وتحاول إسقاطه من الذاكرة في ثقل موصد عن الفشل وبعيدًا عن
الرضا بالنصف وتجاهل النصف ، وتوسطت قلة منهم الأمور ، إرتجت النفوس
وحنقت ، وتعلقت أخرى بالأوهام حتى نحرت الروح ، في سفح المنازل وعلى
شفاه الوديان تحدث الحال عن كل الجمال ، وتسارت جيوش الكلمات وفتحت
فرص تحقن من الظرف ما نزّل الخلاف ، الحظ هنا للرجال وحتى للشباب
الطائش ، ثار الثعبان مع الزمان وزحف في رضى في ما يراه البشر لا أقاويل
لسان مقترف للجهل وحامل للأوهام ، تزعّم الباطل أوقات يستمتع بها الراقص
على أنغام الخوف وحروب النفس ، أفكار مزعومة يعيشها الإنسان وتعارفت
عليها شوارع القرية والتي تقارب أسوار مدينة ، يُملئ الحال للأسف بأهواء لا
أساس لها ، الغاية إرضاء الإنسان ، ورفع الشبهة والإتهام ولا إنتماء ، تناثرت
الفتنة ومحت المسافات ، تصاحب الصاحب والخادم أنواع مختلفة من ملامح
الحياة ، وتنشط مخادع القول حتى فعل ما نوى وظهر الشحوب حول العيون و
ترافق الجسد وإرتبك الموت وسببه الباطل ، ضاع الصوت وظلت الكلمات
الدروب لا من يمتلك ذاته ، ضاق شق الشعاع وتناقلت القوة الجوارية الصبابة
وتوجع الكثير حتى غرق كنوز الحياة المتقولة ، البحث في الظلام كبر الصغير
وكسب أكثرهم صيغ مرفوضة من القيم ، تحرك الجامد ، وهناك من بقي أسير
الطين والبيوت الرمادية ، وبقيت تائهة من بقيت .
تتابعت شهادات وتضاعفت المتاعب ومن تعب نال الأجر القليل ، لا من أحب
قلبه الفراغ وبلبلته ، الاَلات صدّاحة وحاضرة في ماضي متواصل زجر في
الواقع يذيب صلب الحديد وتداعي الألسن وتملأت بالأذى وإجرام الشارع ، ضيق
النفوس يبقى هو الأسر حتى إنتهى مقامه إلى الإثم وخسف حتى نسف المجرى
الحد أبواب مغلقة مفتوحة على المحتوم كل يدري لأن القلوب أصيبت بالحال وما
أتاه الواقع وتلونت الصورة أمامه ، حجبت أشعة الشمس في يوم يبحث عن
حاضره في ثقة عرفتها الأنوار ، وبان النهار طهورًا من بريق النجوم من الظلمة
ظهر هناك ضخم الجثة بجسد أسير ثياب سود ، ومعطف أسود ، سروال بلون
الليل تسكب عليه النظر رسمت صورته بلبلة ولمعان يرضي النظر ، في ماضي
اَمل وملذّة تقلب النظر عذبت العيون كما أشارت إليه الوشاية تنزل الدرج ووقف
ممانعًا سار قليلاً يرقب حذاءه الأسود الشاذ عن الغبار ، غزارة وكثرة تذكر
بعيون ، راحت تخطو أقدامه وراح يضيع في الفناء فيما أتاه به تفكيره ، وفي
جلسة ظل توازن والبرودة المُنعشة ، تسحبت رياح خفيفة في سيرها كاشفة نور
القمر وما تخلى عنه الظلام ، تظلمت عيونه حوله وعمت سحابة متمردة عيونه
الصفراء الصغيرة، وقد تفتحت وأظلّت الإتجاه ، مرت نظراته ممرالوادي وبقرب
أشجاره الوارفة وراحت الروح قافلة تقود ما تمنَّعت تجوب المكان بنفحة يأس
وتيَّأسٌ واَمال بما تعارضت كلها في مستنقع سائر لتجويف أكبر ، تكاثفت الكلمات
على الشفاه ، وظهرت على فتحة الفم ما أتاه فكره في صورة مرافقة لمن يقلد
مُمثل ونجم من نجوم الكرة المستديرة في شدة وفوضى وألوان من مواد التجميل
كما صفف شعره مُريدًا إلقاء الشباك على فريسته ، فظهرت بشرة وجهه السمراء
الصافية تطرح أحوال تنبذ ماضيه ، طرح الضجيج ومد كف يده ومسح الحاجة
من قاموسه ، فلا أحد في القرية يمده اليد ، ينظر إلى المرتفع الذي بقى ، كومة
متشفية ترتفع وتلوح ، بخت النفس ما تحوزه في هدوء حذر وفي شدة وبلاء
تسمح لكل ما علق بالنفس وقادها إلى العزلة وانهض بها الشهوة يجوز .
عبدو عامل بمصنع الزجاج مكان لا يبعد عن بيته سوى أمتار أو عشر دقائق
سيرًا على الأقدام ، على كومة من الأرض الصلبة هناك ، يسير وهو من سارت
به السنين إلى الأربعين من العمر ، لقد إنتهى عقده مع الجيش كجندي الممضي
ب15 سنة خدمة وهاهو في شهوره الأولى بالمصنع ، أحاسيس زادت به الخيبة
وطوقت رقبته ، وظهرت به أنغام مبتورة كلما ظهر النهار ،وعلا نزاع روحه
وقالت روحه ماغوى كمن تصرخ لا أريد الضياع ولا السماع ، لا أريد الكلام
ولا الإنضمام إلى ناس بروح جزائرية تحمل أسرار جزائرية أفكارهم إتهام ولا
تجلس إليهم إلا وأنت متهم ، يلتهمون كل ما أتاهم وما زودته بهم الحياة لا يريد
ولن يستزيد ، خوفًا من إنطفاء نور أيامه ، ينهض ضميره حينما ينام الاَخرين
ويميل عبدو إلى النضج ويكره ما يسيء للحال ولا يميل إلى عقاب روحه فلا
يؤيد متهكم ولا شامت ، ولا يحب جرح الاَخرين ، إستراحت به الهموم وراوغته
على هدوءه لكنه أبى رغم الحياة من حوله والأحياء ، وإن كان لا يعدوا إلا كمن
ينام بفراشه إلا أن الروح تتحرك بداخله وإستطابت وإنتقم السعيد لنفسه وتنحى
لسانه عن فاسق وسخط الكلام ، فلا يريد أن تتحرك به الجراح ولا القراح كما
اللفظ والمعنى رضي بالضيق رغم طوله .
سار وإعتدل في السير نحو المصنع الصغير فلا يراجع فعله ولا يهتم ، يسير
إلى جانب شفاه الوادي وطلقات النجم تتخلى عن مكانها في السماء ، النور في
عيونه وقوافل اليأس والحلم تنبثق وتصرخ في زمن حالم وعن عجل هل يمكن
لهذا التعقيد بالتنحي ؟ فسبحان الذي يمتلك ما أعجز الإنسان ..
لم يع عبدو إلا وهو يقف أمام باب المصنع الصغير والناس مبثوثة هنا وهناك
بالباب الموصد تنتظر من يفتح ، وفجأة إنقلبت العيون إلى جسد واحد ضخم
يخرج من شق الباب الزجاجي ووقف أمام الباب الحديدي ، هرعت إليه النظرات
في تيه ، فأبصر تسابيح الجفون والليل يحمل القهر والإهتمام ، ضاع صوته وسط
الضيق وطال الإنكسار فلم يمتلك أحد ذات ، بل تركز بمن أمام العيون ، مالت
إليه الأرواح وظهر الظن ومالا يحتمله الفكر ، وعادت به ذاكرته إلى خدمته
بالجيش ، تحرق قلبه في وضح النهار وفي أحاسيس الاَهة والظلم ، صفحة
مسودة خطت مكتوبه ، وهاهو اليأس يُنبؤه حتى سمعه يقول : أنت مفصول ..
علا الصوت من حلقه وترنح في العالي ، الجميع ينصت بل سمع الإسم يصدح
بالإسم ، وتوالت الأسماء المرافقة له ، إنقلب نظره إلى داخله وسار وحيدًا يحمل
جسدًا مهزومًا من داخله تجمر وغحمر وتحرق وتشرد في الطريق الترابي ، علم
ما كان ينتظره كن فوق قدرته ، وأوصته المسامع مالبد ، تغيمت السماء وتهاطلت
دموع باردة على خدوده في الخفاء .
أحس بالاَهة وذهول وجرح حارق وسمع الصوت الصامت به لقد قتله الحكم
القاتل ، عادت همومه تطفو ، وكسا مكبوتات قلبه ، وتفتح وأطرب ينظر الناس
من حوله .
وقف أمام بابه لا يهتم لما معه ، بل تحزم أفكاره ، بان لون الشمس الأصفر القاتم
البراق كما اللؤلؤ ، وأحس ببرودة ودخل ونام لا يدري كم ساعة ..
اليوم الجمعة هو يوم عطلة ، الناس في كل مكان والرجال يسيرون بكثرة نحو
المسجد والقليل من النسوة ، من كبرت وعجزت وهناك شابات أيضًا يحبن
التسبيح وحمل السبحة ، وهناك من لهم أفكار أخرى تتوجه إلى الأعراس وحيث
تريد ، الحقيقة أخفت الكثير ، الشارع هو الحرية ويرضي النفوس ويخفي ما عظم
الجدران تخفي الكثير ، ومزيتها أنها أخمدت الأفكار ، والشارع لا يرحم أحدًا
فالأجساد المتسلطة المتسابقة به حازت ما أرادت ، ودار في فلك الأرض ما
يحتضن أحلام البشر ، تسير الأعمار نحو بيت الله ، تنحني للخالق في خشوع
إنتهى وقت الصلاة وتقصد المصلين بيوتهم ، غفلت نفوس التقوى عن ما يحمل
الشارع وعاد عبدوا إلى بيته ، في ثقل ، جلس وحيدًا أمام بيته متذمرًا صامتًا
أرجوزة مطولة يعيشها عبدوا ، ودخل بعد زمن جاوز المطبخ ثم عاد يسأل والدته
هل من نقص يسده ؟ عبدوا أخلص لدوره في العائلة ، وخفف السير إلى غرفته
فلم ترى والدته منه إلا معطفه الأسود يتجنّح عند إلتوائه ، وقفت خلفه وهو ينزعه
عن تضخمه الأسود ، فظهر شعره الأسود القاتم جامدًا ، تثقبت عيونه وتصلبت
كمن يتفقد زائرته :
هل سويت معاشك ؟
بل هم فعلوا ؟
ردت : اَه شقاء يقود إلى الموت ..
عبدوا : لا أدري لا من يساعد لا هذا ومن ذاك ، لا من يعرك الإهتمام ولو بنظرة
ولو حتى بكلمة ، وإذا سألك عن أحوالك فهذا أخذت منه الكثير ، الشيطان غزا
القلوب وأطبق الجفون ، وأظهر مسلك الدموع ، وأكثر جروح القلب ، أخلصت
للألم وأعيش أتهرب بداخلي ، مال الناس لا يرحمون ، بل يتمررون مغالبين
لا جوهر فيهم ، الخيبة تترك أذناب الدخان ، قد تتلقى رقم فتسمعه يخرج طوائف
الخيانة تشقى ولا تشفى من مباحث الحياة .
ينتبه إلى صوت التلفاز وهو يرتفع بالصوت في هذا الشهر جوان من عام 2007
يستقبل بابا الفاتيكان بَنْديتْ السادس عشرا وفدًا عن رؤساء عدد من كنائس
الجزائر بمقر الفاتيكان ودار لقاء الحبر الأعظم مع أعضاء الوفد الذي ضم
قساوسة الأغواط ، قسنطينة وهران حول سبل تعميق معرفة كل طرف بالاَخر
من أجل خلق عالم يسوده السلام المبني على إحترام الغير ، تقدمهم ممتلئ البطن
ذو شعر أبيض براق وعيون عميقة ثقيلة النظر ، طويلة رسمت قسماته عمره
مابين مابين الخمسين ومنتصفها ، ترنح في هندام وخف السير .
هذه خرجة من خرجات الصمت ، فلماذا نحن صامتي على حالنا ونوام بالليل و
النهار أين النشاط العلمي من البقعة وعلى حافة الوادي يقول عبدوا وكم من حامل
لشهادة في البيولوجي وذاك في الفيزياء النووية ، وتلك طبيبة بيطرية ، لكننا
نجهل وجهتهم حتى بعد تخرجهم لا يحضون بسلك إسمه سلك التعليم .
هي دروب غريبة إذا أذعنت لهم الحياة فقد يغزوك الوجل ويتأجل عجزك إلى
ما بعد الثمانين .
عبدوا : سأصلي قبل أن أنام .
تتقصده الأم بجنونها الداخلي ، ماذا وراءه ؟ هل يُخبئ بنفسه ما يجب أن أعلمه ؟
مَهرجَة وزُمر لأحاديث تطلع لروحه تنطق عيونها بالكثيرعليه أخشى من نفسه
فقالت : ألا تخبئ شيء ؟
وببرودة وكلمات متزاحمة تستبق شفاهه وفي كلام لا يعرف له بداية :
لقد فُصلت ؟
سبحان الخالق الرازق ما بال أرباب العمل ، ألا يهمهم حال الناس ؟ ولا يهتموا
للسنوات الطوال لخدمة البعض ، اَخر خدماتهم الإكتفاء الإكتفاء بالتصريح ، هل
هو تهرب أم جنون الأغنياء ؟ أم هو سباق نحو شقاء الإنسان .
لقد عرف كل من بالبيت ماحدث حتى الجدران وعت فعل صاحب العمل ، عيونه
تصرخ هم من صنعوا الخيبة ؟
وجهات تطل على ممرات ومناظر تحول بصيص مستقبلاً خافت مسرعًا ، و
إنطفأت أشعة الشمس ، وهو لساعات مرهقًا ومتغالب ، جنون الحال وشقاء
العيون تغزوا مباحث بثها المرء فألقت الشك وقعرت الخاطر وإستنقعت به
برودة وخيبة وخز بالإبر ومذابح ومقت ، وصرخات وفجأة حمل نفسه وخرج
يمشي على ضوء القمر في مسلك ترابي لا يعرف مراده سار والوادي وقدماه
تعجز وتتعثر وتفتعل الشدة تتحدى صلابة الأرض .
لم ينشغل ولا تأنى بل لا يزال في إندافاع فارغ الروح ، لماذا يسرع ؟ هل هو
على صواب ؟ منحته النفس التخمين والأسئلة ، إنها داهية الظن ودروب
التصدع الذاكرة تعود به غلى الأمس وتضيع به في الظلام الذي أصبح خافتًا
توسط النجم والقمر السماء وفاض به ما لا يرحم من فيض السموم ، زحف على
الأصابع وذوق المرارة يحاكي القلوب وتنافر لم يبق إلا الوجع الحار والشحوب
أتلف بديع الروح وتسمع صوت يرتاد من أصوات من بقى صاح أو من إعتاد
الوقت والزمن الأسود تحت النجوم يتسمع الأصوات ويتنعم بصوت المجهول
تحتبس خطاه ويسود بمكان مكتفيًا بخرم الإبرة ، القلب تعب من الصمت والسماع
لخوته الجراح والشقتء والغوص في حبة عرق من الجبين وبالجسد من تردها
اليد المكففة ، شرر من الريح ومن ضيق وجهاد جره الوهن والوهم ، يقوم ليسير
مع السائرين ، وحيدًا في وسع يتأنس وجرحه الدامي ، مد القدم حتى إستوقف
سعيه وتطابق والهوى ، وأطبق صورته وغفلة الظلمة ، عبدوا يعيش وحيدا
ووالدته بولاية مغنية الحدودية وبقرية باب العسة التي لا تبعد عن المغرب
الأقصى ، تمر العامين في هدوء ونعمة ، يعيش عبدوا من معاشه في خدمة
الجيش ، تناقلت الأخبار مع مطلع عام 2009 أخبارا إستقرت على التشديد
على الحدود الغربية بعدما كانت مفتوحة ، وتصافت العبارات حول جملة وحيدة
لا تتخطى الحدود بدون جواز سفر ، هو اللحن الخفي والشدة والحرص ، هذا
الخبر أوقع الإشمئزاز عند بعض وطمأن البعض ، فلن تكون هناك فوضى ولا
تهريب ولا عبور للإخوة أمور أضرمت النار بالنفوس وأكثرت سوء الظن
توقف الماضي وجها الحاضر ، وتفتحت الطيبة بالنفس .
وعلى سبيل ضاق مسلكه سار وتراب علا حصاه وتدبب وبرز في وجل في شدة
وتعنت ، سار إلى كوخ غير بعيد عن بيته وضعه لنفسه جدران أربع وأوسع في
البهو تفرغت فيه الشمس وتوسعت أحاطه التراب وهلت الطيور بأنواعها تتحرر
وتبرز من المخابئ ، في قرية حدودية وغير بعيد عن التجمع السكاني أخذ له
مكانًا ، يجلس عبدوا يريد الوحدة بعيدا عن الزيف يرسم الحقائق الصحيحة رغم
أدوار السذاجة التي هي في تعالي وتنامي .
أخذ لنفسه نصيبًا من الحياة الهادئة يسير خلف قطيع الأغنام التي يملكه تحمل
قدماه العجلة عائدا على ضوء النهار وأصوات الفهجر تهذب الوحشة وتغمر سر
الطبيعة وإنتهز ورق الشجر ونبات البراري الفرصة ليتراوح ويسير في شؤون
الطبيعة .
التفكير في النفس أخذ ملامح وجهه ، كل يوم يتعلم شيء ويأخذ من أيام ما
يرضيه ، غاب ضعفه وخلص لروحه ن دخل بيته سقيمًا داسته الأيام ولايزال
شريان الحياة به ، تقلب بفكره الأراضي الزراعية المهجورة هنا وهناك وتدوسها
الأقدام صباحًا ومساء ، وتسارعت نوبات ضخ الدم في العروق لا تعرف لغيره
لجوء ، منظر الطبيعة رومنسي غازل أوراق وجذوع غطت خضرتها الأنظار
وتطال السماء .
خرج في الصبح يسير يتفقد مزرعته ومزاريبه ، اليوم هو هادئ ، وهاهو أيمن
مسكنه في مزرعته الصغيرة ، وتلفت حتى وجد جدران من الأجور الأحمر
مبنية حديثا ، وعمال .. إنه صباح أسود ، هناك حركة بناء سريعة ، تطلعت
عيونه إلى المنظر وتفاصيل العمل حتى فاضت عيونه مقتًا ، وتضاخمت
بشفاهه أسرار النفس تقذف في صمت ، زوبعة مغيرة لهدوئه ، خرج من كوخه
وإقترب منهم :
هل لكم تسريح بالبناء هنا ؟
تتوقف الحركة وإن بقى أحدهم غير بعيد يعدُّ لبدء العمل يرد عليه صاحب
المقاولة :
وهل لك أنت تصريح بالبناء هنا؟
وفي غير تأني يرد عبدوا : المكان لي وأنا السابق فمن أنتم ؟
يرد أحد الخدام غير مهتم : إنها الحدود ألا ترى رسمها هنا لا أملاك خاصة ؟
من المالك للأراضي هنا بباب العسّة ؟
إنصرفوا جميعًا إلى أعمالهم ، وبقي عبدوا يرقبهم من بعيد كمن يتوعدهم بالرد
الأرض بالنسبة له هي خزانة أسرار وعرش للإنسان ، وهي سر تختزنه
الحكاوي في خفت من الحبال الصوتية ، طاحونة الكلام تهرس الكلام ، الوقت
للنهار ، والجار هو من يسرع في إتمام بنائه ، قطب عبدوا حاجبيه وسكتت
شفاهه ، توقفت مرسيدس تحت ظل شجرة الزيتونة ، علا صوت الشر بداخله
حتى تدببت شرايين يده وإنتفخت ، وبرزت العروق الزرقاء تصرخ، إرتفعت
درجة حرارته وتسللت أشعة حارقة لجسده ، وعلى حاجز جاف ونبات مهجر
دارت رحى الكلام تتقصد الوفود لكنه تجاهل وجوده والسماع إليه ، وتدارى
وسط ما بُني وظهر منه ، وسار سيرًا خفيفًا وغاب دونما أن يحوز الإهتمام
سارت الشمس إلى المنتصف وعَلت حرارتها لا ذنب له في الزمن وأعدم
حروف الفم وترادف ونفس متعبة ، سار حسب ما تمليه عليه نفسه ودونما
إحتجاج وإحتبس التفكر والتفكير .
إختفوا وإختفى وإبتعد في غرس أخضر لشجيرات الخص ، غاصت حذاءه
في وحل وتقرفص في عتمة إخضرار ، فتح أصابع يمناه وحمل ما إحتمل
كفه من تراب ، تمايلت أوراق على هبات النسيم وتموجت معه في سحر ، فتح
جفنيه وتنافرت روائح الربيع غناء أوصلت المفصول بالمفقود .
عبدوا بالمكان الحدودي وفي جفن الليل يجلس هناك ، وعبدوا من أبناء الجزائر
ولا يخاف إلاَّ بطش هؤلاء الغرباء والاَتين من وراء الحدود وفي ليل شتوي
كهذا أبدى الظلام سواده القاتم ، وغاب القمر ، وغطت برودة ساحرة المكان
وعم الشتاء والمطر ، صفرت الريح وحملت البرودة من الحال وتصرخ
الصرصار بصوت واضح ، وإحتالت كل صاحبة عمر أين تعمر ، وتكونت
بسرعة ينابيع المياه وتشددت الأمطار في الدفع ، حتى مال كل زرع إلى
الهلاك فلم تعد تحمل التربة كل هذا البلل طفح وتجفّن وغطى الزرع وأخذ السيل
كل ما خف أمامه حتى فرت المياه في فتحة أرضية غلى واد حدودي يصب فيما
بين الحدود ، لا تزال الأزمة في إنتمائه إلى أحد البلدين واقفة .
وفجأة سمع الصوت يقول في الظلام : أصمت فالنافذة توصل الصوت و إحذر
الوحل المعرقل ؟ شخصان يقيا جسديهما بجلد أسود ، وبرقت عيونهما فقط .
تحتما العجلة وتقصدا الحدود إبتعدا عن بيت عبدوا مسافة النظر ، وأخذا الطريق
المعبد في أوله لافتة كتب عليها ( المسافة الفاصلة) خطت بخط أحمر على
الطريق الحدودي السالك وفي ليل لا يزال مطره شديدًا أسرعا الخطى كأنهما
يتقصدان مكان ، تحسسا حبات المطر تخترق الثياب وإحتبست أنفسهما ، لكنهما
سائران غير متمهلان حتى بانت عليهما التهمة وغابا وما ظهر إلا مع (الاحمرة)
حمارين في قطيع يسيرا وحيدين كأنهما مع راع ، وأمسكا أخيرا بذيل الحمارين
فتحجج أحدهما عن المسلك في سيره وأخذ كل منهما يتفقد البضاعة وحاويات
البنزين التي يحملها الحمار ، ذات 25لترًا ولا يزالا يسيران والقلوب تحقن الدماء
والأيدي ترتعش وضعا حزمة الحشيش على ظهري الحمير ، لقد غنما حراميا
النفس وهاهو مكتوب الأقدار محفور بالكفوف .
نبض باق ونبض فان وإمتداد الخصام بالعيون الراصدة للخبث يقتص والإنسان
كذلك حتى الحجر والحدود تزحف بالإنسان إلى الشقاء وخشية العبور قائمة
والخوف من إستغلال سكان الحدود .
............. ................ ...........
لن يكون ما فات بأفضل من القادم ، تساقت الأيام لا تنفي شيء وصمت حذر و
قلوب بأجساد تكدرت ، تحرصت الأيام وتأنت ونسخت ما خفى .
توقفت الحياة على كل باب من أبواب القرية المتراصة ، وفي طرق واسعة غير
أنها موحلة ، وتوسعت البساتين والمزارع وكثرت الحيوانات حول أغلب البيوت
القرية بعيدة عن مدينة مغنية وقريبة من الحدود يحبها ويحيا بها الكثير من الناس
بيت عبدوا بمكان بعيد مفصول عن بقية البيوت متصل بالواد الحدودي دفن
بمزرعته الخضروات وهاهو يتهيأ ليأخذ قسطًا من السقي والمياه تؤخذ من الوادي
الحدودي فلا مورد اَخر له المكان يحتاج إلى تشفير وبه كل الإحتمالات
السياسية المهيمنة ، هاهي المياه تأخذ في الصعود ، هم أربعة وتوسطهم عبدوا
بقادوم متين في يمناه وحمل اَخر على كتفه ، توصلت السواقي الترابية بأقساط
بلاستيكية تخرج من الواد ، سارت بها المياه كثرة تضخ بمحرك بنزيني ، صنع
التأثر وحقق ما تمناه مزارع الأرض .
تباعد الحيز الزمني وتحركت الأيدي تصنع الطريق أمام المياه في حرية ، وذابت
الحياة تحت حرقة الشمس المتحركة في إتجاههم ، تطأطأت الرؤوس في عملها
وفجأة أخفى الظل النور وإختفا عن العيون كل أثر نسيم ، إختنق الحال وغلقت
كل رؤية ، وتتابعت المياه في السواقي لا تقف ، إنقطعت النظرات وتوقف
الصوت وعلا صوت المياه صوت حمل المرارة من قائل :
من خوَّل لكم بأخذ المياه من الوادي ؟ أين التسريح ؟ وواصل أوليس الوادي
بأراضي المملكة المغربية ؟
رد عبدوا بحزم : العام الماضي رفعنا شكوى لمحكمة مغنية ولوالي مغنية و
جاء الحكم لصفنا ، فهي أراضي مشتركة وصالحة للإستعمال الثنائي لنا ولكم
وفي الواقع هي أراضي جزائرية .
يرد رئيس الدائرة المغربي :
لن تواصلوا أخذ المياه ولن يحق لكم ذلك ، هي أراضي المملكة وسنخضع
الأمر لهيئة المحكمة المغربية وسنرى ما تبث فيه ..
الحكيم صاحب النظرة الصائبة ، إكتنزت الوجوه الكلام الكثير ، وعلا الضجيج
المكان وبان المقت حتى مال مرأ العين للسواد وإلى الظلمة جراح غابت بالجسد
لن تقوى الأجساد حمل الاَلة ولا حتى السواعد وقد حملت من قبل الأثقل ، لن
نتقن نعمة السكوت إذا تكلمنا الساعة ، ولن نسكت إذا سكبنا الظنون على الأقوال
تلبست النفوس الغموض ، إنصرف كل إلى عمله ، وإنسحب رئيس الدائرة
للمملكة ومن معه ، تحفرت قداسة الإستماع ، كما عرف الحزن والإغتراب
قلوب الفلاحين وعبدوا من بين الأربعة قهره الهجر وظلم القلوب والوجوه لوحة
رسمت واحة نخيل وسط الصحراء ، لم تبقى منهم غير الثياب بعضلات مرهقة
تتلبس الظنون ، ليس كل من يحدثنا محب لنا وللإنسانية وليس كل إنسان صاحب
إنسانية ، وقياس الإنسان أصبح بالدينار والدرهم وبالقماش ، أين القاعدة المتفق
عليها في القياس ؟ هبت ريح من الجنوب غيرت وجه الأرض وهل تصاحب
الزمان والمكر ؟
وتوقفت ينابيع المياه عن السقي وإنسحبت الأنابيب بتمهل ، وتوقفت عن ضخ
المياه ، غاص الرأس المفكر في الوادي الحدودي أين الحرية محجوزة هناك
مجازة أخذ المياه منه ، لا من يحمل الأذى عن جر النار وأخذ الخيار ما إختارته
الأيام ، صدمت المناظر الملونة الرائعة بهول ما أخذت منها من مياه توقف
كل شيء كمن يقطع حلم عن التمام وبانت الظنون .
تواصلت الأيام والأسبوع تلو الأسبوع والأشهر فالسنين وتدهنت ببلسم الصبر
خيطت جروح القلوب العليلة ، وبدأت أول خيوط الاَمال في سبيل أقدار أخرى
فليس كل من يغني محب للفن، ولا من يصمت محب للصمت بل دواعي تحمل
لنا الضغط وتحذرنا من أشباح الشبهة ،وفر الفم كل الشكوك وأقر للعين الغروب
غفت العيون وناح القلب ، تمدّحت البومة في الظلام ، توقفت الأقدام حتى
تهجرت المشاعر المستقرة بالقلوب اليائسة والواهنة مما أرهبها بالمكان واحة و
لوحة جامدة تقهر الصمت والغفلة .
ينتشر ضياء شمس الصباح وتنتشر الأجساد منها من غاب هدوءها ومنها من
في غضب ، يتذكر ما حدث بالأمس من شخص عدو الإنسانية وعدو الزرع و
الذي أحدث الرعشة بالقلوب وقطع النفس ومن ذا يعمر الأرض . سارت الأيام
متتابعة زاهدة ، تفرد عبدوا المجلس بينما أخذ الصحاب الثلاثة مكانهم بجانب
الطريق الوطني الشاق لدربه بين المنازل ، ينظرون إلى بعض المغزوة وحشة
وأرواح متخلية عن الأجساد فرع ثابت وجذعها مجهول ، وتبقى رؤاهم جميلة
وأخذت ألسنت في الأحاديث التي لا تطلها حرقة نار ولا زهد عظمة ، وتنوعت
وتدافعت نحو الفخر والعبرة ورفض أفعال الظلم ، تبحث عن أي موضوع
تسافر فيه ، هذا التراب يساوي الكثير ولكن المرارة تلاحقنا مكايد تموج الهدوء
أخذت الأحاديث تتمازج وتتذهّب كل فجوة ، وتجمعت حول تحكيم واحد هو
تفكيك الصلب المتوالد والمتنامي ، لا معنى ل‘نسان يبقى معدم مغترب مرهب
مهرب واَلة الفزع تنزعه الهدوء ، مفاهيم مبهومة غير متملكة لصيغة .
الشمس فوق الرؤوس وبالقلوب وعلى الدروب ، والرشد مطلوب ، النفوس
إعتكفت بالمكان ولن تبرحه ، هذا التراب يعيشون منه وهو رزقهم فهو لهم
الطابع وقدرهم ، وإن بيع نصف الوادي فنحن أحق بنصفه الاَخر ، وإن منعنا
من مائه فلنا ماء النبع .
قال أحد الثلاثة : أريد فتح محل لبيع الذهب فالقرية لا يوجد بها هذا النوع من
التجار ، وأخذ رؤوف بالتحليل والإنغماس في الحديث ، حتى توسعت الجلسة و
توضع الأمر ، سأله عبدوا عن بدأ العمل فرد :
غدًا لقد كلفت من يحمل إليا المشتريات ، والمحل ببيتي .
عبدوا : إذن لقد ركبت المد وإنسحبت مع الموج ، تلطفت الكلمات وتبنت الهدى
الأيدي وأبصرت العيون ما فهمت ، كيف وقد إمتثل جرح أحدهم للشفاء .
باب العسّة بوابة حدودية ، بها أراضي زراعية ومساكن ودكاكين ومدرستين
ومتوسطتين وثانوي ، ومشاريع أخرى في بدايتها وهناك غير بعيد عنها المدينة
الجديدة التي تنشطت فيها الحركة ، تتابعت الأيام متاَنسة ، أخذ عبدوا مكانه
بحقله وظهرت عليه الوحشة مائلا للملل ، أخذ حريته وسط عشب أخضر و
بركة من الماء الباقي عن السقي بالأمس ، تطرق إلى قضايا بعيدة نهاية
السماء ، هاهو طيف جاره الساكن حديثًا يتحدى ويخترق حذاءه الصمت يتقدم
نحوه في هندام أسود أنيق ويقترب حتى يجافيه وينقلب لعبدوا حتى يصفعه
بحدة ولا يتبناه عبدوا بل يصافحه بنظرة مكر وحيلة .
إبتعد الجار وأخذ ينظر للعالم الجذاب من حوله ، لا يمكن لإنسان أن يصافح
صانع إجرام ومتخرج من منزل التفرقة ، كيف تزرع بدل الشجر عظام البشر
وتجني وابل الشتائم والهزائم ؟ وتفتح سوق تباع فيه الأفكار العنصرية وهذا
يملك وذاك لا ، كيف تنعم في فراشك والقلب لا يوقف له شك ؟، وهو كذلك حتى
جذبته رجاتها وهي تسير في ممر لا يسلكه إلا الهارب من النظرات وخائف من
المجهول ، على حوافي بستان حدود الحقل ، وعلى أرض ترابها تبلل بمياه
فاضت ، تحمل تنورتها من جهة اليمين ترفعها عن الأذى ، وتتقنع خمار أسود
ظهر جسدها النحيف بيضاء الوجه ، لطيفة المرأى ، قطعت نحوه الطريق
بحكاوي القلب المهتدي بهدى مبينة النية للمحبوب ، إنقلب إلى ريحها والهوى
خفاق ، نظرت إليه وهو تحت شجرة الصنوبر هناك يستظل ، قفز فجأة و
بسرعة من يريد إحتضان طارئ ، لكن القرية صغيرة ورؤية أهاليها يمرر من
ثقب إبرة ، أمّا السمع فسماعة طبيب تتصنت نبض القلب ، زفت إليه بسمة من
شفاهها فتنحنح يعيد مجرى الروح ويشق ينابيع حكاوي الحب ، سارت نحوه
وهو لا يزال يرقبها وصوت الخلخال يصرخ في يسراها ، حتى ساوته وتعمق بها
تأخذ شيئًا من الأرض أو تعطي شيئًا .أبصر الورقة بكفه ، فقلب حوله يتحاشى
نظرات مخادعة مراقبة له ، الأرض معشوشبة والشجر يغطي المكان لا أحد
يطلع إليه ، إذ لم تكن له البصيرة ، والحركة بالوادي منعدمة فالقضية بيد
العدالة ، غلق عواصفه وتذهّبت نفسه للورقة ولموعد مع أصدقائه من الحي
جمال ورفقة اَخرين ليس له صلة بهم لكنّهم من جلاسه ، تذكر الفتاة لكن التفكير
محضور إذ لم تكتب عليها ورقة فيها إسمها وإسمك .
أخذ الأصحاب مكانهم على ضوء القمر يتحدثون ، إقترب عبدوا وفي غقلة تخفت
الصوت حتى جلس إليهم قال جمال :
بعد لحظات سنتجه إلى الحدود ومنها نخرج نحو أوروبا ؟
جمال هوأقرب الأشخاص لعبدوا فواصل الكلام :
لا تنسى أنها قناطير من النحاس وكوابل الهاتف والكهرباء ؟ لا يزال أمامنا
الوقت الكافي لكنها أملاك الدولة والأمر ليس بالهين ..
لكن عبدوا كان معارضًا ولم يبين لهم ، ورفض الإنضمام إليهم مهما كان الثمن
وتوكل الجميع ودخل عبدوا بيته وهاهو يجلس في المطبخ حتى سمع عجلات
الشاحنة تزأر وصوتها يشق الطريق ، جلس أربعتهم متونها وسارت في تأني
مثقل مغطاة الخلفية تقصد الحدود ، كان عبدوا قد سجل رقمها وتخبأ في الظلمة
وحمل محموله وقام بما يقوم به أي مجهول .
أخذت الشاحنة ذات الغطاء الأخضر المائل إلى البني تسير لكن سرعان ما بحلقت
عيونهم في البدلة السوداء تقطع الطريق وأجبروا على المرور بممر ضيق
للمراقبة ، دخلوا الخط الأحمر ، لقد تكبلوا بالكوابل النحاسية وإكتوا بأسلاك
الكهرباء توقف عليهم الوعد ، وسيدخلون القضبان لأعوام وهذه حال من لا
يحافظ على دنياه ، لقد قبضت أرواح راكبي جنون الذئاب ، وتداولتهم ألسنة
ساكني القرية ، وكم ظهرت أشعة الشمس على حكايتهم وكم غابت على خرافتهم
وهاهي القرية ناعمة وسارت قططها ودجاجاتها تغير الصمت الملبس للوجود هنا
تفتحت الشرفات على الأمل ومدّ الإتصال بالحياة قهقهات وهتاف ورعاء صغار
وصبية تلهو ، ومر عبدوا بالشارع ما إن يصل بباب مفتوح إلا ويغلق أمامه لا
أحدا يترك بابه مفتوحًا ، سار يريد مقهى شعبيًا الوحيد بالحي تغاضت عيون
عن الطريق وبرزت رجولته .
القوي من له قوة مالية ، وإذا كنتَ صاحب مال فأنت السيد وغير ذلك فلا تتكلم
كثر الإستخفاف بالناس ، اليوم الجمعة صباحه بدون حركة القلوب والأقدام إلى
المسجد سائرة ، وقف قرب جب لضخ المياه وبقرب بستان البرتقال يرقب المياه
السائرة هو ذا جاره يتمسح على شعر لحيته ويلوي يدا على يد وراء ظهره
لم يكلف نفسه بإلقاء التحية على عبدوا الذي مر أمامه ربما هذا لأنه تلبس
لحية منذ أيام قلائل لأنه لم يكن من عادته تكثيفها ، يجلس إلى جماعة
أخذا اللحية لهم عنوان للصداقة ، صعب الحديث إليه فلا يجتمع لأحد وهو دفين
بجسد الإنسان الجاهلي ، من سمع ولم ير ومن أخذ بفعل وإن لم يحصي قيمته
من سار مع البرودة وسار مع ما يريده البشر ، دخلوا جميعم المسجد ودخل
خلفهم عبدوا وأخذوا المكان في غفلة العيون فأخذ هذا يخاطبهم واَخر يستهزء
بهم لا أحد يعاشرهم غير من دخل بيوتهم .
القرية صغيرة وناسها معروفين ولأنّها بعيدة عن المدينة فمن يريد حاجته ينتقل
بوسيلة ، والقرية هادئة وصاحب الربو لن يموت هنا الكل يجب أن يعيش هنا
المتبرجة والمتحجبة ومن تلبس حائك كل الأقدام تحملها الأرض ، هذه ذاكرة
شعب والملة واحدة كل إنسان يحمل عينين إثنين فهل تنام عين عن أخرى ؟
لكن الماء يتعكر إذا ما قذفه شاب غير ناضج أو جارة رأت مالا يعجبها من
جارتها ، ومن كل كتاب نعلم ونتعلم فأسرة عبد الكريم بالقرية فقيرة وعائلة
الشارف تعاني الشيخوخة ، والفراغ يقتل شباب أسرة الحاج محمد ونورالدين
تلاحقت الأيام هذا الصباح تجادل عبدوا حول سقي الأرض مع رئيس الدائرة
المغربي لقد حظر محافظ دائرة مغنية كذلك ونالت العقول ما لاترضاه من
الكلام لقد تجنحوا وأكثروا الحديث أيريدون إدخال هيئة الأمم المتحدة بين
الحدود ؟لقد أشرقت الشمس على بلادهم كما أشرقت علينا وأننا نسقي الأرض
من الوادي كما يسقوا ، نحن نزوع وتثمر وهم يخطفون الغلة إنّها حيل ابن اَدم و
في الفكر ولا يقرأ الكثير ، لقد ترافقنا في الجناية وأجمع الحديث وأوسع
وتلمس القلب المقت والحب ، لقد حكم بين المتخاصمين لكن لا بديل في
الذهنيات الكل يريد الهيمنة وكثرت أقاويل الشيوخ ، السموم والحيل مبيتة
هبت ريح التغيير في هذا اليوم الساخن منتهى السخونة .
نهض عبدوا في الصباح وعلى عجل دخل المرحاض المفصول عن الغرف
بعجل لا يزال يحلم بأخت جمال والذي حمل إثم التبليغ عنه لكنّها الحقيقة و
الوفاء ، ولكنه يحبها وكلما مرة على بيتها أقرأته التحية فبادلها مثلها خاطبها
في خياله كذا مرة لكن هذا الصباح كثر عليه الحلم ، سار على ضوء خافت
كره أن يستنار نور الكهرباء هذا الصباح وبين قلبه وعقله سمع صوتها الخافت
القريب غطى سامعيه رد جناح النافذة إلى الخارج بأصابع يمناه وأطل ، وقف
عاجزا أمام نظراتها ، أخذه وجهها الصبياني نحوها ، فرفعت عيونها نحوه
وهي تحمل دلة الماء لترمي منه المياه بالساحة وبسرعة أدخلته دنيا الرق و
العبودية وهبت عليه رياح الحب العنيفة تمسح هندامه فوجد نفسه لا يزال
في المنامة أسرع إلى غرفته يؤنق ملبسه ونظر في المراَة كما لو بلغ المئة سنة
فراح يؤنق ويمسح وطأطأ على حذائه يمسحه وجدد لون وجهه بعطور ، وسلك
مسلك خارج البيت في أمل مشاهدتها وشروق ظاهر ، لم يكن بالشارع غير
صبية يلعبون في دلال ، حتى طارت أحلامه ، وأخيرا وجدها تخرج من بيت
الجيران في تنورة وقميص ورديين ، أشار عليها أن سيري أمامي وأنا اتبعك
وركبا معا النقل الجماعي فأسرعت إلى جانبه وترادفا ، بقي اللسان معقودا و
الهيبة تقدس الحاضر ، هنا الاَن مع لعبة الأقدار وفصولها ومشاهدها المتسلسلة
توقفت وسيلة النقل ، ونزلا متباعدين في صخب وتموج بين شذوذ وتجاذب
لن يغيب هذا اليوم عن مذكرته ، هل سيقال عنه خارج عن العادات والمألوف ؟
وأنه غير درب أسلافه ، وأخذ في أحشائه أولاده ؟ عليهما الإختفاء في
مكان بعيد فالحب وإن فاض من الشفاه فهو ممنوع في الشارع ولو كان الغرض
طيب ، دخلا حديقة التسلية وجلسا متخفيا بمكان دارت عليه أعشاب عمقت
مكانه ، توضحت الأحلام وهما يجلسا كتفا لكتف ، جلسا ووقف اليأس ، بانت
الفرحة في تقاسيم الوجه وتحصلت منه على الإعجاب ، تحذرت الوشاح عن
شعرها ينزلق فنظر في شعرها البنفسجي المخبئ ، فإنطوى بأصابعه على خدها
الأيمن فتورد تعصرا عصيرا مذاقه الحب ، وتكسرت على معاتقه ووسع يسراه
يحتضن معاتقها ، وبان الصوت المغمورة عن مغامرة حب ناشئة .
................. .......... ...........
إنطفأ نور الشمس وبان نور القمر وعلت صورة الصراصير بالمكان إنفكت
ربطة العنق عن العنق ، وفجأة سمع صوت ضوضاء وعشوائية كلام ، أشخاص
ولا بد أنهم من دوار اَخر القريبي من الحدود ، اصوات تسب وأخرى ترد وتفرغ
لهما الجو أصوات حادة وقذف وخصام ، وإنفجرت أنوار محرقة وكلام بذيء و
إنقظ النازي على فريسته وعم الضرب ، وتعالت الأزمة ، وهاهوشاب بجانب
الشجرة تحت نافذة عبدوا يتمايل ويئن لا بد وأنه مصاب بالسلاح ، وتدخلت
سيارات الإسعاف التي شقت الصمت وإنقلب الدوار إلى دوارين بعدما إنضم هذا
إلى ذاك ، عشوائية ودماء وخناجر وشفائر الحديد سال الدم الكثير وإنهارت
الأعصاب بعدما أثخنت الأجساد بالجروح وإستمر الحال حتى وجه الصباح
بعدما أهجى النوام ، وإهتدى كل إلى بيته وهو يرسم التفاصيل وتشكى الحال
سقوط عدد كبير من الجرحى .
خرج عبدوا من بيته وعرج على بائع الجرائد وإشترى جريدة ، جلس على تراب
أرضه جلس ومد ساقيه وأخذ يتصفح الجريدة ، وراح يستطلع الأخبار ذات
الخط الأسود ، حتى أنه توقف عند خبر الحدود المتنازع عنها ، غلق الجريدة
ووقف يسير على حافة الطريق الترابي وفجأة رأى جماعة من الناس حول
الوادي فأسرع نحوهم فوجد جثة أحد أبناء الجيران محفورة في الطين ورجال
الحماية المدنية ينتشلونها ، وغواصون بالوادي العميق يبحثون ، سأل أحد
المجتمعين فقال له :
البارحة بالليل والمطر يسقط نزل شاب فلاح ليسحب محركه من الوادي فغرق
في الوحل وإتبعه والده الذي جاء لنجدته ، وأخوه الأكبر قيل أنهم غرقوا بالوادي
والغواصون يبحثون عن جثثهم .
عالم غريب أملته المغامرات اليومية ناح بها الحال وتلبسها إبليس اللعين
زرعت الجثة الشكوك وتنبت البغض ، أبكتهم والدتهم وتمسحت دموعها لكن
الأرض بالحدود عشقها الناس وألفوها رغم التيه والمتاهات .
مرت الأيام وإنصرف عبدوا مع الفلاحين لسقاية الأرض خفية وبساعات متأخرة
من الليل ، منذ مدة والقرية تعيش هذه الأيام العسيرة السقاية من الوادي بترخيص
وإلا ... ، تظهر سيارة تسرع من بعيد حتى أنكرها ضوء الشمس ، لم ينتبه لها
عبدوا وهو يحادث مجانبه الأيمن قال عبدوا :
هل البقاء على هذا الحال مطول ؟
ردّ صديقه بالمستحيل ولو كلفه سرقة المياه لا يمكنه ترك زرعه يموت .
وأشركهم اَخر :
لقد تسللت بالليل وفتحت المياه في ساعات متأخرة ، وما شأني فليحكموا في
القضية وننتهي .
يرد اَخر : لقد حكموا بالنصف ، لكن بعد تعاون الجزائر مع البوليساريو
جَنّ جنونهم وأرادوا الإنتقام .
وقال اَخر : زمابالهم والتهريب من مغنية إلى المغرب فأوروبا ألا يحتكموا فيه ؟
والماء بالواد هل هو من بئر زمزم ؟
الأحداث لها مجاري أخرى والفاجعة هنا تتكلم وتنوح ، توقفت السيارة بها ضخم
الجثة يحمل أوراقا طويت وملف أخضر ، تعتصر عيونه المكان وتحمل التسلط
زرع الأرض بعديد النظرات ، ولف الواد بأخرى من بدايته إلى منتهاه قابله
عبدوا وأصدقائه الفلاحين ، والشمس على الرؤوس
ماذا يريدون أو لم يتأكدوا بعد ؟
كم أمقت رؤية هذا الرجل الحامل للملف ، وأشار بشفته السفلى وإنثنت على
الذقن حتى ظهر إحمرارهما الغامق ، تفتحت عيونه مُحاطة بوسوسة وغش
لقلب يصرخ في صمت ، إستقاموا في عبوس ، وتلصّقت عيونهم بالواد
عبدوا : أتراه يريد التحدث إلينا ؟
اَخر : يريد زرع الأرض بور ..
اَخر : بغيض ، طابق ظهره صدره، هو والتوحش توأمة .
هذا عنقاء اللقاء مغالب للخيال ، وفي نظرة وضخامة المسؤول إنقلب الباطن إلى
ظاهر ، وتسحب تاركًا ظلا يسايره ومسوغات رشاقة لعمر مابعد 50 سنة نرفزة
ووخز تقتلع جذوع النفس ، أنانية ونبذ للفلاحين .
بعد مدة قصيرة إتجهوا بعيدًا ، عاودهم شعور الهدوء ، عاد عبدوا إلى بيته ولبس
غندورته السوداء وحرص على إظهار وجهه فقط ، تكمش جسده يبحث عن
الدفء والحال في فصل الصيف ، تسحب إلى أرضه وتنزل إلى جانب أصدقائه
بالواد ينظرون المياه وهي تسير تروي العطش ، عيونهم تحرص المكان و
إستحسنت الظفر بما تريد ، وهاهي أمواج المياه تزهوا تجر أمامها الخراب .
تاه الجفاف وسط السقايا وتنحت الحرقة ، غاب الشقاء وتفألوا بالحسن .
عاد الفلاحون إلى بيوتهم وهم يتسللون ، وفجأة إنزلقت صخرة بشدة بالواد و
إرتطمت بشدة بالمياه ، إلتفت الجميع في غير تعقل وبسرعة ، جهل ما حدث
لكن الجواب يبقى خفي ، وتابعوا السير يحملون ألاتهم المستعملة .
سارت الأيام بإنتظام هذا يتكلم ولسان ينوح ، واَخر يحمل الخير ، الضجة لن
تزيد إلا لهب للقلب ، جفاف الحياة يقود إلى الصمت .
جاء يوم سقاية الأرض أعدُّ النفس والعتاد وساروا إلى الأرض وفي وسط
الليل والعتمة شقوا الدرب ، إستلم أقدامهم للوحل ، تشرّب القلب الهدوء و
الصفاء ، النفس تأمل وتدعي ، أخذ كل واحد مكانه منتبهين يفتحون التراب
أمام مياه الوادي ، ولكن من جهة أخرى كانت هناك أقدام تتسلل نحوهم في الخفاء
لم يعرف منها شيء وفي حذر وصمت قاتل صوّب المجهول القناص سلاحه
يرمي بالجمر ، تصوبت الرصاصة رأس عبدوا لكنّه طأطأ ينكش التراب ويفتح
أمام الماء فغلقت عليه الأقدار محتوم الموت ، لكن رصاص أخرى أصابت
صدر صديقه بشدة فصرخ صراخًا تمازج وسريان الدم من الجرح بسرعة
أسرع الفلاحان الإثنان يتخفيان وسط الخضرة ، الضجة أخرجت ساكني الحي
مسرعين نحو الأرض هذا يصرخ واَخر يبحث شاهرا سلاحه واَخر متوعدا
ولكن الليل درأ صاحب الفعل ، وحملت جثة "نُمير" إلى المستشفى لا حياة فيها
على بكاء والديه عليه وتتوعد رصاصة الشيطان .
يقف عبدوا حائرا وعيونه تتولد وتتكاثر في موات وفساد لقد طُعن في الصدر
من نفوس لا تزال تقبع بالأرض وتحاول سحب الحياة من الأجساد ولهذا
فالحرص لابد منه .
وقف الثلاثة في أرضهم منذ الصباح حتى منتصف النهار ، وبلغت العناية نوع
من الشعور الهادئ ، هم أبطال مالكين راشدين وسعوا سعة الحياة ، أخذوا من
عون الله ملاذًا لهم ، إهتمّ عبدوا بالطيور ذات الريش المزركش وهي تتغذى على
الحشرات ، وأخرى وهي تهاجر بين الأشجار ، يزيح عبدوا قضيبا وجده مرمي
وسط الترب .
تواصلت الايام وهاهم الأصدقاء الثلاثة يجلسون في ثرثرة ، هذا الأسبوع تغيرت
عطلة الأسبوع من يوم الخميس والجمعة إلى يوم السبت والأحد ، تلقت المسامع
الخبر وتلقى الإستحسان وبين الحكمة والثبات سار البشر والزمن ، وأسندت
الأفعال للسواعد والقوة ، تكدر الزمن زمن وتكدر أخرى ، وبين أرباح وأطماع
بلغت النفس ما تريد لا سجن على الطيور السائحة فهي هبة الله ، تواصلت الأيام
بين إخضرار النفوس وإحمرار الدماء ، الثقة هي ضعف فالتراب ينطق عربي
وكيف للإنسان أن يترك خطاه ؟
للظالم عيون هنا ولا تزال الحدود مرسومة بالنصب والإستغلال الهدوء هرم و
شاخ من بقى هنا وجد نفسه تحول إلى مجاهد حتى يلائم الظروف وحتى يبتسم
في الليل والنهار ، ولا يسطوا عليه غيره ، الدواء الوحيد هي الفطنة والتدرع
بالحصانة النفسية .
................. ............ ........
هاهو عبدوا يقف بالشارع وهاهي تقف بجانبه تبحث في حقيبة يدها ، تمهلت
بثقة وبشعور محب غيَّر لغة القلب ، تشير عليه بعيونها فرد عليها:
أنتظرك بالمحطة .
وصلت إلى المحطة وترافقا فجلسا إلى بعضهما حتى نزلا بمدينة مغنية
بحث عن سيارة صفراء حملتهما إلى مركب التسلية ، يغرس فيها عيونه
بلا إنقطاع تشد يسراه يمناها تترنح وتتحسس أصابعه فتستسلم له ، درأت
حياءها ببسمة ، جلسا جنبا إلى جنب على مقعد من الحجر ، لم يصمت لسانه
عن محادثتها والإعجاب بها ، واسر لها بحبه لها ، توعدها بطلب يدها .
طوت يمناها على يسراها ، مسح بيمناه على خدها ، لن يحلوا نوام عيونه إلاّ
إلى جانبها ، وسمعها كلام يكسوه الأمل ، عرفها بدنيا الجمال ، عيونها لم تمل
النظر في عيونه وهو يرقب خصلات شعرها المتمردة ، وطالت بهم أحاديث
الأرصفة والعشاق حتى مالت الشمس إلى المغيب نهضا وهو يغدق في عيونها
البنية ووجها الأبيض وأنفها الدقيق ، تجاوزت الضعف والتفكير الصلب وسارا
في صدق الخيال .
أقبل الظلام وتراصت النجوم تتبارق ، وهاهو عبدوا في ساحة المنزل يتمدد
وغير بعيد سمع صراخ عجلات وهرولة وأقدام تخرج عن الصمت وتهرع
بوحشية ، لفّ قميصه وأسرع في الظلام يبددها وأطل من نافذته فما وجد شيء
في الصباح راحت الألسن تردد ما كان ليلة البارحة ، لقد حجز أزيد من أربعة
قناطير من الكيف المعالج ، ليلة باتت تكتوى بالجمر وشعلات النار .
لقد نُصب لهم كمين وتمّ توقيف أربع سيارات دخلت ولاية مغنية من نوع 406و
حجز 19 خرطوش دخلوا من المغرب الأقصى .
كانت البضاعة ممددة على الأرض ، كانت لأشخاص يتسلقون في الليل ، حتى
أصبح الأهالي لا ينامون بدون غلق الأبواب حتى تبقى نفوسهم دافئة ، ظل
البريء عاجز ، والشاب فارغ العمر ، يعيش أثقالا محجوبا عن النور ، متى
يستغل الأرض لتلد نفعًا ، متى يتسحب الإنسان من العماء إلى حياة حية ، ما عدا
أهل الحي الذين يعرفون أنفسهم .
يخرج يوسف الشاب المعتوه يسير بالحي ، ويوسف لن يترك الحي لكي ينام
يجلس غير بعيد عن السوق يؤمه الباعة وفي لفتة لم تحمل الإنتباه تمر إحدى
النسوة تسير في اَمان وإذا بالمعتوه يحمل فواكه التفاح الغالية ويرميها بها حتى
أسقط العجوز أرضا وحملت إلى المستشفى .
مرت أيام أخرى يجلس عبدوا وأربعة من أصدقائه بالمجنون والذي كان يحمل
قضيبا من الحديد فضرب أحد الأصدقاء إلى المستشفى .
مع الصباح توجه عبدوا نحو جماعة الناس التي تجمعت حول بيت العمة حسنة و
التي راحت تسرد ما حدث معها وكيف إقتحم مجموعة من الناس بيتها وأشهروا
سلاحهم في وجهها ووجه الحاج رضوان المريض حتى أغمي عليه في فراشه .
الحقيقة رابضة غير معلومة الناس على هذا الحال ما زاد عن نصف قرن ، وتعلم
الفوضى من كان هادئًا ، وصعب معرفة نوايا الاَخر ، الكلام الجميل تشوش و
كثر حديث اللغط ، وهاهي الأيام تلعب أدوارها ، وهاهي الحاصدات تحصد
تدفقت الأقاويل وتبارت الأنفس على الهدوء .
تكاثفت السحب في ضجة قدوم الأمطار ، ففرت الطيور ، وتبللت أوراق
الأشجار ، برز تلألؤها يجاري الصمت ،تسارعت الأقدام نحو ديارها ، وقصف
الرعد وإنشقت السماء بقبضة من حديد ، إندس عبدوا في غندورته وراح يرقب
من النافذة تلك الفتاة التي عاشت مترحلة بين أمها وجدتها ، وذات يوم غادرت
جدتها فوجدت والدتها ميتة ، وعندما عادت إلى جدتها وجدتها ميتة أيضًا فعاشت
وحيدة .
بعد أيام قلائل سقط عبدوا مريًا ، والمرض ألوى ضلوعه ، ضعف جسده و
تصبب عرقًا ، وأخذ في غوص وغياب ، وسار متعكزا على جذع شجر و
ترشد بذاكرته إلى عيادة ذات بناء قديم هش ، وإستصحب بأرض معشوشبة
سارت أقدامه على أرض يابسة ، وأخذت الشمس تزحف في قلب السماء
أخذ طريقا تمنعت النسوة عن المرور به ، أعرج الخطى ، حتى تحتم التوقف
وتلفت خلفه ، كفكف حبات العرق المتسلطة الزاحفة على جبينه ، وصل إلى
العيادة ودخل يشد بيمناه على قضيب الباب يسنده حتى يدخل وهو جاحظ لعينيه
ولا يزال يئن ، الطبيب الخاص يناوب اليوم ، رفع عبدوا حزامه إلى وسط
بطنه ، وفي غمرة بريق الأرض وممرات المقاعد البرتقالية البلاستيكية يمر
يزحف يجر الخطى ، إذا ما طلع ممرض يسأله عن مكان الطبيب أو عن مكانه
يشير عليه الممرض إلى الباب المغلوق ، وإلى أناس كثر أمام الباب ، سخرت
يديه من عصا يحملها ولا تنفذ إلى عمق ، علامات اليأس تحط على المعاتق
جلس وإستوى على مقعد عله ينام وينهض على دوره ن وتصبر بقوة العزيمة
والحق الإنساني البعيد عن الغلبة وهو غي غفوته سمع الطبيب يقول لمن أمامه
إرمي الدخان ممنوع بالمستشفى ، كان الشاب يضعه فوق أذنه ، وضع عبدوا
رأسه على الحائط وراح يتذكر لعل من يلبس الملابس ليس كمن ينزعها ، ثم
وقف وسار يلوي الخروج من المستشفى ، يسمع لكلام قلبه ، يستعرض الصور
من مذكرته .
أودع النهار كامل نوره ، وإنقطع إلى نفسه ، ودل رأسه على ركبتيه وتوسط
صدره مابين ساقيه ، وراح يغمض عيونه ، هنا هو موجود لكنه تخرج عن
الوجود ، اليوم الأحد والسوق عامر ، سار في طريق ترابي إكتض عن اَخره
بصناديق وعلب كرتون ، ودرجات وسيارات ، وأنواع الخضر والفواكه
وقف أمام شباب مجتمعين متجنحا للريح ، إنه مخزون المازوت يفجر الصوت و
يعلو ، توقفت عجلات السيارات في طوابير كل واحد بمقاله :
هذا لي من مخزون المازوت مايكفي لنصف يوم ، وهكذا تسير الأزمة لمدة أيام .
لم تكن المدينة لتنام ليلة واحدة عن البلاء أو المذلة ، بل هي غارقة في برك
الوحل ، وعماها الغبار ، البلية زرعت التسمم ، صاح لسان عبدوا " يالله ياكريم
يارازق الإنسان على الأرض " وسقط في فراشه مثقلا من يأس من حاله
ومثل ماهو في مسرة الفضل يعالج معارض الشعور بأحسن سعي وفضل .
وضع رأسه على الوسادة وتعمق نظره في سقف الغرفة يكاشف الروح ، وتشمم
التسيم قال قلبه : لماذا لم تهاتفني منذ أيام ؟
وما إن توقف فكره حتى رن المحمول ورأى رقمها : علمت أنك تنتظرني ، لقد
كنت مشغولة تبسم بخبث وشكى لها حبه فما أحس حتى وجد الصباح .
غفلت عيونه عن صوتها إنقلب ذات اليمين فوجد باب غرفته مفتوحًا خرج إلى
الحمام وغاب بنفسه في المنزل ، وتهندم وإستجاب إلى قدميه وهما يقودانه غلى
نعل ينتعله وتبسط يعطي الراحة لأصابعه ، شرب قهوته السوداء بعدما طهاها
أخذا الرشفة مابين شفاهه ، وتنفس في غير إرادة ، أسرع الخطى إلى الخارج
موسعا في المكان ، متهربا من وحشة إلى الهواء ، وأخذ مكانه بين غياهب
خضرة وأشجار متشابكة ، متقعرة ومسطحة حتى تمنح وكرا في ضيق ، و
تمدد مانحا كل مالديه تناول صمته بما جار به الزمان، ولكن تحكم في هواه
تحسس سافيه العاريتين وقد قشط عنهما السروال حتى الركبتين ، ساقته
قطرات الندى والنسيم أحاسيس غلايبة ، ووضع عن معاتقه سترته ، ووضع
رأسه على التراب ، تطابقت عيونه والضحى ، وأنعشته أشعة الشمس بما
يريد تخرج عن الحقيقة ، وفجأة تغمضت عيونه وأحس بأنفه سيعطس
فرفع يمناه يشده ، لكن إندفعت العطسة تضخ ما بها ، توردت خدوده وإحمرّت
عيونه ، وحشد ما بنفسه من عاهة وألم ، وراح في نوم وإنتتمى إلى دنيا الموات
تظلّم الحال وهو يضع ثيابه ذات اليمين وذات الشمال حتى تعال الصوت :
هاي ، قم هل تنام في الخلاء ؟
وتكرر الصوت وحمله الهواء إليه ، هاي ، حتى قفز من مكانه : من ، من ؟
تلفت من كل جهة، هنا ، رفع عيونه إلى اَخر الطريق :
إنتهى النهار وهانحن بالليل ولا تزال نائمًا ؟
تبسم عبددوا وإن لم ير تبسمه صديقه ، وتمتم في عجز:
النعاس أثره كبير وروعة المكان أنستني حالي ، كان صديقه يقترب منه وكلما
إقترب تفصل وظهر جسده حتى أتاه على كامله :
ألا تخاف الظلام ؟
عبدوا : ومن غيره إذ لم يكن الإنسان الفاعل ، ولو أراد أن يكون غولا لفعل
سارا معا بالأرض وعيون المياه تسري بالتربة في لج صفصاف وتلحن
صوت الطبيعة في تجانس ، وراحا يتفقدا جنان برتقال تفتق وردها الأبيض
وبين زهور الشوق والطبل والمزمار قال خلف :
ماذا لو نشتري ماشية ؟
عبدوا : ويسرقونها مثل سابقتها .
ويواصل :المكان لم يعد يأمن لا لحيوان ولا لإنسان واللصوص في هذه الحياة
فاللصوص يجدون الحدود المفتوحة يرسلون علينا سمومهم ، الإنسان هنا
قصيدة بلا نغم وشريان بلا دم نحتاج إلى أشياء كثيرة هنا أولها الاَمان ، نحتاج
إلى مستشفى وإلى أطباء ولو حتى من وهران نحتاج إلى مرافق وكل شيء
يرفع السد عن البئر ن نحتاج إلى صيادل وبياطر، فالحياة مرحلة وكلنا سيرحل
وسيجد الخلف ما تركه السلف .
الأرض فقيرة تحتاج إلى من يرفع عنها الغبن والبلاء ، والمهجرة تحتاج إلى
إستصلاح ، نحن في هذه الحياة مثل التجارب . ساروا بين متاع أشجار الزيتون
والكروم والعنب ووقفوا على أراضي واد الحدود ، وتأملو بناءات القرية
الفوضوية الهادئة ، الأشغال هناك بالعمارات تقترب من نهايتها ، والأشغال
بالأراضي العمومية توسعت وتقدمت ، منذ سنوات إهتمت بهم البلدية و
شيدت الكثير من السكنات .
تمر الأسابيع حتى يأتي اليوم ، نهضت القرية على أعوان البلدية وأعوان الأمن
ذاهبة واَتية تقوم بترحيل أهالي القصدير إلى العمارت ، الجميع يساعد والحب و
التعاون في قلوب الناس ، وسيتم هدم القصدير وإنهائه ، بان الفرح والراحة على
الوجوه الفقيرة ورضى الحال بالجمال .
أخيرا تحقق ما تمناه السكان بإستثناء بعض الملفات التي تم تحويلها على محقق
للبث فيها .
.................. ......... ......
سار عبدوا وخلف في إتجاه بيته ، وسها عنه يحلم بوجهها وصوتها نظر إليه
صديقه :
لماذا تتبسم ؟
عبدوا : لا أبدا ؟
خَلَف : أخالك تتذكر شيئًا ، هل تحب قراءة الأبراج ؟
عبدوا : لا أبدا لكنني من محبيه ، لكنني أقرأه من الجريدة كل صباح ، وأنا مثل
الطير لا أجد لنفسي مكان غير سلك الكهرباء .
خلف : ماذا دهاك ؟
عبدوا : صار قلبي قفص مهجور يسير حاف القدمان ، وكثيرا ما أغفوا لأجد
راحتي ، وأوهامي لا ترد الصدى وكثيرا ما أصدق حالي وتغمرني النوايا
وتحجب الشمس عني والشمس فوق الرؤوس .
إضطربت نفسه وأضرمت النيران كما تضرم النيران في كومة قش .
خلف : سنذهب إلى عجوز إضطهدها الفقر وإضطرها الشلل إلى عدم الحركة
ترى الكف ، كلهم إستفادوا من إرشادها .
عبدوا : لا أومن به ؟
إستقمرت الأرض وظهر بين القصب الأخضر وحبات الذرى كوخ ينام ، و
تصاحب ونباح الكلب ، كانا يسيرا بخطى بطيئة حتى شعر عبدوا بضيق
حذائه وأعدم السير ، الطريق مدبب حجارة فشعر بالوخز يقطع روحه
ولا يزال النباح يعلو ويعلو ، ويقترب ، إنقلب خلف فوجده قريب فصرخ :
أسرع ..أسرع ، كان الكلب يقترب فجريا في سباق البرق حتى أشرفا على
كوخ العجوز ، وبمجرد مع وقف على تربة حتى صرخ صرخة شديدة
وسقط أرضًا ، خرجت العجوز ، وإلى جانبها شاب ذو 15 سنة ، حمل حجا و
جعل يرمي الكب بشدة ، والعجوز تقترب من عبدو الذي كان يعاني الجراح .
العجوز : إجلس ، قرفص وجلس على التراب ، ونزع حذاءه .
العجوز : يُؤلمك ؟
عبدوا: كثيرا ، وجعلت العجوز تسأل وتستفسر ، وتريد معرفة قدومه هذه
الجهة المعدومة ، تقضط ثوبها عن الأرض وتمسحت يداه الدم الأحمر وهو
لا يزال يعصف في شريانه المنتفخ ، حطت يداه على حفنة تراب أراد بها .
العجوز : لا تفعل هذا مضر لن تكون بخير لأن التراب يجلب لك الجراثيم .
إصبر..إصبر ، وتحاملوا عليه وأدخلوه الكوخ ، خرج خلف مسرعا بينما بقي
عبدوا يئن ممدودًا وغلى جانبه العجوز والشاب ، ذبلت عيون عبدوا ونام وهو
يرجف من الحمى .
العجوز: أتُراها عظة الكلب .
لا يزال الشاب منبسطا جثمان بلا روح حتى نشف ريقه وبرز لسانه ، نبض
صدره وأكثر الاَهة والألم .
الشاب : هل من أمل ؟
لم ترد العجوز ، وأسرعت إلى العجوز وغابت فيه وعادت بسرعة
العجوز : لم أجده ؟ يرد الشاب : ماذا؟
العجوز : ماء الرقية ، كان في قارورة بجانب الطاحونة .
المطبخ قطع متفرقة وتنبتت به بعض الأعشاب مأسورة بين الحجر والطوب
وقط ينط ويموء ...
نظرت العجوز إلى عبدوا فوجدته نام ، فتحت القارورة وسكبت منها القليل من
الماء في كوب وجعلت تتمتم وتشرب وتناوب الرش بأصابعها منه وعلى مخدته
الشاب : أمي هل سيشفى .
العجوز : هي مياه مقروء فيها القراَن .
إنغمست النظرات في عيون المنبطح متأوها ، والعجوز ترش عبدوا بالماء .
نام عبدوا وهم كذلك حتى سمع صوت سيارة تتوقف ، بحلق الإثنان في بعض
ودخل خلف : أين هو ؟
العجوز : تعالى هنا ، عبدوا ينام وسط التربة معثر بالتربة ، إبتعدت العجوز
بينما حملاه الإثنان من الرأس والأرجل وأخذاه إلى السيارة .
إنطلقت السيارة مسرعة في دمدمة أعدمت الصمت ، وتسحب خلفها الغبار
وتعالت صرخات العجلات ، في خلو الطريق تلفت خلف إلى ماجد فوجده يسيل
ناوله قطعة قماش فأخذ يمسح به شفاهه ، شد خلف على مقود حتى وسط إلى
الطريق الرئيسي المكتظ بالسيارات وهو الطريق الرابط للقرية بالمدينة ، ودخلوا
في سباق .
زار عبدوا المستشفى ونام ببيته ، وهاهي الشمس تشرق في مشوارها الجديد و
إزدادت في التقدم ، وطارت الطيور في تواد تناغم ، وأخذ الأطفال لهم مكان
للعب بالشارع ، تلاحقت الأصوات وكثرت فحملها الهواء إلى نافذة الشاب
يعدون ويصرخون ، فنشروا الفوضى حتى تثقبت جدران بيت عبدوا وتنبهت
لها والدته فنظرت إلى ولدها النائم صرخ عبدوا وهو يقترب من النافذة :
إذهبوا ن هيا وإلا خرجت إليكم ؟
تعالت ضحكاتهم وهم يبتعدون .
نام عبدوا تحت النافذة وهو لا يزال يئن وجع الأمس حتى أتاه صوت صراخ من
بعيد وتسارع الصوت كمن يأتي من بستان البرتقال أو ببستان الذرى الذي يحوط
الوادي ن ولا يزال الصراخ حتى وقف على النافذة ، ونظر بين الشجر .
أخذ بيده عكازه ودخل الحقل ، توسط الشجر وبحث وتحسس المكان ، لا شيء
تعالت الأصوات رد عبدوا :
أين ، أين ؟
الطفل : هنا..
عبدوا : أين ؟
في الحفرة ، في الغار .
عبدوا : الغار بالواد ؟
الطفل : إنه بقربك ، نحن بعرق الشجرة .
قال صديقه والذي كان إلى جانب عبدوا : أنا رأيته يهوى داخل حفرة هنا .
نظر عبدوا في مجموعة الأشجار فلا جذع بها مثقوب وكثف البحث عبدوا :
هل يمكنك الكلام لأعرف مكانك ؟
هنا علا صوت من تحت عبدوا : أنا هنا أشاهدك أنت فوقي .
نظر عبدوا أسفل الشجرة : أنتم هناك لا تهتم سأساعدك ؟
نظر عبدوا إلى الجهتين فوجد فلا حون بحقل الطماطم ، وأسرع إليهم وظهر
كمن يطلب منهم مساعدة وهو يشاور لهم بالمكان .
تجمع الفلاحون حول الفوهة وهم على وقفة واحدة ، مكان واسع لا يوجد به شيء
الطفل : يوجد برميل هنا
عبدوا : إقلبه ربما تحته شيء .
قلب الطفل البرميل فوجد المكان فارغ .
في هذا الوقت وصل الفلاح يحمل سلم خشبي وحبل طويل متين ، ألقى بالسلم
داخل الفوهة وأحكم تنصيبه ، وأخذ الصبية في الخروج بالتناوب كانوا ثلاثة
تتابعوا في الظهور ، تبسم عبدوا وسأل الأطفال : أنتم من كنتم تمرحون تحت
النافذة لقد نلتم عقابكم ، ثم حوَّل نظره إلى المكان وسار حول جدع الشجرة
سأل من حوله : أتراها كزمة ؟
يرد الفلاح : لا أظن .
عبدوا : وماذا هل هو حفرة ثعابين ؟
الفلاح : ممكن ، وهل تظل مفتوحة ؟
عبدوا : وهل نغلقها ؟
الفلاح : ليس قبل تفتيشها ؟
الجو إزداد سخونة ، والأجساد لم تعد تستحمل هذا التعالي ، تسابقت الحشرات
إلى أوكارها ، وبقي من رغب في ذلك .
هاهو الطريق الوطني على حوافي الحدود يستطيل وغير بعيد تظهر سيارة يعلو
منها الدخان وسط السكانات وهي تعبر ، خرجت العائلات مسرعة نحو الحقل
هاربة ، في حين كومة الدخان المنبعثة من السيارة تعالت وكومة سحابة وكأنها
رغوة قهوة ، وعلا صراخ وعويل النسوة تصاحبت وأصوات سيارات الإسعاف
وإقتربت الشاحنة تفتح الطريق المكتظ وسارت في الطريق الترابي وتوقفت على
السيارة المحروقة ، والتي خرجت عن موكب العرس وإرتطمت بالشجرة .
وقف الكثير من الناس مضرج الثياب بالدماء ، وقد جاءت السماء بالفرج وزالت
الكاَبة بعدما بان أن لا قتيل بالموكب بعد فرار من بداخل السيارة إلى الحقل .
هذا عام 2010 يسير في تأني اليوم الأحد ، والجار سامح جب الشيخ والده يزوره
وهاهو وسط الحقول والإخضرار رفقة والده .
وهاهي الأيام تسير ويسير أطفال القرية نحو مدارسهم مع الدخول المدرسي
الجديد ن دروس بالنهار وأخرى بالليل ، المعرفة يقظة ونور المعرفة ينير الدرب
ولكن السيد (فاضل صالح رمضان ) صاحب العلم الكبير والرحمة والحلم
الكثير يغادر الحياة هذا الصباح ، لا تزال الساعة الحادية عشر لم تشرف على
نهايتها حتى ظهرت جثة أمين شاب ذو 15 سنة مضرجة بالدماء ، ساقط جثة
هامدة في بركة دماء وحسرة وأسف ، لقد تخيل لعبدوا أنه سقط من صهوة
الحصان وهو يتدرب ، لكن ما إن إقترب من المجموعة حتى عرف الحقيقة لقد
سرق 80 مليون من والده وهو يفر سقط عن ظهر الحصان .
الكلمات تعني وزنها وتحمل الغضب ، والصخب أخذ سعادة الأطفال ، أمين وإن
كان إبن أب وعر الميراس فلقد كان قرة عين والده ، وبين غدر وتسامح وأقدار
توقفت الأجساد بصلابة الجبال وإبتلعت هول ما حصل .
من أراد النسيان تجرع قرص الحرص ، ومن تسمع لهديل الحمام غدى هزيل
كما المنام ، حملت القلوب الجمل و الكلمات الهامة ، تساير الأيام وألسن كما
السمك بالبحر ، وكثر البلاء وحسن الإبتلاء ودعي الإنسان إلى الحزم ، إبتلعت
الأرض قطرات الندى المتساقطة عن ورق الشجر ، تدارت العيوب عن العيون
وهاهي الأرض تخرج ما بداخلها من زرع ، تعاقبت الشمس والقمر ، وتنزلت
النجوم والمجرات وظهر عالم الليل والنهار ، تبسمت الشمس خلف الجبال و
تحققت أهداف الكثير في كثير الأحيان .
إنه مسلسل الحياة يتغذى من الأيام ولا ينتهي ، تصافى من غفل عن العيون
أحلام صغيرة تكبر وتنتهي وأخرى تأتي ، وساعات تطول وعمر الورد لا يتكسر
كونت الحياة لحنا جميلا رقيقا بصوت الطيور الحلم أن يغادر الظلم المكان ولا
يعود ، تكسرت أجنحة القلب فمن أين له بالطيران ، ونام المهموم يبحث عن
الراحة ن رائحة الوطن والتراب لا تفارق الحواس ، والطريق مشوار به الكثير
من البرك أغرقت الخطى ، لا من ينسي ما حدث .
هل الدنيا للأحزان فقط ؟وهل الهرب هو المفتاح ؟، هل ينام الإنسان وهو
خائف ، الخديعة والتجبر يدور مع الأيام الضحكات متسترة وغابت عن العيون .
يجلس عبدوا وحيدا ، بقلب لا يحمل غير صورتها ، وقصائد الشوق تنادي عن
بعد وتتمنى لقاها ، ورغم البعاد فالقلب يحمل صورتها بالشريان .
تتنازع الأحاسيس وتتناسق ، الأيام في نغم وفي حوار مع مظالم ومحاسن تعد
القرار ، خرج عبدوا من بيته حاملا لكيس مؤونة وماء ، وإرتدى معطفه ووثقه
بنفسه ، تحسس قدماه تؤلمانه في كتمان أسفل الركبة ، به وجع في العظم ، يجلس
بحقله يرقب المكان ، وهو كذلك حتى ظهر المجنون يعدوا في جهته رث الرث
صاحب لحية رمادية وعباءة شبه ممزقة يتحذر منه عبدوا خوفا من إصابته .
عبدوا : أنت ، يوسف توقف ؟
لكن المجنون لا يهتم ، يتحاشاه عبدوا وهو يتمرر على كتفه خوفا من ضربه على
الكتف وهو بجهد مضني .
عبدوا : اللعنة على من ولدك ورماك .
يتوقف يوسف ويرمق عبدوا بنظرات حذرة .
عبدوا : تقدم إن شئت ...أعرب عن وجهي ..أغرب .
يحاول المجنون حمل شيئًا من الأرض ، يسرع نحوه عبدوا : أترك ما حملت
أيها المعتوه ؟ وقف أمامه عبدوا ونظر إلى وجهه بحنان فتبسم يوسف وسار
وحيدا يبتعد شيئًا فشيئًا .
غاب المجنون وسط السوق المعتمر ، والقذارة تعايش النحل ، ونال منه التعب
ما أظهر عظمة الأقدام ، صمت رغم ما لدغه وأفزعه وغاب يلجم القرية في
صدره ، ومهم كان فيه من خطر فالقرية ألفته ومهما إندفع وتنازع وأظهر
الكثير من الخلافات فلقد تحرس منه أهل القرية ولم ينبذوه .
يوسف الشخص المجهول لا يدري الأهالي أصله وكم خشيه الكثير بعد ظهور
فيروز أنفلونزة الطيور ، وخشي البعض لأنه كان يظهر هنا وهناك وفي كل
الأماكن بسرعة ، قال البعض أنه خريج الجامعة وقال اَخرين أنه مالك لمال كثير
أسهب وأطنب الكثير ، وأخرج كل واحد ما به من ظن به وتبقى الشكوك لا
ترأف بحال .
يظهر عبدوا يركب دراجته ، وكم تمنى كثير ركوب الدراجة وتوسيع إحساس
الضيق ، إثنان من العجلات أفضل من أربعة مسرعة حاصدة للأعمار ، فالأيام
مثل السفينة قائدها ربان يقتنع بالشريط السالك للصحيح .
أخذت الشمس في الظهور فوق رأس الجبل ، وقد عمرت الأرض ، هبطت
العجوز إلى الوادي وتعمقت تحمل منه أعشاب ، وهاهي تعلو تنوي الخروج
رفقة صغيرها ، ثابتة الخطى متعكزة على عصا تجرها وترفع من ثقلها ، متغالبة
تشكوا الصحة وتشاكست بعض الأحيان .
راح إبنها يحمي صعودها من الخلف وهي تئن من هدرت قوتها ، وفي بحر
عواصف الروح الداخلية والصمت الموجع تتماوج أنفاسها في خفة وعيونها
تترقب في مساحة واسعة سدت ظل السعي وأثارت جاذبية النظر .
وهاهي تظهر عن فوهة الوادي بصحبة مشقة وحذر : حميد أسندني ، إنقطعت
أنفاسي يرد عنها حميد : إستريحي .
ومع سرعة النبض وخفت وزنها وأشار لها حميد بيده على مكان العبور وهو
مكان ترابي وهو الطريق الذي يعبر فيه مع أخوه خلف ، تَهمُ العجوز بالنهوض
وهي تستند على عصاها المنغمسة في الوحل حتى غرقت عصاه في حفرة
صرخ حميد : أمي حذاري ؟
ترد العجوز لا بأس ، تسوق نظرها أمامها وقد كانت ثقيلة النظر تترصد صيدها
لكنها لمحت شيئًا يخرج عن جذع الشجرة شيء أسود أو يلبس الأسود وركزت
النظر بسرعة أشارت على إبنها : حميد أنظر مشيرة بأصبع يمناها هناك بجذع
أو ليس هناك سواد ، نظر الشاب فما وجد شيء حذرته الأم من الإقتراب لكن
الطفل لا يبالي مخلفا العجوز تسير بحذر خلفه، وإقترب حتى أشرف على مطلعها
إنه ثقب قال الشاب ، أمرته العجوز بالعودة ولكن الشاب راح يتأمل ويشرح
لوالدته أنها على عمق أمتار وأن به رائحة حريق أو بقايا نار ، نظر الشاب
حول الحفرة والتي تجمعت حولها أكوام التراب ، وفجأة سمع وقع أقدام مسرعة
قلبت العجوز ذات اليمين وذات الشمال وبين الأشجار كان المجنون يجري
عرفه حميد بسرعة لأنه راَه أكثر من مرة ، وهي تسير قلبت نظرها نحو الحفرة
هل هي كزمة يرد الشاب : ولمَا لا ، وإلاَّ أين كان المجنون؟ ويضيف : بل منها
خرج ، وتضيف العجوز: بل هو من رأيته يتلثَّم بلثام أسود بدون شك .
وأخذا يتحدثا مع مرور الوقت وعبور الطريق ، بين جهل وشك ويقين رفع
نسبة التقدير ، سارا مئات الخطوات نحو بيتهما بالقرية لا تزال العجوز تستفسر
عن المجنون وكيف للفلاحين المالكين للأرض لم يقفوا على وكره ؟ حتى توقفت
العجوز تسلم على جارتها ، بينما وقف حميد على عتبة باب عبدوا وطرق عليه
فتح وأدخلهم ، سألته العجوز على صحته وعلى قدمه التي يشكوا منها فأخبرها
عبدوا أنه شفي منها وفجأة طأطأ رأسه كمن أحس بوخز لفت إنتباه العجوزبسرعة
والتي أخذت في الإستفسار فرد عنها عبدوا أنه ألم بسيط .
لقد كان عبدوا غير صادق فلقد تغافل وإنغمس في أعماله وغفل على
صحته ، أخذت العيون تبحث عن التفاصيل حتى أنَّها إقترحت كل
الظنون وألحت عليه العجوز بزيارة الطبيب ،فأكد لها عبدوا ذلك ولا تزال
العجوز تتحدث إليه حتى سألته عن سر عزوفه عن بناء أسرة فرد عنها أن
ذلك قريب سألته عن العروس فرد هي جارتنا ، فرد حميد تعني رونق إبنة
الجنرال ، فرد عبدوا أنَّ الجنرال تقاعد وعاد ليعيش بالضاحية بمزرعته
الخاصة ، سألته العجوز عن التأخير فقال : أنَّه سيفاتح والدها هذه الأيام .
تفتح الكلام على كل شيء وتنفست النفوس عن ما تريد ، تمرَّرت كل الأطياف
على الاَذان كلمات في الوهم والخيال وفي سرية ، تنزل ستار الظن وتفتحت
القلوب عن المكنون وإتسع اصدر ، ولاَن ما إستعصى ، تسمع هديل الحمام
حسن الطالع ، البيوت عامرة والخاطر والباطن ممتلئ .
إختفت الحياة المكلفة وتوردت الدنيا وإرتاح الإنسان المتعب ، القرية محاطة
بجبال وخضرة ملأت الرؤى بهجة ، تفتحت العيون على قرية باب العسة و
بدأت بها الحياة تنمو هاهي تظهر على خريطة الحياة ، وتخرج الأرض من
جوفها ماتشاء ن ومع مرور الزمن تخرجت الحياة من الضيق ، كثرت قصص
الحياة هنا وتنوعت ، مظاهر شدت لها الإنتباه وأخرى قصرت الأعمار و
شبابيك لبيوت تفتحت وشبابيك أخرى غلقت ، لكن القرية لا تزال تعاني مشكلة
الحدود والتي تفتحت عن كل محضور .
منحت الأرض ما يرعب فيه الإنسان وتنحت عنها ما يكرهه ، وتركزت الحياة
هنا على ما يحبه البشر وبددت الأيام كل شر ، قلَّ إستعمال الطريق الحدودي
هذه الأيام لأنَّ الحدود مغلقة .
يسير خلف وعبدوا في إتجاه المقهى وهما كذلك حتى خرجت إحدى النسوة
من بيتها تهرول وخلفها زوجها وما إن وصلا إلى مفترق الطرق حتى أوقفهما
عن الأمن الواقف بالطريق ز
دخلا القهوة وهما ينقلبان نحو المرأة وزوجها والشرطي والذي أخذ يتحدث
إليهما ، سأل عبدوا خلف ماذا لو كان حاله سيكون مثل هذا الحال بعد الزواج
من رونق فرد عليه خلف ان المسؤولية تعود إليهما ، فكلما كان هناك تفاهم كانت
هناك حياة مستقلة وهادئة ، وإلاّ فكيف إستمرت كل هذه الأسر الموجودة في
القرية ، كلام خلف فتح عيون الأعمى وأظهر عقلية الإنسان السوي وغرس
جذور أسرة متينة فأظهر له عبدوا كامل ودِّه في ذلك .
................ .............. ............
تعالت المباني بالقرية وأعيد ترميم المبنى العتيق بها الباقي عن الخلافة العثمانية
وزعت الأيد الزرع وسقت الأمطار الأرض ، كثرت البناءات بالقرية وأخذ
كل محتاج مبيتا له كثرت الدكاكين والمكتبات ، سارت السعادة بمفردها بالأزقة
وكثرة المساحات الخضراء كأنها الحلم لا يزال عبدوا يجالس ماجد وخلف
ليس الجيد من يراقب الماضي ولا الإطالة فيه ؟
يرد ماجد : هل هو تفلسف ؟
عبدوا بل هو المنطق لأنَّ الماضي يجعل حاضرك صحيح لا حزين .
ينصحه خلف بعدم التعمق في الحياة حتى لا يقع في مشاكل فماذا تقول عن من
يتميَّز عنك بالملبس فرد عبدوا : بل النظافة قبل الملبس ولا بأس أن يهتم الشاب
ويواكب عصره في ملبسه .
وهم كذلك حتى شٌوهِدت على مرأى العين سيارة زرقاء من نوع بيجو تعبر
الحدود المغربية وتدخل أرض الجزائر فأوقفها حرس الحدود وأخذوا يستفسرون
صاحبها ثم خرج وإنكبَّ على بطنه على صندوق السيارة مرتخي للتفتيش هو
القانون هنا لكل عابر ومساَلة لتبديد الغموض ، تشددت الحراسة هذه أيام
ولن يكون من السهل الدخول والخروج بسهولة .
الأيام تعيش على أخبار مافيا الحشيش والكيف ، مجهول الساعات القادمة يولد
الخشية جرائم خفية وأخرى ظهرت للوجود ، لقد أصابت المدينة بجروح في
شريانها التجاري وفي أمانها ، ومصائب حرمت عائلات من موقدها وأخرى
لا تزال تعيش الدفء وإنقسام نفسي ونهار يطبق جفونه الليل سيد عند بعض و
فاجعة عند أخرى .
هذا مولد الكهرباء ومصنع الغاز الوحيد بالقرية الذي يمنحها ذوق الحياة هاهي
أسراب تنسلُّ وتتسرب وتنحل من الدخان هول في الأفق لقد حدث به خلل و
جعل يبعث كل هذه الفوضى رجال مطافئ وحماية مدنية وأمن وخبراء من
مدينة مغنية ووهران ومن العاصمة ، لقد حدثت كارثة لولا تفطن لها حارس
المصنع ، خرج الناس إلى الشارع ورائحة الغاز تملأ القرية والفضاء وراحة
تتكاثف وتتضاعف حتى ظن أننا سنفنى ، حتى القطط والكلاب هلك نومها و
جرت بكل مكان ، مددت أنابيب وأدوات كأنها هوائيات تشتغل تعالج الضرر
وبعد ساعات تم القضاء عاى المشكل ، وبدأت الرائحة تزول وتفنى لقد وجد
الثقب تحت بناية المطعم وبأحد أنابيبه ، ولا تزال الألسن تسأل هل هو تجديد
أم تغليف أم تجديد للشبكة ، لقد كانت الشبكة قديمة ولعل تسرب المياه جعلها
تَبلَى ، والشبكة قادمة من مدينة مغنية تم تنقيته وإصلاحه من جديد .
.................. .............. ........
ركب عبدوا إلى جانب ماجد سيارته وهم عائدين من حمام مغنية وفي الطريق
أوقفهم حادث سيارة بطريق باب العَسَّة منقلبة على ظهرها وإنحرفت عن الطريق
وغير بعيد وفي خلال عرقلة السير خرج شاب من سيارته وأخذ يوزع أوراقا
وفجأة إختفا وبقيت الوجوه تتصفح ما كتب عليها ، كانت الأوراق بيد أغلب
السائقين ، أغلبهم إستغربوا ومنهم من رمى الورقة الخوف من الزلل أكثر وأقوى
شاهد على الوجوه والمعقول هو المقبول بدون شك .
عبدوا : هل هي خطابات سياسية . ولابد أنها من المعارضة .
ماجد : ربما رسائل ود .
عبدوا : الودُّ لا يباع على الأوراق .
عبدوا : هي فرصة لنعرف ، لماذا لا تنزل وتحمل لنا ما يمنحون ؟
ماجد :سنتقدم بالسيارة نحوه ..
عبدوا : إنَّه طفل ألا يخاف ؟
ماجد : ألم تلاحظه عندما رأى رجال الحماية المدنية ..إختفى .
زحفت السيارة نحو الطفل وأنزل ماجد الزجاج : هاي هات ما عندك ؟
الطفل : إقرأها ورد الجواب ؟
أخذ ماجد ورقة وعبدوا ورقة وجعل يقرؤها
عبدوا : يالله أقرأت : نحن نريد إزالة جميع الفوارق والحدود القومية والدينية
ماجد : لا تذهب بعيدًا من عادتهم نشر أكثر من هذا ، إنها سخافات .
عبدوا : إنه إجرام يريدون تحويل العالم نحوهم .
ماجد: هبْ ما يقولون صحيح ، هل سَتنقض الحدود ؟
عبدوا : لا حدود بين الناس ، هذه أراء ولها شأن في الإنفصال والإتصال
ماجد : لنواصل ماهذا إلاَّ غي ؟
عبدوا : بل هم الفاعلون ، من ينشرون هذه السموم .
ماجد : أراه خيرا ، وهل يوجد أفضل من توحيد القومية .
تابعت السيارة طريقا ، والرؤوس مثقلة وماجد يحاول توسيع المفهوم ومنحه
صبغة الراحة والأخوة .
ماجد : أوسع صدرك فأنت رحب القلب فلا تعارض ولاتهدد ، فلماذا تحاول
إيقاظ جنون الليل وما تخشاه الخفافيش .
عبدوا : يالك من شخص بعيد النظر واسع الفهم .
ماجد : بل أعيش ما يريده البشر فهل أنت تعيش أيام قرطبة .
عبدوا : بل في نعمة مع والدتي .
وتحاشاه ببعد النظر منتهزا زمن بعدهما عن الأمر وواصلت عجلات السيارة
الدرب .
جلس عبدوا على كرسي أمام بيته تحت شجرة التين سارح النظرات ممدد السيقان
تبسط اليدين وفتح معطفه وإسترخى وأغمض عيونه من يريد الحلم وفجأة يفتح
عيون في هوس ، تمر أمامه جارته وخلفها ثلاثة صبية تحمل وعاء القمح بين
يديها تأخذه لخط الدجاج بجانب بيتها .
في كومة الزبالة إلتمَّ ثلاثتهم يلعبون و يعبثون يجرون في التراب والنفاية .
وفي باب الجيران الجانبي تخرج فتاة في سن الشباب جميلة القد تنظره ولا تهتم
تعود وتدخل بيتها ، يبتسم عبدوا ويحني رأسه .
ينظر إلى بعيد ويغرق ف كثافة الأشجار والزارع الواسعة حتى تراوحت روحه
بين الجمال و ذهب المشوار البعيد بعيونه وعلو المقام ، وأخذ مجهول المنام
وفجأة تغيرت نظراته نحو ساقه اليمنى ألم جعله يتأوه ويرفع سرواله يتفقد
المكان ، وكأنها وخز إبر أو ضربة قطعة حديد ، بل هو أشد ، وأخذ يتمسح
على ساقه حتى بدأ يحس بالراحة ، وقف على قدميه و تأنى يدخل بيته حتى
أودع جثته على الفراش وأمه ترقبه من بعيد .
لم ينهض عبدوا حتى اليوم الموالي وبعد إنقضاء الليل رفع قطعة القماش عن
جسده ورأسه وتبسط ذراعيه ثم تقرفص وتوسعت ساقيه ، نهض عن سريره
وألقى نظرة على طاولة تجانبه حمل محموله وأخذ رقمها وضغط وإنتظر الرد
عبدوا : هذا أنا ، هل نلتقي؟ .. أنتظرك .
دخل الحمام وغرق في غسل وإظهار أناقته وجماله ، أدخل محموله في جيبه
وخرج بخطى ثابتة ، إلتقاها في المحطة تنتظره وما إن رأته حتى صعدت
الحافلة وصعد خلفها .
رونق: إتصلت بك لكن هاتفك مشغول .
عبدوا : متى ؟
عبدوا : منذ يومين وكررت .
رونق : بلى
ونظر في عيونها كمن يشك في كلامها .
رونق : منعني والدي من الخروج .
عبدوا : ربما منعك عني
رونق : لا أبدا أنت تعرف أنه لا يمانع عليك
عبدوا : لا بل والدك يبعث على الظن ، وقد يتغير في لحظة ، هل يرى لك اَخر .
رونق : قال إنه صاحبه ، رجل غني وصاحب مال لا تكثر الكلام ، لماذا لا
تتقدم أنت ؟
عبدوا : السبب أنت ، ألم تقولي أنكم تبنون البيت ، إذا أردت اَتي غدًا؟
رونق : بل هو من سيأتي إليكم هذا المساء .
عبدوا : وتخفين ، سأنتظره بالمزرعة .
ثم هو ينظر إليها ، سأخطفك منه ، ترد عيه أن عليه إقناعه فلا تستهن بعقلية
والدي ، وضعت يدها بيده وضمها إلى صدره وطبع عليها قبلة ، قالت : لا تحزن
رد عليها : لماذا هذا الكلام ؟ ردت : مهما يكن الرد مهما يكن النصيب فهو قسمة
عبدوا : لا أفهمك ؟ لا يوجد معي الكنز لكنني أملك قلبا يحملك إلى بعيد .
إغترف عبدوا من الأفكار ووقف الشيء الكثير على كلامها ، كمن يسمع حكاوي
وقصص الماضي الغابر غير مشدود بقوة وأخبرها بمدى حبه لها وانه يثق بها
ثقة عمياء فردت عيه : لا تكثر الأوهام فالدنيا على كل الأحوال سائرة إلى الأمام
عيونها لم تغفل عنه وهو في غاية الحزم والجزم وتبسط في الكلام وقال :
أملك بيتا مع أمي ومزرعة وسأشتري سيارة .
رونق : بالطبع هي دنيا ولنا الحق في الإستمتاع بها .
أيظن البعض أن للبشر قلوب من طين وعقول من عجين ، إننا بأرواح هي كنوز
ولؤلؤ ، والإنسان أغلى ما في الأرض والغريب أن هناك من يحكم على الطفل
مثل الرجل والمريض مثل المتعافى والبنت مثل الولد .
عبدوا : فهل تريدي دحض التهم عن والدك ؟
رونق : لا أريد قولا ظالما ، ولا نشر الظلام ، ولا السفر من الشوق إلى الشوك
بل غايتي ..وقاطعها ، إنها غايته ، إنك في سن تفعلين ماتحبين ولك الحق في
الإختيار لنفسك وبنفسك .
رونق : لا تنسى هو والدي ، فرد : ومايمنع ، فقالت : لم أظنك هكذا ؟ أنت غال
على قلبي وعيني بعيونك ترى وأذني بأذنك تسمع وأنت كل ما أملك ، إنني
أهاوده وراسية على مايكون لصالحنا جميعًا فرد : بل أنت تتهربين هناك ما يسد
أو سيسد علاقتنا ؟
رونق : يجوز لك الفهم كما تريد ، لكن قل لي كيف حالك وكأنه يراها لأول مرة
بعيون مهجرة وسكنها كمن لو كانت قدره وإنزلق إلى الخلف ينام على ظهره و
جلست هي أمامه ينظران المكان حولهما .
..................... ............... ..............
هاهي قرية باب العسَّة تظهر من بعيد وسط منخفض ، وأرض مسطحة وحولها
أراضي مزروعة ووديان ، وغير بعيد من الجهة المقابلة تظهر الطريق الحدودي
عليها قضبان حديدية تنظم المرور وإشارات توقيف حمراء وبيضاء هناك العلم
الوطني على سقف بيت الحراسة ، عبدت الطرق وغرست حولها الأشجار
هناك في خارج المدينة وعلى المرتفعات أكواخ وقصدير البناءات تنوعت هنا
فرغم التعمير والبناءات الحديثة لا تزال القرية تعاني من البناءات الفوضوية
وإن كانت هناك بعثرة وفوضى ملأت الأرصفة والطرق فأعاقت الجمال و
المزابل التي ترتاع فيها القطط إلا أنه هناك أصوات تنبعث من الصمت و
تحاول تجديد القديم وإنهاء البالي ، وثقة الناس ببعضهم جعلت حياتهم هادئة
وبسبب الإهمال هناك من الأماكن الجميلة ما نساها الإنسان فأطبق عليها
التاريخ وزحف عليها التراب حتى لم يعد لها أثر .
وفي تلاقي الجمال والأرض ظهر هناك على ضوء النهار واقفا ينظر من بعيد
غلى الحدو في الوادي ، هو نفسه الشخص الذي يقال عنه المحافظ المغربي
إقترب عبدوا منه فَما بَعُد الرجل بل تثبَّت بمكانه وسأله : ماذا هل من مزيد ؟
إقترب الرجل من عبدوا في وقارٍ ومهابة واضعا يديه في جيوبه : لا ..
لا أظن ، رد عبدوا : وإذا ؟ رد الرجل : جئت أطمئنك على ملكك ، لا من
تعدى على حدودك فالحدود بيننا ظاهرة .
عبدوا : هذا بلا شك ؟
الرجل : وأنا بأرض الحدود لا من يتكلم عن هذا المكان ، وأضاف : لكن الماء ..
عبدوا : ماذا به ؟ ، الرجل إنه يسرق بالليل ؟
عبدوا : أتشكك ؟
الرجل : الماء ينقص من الوادي ، ونحن لم نأخذ منه ما يقنعنا بكميته هذه التي هو
عليها ؟ ، عبدوا : بل مواشينا شربته ، الماء تبخر بفعل الحرارة ؟
الرجل : قل ما شئت من يذنب يدفع الثمن ؟
تراجع عبدوا غلى الخلف وقال : هناك حرص على الحدود ألم يكتشفوا الغش؟
الرجل : أتمنى لك يوم سعيد .
قال كلماته التي حملت الصدى للأذان وتمتم عبدوا : ياله من مقرف ، حتى حفنة
الماء يراقبها حتى وضع ماجد كفه على كتف عبدوا الأيسر وقال : أتركه إنه لا
يدري ما يقول .
عبدوا : أشك أنَّه يُراقبنا ، أو بالقرية جواسيس تحمل إليه ما يحدث بالليل ؟
ماجد : لا لا يمكن ، فحدودهم بعيدة . وطلب منه مغادرة المكان فالشمس لافحة .
تحسس حبات العرق على جبينه فراح يمسحها ، وتلطف بماء من الحنفية وجلس
يتحدث إلى والدته ، وأخذت تدلله وتداعبه وتستذكر معه صباه ، حتى سمعا
صوت سيارة يئز ويقف أمام بيته ، سيارة سوداء لا يتوضَّح راكبها .
نزل الرجل الضخم وهندامه لا تحمل ثقل جسده وضخامته ووقف أمام عبدوا
الرجل : أنت عبدوا؟
عبدوا : أنت والد رونق ، تفضل أرجوك .
دخلا مع بعض والرجل يجر الأقدام ويرقب ما حوله بالبيت .
الرجل : أظن أنَّ لك أمٌ؟
تدخل والدة عبدوا ، تسلم على الرجل وتخرج .
الرجل : ولك أرض ؟
عبدوا : بالطبع ، وهي التي أمام بيتي ، غرستها أشجار مثمرة منذ زمن ، أعيش
من خيرات أرضي ، ومكتفي العيش .
صمت الرجل ثم قال : حكتلي عنك رونق كثيرا ، وشكرتك لا تدري كيف .
تنحنح ماجد فأدهلت والدته صينية القهوة والكعك وإنصرفت .
الرجل : بيتك واسع ، هل لك ضرائب على الأرض ؟
رد عبدوا بلا ، وسأله عن البيت فرد عبدوا أنه ملكه ، صمت الرجل وقال : إنك
شاب مكتمل بلاشك ، وإبنتي تحب الحياة ، وعلمتها وربيتها على ذلك
عبدوا : ومعي لن ينقصها شيء ، وقبل أن يعيد أنفاسه في صدره قال الرجل :
هل معك شهادة ؟
عبدوا : لا
الرجل : وتعلم أن إبنتي تحمل شهادة مهندس دولة
عبدوا : وهل هذا مانع ؟
الرجل : قد يكون ما سيحدث غدًا لا يعجبك ؟
ينظر إلى عيونه عبدوا يسأل فيجيب من غير تروي : غدا ستقرأ فاتحة رونق .
تظللت نظرات عبدوا ولم يعد يرى جيدا ، وأحس أنه لم يعد يستطع حمل الثقل
أو أنه يريد من ضيفه المغادرة وقال قلبه : ماذا هل جاء ليدعونا للعرس ؟
وواصل يكلم نفسه : لقد تخلت عني وهو يحاول إجترار مُصيبته : أكانت توهمني
بالحب ؟، سألتُ قلبي يومًا لماذا لا تحبْ ؟ ، فسَألني وأين الحَبيب الذي يَستحق؟
ردت عليه والدته : عبدوا لا تهتم ؟ .
قلب النظر حوله فما وجد شيء قال : أين هو ؟
الأم : لقد غادر منذ لحظات .
عبدوا ، ليكن ذلك خير لي وله ، لقد تاَمر مع إبنته عليا .
الأم : إنساها يا ولدي ، لا تهتم لمن باعتك في غيابك ، ثم نظرت إلى عيونه :
أتبكي ..؟ يرد عبدوا : لا بل أسهو فيما كان معها من حديث البارحة لقد كانت
تتلعثم وكثيرا ما كانت تسهو .
الأم : هون عليك ليست هي اَخر ولا بداية الدنيا ، فلا تبحث يا ولدي عن الحب
في قلب خائن ، فمن خان مرة لا تنتظر منه أن يفي بالمرة ، وإحلم بفتاة أجمل
منها وفي غد جميل ، قم وهي تنبهه :
ألا تتذكر أخوها جمال ، كنت أنت من بلغ عنه ، وإحتمال كبير يكونوا قد عرفوا
المبلغ عنه ، ينقلب إليها :
لقد كانت المكالمة من مجهول .
عبدوا سلاحه الصمت ، فلا يتعب نفسه بالكلام في زمن تبدلت فيه القلوب ، فهو
ليس للتجربة ولا للتسلية ، لكن كلما كان القهر كبيرا كلما تضاعف حجم الحقد
وأخذ أشكلا مختلفة من الإنتقام وصعبت السيطرة عليه حتى تُفرغ شحنات
الحقد الموجودة في القلب .
وأغمض عيونه وشفاهه تقول : الخيانة هزيمة بلا خداع .
.................. ................ .............
مَرَّت أيام قلائم من صائفة 2011 عرفت فيها الأم صعوبة وتأزم في صحتها
فلم تعد تنهض باكرا إلا في القليل النادر ، ولا تخرج بيتها أبدا ، حتى كان
ذاك الصباح حيث خرجت لرعاية دجاجاتها بخمها المجاور إلى بيتها ، نهض
عبدوا وإنصرف إلى المطبخ فوجد والدته أعدت القهوة ووضعتها على الطاولة
فشرب وجلس بفناء البيت يرتاح وقد كان هو كذلك يحس في كثير من الحالات
باَلام على مستوى الساق وبكافة جسده ، ولكنه إستبطأ والدته فخرج إلى الخم
يبحث عنها فلا مكان لها غير خم الدجاجات ، ولكن ما إن خرج من بيته حتى
شاهدها مرمية وسط الدجاج وهو يأكل من بين يديها حبيبات القمح ، أسرع إليها
وإحتضنها بجنون ، ونادها فلا ترد ، كانت فاتحة لعيونها وفمها عن اَخرهم
صرخ ونادها حتى سمعه أقرب جار فهرول نحوه يساعده على حملها إلى
الداخل .
.......... ........ ..........
إنتهت والدة عبدوا وهاهو يعيش وحيدا ، لكنه منذ أيام غاب عن أصدقائه ومن
حوله ، وإفتقده صديقاه خلف وماجد فلم يظهر لا في الحقل ولا في الشارع ولا
يتقاضى من السوق وهذا الصيف يمر ، ويحل الخريف مكانه ، وذات صباح
طرق بابه صديقه ماجد ولما إستبطأه ناداه من خارج بيته ، ولا أحد يرد وراح
يكرر ويصر حتى أتاه صوت خافت من داخل البيت ، صوت باهت مبحوح
لشخص معلول :
ماجد ، تعالى أنا هنا .
ماجد : الباب مغلق
إعتمد عبدوا على مابقي معه من قوة وزحف بأقدام لم يبقى منها إلا العظام
به من الحياة القليل ، شحوب وفتور وتقلص لقواه ، جسد كما الجثة الهامدة
السائرة في ضرورة بالغة ، فتح بابه فقابله صديق عمره ماجد ، وظهر من هناك
خلف يعدوا نحوى صديقاه فإنتظراه حتى إنضمَّ إليهما :
عانقاه وشدا عليه وهم يدعو له بالشفاء .
ماجد : هل أنت عبدوا ؟
تبسم بسمة لا تكاد تميزها عن البكاء وقال :
أنا عبدوا وكما ترى ..وهما يسيران به إلى فراشه .
خلف : قلْ لي ماذا حدث ، لمْ تكن تَظهر الشكوى من شيء ، ماذا حدث ؟
عبدوا : أشكو قدمي ، وهو يستريح في فراشه بفناء بيته ، لم يعودا يقويا على
حملي ، لا أذهب إلى مكان إلاَّ بشق الأنفس .
ماجد : والطبيب هل راجعته ؟ ماذا قال ؟
عبدوا : لم يحنْ موعده بعد .
نظر ماجد إلى عبدوا مبحلقا وقال :
أهذا كلام ، وخرج مُسرعا متوعدًا صديقاه بالعودة السريعة .
دخل عبدوا المستشفى الجامعي لمدينة مغنية ، ومكث بها بإشارة من الطبيب
فقدمَا الشاب تحتاج إلى تعيير وتحليل وأشعة ليعرف مكمن المرض ، لم يغفل
عليه أصدقائه من القرية وأما ماجد وخلف فلزماه كل صباح ومساء ، حكى
عبدوا لصديقه خلف عن منام يزوره كل ليلة فهو يرى أن له عائلة وأولاد وزوجة
وأبناء ويملك بستان ويعيش في نعمة .
طمأنه خلف ودعا له بالشفاء والعودة العاجلة لحياته ، ترك صديقه ليرتاح في
إنتظار زيارة الطبيب له وإخباره بنتائج التحاليل .
مر الزمن وهاهي نتائج التحاليل تظهر ، لم يشأ أصدقائه إخباره حتى يقوم
الطبيب المعالج بذلك ، لكن إلحاح عبدوا إزداد حتى قال له ماجد :
في ساقك اليمنى ورم لا يعالج والحل الوحيد هو بتر الساق .
تلعثم عبدوا ، وتثبتت نظراته بعيون صديقه وعاب في ملامحه حتى قال خلف :
عبدوا أنت أشجع من هذا المرض ، الشفاء من عند الله فلا تيأس ولا تهتم .
أمل عبدوا في شفاء من الله ونام قرير العين حتى دخل عليه خلف وماجد وهما
يتحدثا ، ماجد : ماذا قال الطبيب ؟
خلف : كل شيء جاهز العملية صبيحة الغد وتلفت إلى عبدوا :
كيف حالك ؟
عبدوا : الألم لا يتركوني أنام جيدا .
ماجد : لا تهتم غدًا سترتاح .
هنا دخلت الحاجة أسيا والدة خلف يجرها أخوه حميد ، ولم يكونا قد غفلا
عبدوا زمن طويل ، سلما عليه وجلسا إلى جانبه .
ماجد مخاطبًا عبدوا : أتذكر العام الماضي ، عندما جَريت حافيا خوفًا من الكلب؟
أتذكر ما سبب جرحك بقدمك هو المسمار أو سلك النحاس المصدى ، لقد ترك
بجسدك السم وهاهي نتائجه هذا العام ..
سَكت عبدوا لكن العجوز لا تزال تُهدأه بكلماتها الطيبة : المرض قدرٌ فلا تهتم يا
بني ، كلنا أمام إمتحان الصحة .
سكن جسد عبدوا مرض عضال ، وعاش به مرض سرطان العظم وتركز بساقه
الأيمن ، ممدد بسريره بالمستشفى الجامعي بمغنية منذ أيام ينتظر العملية ، لكن
الأمل رسم ملامحه ، وشرد في حياته الماضية ، مرت به أيام لا تزال تتحفر
بقلبه وأخرى غيرت نظرته للناس ومن حوله ، وأحداث عرفته بناس أحبهم و
أحبوه ، ولكن لامفر من الأقدار المحتومة ، وحتى هذا الصباح لا يزال أمل شفائه
يعش فيه ، ويجعله مرتاحا .
هذا الصباح عادته العجوز أسيا والدة خلف وإبنها الصغير"حميد" فوجدته بغرفة
العمليات ، وأمام الباب صديقاه خلف وماجد في صمت وحيرة ينتظرا خروج
الطبيب ، حملت العجوز معها طعام وفاكهة لعبدوا وجلست على الكرسي تنتظر
وهاهو الطبيب يلبس الأزرق يفتح باب غرفة العمليات ويخرج ، نزع الكمامة
عن شمه وفمه وقال والعياء يقبع على أنفاسه :
لقد فقد النطق وبترت ساقه وواصل وهو قطع رحلة طويلة يتأمل العيون المحوطة
به ليصدر اَخر تصريح :
لقد أخذ مرض العضال كل نقطة بجسمه ، وعاش في عضلاته ولم ينتهي منه
حتى أخذه فريسة له، وإنتشرت في داخله أمراض ليس لها طبيب فالحياة لكم .
وقف جميعهم أمام زجاج غرفة العمليات الذي فتح لهم، ونظروا إلى عبدوا وهو
ملفوف في قماش أبيض لا حركة .
وتسمَّع من حوله صَوته الخفي والحنين والشوق لعيون غربت عنهم ، ومضى
كمن لم يجمع ولم يكتسب ، لا إعتراض على الموت ، بل هي السيدة وهي البراءة
والطهارة أحيانًا كثيرة ، هي خلو ذ مّة من يأس من المرض ، لقد ترك ثماره و
سنابل القمح لمن يأتي بعده ، وكل العشوائية وهمج الحدود ، تشابكت الغيوم في
عشوائية وتحاورت الأقمار ساخرة مما أتى أهل الأرض ، فالموت وحشة النفس
ومصير كل النفوس لا يوجد من لا يرضى بها .نبذت القلوب الحزن لكنَّها
رضيت في خضوع بالقضاء ، قلوب تمتطي الشهوة ثم عنها تزول .
دُفن عبدوا بأرضه وقبره حبات التراب التي عاش منها ، هنا لا من يطارده
ولا من يشكك فيه ، لقد إنتهت المطاردة وأهالي القرية يغادرون قبره على
حافة الوادي ، وإنصرف محافظ الدائرة المغربية مع المنصرفين في يوم هبت
فيه نسمات رطبة من أيام خريف لالة عيشة وقرية باب العسَّة الحدودية .
أيتها الحياة هاتي أقسى ماعندك ، فإنني لم أعد أتأثر فلقد تأملت بما يكفي .
وعبدوا كان إنسان هادئ ، حتى فسّر من حوله هدوءه خوفًا ، لأن عبدوا
تربى على الإحترام بشقيه نفسه وغيره ، والبعض فسر صِدقه وتعايشه مع الغير
بالغباء لأنّه لم يعتد على جمال القلوب مثل القلب الذي كان عند عبدوا .
فأجمل ما في الأحزان أنَّها ستنتهي حتمًا ، وأجمل ما في اليأس أنَّه ينحني أمام
الثبات ، وأجمل ما في التمني أنَّه لا ينقطع مادام هناك من عند الله الرد .
فلا تقسوا على نفسك كأن تعيش على إرضاء الاَخرين ليعيشوا هم على يأس
بداخلك ؟ وممكن للإنسان العظيم أن يضجر ويقلق وأن يغضب أمَّا أن يحقد فلا؟
من يسمعنا لن يهتمَّ لنا ، ولأنَّ أبشع شيء في الحياة هو الغدر الذي يسير
في قلوب الناس ، إذن فإذا أجبرت على التعايش مع وضع يؤلمك فإبتسم فالرسول
صلى الله عليه وسلم قال( وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ).
فهل يمكن لنا إيقاف عذاب الروح ؟ وصيرورة سحابة ملاَّحة في الفضاء العالي ؟
هل لنا بمخطط ونظرات تَطْلَع بنا الدرج أو تُوَسِط بنا السامي روايةوالداني وتعيد
إلى السطح ما خاب في شبر وحلٍ؟ شاور الروح والنفس تلك التحفة الباهية علَّها
توضح الرؤية ، وماذا عن القلب ودليله عن الحياة ووعيه هو النبض ؟ هل نغلب
رغبتنا أم نسير على حبل الصبر ؟، أم نستمتع بلحن الدهر ونتحمَّل طول
الدرب علَّنا نُبصر الرؤية للسعادة أو يهلَّ علينا الزمن بفوج وبومضات ما بين
العِناد فتطل علينا صورة الأيام في كل الحالات ؟.
أين ما للسماء وأين سحابها ، أين الشمس وضياؤها ، أين الليل ونجومه ؟ كلها
دعوات تواقة للرحب ، تحبوا لنور النهار وتنفذ للمواقف الاَخذة بأسباب الحياة .
السعي الحياتي هو أصل إستمرار الأيام بسفن بأشرعة مُهجرة ، أفعال هل تعبّر
عن الحال ؟ أم تريد تغيير الحال؟ ألم لا يُعلم ، وأقدام مُهَمَلة على الأرض
بالعيون نار وثوران والقلب يشتعل بنبض محتر ، بالروح روائح لا معنى لها
وبالجسد أكثر من مقال .
إنطلقت الأرواح بالحيلة ، وإنطلت السحنات بكل الألوان ، نارُ التُهم نستشعر
حرارتها وقوة ضلالها تغزوا النظر ،عقلية عادية العقول تسيطر ، والمرء
تُهمَه مثَّلها الحال في أمراض ، وإذا ما مرَّ نصف العمر في همجية يسير أسرعنا
وراءه ، ووقف الوصف ما بين معارض ومتفهّم ومتقصّد ومترصّد ، فهل نقرأ
الأشياء من باب معرفتنا ونردف ما خبرناه ؟ وهل يجوز لنا فهم المستقبل إذا لم
نعتبر من ماضينا ، الماضي قوة بأيدينا نحوزه ونُشكله وهذا بلا إعتراض ولا
تقارير ، والزمن في كل حال هو نفوذ وأصول في الحياة سواء تواصلت
مزاياها أم تشققت تبقى الأفكار تسبح ، والكلمات تقارب وتباعد المفاهيم ويستمر
نبض الروح كما لو كانت لسكان القبور وتحملت التربة المفارقة في زيارة كريمة
لأهل الأرض ، وتناوبت الأيام بين الأحياء والأموات .
إختفت الحياة الهادئة ليتوسع مأوى المساكين والفقراء وبان بالتربة واد شريط
ضيق يشق يابسة الأرض بخضرة للحياة .
الحياة تاريخ هنا وبيوت على هضبة تتربّع عليها جدران يؤم الأرواح ، توسعت
ساحة القرية بمحاذاة المقبرة ، وهذا سوق يُميزه نشاط ساخن ، صناعة السجاد
المطرز تبرز بالمكان ، وفي المسلك المتشابك ترتفع أصوات متعددة :
اللؤلؤ هنا تجد ما تريد .
وهنا نجد ما بُني في عهد العثمانيين وبقي أثره من بيوت هي محلات شعبية
بالسوق ، لا يزال يستغلونها الباعة كدكاكين شخصية .
بالسوق الشعبية كل ما تبحث عنه حُلي تقليدية ، ملابس ، خزف وباعة حتى
للخيول والحيوانات الأليفة ، وطيور نادرة ، وعصافير جميلة . وعقاقير متنوعة
عطور وبضائع وملابس جلدية ، وزرابي عليها رسومات لنباتات
برية عرضة أمام السائح والمترنم ، ولا تزال صناعة الزجاج وفن الرسم عليه
تجذب الإهتمام ، حتى وإن كان في غرف تزداد ضيقة وظلمة ، هي إجحاف
في حق هذا الفن والذي لن يكون متقن إلا بين أيدي هؤلاء الحرفين الباعة
كل هذا وأنت تخطو بتمهل على الأرض الترابية للسوق العتيق والذي تواجد
منذ العثمانيين الماريين ، مساحة واسعة على رصيف الطريق الداخلي للقرية
كثر به الناس ، وجاءوه حتى من خارج المدينة ، وشهد يومه عدة طوائف من
البشر ، ونقطة إلتقائهم هي :
مقهى الشاي والزنجبيل المعسل ، ونرجيلة تبعث النشوة في الروح ، وتطرد
الجفا من عمق النفس ، وهناك يبرز جامع من القرون الوسطى ، وتلك مأذنته
العالية عن كل المباني الرمادية الصباغة تفتح لها التهوية نوافذ مربعة الشكل
هنا تنبعث عطور العصور الخوالي ، عبق العثمانيين وشتات القبائل المتعاقبة
لا تزال الفنون التقليدية تحفظ تواجدها أواني عليها نقوش تاريخية ، وتحف
منزلية متراصة .
الجو نقي يطرد الوحشة وعلامات التضمر والغبن عن العيون فلا من يقول لك
من أنت ؟ من أين أتيت ؟ إرحل عن المكان ؟ لا عصبية هنا ولا فرض لمقال لا
نَهرٍ للنفوس ، الراحة والحب عزف قوي وبنغم متعدد ، الأماكن المظلمة تنيرها
والبعيدة عن نور النهار تنيرها مصابيح حتى لا يكاد الظلام يحجبها .
وإستحسن النظر الجالسين على حافة الوادي وهم في حركات خفيفة منظمة
منهم من ألقى بالسنّارة في المياه ومنهم من يجهزها يريد إصطياد السمك
شريان بشري حياتي لبعضهم ، وأفضل جزء من المكان تلك التربة الخصبة
المنحدرة نحو الوادي واجهة تطل على الطريق الترابي للقرية .
وفي مؤخرة الطريق تراصت غرفة كبيرة مبنية بالطين البني ، هي قاعة فسيحة
إمتدت على طول أمتار حولت نحوها الأنظار تمارس بها الرياضة .
ولا عجب أن تشاهد أسراب الأطفال وهي تلهو على الكثبان الترابية مكسوة أتربة
وغبار أو تجدهم في بركة من برك بقايا أمطار الأمس أو النهار ، لا تحتج إذا
كنت غريبًا ومررت أمام بيت بحي شعبي من أحياء القرية فلن تسلم من أذى
اللسان وستقاد حتى إلى مخفر الشرطة الوحيد ، أما الفتيات فإذا ما وقفت إحداهن
وحيدة فلن تسلم من ملاسنة الرجال ، كلام متشتت وإنتقاد لاذع وقيّم هشة تظهر
لأنَّهم إعتادوا أفعالهم ، في الربوع الغريبة تنفتح أبواب لبيوت ملتصقة بالأرض
الهش هنا يبيت ، العهود البالية هنا لا روح شاذة لكن المتاع بالجمال الطبيعي هنا
الرؤى التي يطويها الزمان وعرفت الجفون عن العيون وتلبست الحياة وبعثت
الراحة والشفاء للروح ، هنا دروب العاطفة وإن كانت على همل .
تجوفت الصخور وجمعت بديع الورود ، وسار الناس في الحقول وجلسوا إلى
مجالس النرجيلة أو الشيشة وإستمتعوا بذوق العالم الروحي ، تبصر عيونك كل ما
ترغب الأذن سماعه ، وفي متاع الريف الهادئ ووعظ النفس للإنسان .
إتّبع الناس الإستمتاع وأفضل الأماكن هي المقاهي الشعبية حتى كثر مُناصروها
الأوقات أفضلها بالقرية هي أوقات الصباح ، ورغم قلة السكان والمحافظة على
القديم غلا أن التغيير إجتهد في التمرر إليها ، وتدافعت أغراض الناس مساهمة
في تحريك أذناب الأحاديث وإبتعدت في المبالغة رغم عزلة المكان ، وعلى طول
السنين النشطة والتي خلت فالعيون تتقصد المكان ، وتعددت الأقاويل تنعت
الحاضر بالميت وتحاول إسقاطه من الذاكرة في ثقل موصد عن الفشل وبعيدًا عن
الرضا بالنصف وتجاهل النصف ، وتوسطت قلة منهم الأمور ، إرتجت النفوس
وحنقت ، وتعلقت أخرى بالأوهام حتى نحرت الروح ، في سفح المنازل وعلى
شفاه الوديان تحدث الحال عن كل الجمال ، وتسارت جيوش الكلمات وفتحت
فرص تحقن من الظرف ما نزّل الخلاف ، الحظ هنا للرجال وحتى للشباب
الطائش ، ثار الثعبان مع الزمان وزحف في رضى في ما يراه البشر لا أقاويل
لسان مقترف للجهل وحامل للأوهام ، تزعّم الباطل أوقات يستمتع بها الراقص
على أنغام الخوف وحروب النفس ، أفكار مزعومة يعيشها الإنسان وتعارفت
عليها شوارع القرية والتي تقارب أسوار مدينة ، يُملئ الحال للأسف بأهواء لا
أساس لها ، الغاية إرضاء الإنسان ، ورفع الشبهة والإتهام ولا إنتماء ، تناثرت
الفتنة ومحت المسافات ، تصاحب الصاحب والخادم أنواع مختلفة من ملامح
الحياة ، وتنشط مخادع القول حتى فعل ما نوى وظهر الشحوب حول العيون و
ترافق الجسد وإرتبك الموت وسببه الباطل ، ضاع الصوت وظلت الكلمات
الدروب لا من يمتلك ذاته ، ضاق شق الشعاع وتناقلت القوة الجوارية الصبابة
وتوجع الكثير حتى غرق كنوز الحياة المتقولة ، البحث في الظلام كبر الصغير
وكسب أكثرهم صيغ مرفوضة من القيم ، تحرك الجامد ، وهناك من بقي أسير
الطين والبيوت الرمادية ، وبقيت تائهة من بقيت .
تتابعت شهادات وتضاعفت المتاعب ومن تعب نال الأجر القليل ، لا من أحب
قلبه الفراغ وبلبلته ، الاَلات صدّاحة وحاضرة في ماضي متواصل زجر في
الواقع يذيب صلب الحديد وتداعي الألسن وتملأت بالأذى وإجرام الشارع ، ضيق
النفوس يبقى هو الأسر حتى إنتهى مقامه إلى الإثم وخسف حتى نسف المجرى
الحد أبواب مغلقة مفتوحة على المحتوم كل يدري لأن القلوب أصيبت بالحال وما
أتاه الواقع وتلونت الصورة أمامه ، حجبت أشعة الشمس في يوم يبحث عن
حاضره في ثقة عرفتها الأنوار ، وبان النهار طهورًا من بريق النجوم من الظلمة
ظهر هناك ضخم الجثة بجسد أسير ثياب سود ، ومعطف أسود ، سروال بلون
الليل تسكب عليه النظر رسمت صورته بلبلة ولمعان يرضي النظر ، في ماضي
اَمل وملذّة تقلب النظر عذبت العيون كما أشارت إليه الوشاية تنزل الدرج ووقف
ممانعًا سار قليلاً يرقب حذاءه الأسود الشاذ عن الغبار ، غزارة وكثرة تذكر
بعيون ، راحت تخطو أقدامه وراح يضيع في الفناء فيما أتاه به تفكيره ، وفي
جلسة ظل توازن والبرودة المُنعشة ، تسحبت رياح خفيفة في سيرها كاشفة نور
القمر وما تخلى عنه الظلام ، تظلمت عيونه حوله وعمت سحابة متمردة عيونه
الصفراء الصغيرة، وقد تفتحت وأظلّت الإتجاه ، مرت نظراته ممرالوادي وبقرب
أشجاره الوارفة وراحت الروح قافلة تقود ما تمنَّعت تجوب المكان بنفحة يأس
وتيَّأسٌ واَمال بما تعارضت كلها في مستنقع سائر لتجويف أكبر ، تكاثفت الكلمات
على الشفاه ، وظهرت على فتحة الفم ما أتاه فكره في صورة مرافقة لمن يقلد
مُمثل ونجم من نجوم الكرة المستديرة في شدة وفوضى وألوان من مواد التجميل
كما صفف شعره مُريدًا إلقاء الشباك على فريسته ، فظهرت بشرة وجهه السمراء
الصافية تطرح أحوال تنبذ ماضيه ، طرح الضجيج ومد كف يده ومسح الحاجة
من قاموسه ، فلا أحد في القرية يمده اليد ، ينظر إلى المرتفع الذي بقى ، كومة
متشفية ترتفع وتلوح ، بخت النفس ما تحوزه في هدوء حذر وفي شدة وبلاء
تسمح لكل ما علق بالنفس وقادها إلى العزلة وانهض بها الشهوة يجوز .
عبدو عامل بمصنع الزجاج مكان لا يبعد عن بيته سوى أمتار أو عشر دقائق
سيرًا على الأقدام ، على كومة من الأرض الصلبة هناك ، يسير وهو من سارت
به السنين إلى الأربعين من العمر ، لقد إنتهى عقده مع الجيش كجندي الممضي
ب15 سنة خدمة وهاهو في شهوره الأولى بالمصنع ، أحاسيس زادت به الخيبة
وطوقت رقبته ، وظهرت به أنغام مبتورة كلما ظهر النهار ،وعلا نزاع روحه
وقالت روحه ماغوى كمن تصرخ لا أريد الضياع ولا السماع ، لا أريد الكلام
ولا الإنضمام إلى ناس بروح جزائرية تحمل أسرار جزائرية أفكارهم إتهام ولا
تجلس إليهم إلا وأنت متهم ، يلتهمون كل ما أتاهم وما زودته بهم الحياة لا يريد
ولن يستزيد ، خوفًا من إنطفاء نور أيامه ، ينهض ضميره حينما ينام الاَخرين
ويميل عبدو إلى النضج ويكره ما يسيء للحال ولا يميل إلى عقاب روحه فلا
يؤيد متهكم ولا شامت ، ولا يحب جرح الاَخرين ، إستراحت به الهموم وراوغته
على هدوءه لكنه أبى رغم الحياة من حوله والأحياء ، وإن كان لا يعدوا إلا كمن
ينام بفراشه إلا أن الروح تتحرك بداخله وإستطابت وإنتقم السعيد لنفسه وتنحى
لسانه عن فاسق وسخط الكلام ، فلا يريد أن تتحرك به الجراح ولا القراح كما
اللفظ والمعنى رضي بالضيق رغم طوله .
سار وإعتدل في السير نحو المصنع الصغير فلا يراجع فعله ولا يهتم ، يسير
إلى جانب شفاه الوادي وطلقات النجم تتخلى عن مكانها في السماء ، النور في
عيونه وقوافل اليأس والحلم تنبثق وتصرخ في زمن حالم وعن عجل هل يمكن
لهذا التعقيد بالتنحي ؟ فسبحان الذي يمتلك ما أعجز الإنسان ..
لم يع عبدو إلا وهو يقف أمام باب المصنع الصغير والناس مبثوثة هنا وهناك
بالباب الموصد تنتظر من يفتح ، وفجأة إنقلبت العيون إلى جسد واحد ضخم
يخرج من شق الباب الزجاجي ووقف أمام الباب الحديدي ، هرعت إليه النظرات
في تيه ، فأبصر تسابيح الجفون والليل يحمل القهر والإهتمام ، ضاع صوته وسط
الضيق وطال الإنكسار فلم يمتلك أحد ذات ، بل تركز بمن أمام العيون ، مالت
إليه الأرواح وظهر الظن ومالا يحتمله الفكر ، وعادت به ذاكرته إلى خدمته
بالجيش ، تحرق قلبه في وضح النهار وفي أحاسيس الاَهة والظلم ، صفحة
مسودة خطت مكتوبه ، وهاهو اليأس يُنبؤه حتى سمعه يقول : أنت مفصول ..
علا الصوت من حلقه وترنح في العالي ، الجميع ينصت بل سمع الإسم يصدح
بالإسم ، وتوالت الأسماء المرافقة له ، إنقلب نظره إلى داخله وسار وحيدًا يحمل
جسدًا مهزومًا من داخله تجمر وغحمر وتحرق وتشرد في الطريق الترابي ، علم
ما كان ينتظره كن فوق قدرته ، وأوصته المسامع مالبد ، تغيمت السماء وتهاطلت
دموع باردة على خدوده في الخفاء .
أحس بالاَهة وذهول وجرح حارق وسمع الصوت الصامت به لقد قتله الحكم
القاتل ، عادت همومه تطفو ، وكسا مكبوتات قلبه ، وتفتح وأطرب ينظر الناس
من حوله .
وقف أمام بابه لا يهتم لما معه ، بل تحزم أفكاره ، بان لون الشمس الأصفر القاتم
البراق كما اللؤلؤ ، وأحس ببرودة ودخل ونام لا يدري كم ساعة ..
اليوم الجمعة هو يوم عطلة ، الناس في كل مكان والرجال يسيرون بكثرة نحو
المسجد والقليل من النسوة ، من كبرت وعجزت وهناك شابات أيضًا يحبن
التسبيح وحمل السبحة ، وهناك من لهم أفكار أخرى تتوجه إلى الأعراس وحيث
تريد ، الحقيقة أخفت الكثير ، الشارع هو الحرية ويرضي النفوس ويخفي ما عظم
الجدران تخفي الكثير ، ومزيتها أنها أخمدت الأفكار ، والشارع لا يرحم أحدًا
فالأجساد المتسلطة المتسابقة به حازت ما أرادت ، ودار في فلك الأرض ما
يحتضن أحلام البشر ، تسير الأعمار نحو بيت الله ، تنحني للخالق في خشوع
إنتهى وقت الصلاة وتقصد المصلين بيوتهم ، غفلت نفوس التقوى عن ما يحمل
الشارع وعاد عبدوا إلى بيته ، في ثقل ، جلس وحيدًا أمام بيته متذمرًا صامتًا
أرجوزة مطولة يعيشها عبدوا ، ودخل بعد زمن جاوز المطبخ ثم عاد يسأل والدته
هل من نقص يسده ؟ عبدوا أخلص لدوره في العائلة ، وخفف السير إلى غرفته
فلم ترى والدته منه إلا معطفه الأسود يتجنّح عند إلتوائه ، وقفت خلفه وهو ينزعه
عن تضخمه الأسود ، فظهر شعره الأسود القاتم جامدًا ، تثقبت عيونه وتصلبت
كمن يتفقد زائرته :
هل سويت معاشك ؟
بل هم فعلوا ؟
ردت : اَه شقاء يقود إلى الموت ..
عبدوا : لا أدري لا من يساعد لا هذا ومن ذاك ، لا من يعرك الإهتمام ولو بنظرة
ولو حتى بكلمة ، وإذا سألك عن أحوالك فهذا أخذت منه الكثير ، الشيطان غزا
القلوب وأطبق الجفون ، وأظهر مسلك الدموع ، وأكثر جروح القلب ، أخلصت
للألم وأعيش أتهرب بداخلي ، مال الناس لا يرحمون ، بل يتمررون مغالبين
لا جوهر فيهم ، الخيبة تترك أذناب الدخان ، قد تتلقى رقم فتسمعه يخرج طوائف
الخيانة تشقى ولا تشفى من مباحث الحياة .
ينتبه إلى صوت التلفاز وهو يرتفع بالصوت في هذا الشهر جوان من عام 2007
يستقبل بابا الفاتيكان بَنْديتْ السادس عشرا وفدًا عن رؤساء عدد من كنائس
الجزائر بمقر الفاتيكان ودار لقاء الحبر الأعظم مع أعضاء الوفد الذي ضم
قساوسة الأغواط ، قسنطينة وهران حول سبل تعميق معرفة كل طرف بالاَخر
من أجل خلق عالم يسوده السلام المبني على إحترام الغير ، تقدمهم ممتلئ البطن
ذو شعر أبيض براق وعيون عميقة ثقيلة النظر ، طويلة رسمت قسماته عمره
مابين مابين الخمسين ومنتصفها ، ترنح في هندام وخف السير .
هذه خرجة من خرجات الصمت ، فلماذا نحن صامتي على حالنا ونوام بالليل و
النهار أين النشاط العلمي من البقعة وعلى حافة الوادي يقول عبدوا وكم من حامل
لشهادة في البيولوجي وذاك في الفيزياء النووية ، وتلك طبيبة بيطرية ، لكننا
نجهل وجهتهم حتى بعد تخرجهم لا يحضون بسلك إسمه سلك التعليم .
هي دروب غريبة إذا أذعنت لهم الحياة فقد يغزوك الوجل ويتأجل عجزك إلى
ما بعد الثمانين .
عبدوا : سأصلي قبل أن أنام .
تتقصده الأم بجنونها الداخلي ، ماذا وراءه ؟ هل يُخبئ بنفسه ما يجب أن أعلمه ؟
مَهرجَة وزُمر لأحاديث تطلع لروحه تنطق عيونها بالكثيرعليه أخشى من نفسه
فقالت : ألا تخبئ شيء ؟
وببرودة وكلمات متزاحمة تستبق شفاهه وفي كلام لا يعرف له بداية :
لقد فُصلت ؟
سبحان الخالق الرازق ما بال أرباب العمل ، ألا يهمهم حال الناس ؟ ولا يهتموا
للسنوات الطوال لخدمة البعض ، اَخر خدماتهم الإكتفاء الإكتفاء بالتصريح ، هل
هو تهرب أم جنون الأغنياء ؟ أم هو سباق نحو شقاء الإنسان .
لقد عرف كل من بالبيت ماحدث حتى الجدران وعت فعل صاحب العمل ، عيونه
تصرخ هم من صنعوا الخيبة ؟
وجهات تطل على ممرات ومناظر تحول بصيص مستقبلاً خافت مسرعًا ، و
إنطفأت أشعة الشمس ، وهو لساعات مرهقًا ومتغالب ، جنون الحال وشقاء
العيون تغزوا مباحث بثها المرء فألقت الشك وقعرت الخاطر وإستنقعت به
برودة وخيبة وخز بالإبر ومذابح ومقت ، وصرخات وفجأة حمل نفسه وخرج
يمشي على ضوء القمر في مسلك ترابي لا يعرف مراده سار والوادي وقدماه
تعجز وتتعثر وتفتعل الشدة تتحدى صلابة الأرض .
لم ينشغل ولا تأنى بل لا يزال في إندافاع فارغ الروح ، لماذا يسرع ؟ هل هو
على صواب ؟ منحته النفس التخمين والأسئلة ، إنها داهية الظن ودروب
التصدع الذاكرة تعود به غلى الأمس وتضيع به في الظلام الذي أصبح خافتًا
توسط النجم والقمر السماء وفاض به ما لا يرحم من فيض السموم ، زحف على
الأصابع وذوق المرارة يحاكي القلوب وتنافر لم يبق إلا الوجع الحار والشحوب
أتلف بديع الروح وتسمع صوت يرتاد من أصوات من بقى صاح أو من إعتاد
الوقت والزمن الأسود تحت النجوم يتسمع الأصوات ويتنعم بصوت المجهول
تحتبس خطاه ويسود بمكان مكتفيًا بخرم الإبرة ، القلب تعب من الصمت والسماع
لخوته الجراح والشقتء والغوص في حبة عرق من الجبين وبالجسد من تردها
اليد المكففة ، شرر من الريح ومن ضيق وجهاد جره الوهن والوهم ، يقوم ليسير
مع السائرين ، وحيدًا في وسع يتأنس وجرحه الدامي ، مد القدم حتى إستوقف
سعيه وتطابق والهوى ، وأطبق صورته وغفلة الظلمة ، عبدوا يعيش وحيدا
ووالدته بولاية مغنية الحدودية وبقرية باب العسة التي لا تبعد عن المغرب
الأقصى ، تمر العامين في هدوء ونعمة ، يعيش عبدوا من معاشه في خدمة
الجيش ، تناقلت الأخبار مع مطلع عام 2009 أخبارا إستقرت على التشديد
على الحدود الغربية بعدما كانت مفتوحة ، وتصافت العبارات حول جملة وحيدة
لا تتخطى الحدود بدون جواز سفر ، هو اللحن الخفي والشدة والحرص ، هذا
الخبر أوقع الإشمئزاز عند بعض وطمأن البعض ، فلن تكون هناك فوضى ولا
تهريب ولا عبور للإخوة أمور أضرمت النار بالنفوس وأكثرت سوء الظن
توقف الماضي وجها الحاضر ، وتفتحت الطيبة بالنفس .
وعلى سبيل ضاق مسلكه سار وتراب علا حصاه وتدبب وبرز في وجل في شدة
وتعنت ، سار إلى كوخ غير بعيد عن بيته وضعه لنفسه جدران أربع وأوسع في
البهو تفرغت فيه الشمس وتوسعت أحاطه التراب وهلت الطيور بأنواعها تتحرر
وتبرز من المخابئ ، في قرية حدودية وغير بعيد عن التجمع السكاني أخذ له
مكانًا ، يجلس عبدوا يريد الوحدة بعيدا عن الزيف يرسم الحقائق الصحيحة رغم
أدوار السذاجة التي هي في تعالي وتنامي .
أخذ لنفسه نصيبًا من الحياة الهادئة يسير خلف قطيع الأغنام التي يملكه تحمل
قدماه العجلة عائدا على ضوء النهار وأصوات الفهجر تهذب الوحشة وتغمر سر
الطبيعة وإنتهز ورق الشجر ونبات البراري الفرصة ليتراوح ويسير في شؤون
الطبيعة .
التفكير في النفس أخذ ملامح وجهه ، كل يوم يتعلم شيء ويأخذ من أيام ما
يرضيه ، غاب ضعفه وخلص لروحه ن دخل بيته سقيمًا داسته الأيام ولايزال
شريان الحياة به ، تقلب بفكره الأراضي الزراعية المهجورة هنا وهناك وتدوسها
الأقدام صباحًا ومساء ، وتسارعت نوبات ضخ الدم في العروق لا تعرف لغيره
لجوء ، منظر الطبيعة رومنسي غازل أوراق وجذوع غطت خضرتها الأنظار
وتطال السماء .
خرج في الصبح يسير يتفقد مزرعته ومزاريبه ، اليوم هو هادئ ، وهاهو أيمن
مسكنه في مزرعته الصغيرة ، وتلفت حتى وجد جدران من الأجور الأحمر
مبنية حديثا ، وعمال .. إنه صباح أسود ، هناك حركة بناء سريعة ، تطلعت
عيونه إلى المنظر وتفاصيل العمل حتى فاضت عيونه مقتًا ، وتضاخمت
بشفاهه أسرار النفس تقذف في صمت ، زوبعة مغيرة لهدوئه ، خرج من كوخه
وإقترب منهم :
هل لكم تسريح بالبناء هنا ؟
تتوقف الحركة وإن بقى أحدهم غير بعيد يعدُّ لبدء العمل يرد عليه صاحب
المقاولة :
وهل لك أنت تصريح بالبناء هنا؟
وفي غير تأني يرد عبدوا : المكان لي وأنا السابق فمن أنتم ؟
يرد أحد الخدام غير مهتم : إنها الحدود ألا ترى رسمها هنا لا أملاك خاصة ؟
من المالك للأراضي هنا بباب العسّة ؟
إنصرفوا جميعًا إلى أعمالهم ، وبقي عبدوا يرقبهم من بعيد كمن يتوعدهم بالرد
الأرض بالنسبة له هي خزانة أسرار وعرش للإنسان ، وهي سر تختزنه
الحكاوي في خفت من الحبال الصوتية ، طاحونة الكلام تهرس الكلام ، الوقت
للنهار ، والجار هو من يسرع في إتمام بنائه ، قطب عبدوا حاجبيه وسكتت
شفاهه ، توقفت مرسيدس تحت ظل شجرة الزيتونة ، علا صوت الشر بداخله
حتى تدببت شرايين يده وإنتفخت ، وبرزت العروق الزرقاء تصرخ، إرتفعت
درجة حرارته وتسللت أشعة حارقة لجسده ، وعلى حاجز جاف ونبات مهجر
دارت رحى الكلام تتقصد الوفود لكنه تجاهل وجوده والسماع إليه ، وتدارى
وسط ما بُني وظهر منه ، وسار سيرًا خفيفًا وغاب دونما أن يحوز الإهتمام
سارت الشمس إلى المنتصف وعَلت حرارتها لا ذنب له في الزمن وأعدم
حروف الفم وترادف ونفس متعبة ، سار حسب ما تمليه عليه نفسه ودونما
إحتجاج وإحتبس التفكر والتفكير .
إختفوا وإختفى وإبتعد في غرس أخضر لشجيرات الخص ، غاصت حذاءه
في وحل وتقرفص في عتمة إخضرار ، فتح أصابع يمناه وحمل ما إحتمل
كفه من تراب ، تمايلت أوراق على هبات النسيم وتموجت معه في سحر ، فتح
جفنيه وتنافرت روائح الربيع غناء أوصلت المفصول بالمفقود .
عبدوا بالمكان الحدودي وفي جفن الليل يجلس هناك ، وعبدوا من أبناء الجزائر
ولا يخاف إلاَّ بطش هؤلاء الغرباء والاَتين من وراء الحدود وفي ليل شتوي
كهذا أبدى الظلام سواده القاتم ، وغاب القمر ، وغطت برودة ساحرة المكان
وعم الشتاء والمطر ، صفرت الريح وحملت البرودة من الحال وتصرخ
الصرصار بصوت واضح ، وإحتالت كل صاحبة عمر أين تعمر ، وتكونت
بسرعة ينابيع المياه وتشددت الأمطار في الدفع ، حتى مال كل زرع إلى
الهلاك فلم تعد تحمل التربة كل هذا البلل طفح وتجفّن وغطى الزرع وأخذ السيل
كل ما خف أمامه حتى فرت المياه في فتحة أرضية غلى واد حدودي يصب فيما
بين الحدود ، لا تزال الأزمة في إنتمائه إلى أحد البلدين واقفة .
وفجأة سمع الصوت يقول في الظلام : أصمت فالنافذة توصل الصوت و إحذر
الوحل المعرقل ؟ شخصان يقيا جسديهما بجلد أسود ، وبرقت عيونهما فقط .
تحتما العجلة وتقصدا الحدود إبتعدا عن بيت عبدوا مسافة النظر ، وأخذا الطريق
المعبد في أوله لافتة كتب عليها ( المسافة الفاصلة) خطت بخط أحمر على
الطريق الحدودي السالك وفي ليل لا يزال مطره شديدًا أسرعا الخطى كأنهما
يتقصدان مكان ، تحسسا حبات المطر تخترق الثياب وإحتبست أنفسهما ، لكنهما
سائران غير متمهلان حتى بانت عليهما التهمة وغابا وما ظهر إلا مع (الاحمرة)
حمارين في قطيع يسيرا وحيدين كأنهما مع راع ، وأمسكا أخيرا بذيل الحمارين
فتحجج أحدهما عن المسلك في سيره وأخذ كل منهما يتفقد البضاعة وحاويات
البنزين التي يحملها الحمار ، ذات 25لترًا ولا يزالا يسيران والقلوب تحقن الدماء
والأيدي ترتعش وضعا حزمة الحشيش على ظهري الحمير ، لقد غنما حراميا
النفس وهاهو مكتوب الأقدار محفور بالكفوف .
نبض باق ونبض فان وإمتداد الخصام بالعيون الراصدة للخبث يقتص والإنسان
كذلك حتى الحجر والحدود تزحف بالإنسان إلى الشقاء وخشية العبور قائمة
والخوف من إستغلال سكان الحدود .
............. ................ ...........
لن يكون ما فات بأفضل من القادم ، تساقت الأيام لا تنفي شيء وصمت حذر و
قلوب بأجساد تكدرت ، تحرصت الأيام وتأنت ونسخت ما خفى .
توقفت الحياة على كل باب من أبواب القرية المتراصة ، وفي طرق واسعة غير
أنها موحلة ، وتوسعت البساتين والمزارع وكثرت الحيوانات حول أغلب البيوت
القرية بعيدة عن مدينة مغنية وقريبة من الحدود يحبها ويحيا بها الكثير من الناس
بيت عبدوا بمكان بعيد مفصول عن بقية البيوت متصل بالواد الحدودي دفن
بمزرعته الخضروات وهاهو يتهيأ ليأخذ قسطًا من السقي والمياه تؤخذ من الوادي
الحدودي فلا مورد اَخر له المكان يحتاج إلى تشفير وبه كل الإحتمالات
السياسية المهيمنة ، هاهي المياه تأخذ في الصعود ، هم أربعة وتوسطهم عبدوا
بقادوم متين في يمناه وحمل اَخر على كتفه ، توصلت السواقي الترابية بأقساط
بلاستيكية تخرج من الواد ، سارت بها المياه كثرة تضخ بمحرك بنزيني ، صنع
التأثر وحقق ما تمناه مزارع الأرض .
تباعد الحيز الزمني وتحركت الأيدي تصنع الطريق أمام المياه في حرية ، وذابت
الحياة تحت حرقة الشمس المتحركة في إتجاههم ، تطأطأت الرؤوس في عملها
وفجأة أخفى الظل النور وإختفا عن العيون كل أثر نسيم ، إختنق الحال وغلقت
كل رؤية ، وتتابعت المياه في السواقي لا تقف ، إنقطعت النظرات وتوقف
الصوت وعلا صوت المياه صوت حمل المرارة من قائل :
من خوَّل لكم بأخذ المياه من الوادي ؟ أين التسريح ؟ وواصل أوليس الوادي
بأراضي المملكة المغربية ؟
رد عبدوا بحزم : العام الماضي رفعنا شكوى لمحكمة مغنية ولوالي مغنية و
جاء الحكم لصفنا ، فهي أراضي مشتركة وصالحة للإستعمال الثنائي لنا ولكم
وفي الواقع هي أراضي جزائرية .
يرد رئيس الدائرة المغربي :
لن تواصلوا أخذ المياه ولن يحق لكم ذلك ، هي أراضي المملكة وسنخضع
الأمر لهيئة المحكمة المغربية وسنرى ما تبث فيه ..
الحكيم صاحب النظرة الصائبة ، إكتنزت الوجوه الكلام الكثير ، وعلا الضجيج
المكان وبان المقت حتى مال مرأ العين للسواد وإلى الظلمة جراح غابت بالجسد
لن تقوى الأجساد حمل الاَلة ولا حتى السواعد وقد حملت من قبل الأثقل ، لن
نتقن نعمة السكوت إذا تكلمنا الساعة ، ولن نسكت إذا سكبنا الظنون على الأقوال
تلبست النفوس الغموض ، إنصرف كل إلى عمله ، وإنسحب رئيس الدائرة
للمملكة ومن معه ، تحفرت قداسة الإستماع ، كما عرف الحزن والإغتراب
قلوب الفلاحين وعبدوا من بين الأربعة قهره الهجر وظلم القلوب والوجوه لوحة
رسمت واحة نخيل وسط الصحراء ، لم تبقى منهم غير الثياب بعضلات مرهقة
تتلبس الظنون ، ليس كل من يحدثنا محب لنا وللإنسانية وليس كل إنسان صاحب
إنسانية ، وقياس الإنسان أصبح بالدينار والدرهم وبالقماش ، أين القاعدة المتفق
عليها في القياس ؟ هبت ريح من الجنوب غيرت وجه الأرض وهل تصاحب
الزمان والمكر ؟
وتوقفت ينابيع المياه عن السقي وإنسحبت الأنابيب بتمهل ، وتوقفت عن ضخ
المياه ، غاص الرأس المفكر في الوادي الحدودي أين الحرية محجوزة هناك
مجازة أخذ المياه منه ، لا من يحمل الأذى عن جر النار وأخذ الخيار ما إختارته
الأيام ، صدمت المناظر الملونة الرائعة بهول ما أخذت منها من مياه توقف
كل شيء كمن يقطع حلم عن التمام وبانت الظنون .
تواصلت الأيام والأسبوع تلو الأسبوع والأشهر فالسنين وتدهنت ببلسم الصبر
خيطت جروح القلوب العليلة ، وبدأت أول خيوط الاَمال في سبيل أقدار أخرى
فليس كل من يغني محب للفن، ولا من يصمت محب للصمت بل دواعي تحمل
لنا الضغط وتحذرنا من أشباح الشبهة ،وفر الفم كل الشكوك وأقر للعين الغروب
غفت العيون وناح القلب ، تمدّحت البومة في الظلام ، توقفت الأقدام حتى
تهجرت المشاعر المستقرة بالقلوب اليائسة والواهنة مما أرهبها بالمكان واحة و
لوحة جامدة تقهر الصمت والغفلة .
ينتشر ضياء شمس الصباح وتنتشر الأجساد منها من غاب هدوءها ومنها من
في غضب ، يتذكر ما حدث بالأمس من شخص عدو الإنسانية وعدو الزرع و
الذي أحدث الرعشة بالقلوب وقطع النفس ومن ذا يعمر الأرض . سارت الأيام
متتابعة زاهدة ، تفرد عبدوا المجلس بينما أخذ الصحاب الثلاثة مكانهم بجانب
الطريق الوطني الشاق لدربه بين المنازل ، ينظرون إلى بعض المغزوة وحشة
وأرواح متخلية عن الأجساد فرع ثابت وجذعها مجهول ، وتبقى رؤاهم جميلة
وأخذت ألسنت في الأحاديث التي لا تطلها حرقة نار ولا زهد عظمة ، وتنوعت
وتدافعت نحو الفخر والعبرة ورفض أفعال الظلم ، تبحث عن أي موضوع
تسافر فيه ، هذا التراب يساوي الكثير ولكن المرارة تلاحقنا مكايد تموج الهدوء
أخذت الأحاديث تتمازج وتتذهّب كل فجوة ، وتجمعت حول تحكيم واحد هو
تفكيك الصلب المتوالد والمتنامي ، لا معنى ل‘نسان يبقى معدم مغترب مرهب
مهرب واَلة الفزع تنزعه الهدوء ، مفاهيم مبهومة غير متملكة لصيغة .
الشمس فوق الرؤوس وبالقلوب وعلى الدروب ، والرشد مطلوب ، النفوس
إعتكفت بالمكان ولن تبرحه ، هذا التراب يعيشون منه وهو رزقهم فهو لهم
الطابع وقدرهم ، وإن بيع نصف الوادي فنحن أحق بنصفه الاَخر ، وإن منعنا
من مائه فلنا ماء النبع .
قال أحد الثلاثة : أريد فتح محل لبيع الذهب فالقرية لا يوجد بها هذا النوع من
التجار ، وأخذ رؤوف بالتحليل والإنغماس في الحديث ، حتى توسعت الجلسة و
توضع الأمر ، سأله عبدوا عن بدأ العمل فرد :
غدًا لقد كلفت من يحمل إليا المشتريات ، والمحل ببيتي .
عبدوا : إذن لقد ركبت المد وإنسحبت مع الموج ، تلطفت الكلمات وتبنت الهدى
الأيدي وأبصرت العيون ما فهمت ، كيف وقد إمتثل جرح أحدهم للشفاء .
باب العسّة بوابة حدودية ، بها أراضي زراعية ومساكن ودكاكين ومدرستين
ومتوسطتين وثانوي ، ومشاريع أخرى في بدايتها وهناك غير بعيد عنها المدينة
الجديدة التي تنشطت فيها الحركة ، تتابعت الأيام متاَنسة ، أخذ عبدوا مكانه
بحقله وظهرت عليه الوحشة مائلا للملل ، أخذ حريته وسط عشب أخضر و
بركة من الماء الباقي عن السقي بالأمس ، تطرق إلى قضايا بعيدة نهاية
السماء ، هاهو طيف جاره الساكن حديثًا يتحدى ويخترق حذاءه الصمت يتقدم
نحوه في هندام أسود أنيق ويقترب حتى يجافيه وينقلب لعبدوا حتى يصفعه
بحدة ولا يتبناه عبدوا بل يصافحه بنظرة مكر وحيلة .
إبتعد الجار وأخذ ينظر للعالم الجذاب من حوله ، لا يمكن لإنسان أن يصافح
صانع إجرام ومتخرج من منزل التفرقة ، كيف تزرع بدل الشجر عظام البشر
وتجني وابل الشتائم والهزائم ؟ وتفتح سوق تباع فيه الأفكار العنصرية وهذا
يملك وذاك لا ، كيف تنعم في فراشك والقلب لا يوقف له شك ؟، وهو كذلك حتى
جذبته رجاتها وهي تسير في ممر لا يسلكه إلا الهارب من النظرات وخائف من
المجهول ، على حوافي بستان حدود الحقل ، وعلى أرض ترابها تبلل بمياه
فاضت ، تحمل تنورتها من جهة اليمين ترفعها عن الأذى ، وتتقنع خمار أسود
ظهر جسدها النحيف بيضاء الوجه ، لطيفة المرأى ، قطعت نحوه الطريق
بحكاوي القلب المهتدي بهدى مبينة النية للمحبوب ، إنقلب إلى ريحها والهوى
خفاق ، نظرت إليه وهو تحت شجرة الصنوبر هناك يستظل ، قفز فجأة و
بسرعة من يريد إحتضان طارئ ، لكن القرية صغيرة ورؤية أهاليها يمرر من
ثقب إبرة ، أمّا السمع فسماعة طبيب تتصنت نبض القلب ، زفت إليه بسمة من
شفاهها فتنحنح يعيد مجرى الروح ويشق ينابيع حكاوي الحب ، سارت نحوه
وهو لا يزال يرقبها وصوت الخلخال يصرخ في يسراها ، حتى ساوته وتعمق بها
تأخذ شيئًا من الأرض أو تعطي شيئًا .أبصر الورقة بكفه ، فقلب حوله يتحاشى
نظرات مخادعة مراقبة له ، الأرض معشوشبة والشجر يغطي المكان لا أحد
يطلع إليه ، إذ لم تكن له البصيرة ، والحركة بالوادي منعدمة فالقضية بيد
العدالة ، غلق عواصفه وتذهّبت نفسه للورقة ولموعد مع أصدقائه من الحي
جمال ورفقة اَخرين ليس له صلة بهم لكنّهم من جلاسه ، تذكر الفتاة لكن التفكير
محضور إذ لم تكتب عليها ورقة فيها إسمها وإسمك .
أخذ الأصحاب مكانهم على ضوء القمر يتحدثون ، إقترب عبدوا وفي غقلة تخفت
الصوت حتى جلس إليهم قال جمال :
بعد لحظات سنتجه إلى الحدود ومنها نخرج نحو أوروبا ؟
جمال هوأقرب الأشخاص لعبدوا فواصل الكلام :
لا تنسى أنها قناطير من النحاس وكوابل الهاتف والكهرباء ؟ لا يزال أمامنا
الوقت الكافي لكنها أملاك الدولة والأمر ليس بالهين ..
لكن عبدوا كان معارضًا ولم يبين لهم ، ورفض الإنضمام إليهم مهما كان الثمن
وتوكل الجميع ودخل عبدوا بيته وهاهو يجلس في المطبخ حتى سمع عجلات
الشاحنة تزأر وصوتها يشق الطريق ، جلس أربعتهم متونها وسارت في تأني
مثقل مغطاة الخلفية تقصد الحدود ، كان عبدوا قد سجل رقمها وتخبأ في الظلمة
وحمل محموله وقام بما يقوم به أي مجهول .
أخذت الشاحنة ذات الغطاء الأخضر المائل إلى البني تسير لكن سرعان ما بحلقت
عيونهم في البدلة السوداء تقطع الطريق وأجبروا على المرور بممر ضيق
للمراقبة ، دخلوا الخط الأحمر ، لقد تكبلوا بالكوابل النحاسية وإكتوا بأسلاك
الكهرباء توقف عليهم الوعد ، وسيدخلون القضبان لأعوام وهذه حال من لا
يحافظ على دنياه ، لقد قبضت أرواح راكبي جنون الذئاب ، وتداولتهم ألسنة
ساكني القرية ، وكم ظهرت أشعة الشمس على حكايتهم وكم غابت على خرافتهم
وهاهي القرية ناعمة وسارت قططها ودجاجاتها تغير الصمت الملبس للوجود هنا
تفتحت الشرفات على الأمل ومدّ الإتصال بالحياة قهقهات وهتاف ورعاء صغار
وصبية تلهو ، ومر عبدوا بالشارع ما إن يصل بباب مفتوح إلا ويغلق أمامه لا
أحدا يترك بابه مفتوحًا ، سار يريد مقهى شعبيًا الوحيد بالحي تغاضت عيون
عن الطريق وبرزت رجولته .
القوي من له قوة مالية ، وإذا كنتَ صاحب مال فأنت السيد وغير ذلك فلا تتكلم
كثر الإستخفاف بالناس ، اليوم الجمعة صباحه بدون حركة القلوب والأقدام إلى
المسجد سائرة ، وقف قرب جب لضخ المياه وبقرب بستان البرتقال يرقب المياه
السائرة هو ذا جاره يتمسح على شعر لحيته ويلوي يدا على يد وراء ظهره
لم يكلف نفسه بإلقاء التحية على عبدوا الذي مر أمامه ربما هذا لأنه تلبس
لحية منذ أيام قلائل لأنه لم يكن من عادته تكثيفها ، يجلس إلى جماعة
أخذا اللحية لهم عنوان للصداقة ، صعب الحديث إليه فلا يجتمع لأحد وهو دفين
بجسد الإنسان الجاهلي ، من سمع ولم ير ومن أخذ بفعل وإن لم يحصي قيمته
من سار مع البرودة وسار مع ما يريده البشر ، دخلوا جميعم المسجد ودخل
خلفهم عبدوا وأخذوا المكان في غفلة العيون فأخذ هذا يخاطبهم واَخر يستهزء
بهم لا أحد يعاشرهم غير من دخل بيوتهم .
القرية صغيرة وناسها معروفين ولأنّها بعيدة عن المدينة فمن يريد حاجته ينتقل
بوسيلة ، والقرية هادئة وصاحب الربو لن يموت هنا الكل يجب أن يعيش هنا
المتبرجة والمتحجبة ومن تلبس حائك كل الأقدام تحملها الأرض ، هذه ذاكرة
شعب والملة واحدة كل إنسان يحمل عينين إثنين فهل تنام عين عن أخرى ؟
لكن الماء يتعكر إذا ما قذفه شاب غير ناضج أو جارة رأت مالا يعجبها من
جارتها ، ومن كل كتاب نعلم ونتعلم فأسرة عبد الكريم بالقرية فقيرة وعائلة
الشارف تعاني الشيخوخة ، والفراغ يقتل شباب أسرة الحاج محمد ونورالدين
تلاحقت الأيام هذا الصباح تجادل عبدوا حول سقي الأرض مع رئيس الدائرة
المغربي لقد حظر محافظ دائرة مغنية كذلك ونالت العقول ما لاترضاه من
الكلام لقد تجنحوا وأكثروا الحديث أيريدون إدخال هيئة الأمم المتحدة بين
الحدود ؟لقد أشرقت الشمس على بلادهم كما أشرقت علينا وأننا نسقي الأرض
من الوادي كما يسقوا ، نحن نزوع وتثمر وهم يخطفون الغلة إنّها حيل ابن اَدم و
في الفكر ولا يقرأ الكثير ، لقد ترافقنا في الجناية وأجمع الحديث وأوسع
وتلمس القلب المقت والحب ، لقد حكم بين المتخاصمين لكن لا بديل في
الذهنيات الكل يريد الهيمنة وكثرت أقاويل الشيوخ ، السموم والحيل مبيتة
هبت ريح التغيير في هذا اليوم الساخن منتهى السخونة .
نهض عبدوا في الصباح وعلى عجل دخل المرحاض المفصول عن الغرف
بعجل لا يزال يحلم بأخت جمال والذي حمل إثم التبليغ عنه لكنّها الحقيقة و
الوفاء ، ولكنه يحبها وكلما مرة على بيتها أقرأته التحية فبادلها مثلها خاطبها
في خياله كذا مرة لكن هذا الصباح كثر عليه الحلم ، سار على ضوء خافت
كره أن يستنار نور الكهرباء هذا الصباح وبين قلبه وعقله سمع صوتها الخافت
القريب غطى سامعيه رد جناح النافذة إلى الخارج بأصابع يمناه وأطل ، وقف
عاجزا أمام نظراتها ، أخذه وجهها الصبياني نحوها ، فرفعت عيونها نحوه
وهي تحمل دلة الماء لترمي منه المياه بالساحة وبسرعة أدخلته دنيا الرق و
العبودية وهبت عليه رياح الحب العنيفة تمسح هندامه فوجد نفسه لا يزال
في المنامة أسرع إلى غرفته يؤنق ملبسه ونظر في المراَة كما لو بلغ المئة سنة
فراح يؤنق ويمسح وطأطأ على حذائه يمسحه وجدد لون وجهه بعطور ، وسلك
مسلك خارج البيت في أمل مشاهدتها وشروق ظاهر ، لم يكن بالشارع غير
صبية يلعبون في دلال ، حتى طارت أحلامه ، وأخيرا وجدها تخرج من بيت
الجيران في تنورة وقميص ورديين ، أشار عليها أن سيري أمامي وأنا اتبعك
وركبا معا النقل الجماعي فأسرعت إلى جانبه وترادفا ، بقي اللسان معقودا و
الهيبة تقدس الحاضر ، هنا الاَن مع لعبة الأقدار وفصولها ومشاهدها المتسلسلة
توقفت وسيلة النقل ، ونزلا متباعدين في صخب وتموج بين شذوذ وتجاذب
لن يغيب هذا اليوم عن مذكرته ، هل سيقال عنه خارج عن العادات والمألوف ؟
وأنه غير درب أسلافه ، وأخذ في أحشائه أولاده ؟ عليهما الإختفاء في
مكان بعيد فالحب وإن فاض من الشفاه فهو ممنوع في الشارع ولو كان الغرض
طيب ، دخلا حديقة التسلية وجلسا متخفيا بمكان دارت عليه أعشاب عمقت
مكانه ، توضحت الأحلام وهما يجلسا كتفا لكتف ، جلسا ووقف اليأس ، بانت
الفرحة في تقاسيم الوجه وتحصلت منه على الإعجاب ، تحذرت الوشاح عن
شعرها ينزلق فنظر في شعرها البنفسجي المخبئ ، فإنطوى بأصابعه على خدها
الأيمن فتورد تعصرا عصيرا مذاقه الحب ، وتكسرت على معاتقه ووسع يسراه
يحتضن معاتقها ، وبان الصوت المغمورة عن مغامرة حب ناشئة .
................. .......... ...........
إنطفأ نور الشمس وبان نور القمر وعلت صورة الصراصير بالمكان إنفكت
ربطة العنق عن العنق ، وفجأة سمع صوت ضوضاء وعشوائية كلام ، أشخاص
ولا بد أنهم من دوار اَخر القريبي من الحدود ، اصوات تسب وأخرى ترد وتفرغ
لهما الجو أصوات حادة وقذف وخصام ، وإنفجرت أنوار محرقة وكلام بذيء و
إنقظ النازي على فريسته وعم الضرب ، وتعالت الأزمة ، وهاهوشاب بجانب
الشجرة تحت نافذة عبدوا يتمايل ويئن لا بد وأنه مصاب بالسلاح ، وتدخلت
سيارات الإسعاف التي شقت الصمت وإنقلب الدوار إلى دوارين بعدما إنضم هذا
إلى ذاك ، عشوائية ودماء وخناجر وشفائر الحديد سال الدم الكثير وإنهارت
الأعصاب بعدما أثخنت الأجساد بالجروح وإستمر الحال حتى وجه الصباح
بعدما أهجى النوام ، وإهتدى كل إلى بيته وهو يرسم التفاصيل وتشكى الحال
سقوط عدد كبير من الجرحى .
خرج عبدوا من بيته وعرج على بائع الجرائد وإشترى جريدة ، جلس على تراب
أرضه جلس ومد ساقيه وأخذ يتصفح الجريدة ، وراح يستطلع الأخبار ذات
الخط الأسود ، حتى أنه توقف عند خبر الحدود المتنازع عنها ، غلق الجريدة
ووقف يسير على حافة الطريق الترابي وفجأة رأى جماعة من الناس حول
الوادي فأسرع نحوهم فوجد جثة أحد أبناء الجيران محفورة في الطين ورجال
الحماية المدنية ينتشلونها ، وغواصون بالوادي العميق يبحثون ، سأل أحد
المجتمعين فقال له :
البارحة بالليل والمطر يسقط نزل شاب فلاح ليسحب محركه من الوادي فغرق
في الوحل وإتبعه والده الذي جاء لنجدته ، وأخوه الأكبر قيل أنهم غرقوا بالوادي
والغواصون يبحثون عن جثثهم .
عالم غريب أملته المغامرات اليومية ناح بها الحال وتلبسها إبليس اللعين
زرعت الجثة الشكوك وتنبت البغض ، أبكتهم والدتهم وتمسحت دموعها لكن
الأرض بالحدود عشقها الناس وألفوها رغم التيه والمتاهات .
مرت الأيام وإنصرف عبدوا مع الفلاحين لسقاية الأرض خفية وبساعات متأخرة
من الليل ، منذ مدة والقرية تعيش هذه الأيام العسيرة السقاية من الوادي بترخيص
وإلا ... ، تظهر سيارة تسرع من بعيد حتى أنكرها ضوء الشمس ، لم ينتبه لها
عبدوا وهو يحادث مجانبه الأيمن قال عبدوا :
هل البقاء على هذا الحال مطول ؟
ردّ صديقه بالمستحيل ولو كلفه سرقة المياه لا يمكنه ترك زرعه يموت .
وأشركهم اَخر :
لقد تسللت بالليل وفتحت المياه في ساعات متأخرة ، وما شأني فليحكموا في
القضية وننتهي .
يرد اَخر : لقد حكموا بالنصف ، لكن بعد تعاون الجزائر مع البوليساريو
جَنّ جنونهم وأرادوا الإنتقام .
وقال اَخر : زمابالهم والتهريب من مغنية إلى المغرب فأوروبا ألا يحتكموا فيه ؟
والماء بالواد هل هو من بئر زمزم ؟
الأحداث لها مجاري أخرى والفاجعة هنا تتكلم وتنوح ، توقفت السيارة بها ضخم
الجثة يحمل أوراقا طويت وملف أخضر ، تعتصر عيونه المكان وتحمل التسلط
زرع الأرض بعديد النظرات ، ولف الواد بأخرى من بدايته إلى منتهاه قابله
عبدوا وأصدقائه الفلاحين ، والشمس على الرؤوس
ماذا يريدون أو لم يتأكدوا بعد ؟
كم أمقت رؤية هذا الرجل الحامل للملف ، وأشار بشفته السفلى وإنثنت على
الذقن حتى ظهر إحمرارهما الغامق ، تفتحت عيونه مُحاطة بوسوسة وغش
لقلب يصرخ في صمت ، إستقاموا في عبوس ، وتلصّقت عيونهم بالواد
عبدوا : أتراه يريد التحدث إلينا ؟
اَخر : يريد زرع الأرض بور ..
اَخر : بغيض ، طابق ظهره صدره، هو والتوحش توأمة .
هذا عنقاء اللقاء مغالب للخيال ، وفي نظرة وضخامة المسؤول إنقلب الباطن إلى
ظاهر ، وتسحب تاركًا ظلا يسايره ومسوغات رشاقة لعمر مابعد 50 سنة نرفزة
ووخز تقتلع جذوع النفس ، أنانية ونبذ للفلاحين .
بعد مدة قصيرة إتجهوا بعيدًا ، عاودهم شعور الهدوء ، عاد عبدوا إلى بيته ولبس
غندورته السوداء وحرص على إظهار وجهه فقط ، تكمش جسده يبحث عن
الدفء والحال في فصل الصيف ، تسحب إلى أرضه وتنزل إلى جانب أصدقائه
بالواد ينظرون المياه وهي تسير تروي العطش ، عيونهم تحرص المكان و
إستحسنت الظفر بما تريد ، وهاهي أمواج المياه تزهوا تجر أمامها الخراب .
تاه الجفاف وسط السقايا وتنحت الحرقة ، غاب الشقاء وتفألوا بالحسن .
عاد الفلاحون إلى بيوتهم وهم يتسللون ، وفجأة إنزلقت صخرة بشدة بالواد و
إرتطمت بشدة بالمياه ، إلتفت الجميع في غير تعقل وبسرعة ، جهل ما حدث
لكن الجواب يبقى خفي ، وتابعوا السير يحملون ألاتهم المستعملة .
سارت الأيام بإنتظام هذا يتكلم ولسان ينوح ، واَخر يحمل الخير ، الضجة لن
تزيد إلا لهب للقلب ، جفاف الحياة يقود إلى الصمت .
جاء يوم سقاية الأرض أعدُّ النفس والعتاد وساروا إلى الأرض وفي وسط
الليل والعتمة شقوا الدرب ، إستلم أقدامهم للوحل ، تشرّب القلب الهدوء و
الصفاء ، النفس تأمل وتدعي ، أخذ كل واحد مكانه منتبهين يفتحون التراب
أمام مياه الوادي ، ولكن من جهة أخرى كانت هناك أقدام تتسلل نحوهم في الخفاء
لم يعرف منها شيء وفي حذر وصمت قاتل صوّب المجهول القناص سلاحه
يرمي بالجمر ، تصوبت الرصاصة رأس عبدوا لكنّه طأطأ ينكش التراب ويفتح
أمام الماء فغلقت عليه الأقدار محتوم الموت ، لكن رصاص أخرى أصابت
صدر صديقه بشدة فصرخ صراخًا تمازج وسريان الدم من الجرح بسرعة
أسرع الفلاحان الإثنان يتخفيان وسط الخضرة ، الضجة أخرجت ساكني الحي
مسرعين نحو الأرض هذا يصرخ واَخر يبحث شاهرا سلاحه واَخر متوعدا
ولكن الليل درأ صاحب الفعل ، وحملت جثة "نُمير" إلى المستشفى لا حياة فيها
على بكاء والديه عليه وتتوعد رصاصة الشيطان .
يقف عبدوا حائرا وعيونه تتولد وتتكاثر في موات وفساد لقد طُعن في الصدر
من نفوس لا تزال تقبع بالأرض وتحاول سحب الحياة من الأجساد ولهذا
فالحرص لابد منه .
وقف الثلاثة في أرضهم منذ الصباح حتى منتصف النهار ، وبلغت العناية نوع
من الشعور الهادئ ، هم أبطال مالكين راشدين وسعوا سعة الحياة ، أخذوا من
عون الله ملاذًا لهم ، إهتمّ عبدوا بالطيور ذات الريش المزركش وهي تتغذى على
الحشرات ، وأخرى وهي تهاجر بين الأشجار ، يزيح عبدوا قضيبا وجده مرمي
وسط الترب .
تواصلت الايام وهاهم الأصدقاء الثلاثة يجلسون في ثرثرة ، هذا الأسبوع تغيرت
عطلة الأسبوع من يوم الخميس والجمعة إلى يوم السبت والأحد ، تلقت المسامع
الخبر وتلقى الإستحسان وبين الحكمة والثبات سار البشر والزمن ، وأسندت
الأفعال للسواعد والقوة ، تكدر الزمن زمن وتكدر أخرى ، وبين أرباح وأطماع
بلغت النفس ما تريد لا سجن على الطيور السائحة فهي هبة الله ، تواصلت الأيام
بين إخضرار النفوس وإحمرار الدماء ، الثقة هي ضعف فالتراب ينطق عربي
وكيف للإنسان أن يترك خطاه ؟
للظالم عيون هنا ولا تزال الحدود مرسومة بالنصب والإستغلال الهدوء هرم و
شاخ من بقى هنا وجد نفسه تحول إلى مجاهد حتى يلائم الظروف وحتى يبتسم
في الليل والنهار ، ولا يسطوا عليه غيره ، الدواء الوحيد هي الفطنة والتدرع
بالحصانة النفسية .
................. ............ ........
هاهو عبدوا يقف بالشارع وهاهي تقف بجانبه تبحث في حقيبة يدها ، تمهلت
بثقة وبشعور محب غيَّر لغة القلب ، تشير عليه بعيونها فرد عليها:
أنتظرك بالمحطة .
وصلت إلى المحطة وترافقا فجلسا إلى بعضهما حتى نزلا بمدينة مغنية
بحث عن سيارة صفراء حملتهما إلى مركب التسلية ، يغرس فيها عيونه
بلا إنقطاع تشد يسراه يمناها تترنح وتتحسس أصابعه فتستسلم له ، درأت
حياءها ببسمة ، جلسا جنبا إلى جنب على مقعد من الحجر ، لم يصمت لسانه
عن محادثتها والإعجاب بها ، واسر لها بحبه لها ، توعدها بطلب يدها .
طوت يمناها على يسراها ، مسح بيمناه على خدها ، لن يحلوا نوام عيونه إلاّ
إلى جانبها ، وسمعها كلام يكسوه الأمل ، عرفها بدنيا الجمال ، عيونها لم تمل
النظر في عيونه وهو يرقب خصلات شعرها المتمردة ، وطالت بهم أحاديث
الأرصفة والعشاق حتى مالت الشمس إلى المغيب نهضا وهو يغدق في عيونها
البنية ووجها الأبيض وأنفها الدقيق ، تجاوزت الضعف والتفكير الصلب وسارا
في صدق الخيال .
أقبل الظلام وتراصت النجوم تتبارق ، وهاهو عبدوا في ساحة المنزل يتمدد
وغير بعيد سمع صراخ عجلات وهرولة وأقدام تخرج عن الصمت وتهرع
بوحشية ، لفّ قميصه وأسرع في الظلام يبددها وأطل من نافذته فما وجد شيء
في الصباح راحت الألسن تردد ما كان ليلة البارحة ، لقد حجز أزيد من أربعة
قناطير من الكيف المعالج ، ليلة باتت تكتوى بالجمر وشعلات النار .
لقد نُصب لهم كمين وتمّ توقيف أربع سيارات دخلت ولاية مغنية من نوع 406و
حجز 19 خرطوش دخلوا من المغرب الأقصى .
كانت البضاعة ممددة على الأرض ، كانت لأشخاص يتسلقون في الليل ، حتى
أصبح الأهالي لا ينامون بدون غلق الأبواب حتى تبقى نفوسهم دافئة ، ظل
البريء عاجز ، والشاب فارغ العمر ، يعيش أثقالا محجوبا عن النور ، متى
يستغل الأرض لتلد نفعًا ، متى يتسحب الإنسان من العماء إلى حياة حية ، ما عدا
أهل الحي الذين يعرفون أنفسهم .
يخرج يوسف الشاب المعتوه يسير بالحي ، ويوسف لن يترك الحي لكي ينام
يجلس غير بعيد عن السوق يؤمه الباعة وفي لفتة لم تحمل الإنتباه تمر إحدى
النسوة تسير في اَمان وإذا بالمعتوه يحمل فواكه التفاح الغالية ويرميها بها حتى
أسقط العجوز أرضا وحملت إلى المستشفى .
مرت أيام أخرى يجلس عبدوا وأربعة من أصدقائه بالمجنون والذي كان يحمل
قضيبا من الحديد فضرب أحد الأصدقاء إلى المستشفى .
مع الصباح توجه عبدوا نحو جماعة الناس التي تجمعت حول بيت العمة حسنة و
التي راحت تسرد ما حدث معها وكيف إقتحم مجموعة من الناس بيتها وأشهروا
سلاحهم في وجهها ووجه الحاج رضوان المريض حتى أغمي عليه في فراشه .
الحقيقة رابضة غير معلومة الناس على هذا الحال ما زاد عن نصف قرن ، وتعلم
الفوضى من كان هادئًا ، وصعب معرفة نوايا الاَخر ، الكلام الجميل تشوش و
كثر حديث اللغط ، وهاهي الأيام تلعب أدوارها ، وهاهي الحاصدات تحصد
تدفقت الأقاويل وتبارت الأنفس على الهدوء .
تكاثفت السحب في ضجة قدوم الأمطار ، ففرت الطيور ، وتبللت أوراق
الأشجار ، برز تلألؤها يجاري الصمت ،تسارعت الأقدام نحو ديارها ، وقصف
الرعد وإنشقت السماء بقبضة من حديد ، إندس عبدوا في غندورته وراح يرقب
من النافذة تلك الفتاة التي عاشت مترحلة بين أمها وجدتها ، وذات يوم غادرت
جدتها فوجدت والدتها ميتة ، وعندما عادت إلى جدتها وجدتها ميتة أيضًا فعاشت
وحيدة .
بعد أيام قلائل سقط عبدوا مريًا ، والمرض ألوى ضلوعه ، ضعف جسده و
تصبب عرقًا ، وأخذ في غوص وغياب ، وسار متعكزا على جذع شجر و
ترشد بذاكرته إلى عيادة ذات بناء قديم هش ، وإستصحب بأرض معشوشبة
سارت أقدامه على أرض يابسة ، وأخذت الشمس تزحف في قلب السماء
أخذ طريقا تمنعت النسوة عن المرور به ، أعرج الخطى ، حتى تحتم التوقف
وتلفت خلفه ، كفكف حبات العرق المتسلطة الزاحفة على جبينه ، وصل إلى
العيادة ودخل يشد بيمناه على قضيب الباب يسنده حتى يدخل وهو جاحظ لعينيه
ولا يزال يئن ، الطبيب الخاص يناوب اليوم ، رفع عبدوا حزامه إلى وسط
بطنه ، وفي غمرة بريق الأرض وممرات المقاعد البرتقالية البلاستيكية يمر
يزحف يجر الخطى ، إذا ما طلع ممرض يسأله عن مكان الطبيب أو عن مكانه
يشير عليه الممرض إلى الباب المغلوق ، وإلى أناس كثر أمام الباب ، سخرت
يديه من عصا يحملها ولا تنفذ إلى عمق ، علامات اليأس تحط على المعاتق
جلس وإستوى على مقعد عله ينام وينهض على دوره ن وتصبر بقوة العزيمة
والحق الإنساني البعيد عن الغلبة وهو غي غفوته سمع الطبيب يقول لمن أمامه
إرمي الدخان ممنوع بالمستشفى ، كان الشاب يضعه فوق أذنه ، وضع عبدوا
رأسه على الحائط وراح يتذكر لعل من يلبس الملابس ليس كمن ينزعها ، ثم
وقف وسار يلوي الخروج من المستشفى ، يسمع لكلام قلبه ، يستعرض الصور
من مذكرته .
أودع النهار كامل نوره ، وإنقطع إلى نفسه ، ودل رأسه على ركبتيه وتوسط
صدره مابين ساقيه ، وراح يغمض عيونه ، هنا هو موجود لكنه تخرج عن
الوجود ، اليوم الأحد والسوق عامر ، سار في طريق ترابي إكتض عن اَخره
بصناديق وعلب كرتون ، ودرجات وسيارات ، وأنواع الخضر والفواكه
وقف أمام شباب مجتمعين متجنحا للريح ، إنه مخزون المازوت يفجر الصوت و
يعلو ، توقفت عجلات السيارات في طوابير كل واحد بمقاله :
هذا لي من مخزون المازوت مايكفي لنصف يوم ، وهكذا تسير الأزمة لمدة أيام .
لم تكن المدينة لتنام ليلة واحدة عن البلاء أو المذلة ، بل هي غارقة في برك
الوحل ، وعماها الغبار ، البلية زرعت التسمم ، صاح لسان عبدوا " يالله ياكريم
يارازق الإنسان على الأرض " وسقط في فراشه مثقلا من يأس من حاله
ومثل ماهو في مسرة الفضل يعالج معارض الشعور بأحسن سعي وفضل .
وضع رأسه على الوسادة وتعمق نظره في سقف الغرفة يكاشف الروح ، وتشمم
التسيم قال قلبه : لماذا لم تهاتفني منذ أيام ؟
وما إن توقف فكره حتى رن المحمول ورأى رقمها : علمت أنك تنتظرني ، لقد
كنت مشغولة تبسم بخبث وشكى لها حبه فما أحس حتى وجد الصباح .
غفلت عيونه عن صوتها إنقلب ذات اليمين فوجد باب غرفته مفتوحًا خرج إلى
الحمام وغاب بنفسه في المنزل ، وتهندم وإستجاب إلى قدميه وهما يقودانه غلى
نعل ينتعله وتبسط يعطي الراحة لأصابعه ، شرب قهوته السوداء بعدما طهاها
أخذا الرشفة مابين شفاهه ، وتنفس في غير إرادة ، أسرع الخطى إلى الخارج
موسعا في المكان ، متهربا من وحشة إلى الهواء ، وأخذ مكانه بين غياهب
خضرة وأشجار متشابكة ، متقعرة ومسطحة حتى تمنح وكرا في ضيق ، و
تمدد مانحا كل مالديه تناول صمته بما جار به الزمان، ولكن تحكم في هواه
تحسس سافيه العاريتين وقد قشط عنهما السروال حتى الركبتين ، ساقته
قطرات الندى والنسيم أحاسيس غلايبة ، ووضع عن معاتقه سترته ، ووضع
رأسه على التراب ، تطابقت عيونه والضحى ، وأنعشته أشعة الشمس بما
يريد تخرج عن الحقيقة ، وفجأة تغمضت عيونه وأحس بأنفه سيعطس
فرفع يمناه يشده ، لكن إندفعت العطسة تضخ ما بها ، توردت خدوده وإحمرّت
عيونه ، وحشد ما بنفسه من عاهة وألم ، وراح في نوم وإنتتمى إلى دنيا الموات
تظلّم الحال وهو يضع ثيابه ذات اليمين وذات الشمال حتى تعال الصوت :
هاي ، قم هل تنام في الخلاء ؟
وتكرر الصوت وحمله الهواء إليه ، هاي ، حتى قفز من مكانه : من ، من ؟
تلفت من كل جهة، هنا ، رفع عيونه إلى اَخر الطريق :
إنتهى النهار وهانحن بالليل ولا تزال نائمًا ؟
تبسم عبددوا وإن لم ير تبسمه صديقه ، وتمتم في عجز:
النعاس أثره كبير وروعة المكان أنستني حالي ، كان صديقه يقترب منه وكلما
إقترب تفصل وظهر جسده حتى أتاه على كامله :
ألا تخاف الظلام ؟
عبدوا : ومن غيره إذ لم يكن الإنسان الفاعل ، ولو أراد أن يكون غولا لفعل
سارا معا بالأرض وعيون المياه تسري بالتربة في لج صفصاف وتلحن
صوت الطبيعة في تجانس ، وراحا يتفقدا جنان برتقال تفتق وردها الأبيض
وبين زهور الشوق والطبل والمزمار قال خلف :
ماذا لو نشتري ماشية ؟
عبدوا : ويسرقونها مثل سابقتها .
ويواصل :المكان لم يعد يأمن لا لحيوان ولا لإنسان واللصوص في هذه الحياة
فاللصوص يجدون الحدود المفتوحة يرسلون علينا سمومهم ، الإنسان هنا
قصيدة بلا نغم وشريان بلا دم نحتاج إلى أشياء كثيرة هنا أولها الاَمان ، نحتاج
إلى مستشفى وإلى أطباء ولو حتى من وهران نحتاج إلى مرافق وكل شيء
يرفع السد عن البئر ن نحتاج إلى صيادل وبياطر، فالحياة مرحلة وكلنا سيرحل
وسيجد الخلف ما تركه السلف .
الأرض فقيرة تحتاج إلى من يرفع عنها الغبن والبلاء ، والمهجرة تحتاج إلى
إستصلاح ، نحن في هذه الحياة مثل التجارب . ساروا بين متاع أشجار الزيتون
والكروم والعنب ووقفوا على أراضي واد الحدود ، وتأملو بناءات القرية
الفوضوية الهادئة ، الأشغال هناك بالعمارات تقترب من نهايتها ، والأشغال
بالأراضي العمومية توسعت وتقدمت ، منذ سنوات إهتمت بهم البلدية و
شيدت الكثير من السكنات .
تمر الأسابيع حتى يأتي اليوم ، نهضت القرية على أعوان البلدية وأعوان الأمن
ذاهبة واَتية تقوم بترحيل أهالي القصدير إلى العمارت ، الجميع يساعد والحب و
التعاون في قلوب الناس ، وسيتم هدم القصدير وإنهائه ، بان الفرح والراحة على
الوجوه الفقيرة ورضى الحال بالجمال .
أخيرا تحقق ما تمناه السكان بإستثناء بعض الملفات التي تم تحويلها على محقق
للبث فيها .
.................. ......... ......
سار عبدوا وخلف في إتجاه بيته ، وسها عنه يحلم بوجهها وصوتها نظر إليه
صديقه :
لماذا تتبسم ؟
عبدوا : لا أبدا ؟
خَلَف : أخالك تتذكر شيئًا ، هل تحب قراءة الأبراج ؟
عبدوا : لا أبدا لكنني من محبيه ، لكنني أقرأه من الجريدة كل صباح ، وأنا مثل
الطير لا أجد لنفسي مكان غير سلك الكهرباء .
خلف : ماذا دهاك ؟
عبدوا : صار قلبي قفص مهجور يسير حاف القدمان ، وكثيرا ما أغفوا لأجد
راحتي ، وأوهامي لا ترد الصدى وكثيرا ما أصدق حالي وتغمرني النوايا
وتحجب الشمس عني والشمس فوق الرؤوس .
إضطربت نفسه وأضرمت النيران كما تضرم النيران في كومة قش .
خلف : سنذهب إلى عجوز إضطهدها الفقر وإضطرها الشلل إلى عدم الحركة
ترى الكف ، كلهم إستفادوا من إرشادها .
عبدوا : لا أومن به ؟
إستقمرت الأرض وظهر بين القصب الأخضر وحبات الذرى كوخ ينام ، و
تصاحب ونباح الكلب ، كانا يسيرا بخطى بطيئة حتى شعر عبدوا بضيق
حذائه وأعدم السير ، الطريق مدبب حجارة فشعر بالوخز يقطع روحه
ولا يزال النباح يعلو ويعلو ، ويقترب ، إنقلب خلف فوجده قريب فصرخ :
أسرع ..أسرع ، كان الكلب يقترب فجريا في سباق البرق حتى أشرفا على
كوخ العجوز ، وبمجرد مع وقف على تربة حتى صرخ صرخة شديدة
وسقط أرضًا ، خرجت العجوز ، وإلى جانبها شاب ذو 15 سنة ، حمل حجا و
جعل يرمي الكب بشدة ، والعجوز تقترب من عبدو الذي كان يعاني الجراح .
العجوز : إجلس ، قرفص وجلس على التراب ، ونزع حذاءه .
العجوز : يُؤلمك ؟
عبدوا: كثيرا ، وجعلت العجوز تسأل وتستفسر ، وتريد معرفة قدومه هذه
الجهة المعدومة ، تقضط ثوبها عن الأرض وتمسحت يداه الدم الأحمر وهو
لا يزال يعصف في شريانه المنتفخ ، حطت يداه على حفنة تراب أراد بها .
العجوز : لا تفعل هذا مضر لن تكون بخير لأن التراب يجلب لك الجراثيم .
إصبر..إصبر ، وتحاملوا عليه وأدخلوه الكوخ ، خرج خلف مسرعا بينما بقي
عبدوا يئن ممدودًا وغلى جانبه العجوز والشاب ، ذبلت عيون عبدوا ونام وهو
يرجف من الحمى .
العجوز: أتُراها عظة الكلب .
لا يزال الشاب منبسطا جثمان بلا روح حتى نشف ريقه وبرز لسانه ، نبض
صدره وأكثر الاَهة والألم .
الشاب : هل من أمل ؟
لم ترد العجوز ، وأسرعت إلى العجوز وغابت فيه وعادت بسرعة
العجوز : لم أجده ؟ يرد الشاب : ماذا؟
العجوز : ماء الرقية ، كان في قارورة بجانب الطاحونة .
المطبخ قطع متفرقة وتنبتت به بعض الأعشاب مأسورة بين الحجر والطوب
وقط ينط ويموء ...
نظرت العجوز إلى عبدوا فوجدته نام ، فتحت القارورة وسكبت منها القليل من
الماء في كوب وجعلت تتمتم وتشرب وتناوب الرش بأصابعها منه وعلى مخدته
الشاب : أمي هل سيشفى .
العجوز : هي مياه مقروء فيها القراَن .
إنغمست النظرات في عيون المنبطح متأوها ، والعجوز ترش عبدوا بالماء .
نام عبدوا وهم كذلك حتى سمع صوت سيارة تتوقف ، بحلق الإثنان في بعض
ودخل خلف : أين هو ؟
العجوز : تعالى هنا ، عبدوا ينام وسط التربة معثر بالتربة ، إبتعدت العجوز
بينما حملاه الإثنان من الرأس والأرجل وأخذاه إلى السيارة .
إنطلقت السيارة مسرعة في دمدمة أعدمت الصمت ، وتسحب خلفها الغبار
وتعالت صرخات العجلات ، في خلو الطريق تلفت خلف إلى ماجد فوجده يسيل
ناوله قطعة قماش فأخذ يمسح به شفاهه ، شد خلف على مقود حتى وسط إلى
الطريق الرئيسي المكتظ بالسيارات وهو الطريق الرابط للقرية بالمدينة ، ودخلوا
في سباق .
زار عبدوا المستشفى ونام ببيته ، وهاهي الشمس تشرق في مشوارها الجديد و
إزدادت في التقدم ، وطارت الطيور في تواد تناغم ، وأخذ الأطفال لهم مكان
للعب بالشارع ، تلاحقت الأصوات وكثرت فحملها الهواء إلى نافذة الشاب
يعدون ويصرخون ، فنشروا الفوضى حتى تثقبت جدران بيت عبدوا وتنبهت
لها والدته فنظرت إلى ولدها النائم صرخ عبدوا وهو يقترب من النافذة :
إذهبوا ن هيا وإلا خرجت إليكم ؟
تعالت ضحكاتهم وهم يبتعدون .
نام عبدوا تحت النافذة وهو لا يزال يئن وجع الأمس حتى أتاه صوت صراخ من
بعيد وتسارع الصوت كمن يأتي من بستان البرتقال أو ببستان الذرى الذي يحوط
الوادي ن ولا يزال الصراخ حتى وقف على النافذة ، ونظر بين الشجر .
أخذ بيده عكازه ودخل الحقل ، توسط الشجر وبحث وتحسس المكان ، لا شيء
تعالت الأصوات رد عبدوا :
أين ، أين ؟
الطفل : هنا..
عبدوا : أين ؟
في الحفرة ، في الغار .
عبدوا : الغار بالواد ؟
الطفل : إنه بقربك ، نحن بعرق الشجرة .
قال صديقه والذي كان إلى جانب عبدوا : أنا رأيته يهوى داخل حفرة هنا .
نظر عبدوا في مجموعة الأشجار فلا جذع بها مثقوب وكثف البحث عبدوا :
هل يمكنك الكلام لأعرف مكانك ؟
هنا علا صوت من تحت عبدوا : أنا هنا أشاهدك أنت فوقي .
نظر عبدوا أسفل الشجرة : أنتم هناك لا تهتم سأساعدك ؟
نظر عبدوا إلى الجهتين فوجد فلا حون بحقل الطماطم ، وأسرع إليهم وظهر
كمن يطلب منهم مساعدة وهو يشاور لهم بالمكان .
تجمع الفلاحون حول الفوهة وهم على وقفة واحدة ، مكان واسع لا يوجد به شيء
الطفل : يوجد برميل هنا
عبدوا : إقلبه ربما تحته شيء .
قلب الطفل البرميل فوجد المكان فارغ .
في هذا الوقت وصل الفلاح يحمل سلم خشبي وحبل طويل متين ، ألقى بالسلم
داخل الفوهة وأحكم تنصيبه ، وأخذ الصبية في الخروج بالتناوب كانوا ثلاثة
تتابعوا في الظهور ، تبسم عبدوا وسأل الأطفال : أنتم من كنتم تمرحون تحت
النافذة لقد نلتم عقابكم ، ثم حوَّل نظره إلى المكان وسار حول جدع الشجرة
سأل من حوله : أتراها كزمة ؟
يرد الفلاح : لا أظن .
عبدوا : وماذا هل هو حفرة ثعابين ؟
الفلاح : ممكن ، وهل تظل مفتوحة ؟
عبدوا : وهل نغلقها ؟
الفلاح : ليس قبل تفتيشها ؟
الجو إزداد سخونة ، والأجساد لم تعد تستحمل هذا التعالي ، تسابقت الحشرات
إلى أوكارها ، وبقي من رغب في ذلك .
هاهو الطريق الوطني على حوافي الحدود يستطيل وغير بعيد تظهر سيارة يعلو
منها الدخان وسط السكانات وهي تعبر ، خرجت العائلات مسرعة نحو الحقل
هاربة ، في حين كومة الدخان المنبعثة من السيارة تعالت وكومة سحابة وكأنها
رغوة قهوة ، وعلا صراخ وعويل النسوة تصاحبت وأصوات سيارات الإسعاف
وإقتربت الشاحنة تفتح الطريق المكتظ وسارت في الطريق الترابي وتوقفت على
السيارة المحروقة ، والتي خرجت عن موكب العرس وإرتطمت بالشجرة .
وقف الكثير من الناس مضرج الثياب بالدماء ، وقد جاءت السماء بالفرج وزالت
الكاَبة بعدما بان أن لا قتيل بالموكب بعد فرار من بداخل السيارة إلى الحقل .
هذا عام 2010 يسير في تأني اليوم الأحد ، والجار سامح جب الشيخ والده يزوره
وهاهو وسط الحقول والإخضرار رفقة والده .
وهاهي الأيام تسير ويسير أطفال القرية نحو مدارسهم مع الدخول المدرسي
الجديد ن دروس بالنهار وأخرى بالليل ، المعرفة يقظة ونور المعرفة ينير الدرب
ولكن السيد (فاضل صالح رمضان ) صاحب العلم الكبير والرحمة والحلم
الكثير يغادر الحياة هذا الصباح ، لا تزال الساعة الحادية عشر لم تشرف على
نهايتها حتى ظهرت جثة أمين شاب ذو 15 سنة مضرجة بالدماء ، ساقط جثة
هامدة في بركة دماء وحسرة وأسف ، لقد تخيل لعبدوا أنه سقط من صهوة
الحصان وهو يتدرب ، لكن ما إن إقترب من المجموعة حتى عرف الحقيقة لقد
سرق 80 مليون من والده وهو يفر سقط عن ظهر الحصان .
الكلمات تعني وزنها وتحمل الغضب ، والصخب أخذ سعادة الأطفال ، أمين وإن
كان إبن أب وعر الميراس فلقد كان قرة عين والده ، وبين غدر وتسامح وأقدار
توقفت الأجساد بصلابة الجبال وإبتلعت هول ما حصل .
من أراد النسيان تجرع قرص الحرص ، ومن تسمع لهديل الحمام غدى هزيل
كما المنام ، حملت القلوب الجمل و الكلمات الهامة ، تساير الأيام وألسن كما
السمك بالبحر ، وكثر البلاء وحسن الإبتلاء ودعي الإنسان إلى الحزم ، إبتلعت
الأرض قطرات الندى المتساقطة عن ورق الشجر ، تدارت العيوب عن العيون
وهاهي الأرض تخرج ما بداخلها من زرع ، تعاقبت الشمس والقمر ، وتنزلت
النجوم والمجرات وظهر عالم الليل والنهار ، تبسمت الشمس خلف الجبال و
تحققت أهداف الكثير في كثير الأحيان .
إنه مسلسل الحياة يتغذى من الأيام ولا ينتهي ، تصافى من غفل عن العيون
أحلام صغيرة تكبر وتنتهي وأخرى تأتي ، وساعات تطول وعمر الورد لا يتكسر
كونت الحياة لحنا جميلا رقيقا بصوت الطيور الحلم أن يغادر الظلم المكان ولا
يعود ، تكسرت أجنحة القلب فمن أين له بالطيران ، ونام المهموم يبحث عن
الراحة ن رائحة الوطن والتراب لا تفارق الحواس ، والطريق مشوار به الكثير
من البرك أغرقت الخطى ، لا من ينسي ما حدث .
هل الدنيا للأحزان فقط ؟وهل الهرب هو المفتاح ؟، هل ينام الإنسان وهو
خائف ، الخديعة والتجبر يدور مع الأيام الضحكات متسترة وغابت عن العيون .
يجلس عبدوا وحيدا ، بقلب لا يحمل غير صورتها ، وقصائد الشوق تنادي عن
بعد وتتمنى لقاها ، ورغم البعاد فالقلب يحمل صورتها بالشريان .
تتنازع الأحاسيس وتتناسق ، الأيام في نغم وفي حوار مع مظالم ومحاسن تعد
القرار ، خرج عبدوا من بيته حاملا لكيس مؤونة وماء ، وإرتدى معطفه ووثقه
بنفسه ، تحسس قدماه تؤلمانه في كتمان أسفل الركبة ، به وجع في العظم ، يجلس
بحقله يرقب المكان ، وهو كذلك حتى ظهر المجنون يعدوا في جهته رث الرث
صاحب لحية رمادية وعباءة شبه ممزقة يتحذر منه عبدوا خوفا من إصابته .
عبدوا : أنت ، يوسف توقف ؟
لكن المجنون لا يهتم ، يتحاشاه عبدوا وهو يتمرر على كتفه خوفا من ضربه على
الكتف وهو بجهد مضني .
عبدوا : اللعنة على من ولدك ورماك .
يتوقف يوسف ويرمق عبدوا بنظرات حذرة .
عبدوا : تقدم إن شئت ...أعرب عن وجهي ..أغرب .
يحاول المجنون حمل شيئًا من الأرض ، يسرع نحوه عبدوا : أترك ما حملت
أيها المعتوه ؟ وقف أمامه عبدوا ونظر إلى وجهه بحنان فتبسم يوسف وسار
وحيدا يبتعد شيئًا فشيئًا .
غاب المجنون وسط السوق المعتمر ، والقذارة تعايش النحل ، ونال منه التعب
ما أظهر عظمة الأقدام ، صمت رغم ما لدغه وأفزعه وغاب يلجم القرية في
صدره ، ومهم كان فيه من خطر فالقرية ألفته ومهما إندفع وتنازع وأظهر
الكثير من الخلافات فلقد تحرس منه أهل القرية ولم ينبذوه .
يوسف الشخص المجهول لا يدري الأهالي أصله وكم خشيه الكثير بعد ظهور
فيروز أنفلونزة الطيور ، وخشي البعض لأنه كان يظهر هنا وهناك وفي كل
الأماكن بسرعة ، قال البعض أنه خريج الجامعة وقال اَخرين أنه مالك لمال كثير
أسهب وأطنب الكثير ، وأخرج كل واحد ما به من ظن به وتبقى الشكوك لا
ترأف بحال .
يظهر عبدوا يركب دراجته ، وكم تمنى كثير ركوب الدراجة وتوسيع إحساس
الضيق ، إثنان من العجلات أفضل من أربعة مسرعة حاصدة للأعمار ، فالأيام
مثل السفينة قائدها ربان يقتنع بالشريط السالك للصحيح .
أخذت الشمس في الظهور فوق رأس الجبل ، وقد عمرت الأرض ، هبطت
العجوز إلى الوادي وتعمقت تحمل منه أعشاب ، وهاهي تعلو تنوي الخروج
رفقة صغيرها ، ثابتة الخطى متعكزة على عصا تجرها وترفع من ثقلها ، متغالبة
تشكوا الصحة وتشاكست بعض الأحيان .
راح إبنها يحمي صعودها من الخلف وهي تئن من هدرت قوتها ، وفي بحر
عواصف الروح الداخلية والصمت الموجع تتماوج أنفاسها في خفة وعيونها
تترقب في مساحة واسعة سدت ظل السعي وأثارت جاذبية النظر .
وهاهي تظهر عن فوهة الوادي بصحبة مشقة وحذر : حميد أسندني ، إنقطعت
أنفاسي يرد عنها حميد : إستريحي .
ومع سرعة النبض وخفت وزنها وأشار لها حميد بيده على مكان العبور وهو
مكان ترابي وهو الطريق الذي يعبر فيه مع أخوه خلف ، تَهمُ العجوز بالنهوض
وهي تستند على عصاها المنغمسة في الوحل حتى غرقت عصاه في حفرة
صرخ حميد : أمي حذاري ؟
ترد العجوز لا بأس ، تسوق نظرها أمامها وقد كانت ثقيلة النظر تترصد صيدها
لكنها لمحت شيئًا يخرج عن جذع الشجرة شيء أسود أو يلبس الأسود وركزت
النظر بسرعة أشارت على إبنها : حميد أنظر مشيرة بأصبع يمناها هناك بجذع
أو ليس هناك سواد ، نظر الشاب فما وجد شيء حذرته الأم من الإقتراب لكن
الطفل لا يبالي مخلفا العجوز تسير بحذر خلفه، وإقترب حتى أشرف على مطلعها
إنه ثقب قال الشاب ، أمرته العجوز بالعودة ولكن الشاب راح يتأمل ويشرح
لوالدته أنها على عمق أمتار وأن به رائحة حريق أو بقايا نار ، نظر الشاب
حول الحفرة والتي تجمعت حولها أكوام التراب ، وفجأة سمع وقع أقدام مسرعة
قلبت العجوز ذات اليمين وذات الشمال وبين الأشجار كان المجنون يجري
عرفه حميد بسرعة لأنه راَه أكثر من مرة ، وهي تسير قلبت نظرها نحو الحفرة
هل هي كزمة يرد الشاب : ولمَا لا ، وإلاَّ أين كان المجنون؟ ويضيف : بل منها
خرج ، وتضيف العجوز: بل هو من رأيته يتلثَّم بلثام أسود بدون شك .
وأخذا يتحدثا مع مرور الوقت وعبور الطريق ، بين جهل وشك ويقين رفع
نسبة التقدير ، سارا مئات الخطوات نحو بيتهما بالقرية لا تزال العجوز تستفسر
عن المجنون وكيف للفلاحين المالكين للأرض لم يقفوا على وكره ؟ حتى توقفت
العجوز تسلم على جارتها ، بينما وقف حميد على عتبة باب عبدوا وطرق عليه
فتح وأدخلهم ، سألته العجوز على صحته وعلى قدمه التي يشكوا منها فأخبرها
عبدوا أنه شفي منها وفجأة طأطأ رأسه كمن أحس بوخز لفت إنتباه العجوزبسرعة
والتي أخذت في الإستفسار فرد عنها عبدوا أنه ألم بسيط .
لقد كان عبدوا غير صادق فلقد تغافل وإنغمس في أعماله وغفل على
صحته ، أخذت العيون تبحث عن التفاصيل حتى أنَّها إقترحت كل
الظنون وألحت عليه العجوز بزيارة الطبيب ،فأكد لها عبدوا ذلك ولا تزال
العجوز تتحدث إليه حتى سألته عن سر عزوفه عن بناء أسرة فرد عنها أن
ذلك قريب سألته عن العروس فرد هي جارتنا ، فرد حميد تعني رونق إبنة
الجنرال ، فرد عبدوا أنَّ الجنرال تقاعد وعاد ليعيش بالضاحية بمزرعته
الخاصة ، سألته العجوز عن التأخير فقال : أنَّه سيفاتح والدها هذه الأيام .
تفتح الكلام على كل شيء وتنفست النفوس عن ما تريد ، تمرَّرت كل الأطياف
على الاَذان كلمات في الوهم والخيال وفي سرية ، تنزل ستار الظن وتفتحت
القلوب عن المكنون وإتسع اصدر ، ولاَن ما إستعصى ، تسمع هديل الحمام
حسن الطالع ، البيوت عامرة والخاطر والباطن ممتلئ .
إختفت الحياة المكلفة وتوردت الدنيا وإرتاح الإنسان المتعب ، القرية محاطة
بجبال وخضرة ملأت الرؤى بهجة ، تفتحت العيون على قرية باب العسة و
بدأت بها الحياة تنمو هاهي تظهر على خريطة الحياة ، وتخرج الأرض من
جوفها ماتشاء ن ومع مرور الزمن تخرجت الحياة من الضيق ، كثرت قصص
الحياة هنا وتنوعت ، مظاهر شدت لها الإنتباه وأخرى قصرت الأعمار و
شبابيك لبيوت تفتحت وشبابيك أخرى غلقت ، لكن القرية لا تزال تعاني مشكلة
الحدود والتي تفتحت عن كل محضور .
منحت الأرض ما يرعب فيه الإنسان وتنحت عنها ما يكرهه ، وتركزت الحياة
هنا على ما يحبه البشر وبددت الأيام كل شر ، قلَّ إستعمال الطريق الحدودي
هذه الأيام لأنَّ الحدود مغلقة .
يسير خلف وعبدوا في إتجاه المقهى وهما كذلك حتى خرجت إحدى النسوة
من بيتها تهرول وخلفها زوجها وما إن وصلا إلى مفترق الطرق حتى أوقفهما
عن الأمن الواقف بالطريق ز
دخلا القهوة وهما ينقلبان نحو المرأة وزوجها والشرطي والذي أخذ يتحدث
إليهما ، سأل عبدوا خلف ماذا لو كان حاله سيكون مثل هذا الحال بعد الزواج
من رونق فرد عليه خلف ان المسؤولية تعود إليهما ، فكلما كان هناك تفاهم كانت
هناك حياة مستقلة وهادئة ، وإلاّ فكيف إستمرت كل هذه الأسر الموجودة في
القرية ، كلام خلف فتح عيون الأعمى وأظهر عقلية الإنسان السوي وغرس
جذور أسرة متينة فأظهر له عبدوا كامل ودِّه في ذلك .
................ .............. ............
تعالت المباني بالقرية وأعيد ترميم المبنى العتيق بها الباقي عن الخلافة العثمانية
وزعت الأيد الزرع وسقت الأمطار الأرض ، كثرت البناءات بالقرية وأخذ
كل محتاج مبيتا له كثرت الدكاكين والمكتبات ، سارت السعادة بمفردها بالأزقة
وكثرة المساحات الخضراء كأنها الحلم لا يزال عبدوا يجالس ماجد وخلف
ليس الجيد من يراقب الماضي ولا الإطالة فيه ؟
يرد ماجد : هل هو تفلسف ؟
عبدوا بل هو المنطق لأنَّ الماضي يجعل حاضرك صحيح لا حزين .
ينصحه خلف بعدم التعمق في الحياة حتى لا يقع في مشاكل فماذا تقول عن من
يتميَّز عنك بالملبس فرد عبدوا : بل النظافة قبل الملبس ولا بأس أن يهتم الشاب
ويواكب عصره في ملبسه .
وهم كذلك حتى شٌوهِدت على مرأى العين سيارة زرقاء من نوع بيجو تعبر
الحدود المغربية وتدخل أرض الجزائر فأوقفها حرس الحدود وأخذوا يستفسرون
صاحبها ثم خرج وإنكبَّ على بطنه على صندوق السيارة مرتخي للتفتيش هو
القانون هنا لكل عابر ومساَلة لتبديد الغموض ، تشددت الحراسة هذه أيام
ولن يكون من السهل الدخول والخروج بسهولة .
الأيام تعيش على أخبار مافيا الحشيش والكيف ، مجهول الساعات القادمة يولد
الخشية جرائم خفية وأخرى ظهرت للوجود ، لقد أصابت المدينة بجروح في
شريانها التجاري وفي أمانها ، ومصائب حرمت عائلات من موقدها وأخرى
لا تزال تعيش الدفء وإنقسام نفسي ونهار يطبق جفونه الليل سيد عند بعض و
فاجعة عند أخرى .
هذا مولد الكهرباء ومصنع الغاز الوحيد بالقرية الذي يمنحها ذوق الحياة هاهي
أسراب تنسلُّ وتتسرب وتنحل من الدخان هول في الأفق لقد حدث به خلل و
جعل يبعث كل هذه الفوضى رجال مطافئ وحماية مدنية وأمن وخبراء من
مدينة مغنية ووهران ومن العاصمة ، لقد حدثت كارثة لولا تفطن لها حارس
المصنع ، خرج الناس إلى الشارع ورائحة الغاز تملأ القرية والفضاء وراحة
تتكاثف وتتضاعف حتى ظن أننا سنفنى ، حتى القطط والكلاب هلك نومها و
جرت بكل مكان ، مددت أنابيب وأدوات كأنها هوائيات تشتغل تعالج الضرر
وبعد ساعات تم القضاء عاى المشكل ، وبدأت الرائحة تزول وتفنى لقد وجد
الثقب تحت بناية المطعم وبأحد أنابيبه ، ولا تزال الألسن تسأل هل هو تجديد
أم تغليف أم تجديد للشبكة ، لقد كانت الشبكة قديمة ولعل تسرب المياه جعلها
تَبلَى ، والشبكة قادمة من مدينة مغنية تم تنقيته وإصلاحه من جديد .
.................. .............. ........
ركب عبدوا إلى جانب ماجد سيارته وهم عائدين من حمام مغنية وفي الطريق
أوقفهم حادث سيارة بطريق باب العَسَّة منقلبة على ظهرها وإنحرفت عن الطريق
وغير بعيد وفي خلال عرقلة السير خرج شاب من سيارته وأخذ يوزع أوراقا
وفجأة إختفا وبقيت الوجوه تتصفح ما كتب عليها ، كانت الأوراق بيد أغلب
السائقين ، أغلبهم إستغربوا ومنهم من رمى الورقة الخوف من الزلل أكثر وأقوى
شاهد على الوجوه والمعقول هو المقبول بدون شك .
عبدوا : هل هي خطابات سياسية . ولابد أنها من المعارضة .
ماجد : ربما رسائل ود .
عبدوا : الودُّ لا يباع على الأوراق .
عبدوا : هي فرصة لنعرف ، لماذا لا تنزل وتحمل لنا ما يمنحون ؟
ماجد :سنتقدم بالسيارة نحوه ..
عبدوا : إنَّه طفل ألا يخاف ؟
ماجد : ألم تلاحظه عندما رأى رجال الحماية المدنية ..إختفى .
زحفت السيارة نحو الطفل وأنزل ماجد الزجاج : هاي هات ما عندك ؟
الطفل : إقرأها ورد الجواب ؟
أخذ ماجد ورقة وعبدوا ورقة وجعل يقرؤها
عبدوا : يالله أقرأت : نحن نريد إزالة جميع الفوارق والحدود القومية والدينية
ماجد : لا تذهب بعيدًا من عادتهم نشر أكثر من هذا ، إنها سخافات .
عبدوا : إنه إجرام يريدون تحويل العالم نحوهم .
ماجد: هبْ ما يقولون صحيح ، هل سَتنقض الحدود ؟
عبدوا : لا حدود بين الناس ، هذه أراء ولها شأن في الإنفصال والإتصال
ماجد : لنواصل ماهذا إلاَّ غي ؟
عبدوا : بل هم الفاعلون ، من ينشرون هذه السموم .
ماجد : أراه خيرا ، وهل يوجد أفضل من توحيد القومية .
تابعت السيارة طريقا ، والرؤوس مثقلة وماجد يحاول توسيع المفهوم ومنحه
صبغة الراحة والأخوة .
ماجد : أوسع صدرك فأنت رحب القلب فلا تعارض ولاتهدد ، فلماذا تحاول
إيقاظ جنون الليل وما تخشاه الخفافيش .
عبدوا : يالك من شخص بعيد النظر واسع الفهم .
ماجد : بل أعيش ما يريده البشر فهل أنت تعيش أيام قرطبة .
عبدوا : بل في نعمة مع والدتي .
وتحاشاه ببعد النظر منتهزا زمن بعدهما عن الأمر وواصلت عجلات السيارة
الدرب .
جلس عبدوا على كرسي أمام بيته تحت شجرة التين سارح النظرات ممدد السيقان
تبسط اليدين وفتح معطفه وإسترخى وأغمض عيونه من يريد الحلم وفجأة يفتح
عيون في هوس ، تمر أمامه جارته وخلفها ثلاثة صبية تحمل وعاء القمح بين
يديها تأخذه لخط الدجاج بجانب بيتها .
في كومة الزبالة إلتمَّ ثلاثتهم يلعبون و يعبثون يجرون في التراب والنفاية .
وفي باب الجيران الجانبي تخرج فتاة في سن الشباب جميلة القد تنظره ولا تهتم
تعود وتدخل بيتها ، يبتسم عبدوا ويحني رأسه .
ينظر إلى بعيد ويغرق ف كثافة الأشجار والزارع الواسعة حتى تراوحت روحه
بين الجمال و ذهب المشوار البعيد بعيونه وعلو المقام ، وأخذ مجهول المنام
وفجأة تغيرت نظراته نحو ساقه اليمنى ألم جعله يتأوه ويرفع سرواله يتفقد
المكان ، وكأنها وخز إبر أو ضربة قطعة حديد ، بل هو أشد ، وأخذ يتمسح
على ساقه حتى بدأ يحس بالراحة ، وقف على قدميه و تأنى يدخل بيته حتى
أودع جثته على الفراش وأمه ترقبه من بعيد .
لم ينهض عبدوا حتى اليوم الموالي وبعد إنقضاء الليل رفع قطعة القماش عن
جسده ورأسه وتبسط ذراعيه ثم تقرفص وتوسعت ساقيه ، نهض عن سريره
وألقى نظرة على طاولة تجانبه حمل محموله وأخذ رقمها وضغط وإنتظر الرد
عبدوا : هذا أنا ، هل نلتقي؟ .. أنتظرك .
دخل الحمام وغرق في غسل وإظهار أناقته وجماله ، أدخل محموله في جيبه
وخرج بخطى ثابتة ، إلتقاها في المحطة تنتظره وما إن رأته حتى صعدت
الحافلة وصعد خلفها .
رونق: إتصلت بك لكن هاتفك مشغول .
عبدوا : متى ؟
عبدوا : منذ يومين وكررت .
رونق : بلى
ونظر في عيونها كمن يشك في كلامها .
رونق : منعني والدي من الخروج .
عبدوا : ربما منعك عني
رونق : لا أبدا أنت تعرف أنه لا يمانع عليك
عبدوا : لا بل والدك يبعث على الظن ، وقد يتغير في لحظة ، هل يرى لك اَخر .
رونق : قال إنه صاحبه ، رجل غني وصاحب مال لا تكثر الكلام ، لماذا لا
تتقدم أنت ؟
عبدوا : السبب أنت ، ألم تقولي أنكم تبنون البيت ، إذا أردت اَتي غدًا؟
رونق : بل هو من سيأتي إليكم هذا المساء .
عبدوا : وتخفين ، سأنتظره بالمزرعة .
ثم هو ينظر إليها ، سأخطفك منه ، ترد عيه أن عليه إقناعه فلا تستهن بعقلية
والدي ، وضعت يدها بيده وضمها إلى صدره وطبع عليها قبلة ، قالت : لا تحزن
رد عليها : لماذا هذا الكلام ؟ ردت : مهما يكن الرد مهما يكن النصيب فهو قسمة
عبدوا : لا أفهمك ؟ لا يوجد معي الكنز لكنني أملك قلبا يحملك إلى بعيد .
إغترف عبدوا من الأفكار ووقف الشيء الكثير على كلامها ، كمن يسمع حكاوي
وقصص الماضي الغابر غير مشدود بقوة وأخبرها بمدى حبه لها وانه يثق بها
ثقة عمياء فردت عيه : لا تكثر الأوهام فالدنيا على كل الأحوال سائرة إلى الأمام
عيونها لم تغفل عنه وهو في غاية الحزم والجزم وتبسط في الكلام وقال :
أملك بيتا مع أمي ومزرعة وسأشتري سيارة .
رونق : بالطبع هي دنيا ولنا الحق في الإستمتاع بها .
أيظن البعض أن للبشر قلوب من طين وعقول من عجين ، إننا بأرواح هي كنوز
ولؤلؤ ، والإنسان أغلى ما في الأرض والغريب أن هناك من يحكم على الطفل
مثل الرجل والمريض مثل المتعافى والبنت مثل الولد .
عبدوا : فهل تريدي دحض التهم عن والدك ؟
رونق : لا أريد قولا ظالما ، ولا نشر الظلام ، ولا السفر من الشوق إلى الشوك
بل غايتي ..وقاطعها ، إنها غايته ، إنك في سن تفعلين ماتحبين ولك الحق في
الإختيار لنفسك وبنفسك .
رونق : لا تنسى هو والدي ، فرد : ومايمنع ، فقالت : لم أظنك هكذا ؟ أنت غال
على قلبي وعيني بعيونك ترى وأذني بأذنك تسمع وأنت كل ما أملك ، إنني
أهاوده وراسية على مايكون لصالحنا جميعًا فرد : بل أنت تتهربين هناك ما يسد
أو سيسد علاقتنا ؟
رونق : يجوز لك الفهم كما تريد ، لكن قل لي كيف حالك وكأنه يراها لأول مرة
بعيون مهجرة وسكنها كمن لو كانت قدره وإنزلق إلى الخلف ينام على ظهره و
جلست هي أمامه ينظران المكان حولهما .
..................... ............... ..............
هاهي قرية باب العسَّة تظهر من بعيد وسط منخفض ، وأرض مسطحة وحولها
أراضي مزروعة ووديان ، وغير بعيد من الجهة المقابلة تظهر الطريق الحدودي
عليها قضبان حديدية تنظم المرور وإشارات توقيف حمراء وبيضاء هناك العلم
الوطني على سقف بيت الحراسة ، عبدت الطرق وغرست حولها الأشجار
هناك في خارج المدينة وعلى المرتفعات أكواخ وقصدير البناءات تنوعت هنا
فرغم التعمير والبناءات الحديثة لا تزال القرية تعاني من البناءات الفوضوية
وإن كانت هناك بعثرة وفوضى ملأت الأرصفة والطرق فأعاقت الجمال و
المزابل التي ترتاع فيها القطط إلا أنه هناك أصوات تنبعث من الصمت و
تحاول تجديد القديم وإنهاء البالي ، وثقة الناس ببعضهم جعلت حياتهم هادئة
وبسبب الإهمال هناك من الأماكن الجميلة ما نساها الإنسان فأطبق عليها
التاريخ وزحف عليها التراب حتى لم يعد لها أثر .
وفي تلاقي الجمال والأرض ظهر هناك على ضوء النهار واقفا ينظر من بعيد
غلى الحدو في الوادي ، هو نفسه الشخص الذي يقال عنه المحافظ المغربي
إقترب عبدوا منه فَما بَعُد الرجل بل تثبَّت بمكانه وسأله : ماذا هل من مزيد ؟
إقترب الرجل من عبدوا في وقارٍ ومهابة واضعا يديه في جيوبه : لا ..
لا أظن ، رد عبدوا : وإذا ؟ رد الرجل : جئت أطمئنك على ملكك ، لا من
تعدى على حدودك فالحدود بيننا ظاهرة .
عبدوا : هذا بلا شك ؟
الرجل : وأنا بأرض الحدود لا من يتكلم عن هذا المكان ، وأضاف : لكن الماء ..
عبدوا : ماذا به ؟ ، الرجل إنه يسرق بالليل ؟
عبدوا : أتشكك ؟
الرجل : الماء ينقص من الوادي ، ونحن لم نأخذ منه ما يقنعنا بكميته هذه التي هو
عليها ؟ ، عبدوا : بل مواشينا شربته ، الماء تبخر بفعل الحرارة ؟
الرجل : قل ما شئت من يذنب يدفع الثمن ؟
تراجع عبدوا غلى الخلف وقال : هناك حرص على الحدود ألم يكتشفوا الغش؟
الرجل : أتمنى لك يوم سعيد .
قال كلماته التي حملت الصدى للأذان وتمتم عبدوا : ياله من مقرف ، حتى حفنة
الماء يراقبها حتى وضع ماجد كفه على كتف عبدوا الأيسر وقال : أتركه إنه لا
يدري ما يقول .
عبدوا : أشك أنَّه يُراقبنا ، أو بالقرية جواسيس تحمل إليه ما يحدث بالليل ؟
ماجد : لا لا يمكن ، فحدودهم بعيدة . وطلب منه مغادرة المكان فالشمس لافحة .
تحسس حبات العرق على جبينه فراح يمسحها ، وتلطف بماء من الحنفية وجلس
يتحدث إلى والدته ، وأخذت تدلله وتداعبه وتستذكر معه صباه ، حتى سمعا
صوت سيارة يئز ويقف أمام بيته ، سيارة سوداء لا يتوضَّح راكبها .
نزل الرجل الضخم وهندامه لا تحمل ثقل جسده وضخامته ووقف أمام عبدوا
الرجل : أنت عبدوا؟
عبدوا : أنت والد رونق ، تفضل أرجوك .
دخلا مع بعض والرجل يجر الأقدام ويرقب ما حوله بالبيت .
الرجل : أظن أنَّ لك أمٌ؟
تدخل والدة عبدوا ، تسلم على الرجل وتخرج .
الرجل : ولك أرض ؟
عبدوا : بالطبع ، وهي التي أمام بيتي ، غرستها أشجار مثمرة منذ زمن ، أعيش
من خيرات أرضي ، ومكتفي العيش .
صمت الرجل ثم قال : حكتلي عنك رونق كثيرا ، وشكرتك لا تدري كيف .
تنحنح ماجد فأدهلت والدته صينية القهوة والكعك وإنصرفت .
الرجل : بيتك واسع ، هل لك ضرائب على الأرض ؟
رد عبدوا بلا ، وسأله عن البيت فرد عبدوا أنه ملكه ، صمت الرجل وقال : إنك
شاب مكتمل بلاشك ، وإبنتي تحب الحياة ، وعلمتها وربيتها على ذلك
عبدوا : ومعي لن ينقصها شيء ، وقبل أن يعيد أنفاسه في صدره قال الرجل :
هل معك شهادة ؟
عبدوا : لا
الرجل : وتعلم أن إبنتي تحمل شهادة مهندس دولة
عبدوا : وهل هذا مانع ؟
الرجل : قد يكون ما سيحدث غدًا لا يعجبك ؟
ينظر إلى عيونه عبدوا يسأل فيجيب من غير تروي : غدا ستقرأ فاتحة رونق .
تظللت نظرات عبدوا ولم يعد يرى جيدا ، وأحس أنه لم يعد يستطع حمل الثقل
أو أنه يريد من ضيفه المغادرة وقال قلبه : ماذا هل جاء ليدعونا للعرس ؟
وواصل يكلم نفسه : لقد تخلت عني وهو يحاول إجترار مُصيبته : أكانت توهمني
بالحب ؟، سألتُ قلبي يومًا لماذا لا تحبْ ؟ ، فسَألني وأين الحَبيب الذي يَستحق؟
ردت عليه والدته : عبدوا لا تهتم ؟ .
قلب النظر حوله فما وجد شيء قال : أين هو ؟
الأم : لقد غادر منذ لحظات .
عبدوا ، ليكن ذلك خير لي وله ، لقد تاَمر مع إبنته عليا .
الأم : إنساها يا ولدي ، لا تهتم لمن باعتك في غيابك ، ثم نظرت إلى عيونه :
أتبكي ..؟ يرد عبدوا : لا بل أسهو فيما كان معها من حديث البارحة لقد كانت
تتلعثم وكثيرا ما كانت تسهو .
الأم : هون عليك ليست هي اَخر ولا بداية الدنيا ، فلا تبحث يا ولدي عن الحب
في قلب خائن ، فمن خان مرة لا تنتظر منه أن يفي بالمرة ، وإحلم بفتاة أجمل
منها وفي غد جميل ، قم وهي تنبهه :
ألا تتذكر أخوها جمال ، كنت أنت من بلغ عنه ، وإحتمال كبير يكونوا قد عرفوا
المبلغ عنه ، ينقلب إليها :
لقد كانت المكالمة من مجهول .
عبدوا سلاحه الصمت ، فلا يتعب نفسه بالكلام في زمن تبدلت فيه القلوب ، فهو
ليس للتجربة ولا للتسلية ، لكن كلما كان القهر كبيرا كلما تضاعف حجم الحقد
وأخذ أشكلا مختلفة من الإنتقام وصعبت السيطرة عليه حتى تُفرغ شحنات
الحقد الموجودة في القلب .
وأغمض عيونه وشفاهه تقول : الخيانة هزيمة بلا خداع .
.................. ................ .............
مَرَّت أيام قلائم من صائفة 2011 عرفت فيها الأم صعوبة وتأزم في صحتها
فلم تعد تنهض باكرا إلا في القليل النادر ، ولا تخرج بيتها أبدا ، حتى كان
ذاك الصباح حيث خرجت لرعاية دجاجاتها بخمها المجاور إلى بيتها ، نهض
عبدوا وإنصرف إلى المطبخ فوجد والدته أعدت القهوة ووضعتها على الطاولة
فشرب وجلس بفناء البيت يرتاح وقد كان هو كذلك يحس في كثير من الحالات
باَلام على مستوى الساق وبكافة جسده ، ولكنه إستبطأ والدته فخرج إلى الخم
يبحث عنها فلا مكان لها غير خم الدجاجات ، ولكن ما إن خرج من بيته حتى
شاهدها مرمية وسط الدجاج وهو يأكل من بين يديها حبيبات القمح ، أسرع إليها
وإحتضنها بجنون ، ونادها فلا ترد ، كانت فاتحة لعيونها وفمها عن اَخرهم
صرخ ونادها حتى سمعه أقرب جار فهرول نحوه يساعده على حملها إلى
الداخل .
.......... ........ ..........
إنتهت والدة عبدوا وهاهو يعيش وحيدا ، لكنه منذ أيام غاب عن أصدقائه ومن
حوله ، وإفتقده صديقاه خلف وماجد فلم يظهر لا في الحقل ولا في الشارع ولا
يتقاضى من السوق وهذا الصيف يمر ، ويحل الخريف مكانه ، وذات صباح
طرق بابه صديقه ماجد ولما إستبطأه ناداه من خارج بيته ، ولا أحد يرد وراح
يكرر ويصر حتى أتاه صوت خافت من داخل البيت ، صوت باهت مبحوح
لشخص معلول :
ماجد ، تعالى أنا هنا .
ماجد : الباب مغلق
إعتمد عبدوا على مابقي معه من قوة وزحف بأقدام لم يبقى منها إلا العظام
به من الحياة القليل ، شحوب وفتور وتقلص لقواه ، جسد كما الجثة الهامدة
السائرة في ضرورة بالغة ، فتح بابه فقابله صديق عمره ماجد ، وظهر من هناك
خلف يعدوا نحوى صديقاه فإنتظراه حتى إنضمَّ إليهما :
عانقاه وشدا عليه وهم يدعو له بالشفاء .
ماجد : هل أنت عبدوا ؟
تبسم بسمة لا تكاد تميزها عن البكاء وقال :
أنا عبدوا وكما ترى ..وهما يسيران به إلى فراشه .
خلف : قلْ لي ماذا حدث ، لمْ تكن تَظهر الشكوى من شيء ، ماذا حدث ؟
عبدوا : أشكو قدمي ، وهو يستريح في فراشه بفناء بيته ، لم يعودا يقويا على
حملي ، لا أذهب إلى مكان إلاَّ بشق الأنفس .
ماجد : والطبيب هل راجعته ؟ ماذا قال ؟
عبدوا : لم يحنْ موعده بعد .
نظر ماجد إلى عبدوا مبحلقا وقال :
أهذا كلام ، وخرج مُسرعا متوعدًا صديقاه بالعودة السريعة .
دخل عبدوا المستشفى الجامعي لمدينة مغنية ، ومكث بها بإشارة من الطبيب
فقدمَا الشاب تحتاج إلى تعيير وتحليل وأشعة ليعرف مكمن المرض ، لم يغفل
عليه أصدقائه من القرية وأما ماجد وخلف فلزماه كل صباح ومساء ، حكى
عبدوا لصديقه خلف عن منام يزوره كل ليلة فهو يرى أن له عائلة وأولاد وزوجة
وأبناء ويملك بستان ويعيش في نعمة .
طمأنه خلف ودعا له بالشفاء والعودة العاجلة لحياته ، ترك صديقه ليرتاح في
إنتظار زيارة الطبيب له وإخباره بنتائج التحاليل .
مر الزمن وهاهي نتائج التحاليل تظهر ، لم يشأ أصدقائه إخباره حتى يقوم
الطبيب المعالج بذلك ، لكن إلحاح عبدوا إزداد حتى قال له ماجد :
في ساقك اليمنى ورم لا يعالج والحل الوحيد هو بتر الساق .
تلعثم عبدوا ، وتثبتت نظراته بعيون صديقه وعاب في ملامحه حتى قال خلف :
عبدوا أنت أشجع من هذا المرض ، الشفاء من عند الله فلا تيأس ولا تهتم .
أمل عبدوا في شفاء من الله ونام قرير العين حتى دخل عليه خلف وماجد وهما
يتحدثا ، ماجد : ماذا قال الطبيب ؟
خلف : كل شيء جاهز العملية صبيحة الغد وتلفت إلى عبدوا :
كيف حالك ؟
عبدوا : الألم لا يتركوني أنام جيدا .
ماجد : لا تهتم غدًا سترتاح .
هنا دخلت الحاجة أسيا والدة خلف يجرها أخوه حميد ، ولم يكونا قد غفلا
عبدوا زمن طويل ، سلما عليه وجلسا إلى جانبه .
ماجد مخاطبًا عبدوا : أتذكر العام الماضي ، عندما جَريت حافيا خوفًا من الكلب؟
أتذكر ما سبب جرحك بقدمك هو المسمار أو سلك النحاس المصدى ، لقد ترك
بجسدك السم وهاهي نتائجه هذا العام ..
سَكت عبدوا لكن العجوز لا تزال تُهدأه بكلماتها الطيبة : المرض قدرٌ فلا تهتم يا
بني ، كلنا أمام إمتحان الصحة .
سكن جسد عبدوا مرض عضال ، وعاش به مرض سرطان العظم وتركز بساقه
الأيمن ، ممدد بسريره بالمستشفى الجامعي بمغنية منذ أيام ينتظر العملية ، لكن
الأمل رسم ملامحه ، وشرد في حياته الماضية ، مرت به أيام لا تزال تتحفر
بقلبه وأخرى غيرت نظرته للناس ومن حوله ، وأحداث عرفته بناس أحبهم و
أحبوه ، ولكن لامفر من الأقدار المحتومة ، وحتى هذا الصباح لا يزال أمل شفائه
يعش فيه ، ويجعله مرتاحا .
هذا الصباح عادته العجوز أسيا والدة خلف وإبنها الصغير"حميد" فوجدته بغرفة
العمليات ، وأمام الباب صديقاه خلف وماجد في صمت وحيرة ينتظرا خروج
الطبيب ، حملت العجوز معها طعام وفاكهة لعبدوا وجلست على الكرسي تنتظر
وهاهو الطبيب يلبس الأزرق يفتح باب غرفة العمليات ويخرج ، نزع الكمامة
عن شمه وفمه وقال والعياء يقبع على أنفاسه :
لقد فقد النطق وبترت ساقه وواصل وهو قطع رحلة طويلة يتأمل العيون المحوطة
به ليصدر اَخر تصريح :
لقد أخذ مرض العضال كل نقطة بجسمه ، وعاش في عضلاته ولم ينتهي منه
حتى أخذه فريسة له، وإنتشرت في داخله أمراض ليس لها طبيب فالحياة لكم .
وقف جميعهم أمام زجاج غرفة العمليات الذي فتح لهم، ونظروا إلى عبدوا وهو
ملفوف في قماش أبيض لا حركة .
وتسمَّع من حوله صَوته الخفي والحنين والشوق لعيون غربت عنهم ، ومضى
كمن لم يجمع ولم يكتسب ، لا إعتراض على الموت ، بل هي السيدة وهي البراءة
والطهارة أحيانًا كثيرة ، هي خلو ذ مّة من يأس من المرض ، لقد ترك ثماره و
سنابل القمح لمن يأتي بعده ، وكل العشوائية وهمج الحدود ، تشابكت الغيوم في
عشوائية وتحاورت الأقمار ساخرة مما أتى أهل الأرض ، فالموت وحشة النفس
ومصير كل النفوس لا يوجد من لا يرضى بها .نبذت القلوب الحزن لكنَّها
رضيت في خضوع بالقضاء ، قلوب تمتطي الشهوة ثم عنها تزول .
دُفن عبدوا بأرضه وقبره حبات التراب التي عاش منها ، هنا لا من يطارده
ولا من يشكك فيه ، لقد إنتهت المطاردة وأهالي القرية يغادرون قبره على
حافة الوادي ، وإنصرف محافظ الدائرة المغربية مع المنصرفين في يوم هبت
فيه نسمات رطبة من أيام خريف لالة عيشة وقرية باب العسَّة الحدودية .
أيتها الحياة هاتي أقسى ماعندك ، فإنني لم أعد أتأثر فلقد تأملت بما يكفي .
وعبدوا كان إنسان هادئ ، حتى فسّر من حوله هدوءه خوفًا ، لأن عبدوا
تربى على الإحترام بشقيه نفسه وغيره ، والبعض فسر صِدقه وتعايشه مع الغير
بالغباء لأنّه لم يعتد على جمال القلوب مثل القلب الذي كان عند عبدوا .
فأجمل ما في الأحزان أنَّها ستنتهي حتمًا ، وأجمل ما في اليأس أنَّه ينحني أمام
الثبات ، وأجمل ما في التمني أنَّه لا ينقطع مادام هناك من عند الله الرد .
فلا تقسوا على نفسك كأن تعيش على إرضاء الاَخرين ليعيشوا هم على يأس
بداخلك ؟ وممكن للإنسان العظيم أن يضجر ويقلق وأن يغضب أمَّا أن يحقد فلا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق