اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

أنمار رحمة الله.. واسألهُم عن القريـــــــــة

هاتف بشبوش*
أنمار رحمة الله الأعرجي، قاصّ وكاتب وعضو في الاتحاد العام للأدباء العراقي . أسّس مع مجموعة من الأدباء الشباب (نادي الشعر للشباب) في اتحاد الأدباء2007. فاز في المركز الثّاني في الشّعر في مسابقة وزارة التربية للأدباء التربويين (المنطقة الجنوبية) سنة2011 بقصيدة (الوطن الحوت)، و في سنة 2012 عن قصيدة (الاعتراف الأخير). عُضو مُؤسس ومُشارك في (بيت السّرد العربي) الذي أقيم مهرجانه في النجف سنة 2011 ونال عدّة دُروع شهادات تقديرية من خلال مشاركاته في عدة مهرجانات من ضمنها
(مهرجان الوركاء) ودرع المشاركة في مهرجان (بيت السّرد العربي) ودرع تقديري من وزارة الثقافة (دائرة العلاقات العامة).
أصدرت له مجموعة قصصيّة ( عودة الكومينداتور) و له تحت الطبع مجموعة نُصوص عنوانها ( رائحة الخيالات ) ، رواية تحت عنوان (الصراخ) و مجموعة قصصيّة (بائع القلق). أنمار رحمة الله استطاع أن يصل إلى مركز مرموق في مجال السّرد المُكثّف بمدلولاته الاجتماعية والسياسية وما يتعلّقُ بالوجود و الحبّ . أنمار في مجموعته قيد دراستنا هذه (و اسألهم عن القريـــــــــة ) يرسمُ الموعظة من خلال مُجتمع مُصغّر وهي القرية التي اتّخذت مُعظم الجزء الأوّل في مجموعته هذه والتي استعان بها كاستعارة واقعية باعتبارها تُمثّل النّقاء في أجوائها الطقسيّة ثمّ المجتمعيّة المُصغّرة والتي نستطيعُ الانطلاق من خلالها إلى ما نبتغي إيصاله للقارئ في التّوسعة الأفقيّة والمكانيّة وحجم المُجتمع. وقد اعتمد أنمار في بوحه على أبطاله الذين اتّخذوا أدوارا مُهمّة في كلّ قصّة، و اتّخذوا اسم القصّة نفسها، مثلا قصّة الرسّام ، الحكّاء ، العازف ، المُعلّم ، وغيرها .
حيث أنّ القصص جميعها تمثّلت في بُطولة خالصة فرديّة فأعطاها الطبيعة الرونقيّة المُذهلة ، إذ أنّ القارئ يميلُ للتّعاطُف مع البطل وخُصوصا البطل الذي يحملُ عُنصر الخير لا الشرّ. القارئ يميلُ للاستمتاع بقراءة القصص البطوليّة مثلما الاستمتاع الأكثر تشويقا في السينما وكيف نرى البطل يقوم بدور تحقيق العدالة ولو على نطاق ضيّق لكنّها في المعنى العامّ تُفيد من أنّ البطل هذا هو المُخلّص أو هو المُنقذ للشّعوب من الظّلم والحيف الذي يحلّ بها . ومن خلال أولئك الأبطال ينطلقُ أنمار إلى الشريحة الاجتماعية التي عاشوا فيها وما هي ردّة فعل المجتمعات هذه على أولئك الأبطال و ما هي العلاقة المفصليّة بين الأبطال وطبيعة تلك المجتمعات .أضف إلى ذلك يعتمدُ أنمار على إيصال الفكرة النهائية للقارئ بشكل صدمة أو هزّة عنيفة بحيث أنّ القاريْ مُجبر على الشّعور بها بدراية تامّة مثل أنّ أبطال القصص جميعهم كانوا على إدراك عميق بما يفعلونهُ و يستوجبُ المضيّ في فعله وإتمام ما يريدون أن يصبّوا إليه في ذلك المجتمع الذي يعيشون فيه مثلما حصل للفنان الهولندي الرسام فان كوخ وكيفية إرتعاشته الرهيبة أثناء قطع إذنه والصّدمة التي نتلقّاها ونحن نقرؤه أو نراه في الفيلم الجميل الذي مثّله كيرك دوكلاص وصديقه أنتوني كوين. فإنّ ما قام به فان كوخ من فعلٍ مستحيل اتّجاه صديقه وتقديمه أذنه كهدية ، ومن ثمّ ردّة فعل المجتمع جعلت من هذا الفنّان مشهورا على مرّ التأريخ لأنّ الذي قام به هو ليس ضمن النّطاق الاعتيادي لأخلاق البشر وتضحيّاتهم وفدائهم بل هو حالة لا يُمكنُ لها أن تتكرّر .
لنقرأ قصة أنمار الأولى من مجموعته هذه ( واسألهم عن القرية) حول الرسّام و ما قام به والذي هو الآخر مُعجبٌ بالطبيعة وجمالاتها كما فان كوخ الذي كان مُولّعا بالطبيعة واخضرارها و وُرودها وأشجارها وسحرها و طيوبها.

قصّة الرسّام.

القصّة تتحدّث عن قرية جُلّ أهلها نرجسيّون لا يرون جميلا سواهم كما نيرسس الأمير المُتبختر بنفسه حيث كان يرى صورته في المرآة مُتعجّبا مُنذهلا من جماله ولم يقبل بأيّ إمرأة أقلّ جمالا منه حتى انحنى ظهره من كثرة النّظر لنفسه في الماء فجاء المُصطلح الشّهير منه بما يُعرف بالنّرجسيّة ونبات النّرجس المُنحني على الماء . و لذلك الجمالُ لا يكفي مع النّفس السّوداء.
الكثير في العراق اليوم من الجهلة ينظرون إلى المُعمّمين و يقولون عن وجوههم تشعُّ نورا و جمالا لكنّهم في حقيقة الأمر ممسوسين لا يتورّعون في فعل العمل القبيح فما الفائدة التي تُرتجى من وجوههم المُشعّة نورا طالما لا نعرفُ منهم غير القُبح الذي جعل شعبا غالبيتهُ يميلُ إلى الرّشوة والسّرقة والفعل الدنيء لأنّ من يترأسُ السّلطة هم على شاكلة ما جاء في قصّة القاصّ أنمار هذه، مُتديّنون نرجسيّون يرون أنفسهم و وجوهم على أنّها مُزيّنة من السّماء لكنّ الأفعال مُؤطّرة بكلّ طحالب و إشنات هذا البلد المُتعب . بطلُ القصّة الرسّام القبيح في الخلق لكنّه صانعُ الجمال والمنظر ذو الرّوح الطيّبة ، أراد أن يرسُم أحد الوجوه الجميلة في هذه القرية لكنّهم يطردونه بسبب قباحة وجهه و لم يتركوه يرسُم طبيعتهم وصُورهمْ ولا حتّى أطفالهمْ ، لأنّ أطفالهُم يموتون عند الولادة ولهم مقبرة خاصّة وهذه أحد علامات غضب آلهة الخصب على هذه القرية القبيحة بأفعالها كما يحصلُ في عراق اليوم من قتل فضيع للطّفولة نتيجة العنف الذي يحمله العراقيّ ، حيثُ تختلط البشاعة مع الجمال فلا نعرفُ كيف نُميّز الصّالح من الطّالح كما حصل مع الرسّام بطل القصّة هذه حين خرج يرقُصُ أثناء المطر في القرية (أُحبُّ المشي تحت المطر،لأنّه لا أحــد يرى دُموعي … شارلي شابلن) .
ظلّ يرقُصُ ربّما كرقصة هارلم شيك نسبة لحي هارلم في نيويورك و التي أطلقها الشابّ الأمريكي (آل بي) لأولّ مرة سنة 1981. الرسّام يرقصُ فيراه أهلُ القرية ويتجمّعون حوله كي يطردوه وهم تحت المطر فسالت أصباغُ وجوههم وغسلها المطر و تبيّنتْ وجوههم الحقيقيّة القبيحة، وظلّ زعيم القرية يصرخُ: أين القبيح ؟ أين القبيح ؟ فلم يجدوه لأنّهم أصبحوا مثله فاختلط القبيح مع الجميل كما يحصلُ في عراق اليوم من خلطة اجتماعية عجيبة غريبة، لأنّه وإن أردنا الاعتراف بالجيّد في بعض شرائح الدولة و سارقيها لا نستطيع أن نُشخّص الجميل من القبيح لأنّ الحابل اختلط بالنّابل وأصبحت ظاهرة السّرقة أكبرُ ممّا نتصوّر ، فعلينا أن نقول ونصرُخ مثلما كان يقولها الفيلسوف الدنماركي كريكجارد ( إذا رأيت كاهناً ، صِحْ ، حرامي ، حرامي ، حرامي).
نرى ممّا قلناه أعلاه من أنّ الجمال هو التصرّف المُمكن خارج نطاق التّقليد الاجتماعي ، دون المساس بالأخلاق العامّة، هو احترام الآخرين بقدر إبداعهم، وهناك من جسّد الجمال الرّوحي في أعلى صُوره إنّه ماركس العظيم حين مرضت زوجته (جيني) بالجدري وشُفيت منه ترك لها المرضُ بعض النّدوب في وجهها ، فراح يقول لها : إنّك مازلت أجمل من ذي قبل ، لكنّه المقتنع، و لذلك أصبح ماركس أشهرُ رجل في العالم احترم زوجته وأحبّها حُبّا روحيّا حقيقيّا خالصا.
يتجوّلُ الرسّام في القرية وتحت المطر، فيصادفُ امرأة عجوزا تقولُ في ريبتها :
(ألا تخاف من المطر..؟)،أجابها مبتهجاً : ( الأطفال يعشقون المطر ).
لم تقل له شيئاً، رجعت إلى غرفتها لكن الرسّام أوقفها مُستفسراً هذه المرّة: (سيّدتي أرجوك لديّ سؤال!). صدعت لطلبه وهزّت رأسها مُستفسرة عن سُؤاله حين قال:( لم أر في القرية أطفالاً منذ حُضوري و إلى هذه اللحظة؟). تنهّدت ثم أشارت بسبّابتها صوب مدخل القرية متسائلة: (هل رأيت القبور التي تملأ المكان هناك؟).

الرسّامُ يخرجُ في المطر ويرقصُ وكأنّه طفلا مبهورا بجمال المطر والطبيعة إذ أنّ أكثر الانبهار أمام اللّوحة والطبيعة يأتي من الأطفال ، لكنّه يتداركُ فجأة من أنّ القرية لا يتواجدُ بها أطفالٌ فتخبرهُ العجوز من أنّ القرية كلّما أنجبت طفلا يموتُ وهناك مقبرتهم وهذا هو حال القرية منذ زمن، فيتبيّن هنا من أنّ القرية رغم جمالها لكن عُنصر الخصب والضّرع فيها مقطوعٌ نظرا لسوء أفعالهم.فهؤلاء يبدون لي مثل شياطين و أبالسة بُرهان شاوي الذين تحدّثت عنهم رواياته الموسومة بالمتاهات من أنّهم بوجوه جميلة قادرة على الإغواء لا كما يتصوّرُهُم عامّة النّاس من أنّ الشياطين قبيحي المنظر ، ولذلك يأتي الشّيطان بهيئته الشّقراء الفارعة في الطّول كي يغوي النّساء أو لفعل جريمة ما .
الذي يصنعُ الجمال في بعض الأحيان لديه عاهةٌ معيّنةٌ و لذلك تمنحُه الطبيعة خصلة أخرى كي يُعوّض ما ينقُصه ، أتذكّرُ هناك حلاّقا أردنيا من أمهر الحلاقين في الأردن لكنّه قبيح المنظر ومُعاق وكلّ عروس في الأردن لابُدّ لها أن تتزيّن لدى هذا الحلاّق ، لابُدّ لها أن تعرض خُدودها وخصلات شعرها كي يلهو بها هذا الحلاّق القبيح .
هذا الحلاّق القبيح هو صانعُ الجمال، كما وأنّه أصبح في متناول أقلام العديد من الأدباء. إنّني أرى أنمار رحمة الله هنا ينحى منحى الروائي الألماني مُؤلّف رواية العطر وكيف أنّ القبيح الذي وُلد في مزابل المدينة يصنعُ أجمل العطور للنّساء بعد قتلهنّ وسلخ جلودهنّ ثمّ صنع العطور من عصارة هذه الجلد لكنّ هذا القبيح رغم إجرامه يصوّرُهُ لنا القاصّ الألماني من أنّ له قلبا طيّبا حيثُ تتعاطفُ معه النساء في نهاية المطاف أثناء إعدامه ، وهو يرشُّ عطور الإثارة الجنسيّة عليهنّ فيغتبطن وينتشين في حالة من الخدر المُثير .
ينتقل بنا أنمار من فنّ اللوحة الصّامتة ( الرسّام) إلى فنّ الكلام والحديث والخطابة و ما هو دورها في ثقافة الشّعوب وتقاليدها و ما هي تأثيراتها مُستقبلا انطلاقا من حاضرها ، ينتقلُ بنا إلى قصّة الحكّاء لنر أدناه:

قصّة الحكّاء.

قصّةٌ على غرار ليالي شهرزاد التي تختلقُ قصصا وهي على وسائدها المخمليّة وتطعمُ الملك الشّرير حبّات الفاكهة الطازجة. لكنّ الحكّاء هنا في قصّة أنمار رجلٌ شيخ يموتُ ثمّ يعودُ من القبر و يرى من أنّ أهل القرية لم يستقبلوه ولم يعيروهُ أهميّة كما كان من قبل لأنّ هناك حكواتي شابّ صغير حلّ بدلاً عنه . هكذا هي أحوالُ البشر حالما يموتُ المرءُ يُنسى في الحال وكأنّه مات منذ قرون أو كأنّه لم يعش أصلا. الحياةُ و مصالحها وخُصوصا في بلدان الشّرق وكيف نرى النّاس مُنفضّةّ مِن ليس له فضّة أو نرى النّاس قد ذهبوا إلى من له ذهبُ.
نهوضُ الحكّاء الشّيخ من القبر بهذه الطريقة التي يرويها لنا أنمار تعطينا مدلولات عن الطبّ ، إذا أنّه من المُمكن أن يكون قد مات بالسّكتة القلبيّة التي يُمكن للمرء أن ينهض منها حيّاً من جديد إن شاءت الأقدار ، إذ أنّنا لم نسمع عن شخص نهض من القبر سوى اليعازر الذي أحياه المسيح وأخرجه من قبره وهذا ما نقلته لنا المثيولوجيا الدينية و لا نعرف إن كانت صحيحة أم لا . نهوض الحكّاء من القبر يقتربُ من الفيلم الدّرامي والرّومانسي The Age of Adaline من تمثيل ( هاريسون فورد ) والنجمة الجميلة (بلايك لايفلي)التي تموت في بركة من الثلج وتنهض من جديد وتكتسبُ مناعة ضدّ الزّمن فتبقى محافظة على شبابها و لا تكبُر نتيجة تغيير في هرمون الشيخوخة بينما الآخرون يُطعنون في السنّ وفي نهاية المطاف تتعرّفُ على حبيبها الأوّل وهو في عُمر السبعين بينما ما تزال هي في عمر العشرين ، وتبدأ في صراع بينها وبين الآخرين وطريقة تفكيرهم وعمرها الطّاعن لكنّها شكلاً صغيرة مُثيرة جنسيّاً وباهرة كتفاحةٍ ناضجة ، فيلم فنتازي يُذهل العقول و يعطينا الحقب أن نقول هيّا لحياة المثلى عن تفكير البشر في الأبدية والعيش دون الخوف من الموت .
الشيخ الحكّاء في قصّة أنمار حين يعودُ من الموت يجد أنّ هناك من يقصّ على أهل القرية حكايات عن المستقبل بينما هو بقي و مازال يعيدُ نفس الحكايات التي أكل الدّهر عليها كما هو حال المُعمّمين اليوم الذين يُعيدون نفس القصّة عن الماضي الدّيني المُتخلّف ويُكرّرونها ملايين المرّات دون كلل أو ملل . الشيخ الحكّاء هذا يرى من أنّ الناس قد ذهبت عنه إلى حكّاء شابّ يتكلّمُ عن المستقبل والتطوّر ومن أنّ كلّ شيء في تغيُّر مُستمر . هذا لم يرُقْ الشيخ الحكّاء فيطعنُ الحكّاء الشابّ بخنجر و يُرديه قتيلا . يرجعُ الشّيخ الحكّاء يُريد أن يلقي حكاياته القديمة فلم يجدْ غير نفر جاهل قليل على غرار طه أبي العجائز أو كريم بهلول وغيرهم من جهلاء السّماوة الجائعين الذين يركضون وراء هريسة الحسين . الحكّاء الشّيخ يستفسرُ عن الأمر ولماذا تهجرُه النّاس فيخبرونه من أنّ الحكّاء الشابّ الذي مات ترك كُتبا عديدة وراءه و اليوم الشباب يقرؤونها في بيوتهم ويجتمعون فيما بينهم. وهنا إلتفاتة كبيرة من قبل القاصّ أنمار حول الإبداع في شتّى أجناسه في العلم والشّعر والأدب و من أنّ صاحبهُ لا يموتُ بل يبقى أبد الدّهر هادرا كما الأنهارُ والبحارُ التي لا تموتُ مثلما قالها كزانتزاكيس ( الشّعراء لا يموتون) .
أضفْ إلى ذلك من أنّ القاصّ أنمار أراد إيصال رسالة أخرى وهي من أنّ القديم يندثرُ ويحلُّ محلّهُ الجديد مثلما حصل في مجالات الحياة العديدة ،على سبيل المثال حلّت السيارة والطائرة كوسيلة نقل وكماليات بدلا من الشويهة والبعير والحصان . وفي مجال الغناء والموسيقى حلّت الألحان الجديدة ، مثلما حصل للموسيقار القصبجي وأمّ كلثوم بعد أن جاء المُعاصرون في صنع اللّحن الجديد أمثال السنباطي و الموجي والطويل وغيرهم ممّا جعل أمّ كلثوم تستغني عن القصبجي الذي حزن حزنا كبيرا في ذلك الوقت ، لكن هذه هي الحياة ومُتطلّباتها ونظريّتها في الجدلية المثيرة و أطوارها المستمرّة التي أبدع في إيصالها لنا القاصّ أنمار بهذا السّرد المُريح والمُبهج .
الحكّاء الشيخ يموتُ ولكن كيف يموت؟؟ يموتُ بطريقة مُغايرة ليس كالطريقة التقليديّة في حياتنا، لأنّ أنمار أراد لهذا الموت أن يكون بشكلٍ آخر، من أنّ الحكّاء الشيخ هو الذي يبحثُ عن موته فينظرُ من بعيد إلى حفرة قبر وكأنّها أُعدّتْ لهُ ويسعى لها كيْ يدفن نفسه فيها ، أيْ أراد أنمار البارع هنا أنْ يقول لنا من أنّ القديم والذي أكل الزّمن عليه وشرب يجبُ أن ينتحر ويستحي من نفسه إذا كان ولابُدّ ، فيجبُ على هؤلاء الذين يريدون أن يحكموا العراق بالقديم المتخلّف والمندثر والذي لا ينفعُ سوى أهل القبور ، عليهمْ أن يرموا أنفسهم في الهاوية وبهذا يُريّحوا ويرتاحوا، و إلاّ سينتهون كنهاية المُجرم صدام ،لأنّ الحياة تبغي انقلابا كما قالها يوما جميل صدقي الزهاوي وهو يُشجّعُ المرأة على نزع الحجاب . و بهذه الطّريقة يُنهي الشيخ الحكّاء حياته في حفرةِ قبرٍ لأنّه ما عاد ينفعُ أمام عجلة التّطوّر هذه ، وأمام نظريّة الجدل المُثير التي تقول من أنّ كلّ فكرة جديدة ذاتُ فائدة على البشريّة تُلغي تلك الفكرة القديمة العديمة النّفع التي صدئت بفعل الوقت.
ينتقل بنا أنمار إلى قصّة أخرى نشهدُ فيها نفس نهاية الحكّاء و انتحاره أو حُبّه للموت بدلا من الحياة التي ما عادت تنفعُ في ضررها و قسوتها فيحلّ محلّها الموتُ الذي يكونُ راحة للشّخص المعني في بعض الأحوال كما نقرأ في قصّة المعلّم أدناه وفي القرية أيضا :

قصّة المعلم.

تحكي عنْ حُكم الجاهل للمثقّف وكيف يهربُ المثقّفُ من حُكم الجاهل كما حصل قبل خمسمائة عام وسيطرةُ الكنيسة في حُكمها الجاهل وكيف أعدمتْ الكثير من العلماء و الاستخفاف بعلمهم ومقدرتهم .
هذه القصّة تتحدّثُ عن الحوذي الذي هرب حماره إلى الغابة ولم يعُدْ على طريقة القول الشّهير ( ذهب الحمار وأمّ عمرو فلا الحمار عاد ولا أمّ عمرو) بعد ذلك لم يعرف الحوذي أيّ طريقة أخرى يستطيعُ بها العيش والخلاص من الفقر والبطالة التي حلّت به حتّى جاءه مُعلّم القرية وأنقذهُ من الورطة التي هو فيها ، حيثُ قدّم له المساعدة الجليّة فلمْ يُصدّق الحوذي، فأجابه المعلم:
(نعم …سوف أساعدك…طلبات التّوصيل أجّلها إلى الليل، و أنا و أنت سننقلها بالعربة ذاتها، سأجرّها …واللّيل سيكون ساتراً لي و لك، إلى أن تجمع مالاً كافيا يُساعدك على شراء حمار آخر بدل الذي هرب) .
يعني من أنّ المعلم صيّر نفسه حماراً، لكنّ الجاهل بدل أنْ يشكُر المعلّم على صنيعه راح يضربهُ بالسّوط، على اعتباره حمارا، وهذا ما يُسمّى بـ:عضّ اليد التي امتدّتْ له. في العراق يقولُ الكاتب باقر ياسين بأنّ هناك ظاهرة مستشرية هو أنّ عامل المقهى على سبيل المثال الأميّ يقول للمثقّف المؤلّف للكتب وهو يقدّم له قدح الشّاي ( أنت لا تفهمُ شيئا )، هذه الظّاهرة موجودة منذُ زمن الخليفة المأمون ورأيه بعامّة الشعب والذي اشتهر في التاريخ العربيّ الإسلاميّ بأنّه من أسّس ” دار الحكمة ” وكان يقرّب العلماء والمفكّرين في عصره،لكنّ بطون الكُتب لاسيما في ” اللّطائف ” للمقدّسي تنقل لنا قولاً له في الإنسان العادي الذي نسمّيه اليوم “المواطن”، وفي ” العامّة ” من نُطلق عليه مالي و ملفظ ” الشّعب “..جاء في قوله:
(” كل شرّ أو ضرّ في الدّنيا إنّما هو صادر من السّفهاء والعامّة،فإنّهم قتلة الأنبياء والأولياء والأصفياء،وهم المُضربون بين العلماء والنّمامون بين الأمراء،والسّاعون إلى السّلاطين،ومنهم اللّصوص والسّراق و القطاع و الطرارون والجلادون ومثيرو الفتن والمغيرون على الأموال).

المعلّم في قصّتنا أعلاه يضيقُ ذرعا من الحوذي و قسْوته فيُفكّرُ بالهروب إلى الغابة كما هرب حمار الحوذي فهناك الحياة أفضل حيث الوحوش الضاريّة فهي أرحمُ من البشر لنر ماذا قال المعلّم :
(لا مكان لي سوى الغابة البعيدة،حيث تنتظرني الوحوش والذئاب…! لكنّني سأكتشفُ فرصتي هناك، أفضل من الذلُّ والقهر والمرض والمهانة.سأهربُ إلى الغابة، لا مجال لديّ للتّفكير، سأقطعُ الحبل المربوط بعنقي و أنجو بنفسي… الغابة أرحمُ).

يهربُ المعلّم إلى الغابة ولم يعدْ و تنتهي القصّة بمشهد مُحيّرٍ وهو قدوم مُعلّم آخر إلى القرية مُتهندم وأنيق و يبدو عليه سوف يلقى نفس المصير الذي لقيه زميله المعلّم الأوّل . رسالة رائعة من قبل القاصّ أنمار حول المصائر التي تنتظرُ مثقّفينا وسط مجتمعات لا تريدُ أن تتعلّم أو ترى التّنوير بل تُفضّل البقاء على حالها وتقاليدها التي لا تصلُحُ لهذا الزّمن الجديد زمن التكنولوجيا الذي قارب في أن تكون رحلاته إلى المجرّات الأخرى ، بل يريد البقاء في مكانه مراوحا حامدا الربّ على لا شيء .
أنمار استطاع أن يعزف لنا سيمفونيّة رائعة احتوت على خلطة من كافّة أصناف المجتمع و مهنها المختلفة ، ولذلك جاءت لنا القصّة الرائعة أدناه ( العازف) :
الـــعازف.

يُصوّرُ لنا أنمار كيف أنّ الموسيقى مُهمّة في عالم السّمع فهي التي تتعلّقُ بدربة الأذن ، فبدون هذه يتحوّلُ الإنسان إلى حيوان يستخدم الإيماءات والإشارات ، الموسيقى لازمت كلّ الشّعوب منذ العصر البدائي مع الآلة البسيطة للعزف حتّى اليوم لنرى الموسيقى تحتلُّ المركز المتقدّم لثقافة الشّعوب لأنّها تُساعد على إفراز هُرمون السّعادة ، لذلك نُشاهد اليوم العديد من المطربين في كافّة أنحاء العالم حتّى أصبح الطرب مهنة تدرُّ على صاحبها الملايين من الدولارات أمثال المُغنّي الرّاحل مايكل جاكسون ومادونا و بريتني إلى كاظم السّاهر إلى العازف نصير شمة والكثير من المطربات العربيات اللواتي تحتلن مراتب مُتقدّمة في الثّراء نتيجة العزف والطّرب والموسيقى التي تمنحُ السّعادة و الهناء للفرد .
في هذه القصّة يتحدّث أنمار عن قرية فقدت السّمع نتيجة الصّرخة المدويّة القادمة من السّماء أو من باطن الأرض فأدّت إلى فقدان سمعهم و أنّ المولود يأتي بدون صيوان ، و لذلك أهل القرية يحتفلون كلّ سنة (بعيد الصّرخة ) . لنقرأ السّرد الخلاّب أدناه و ما قاله أنمار :
(منذ مئات السّنين أرعدت (الصّرخةُ).ولم يُميّز أهل القرية في ذلك الحين المكان الذي أتتْ منه. فبعضهم قال أنّه أنزلتْ من السّماء، وبعضهم قال من باطن الأرض. فتصارعت الآراء،واختلطت الأحكام. لكنّ الحقيقة الماثلة أنّ أهل القرية فقدوا السّمع من ساعتها.ولم يكتفوا بالصّمم، بل توارثوه جيلاً بعد جيل.ومع جريان الأيّام في أودية السّنين، اختفت آذانهم، بعد أن تضاءلت شيئاً فشيئاً، حتى صار المولودُ يُولد بلا أذُنين) .

حتّى جاء عازف الكمان يعزفُ لهُم لحنا لكنّ أهل القرية أعطوه الجفاء وبقيت الحيوانات هي التي تستلذُّ بأنغامه ، فراحت القرية تخافُ من هذه الفتنة التي أشعلها العازف بينهم وبين الحيوانات التي أحبّت النّغم ، فاجتمعوا بعيد الصّرخة على طرد العازف ، لكنّ العازف ظلّ يعزفُ في الظّلام مُتخفّيا حتّى طربت القرية على أنغامه وغفت ليلتها هادئة مُطمئنة بينما هو يرحلُ من القرية مطرودا ، لكنّ النسوة لم تعرفن من أنهنّ ولدن صغارا بصواوين صغيرة .
فيما تقدّم أعلاه وعن التصوّر المُبهر لأنمار حول الموسيقى وأهميّتها لديمومة الحياة ، يجعلني أنقل ما قاله نيتشه بخصوص ذلك (حين تدخلْ مجتمعا ولمْ تسمعْ الموسيقى تيقّنْ أنّه مجتمع دينيّ مع كثرة الجهل و الجوع) ، كما و أنّ هناك الصّرخة الأسطوريّة التي أتتْ من باطن الأرض في عالم الموسيقى حيث أورفيوس و كيف دخل إلى العالم السّفلي لكيْ يستردّ زوجته وقصّته الشّهيرة فيجعلُ الأشجار و الأحجار و الطّيور والبشر برجاله ونسائه يستمعون إلى ألحانه الموسيقيّة .
الموسيقى هي الجبريّة المفروضة على البشر كما جبريّة الطّعام و الجنس والدّفاع عن النّفس، هي الإيقاع الذي خلقهُ الربّ ونثرهُ في الوديان وبين الطيور وزغاريدها وبين الأشجار. الموسيقى هي لُغة عالميّة بصيغ أخرى جميلة تدخلُ الرّوح قسرا ، فكلّ العالم اليوم بشتّى صنوفه وأديانه وقوميّاته له موسيقاه الخاصّة به ،لكنّه يستطيع أن يستلذّ بموسيقى الشّعوب كافّة ومهما كانت ألحانها وصداها . لذلك حينما نستمع لموسيقى شوبرت نجدُ أنفسنا نستمعُ للطيّور و حفيف الأوراق وكلّ ما ينتمي إلى السّعادة في العالم كافّة . الموسيقى هي الفنّ الذي لا يمكنه فعل الخطيئة بل هي التي تعرضُ لنا أجمل النّساء بأجسادهنّ التي تتمايل في الرّقص وهزّ الأرداف ، هي التي رقصتْ في خضم ألحانها تحيّة كاريوكا ، سامية جمال ، سهير زكي ، فيفي عبده وغيرهنّ، الموسيقى تُهذّبُ النّفوس وتُعطيها من الطيبة السّاذجة وسط عالم استهتر بالإنسان الذي هو الآخر أجبرته الظّروف المُدمّرة أن يفقد صوابه ويكون هتراً ولذلك جاءت القصّة أدناه تتكلّم عن هذا الإنسان الذي رسمه لنا أنمار أدناه وقصة الهتر :

الهتــر.

قصّة تحكي عن رجل طيّب أو مخبول فقد صوابه في زمنٍ لا ينفعُ أن يكون ساذجا وسط هذا القتل الرّهيب الذي لا يضاهيه قتلٌ و تدمير بين بشرٍ لا يعرفون الرّحمة في عالم إسلاميّ بات مُقرفاً للغاية .
أنا أرى نتيجة تجوالي و ترحالي لمختلف الشّعوب وأجناسها توصلت إلى نتيجة مفادها أنّ أسوأ إنسان في مختلف الميادين هو الإنسان المُسلم لأن بقيّة الشّعوب قد تخطّت الكثير من المقولات السبعينيّة الشّهيرة على سبيل المثال ( إن لم تكن ذئبا أكلتك الذّئاب ) الإنسان قد وصل إلى السوبرمان ( الإنسان الأعلى ) الذي كان ينادي به ( نيتشه) الكاتب، حيث أنّ هذه الكلمات اندثرت وسط تطوّر الشّعوب ونيلها الحريّة والديمقراطيّة فارتقتْ إلى المستويات العليا وحتّى الألماني الشّهير . بينما المُسلم أصبح أكثرُ افتراسا وحقدا و فتكا لبني جلدته وبدون أدنى رحمة وليس له سوى أن يدّعي بحضارته العريقة الزائفة بينما الحريّة نالها الفرد قبل الحضارة (ليستْ حُريّة الفرد من الحضارة فهذه الحريّة كانتْ في أقصى درجاتها قبل نشوء الحضارة….فرويد) .
يُصوّر لنا أنمار من أنّ الإنسان الطيّب ذو الأخلاق الحميدة أو الهتر لا يستطيعُ مجاراة الحياة وسط بشرٍ تذأّبتْ و تأسّدتْ على بعضها البعض فلا مكان للطيّبين المسالمين بل يستحقّون الموت كي لا يكونون عبرة في الأخلاق الحميدة وخصوصا أولئك المثقّفين وأصحاب المؤلّفات ومُحبّي الكتب كما يبيّن القاصّ أنمار حيث يُقتل الهتر وسط الكتب أو يُخنق .وهنا لابدّ لي أنْ أتوقّّف في حادثة شهيرة تعرّض لها “إبن رشد” عندما أصدر رجال الدّين فتواهُم بحرق جميع كتبهُ،خوفاً من تدريسها لما تحتويه من مفاسد و كُفر و فُجور و هرطقة وبالفعل زحف النّاس و أحرقوا كتبهُ جميعها حتّى أصبحتْ رماداً .. حينها بكى أحد تلامذتهُ بحرقةٍ شديدة .. فقال لهُ إبن رشد :
( يا بُنيّ لو كُنت تبكي على الكُتب المُحترقة فأعلمْ أن للأفكار أجنحة وهي تطيرُ بها إلى أصحابها،لكن لو كُنت تبكي على حال العرب والمُسلمين فأعلمْ أنّ بحار العالم لنْ تكفي بكتاب ضخم حتّى الموت) . أيضا أنا أرى هنا منْ أنّ القاصّ أنمار يقتربُ من تلك المسرحيّة التي تتناولُ الملك الفرنسي لويس السّادس عشر الذي قتل أخاه الطيّب ، لنقرأ ماذا قال أنمار أدناه حين يقتلُ أحد الأصدقاء صديقه الهتر :
(عذراً فأنا لم أقتلكَ إلاّ بدافع أنْ أريحك وأريح نفسي من همِّك وثقل طيبتك وسذاجتك. بعد تجرّع شراب الصبر في سنوات صحبتك،وأكوام من النصائح التي لم تفلح يوماً معك،صارحتك بأنْ لا عيش في قريتنا لأمثالك،وأردتُ إقناعك بغلقِ سدود حزمك أمام طوفان محبتك الهائج،ورسمتُ لك خريطة حياتك،إذ خططتها بالحيلة ولوّنتُها بقليل من الغدر،وحدَّدتُ لك فيها اتجاهات المجاملات والنّفاق والتَّصنّع.لكنّك أبيتَ وعاندتَ فذقْ ما طبختهُ أنتَ،وتلذَّذ بما عصرْتَه من ثمار صدقك أنت) .

يتجلّى هنا ما قاله الملك لويس السادس عشر الفرنسي حين قتل أخاه نتيجة لطيبته وسذاجته وكان الملك مُتعطّشا للدّماء وقتل الكثيرين حتّى أخيه الطيب لم يسلمْ منه فقبل أنْ يقتلهُ قال له : ( أخي الطيّب والمُحبّ والسّاذج أنت لا تصلحُ للأرض بل للجنّة والعالم السّفلي أو بالقرب من ربّك الرّحيم ..أمّا أنا فقد قطعتُ شوطا كبيرا مع الدّم ولا مجال هنا للنّكوص والعودة من جديد إلى الأخلاق والأخذ بنصائحك والكفّ عن الدّم … ولذلك سأرسلُك سريعا إلى جنان الخلد فأنت تصلحُ هناك وليْس هنا ..فقتله دون أدنى رحمة أو أسف ) .. هذا ما يطرحهُ لنا القاصّ البارع أنمار في سرده أعلاه قبل أنْ ينتقل بنا إلى القسم الثّاني من المجموعة والذي ينحى منحى آخراً و بُعدا آخراً في التفكير و تكونُ أحداثها في المدينة أكثرُ منها في القرية حيثُ الصّراع على النفوذ يكونُ أكثرُ بشاعة و جشعا. لنر ذلك في القصّة الأولى من القسم الثاني وقصّة التّوأم :

قصة التّوأم .

تتناولُ الصّراع الفكري بين البشر حتى لو كانوا إخوة حتّى لو كانوا توأمين أو كما ( الإخوة كارامازوف) للكاتب الروسي دوستويفسكي التي تناولها العديد من أدباء العالم وكتبوا على غرارها وأنتجتْ السينما العالمية الكثير من الأفلام حول موضوع الأخوّة والصّراع الدائر بينهم وهناك فيلما عربيا جميلا من تمثيل عمالقة الفنّ المصري ( نور الشريف ، حسين فهمي ، محمود عبد العزيز) حيث يتناولُ الفيلم الصّراع على المال الموروث من أبيهم الرّجل الدّيني الكذّاب الذي كان يُتاجرُ بالمخدّرات لكنّه أمام الناس الحاجّ والورع والمُحترم .قصّة يتناولها أنمار بشكل مُثير ، حيث يتصارعُ الأخوان التوأمين برأسٍين وجسم واحد وشرج واحد وقضيب واحد على تفاصيل صغيرة ثم أخيرا على حُبّ فتاة واحدة كما حصل بين قابيل وهابيل . اليدُ اليمنى تنحازُ إلى الرّأس الأيمن و اليدُ اليُسرى إلى الرّأس الأيسر . إنّهما يختلفان حتّى في تشجيع فريقين لكرة القدم ثمّ في الانتخاب حيث يأمرُ المسؤول عن الانتخاب بالسّماح لأصبع واحد منهما للانتخاب لأنّ كُلّ إصبع يريدُ أن ينتخب الحزب الذي يفضّله . وأخيرا يتشاجران على نزاعٍ كبير وهو حُبّ فتاة ممّا يضطرّ أحدهما ضرب الآخر على رأسه فيرديه قتيلا ، ولذلك أطلقوا على النّزاع من أجل المرأة بالمنازعات الكبرى كما حصل للشاعر الروسي بوشكين الذي تنازل مع أحد النبلاء وجها لوجه من أجل امرأة وقُتل بوشكين على أثرها بضربة سيف .
الأخُ التّوأمُ حين يقتلُ أخاه يتألمُ ويندمُ ويلات ساعة مندم ، حيثُ يجدُ نفسه وحيدا في عزلته وما من أنيس لقضاء الوقت القاتل . هذا هو طبعُ البشر الذي يميلُ إلى الصّراع الدّائم والدامي على مرّ العصور . فهنا نجدُ من أنّ القاصّ أنمار يتناولُ مسألة الصّراع الذي أورثه البشر منذُ الأزل سواء إنْ كان صراعا طبقيّا أو فكريّا أو صراع المنازعات الكبرى، بحيث أنّ الإنسان لو نظر لنفسه في المرايا لخجل من نفسه أو تحوّل إلى إنسان متمادي في حُبّ ذاته ونرجسيته . لنرى أنمار ماذا قال في قصّته أدناه بعنوان المرايا حول ذلك :

المرايا.

القصّة تتحدّثُ عن شابّ جميل مُثقف يضيقُ ذرعا بقرف حياة المدينة وأهلها وتلوّثها وتصرّفها الجشع في أمور الحياة ، فيذهبُ هذا الشاب الجميل إلى مرآة الماء ليرى نفسه ويتذكّر الطفولة النقية الصافية صفاء الماء الذي رمى فيه الحصى ذات يوم . بينما هو ينظرُ إلى الماء تقفز موجة محمّلة بحصاته فيأخذها ويصعدُ فوق تلّ يُطلّ على مدينته ويرميها بالحصى كتعبير عن احتقاره لقيم كهذه و تقاليد لا ترتقي إلى الإنسانية بشيء ..رميُ الحصى التي يتطرّق لها أنمار هي عادةٌ تقليديّة لدى شعوبنا لطرد الشرّ خُصوصا السّبع حجرات التي تستخدمُها أمّهاتنا في غالب الأحيان.
المرآة تُستخدم للكثير من التفاسير لكنّي سأذكرُ طرفة مُضحكة مُبكية لصديق لي عديم الثقة بنفسه وشكله ، إذ أنّه كان يقف أمام المرآة ويقول لنفسه (شني ربّ العالمين مطلعك إكمال بالخلقة ، يلله ما يخالف.. أنت ليس لديك موعداً مع إحداهن فلا داعٍ للقلق ) . الموعدُ كلمةٌ جميلةٌ تُطلقُ على المواقيت الغرامية ومدى احترامنا لموعد غزليّ مع فتاةٍ قد أخذتْ من تفكيرنا الكثير و أدخلتنا في السّعادة و الانتشاء أو الهمّ على حدّ سواء ، الموعد تلك الكلمة الرائعة التي اشتقّتْ منها الأغنية الجميلة للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ تلك الأغنية التي آنستنا أيام الرومانس والصبا الحزين ، تلك التي إسمها ( موعود) . لكن هذه الكلمة نفسها ( موعود) عذّبتْ وحطّمتْ راحة البال لشعبنا العراقيّ وأقلقت القاصّ أنمار لأيّام وأيّام ولازال حتّى اليوم لكثرة مواعيده ….ليس مع فتاةٍ شقراء أو سمراء أو نحيفة أو طويلة فارعة ، بلْ لكثرة مواعيده الدّقيقة والتي لم تخطأ أبدا وهي المواعيد التي تجمعه مع انقطاع التيار الكهربائي في الصيف اللاّهب وما ينجمُ عقب ذلك من قلق وعدم راحة وضياع الأمن والأمان نتيجة الظّلام من انقطاع التيار الكهربائيّ ، لنقرأ ما قاله أنمار في قصة ( موعد) :

موعـــــــــــــد.

هنا أنمار يُصوّر لنا بأنّ الأمن والأمان يتعلقّ بالعتمة والظّلام ومنهما تأتي الجريمة والفوضى والدّروب الوعرة . وأنا أرى القاصّ أنمار قدْ ضاق ذرعا من كثرة انقطاع التيار الكهربائي في العراق صيفا وشتاءا وبشكل يُثير الاشمئزاز والقرف والتّمرّد على حالة أصبحتْ لا تُطاق . ولذلك راح يُوظّف حالة واقعية كهذه لدى عائلة عراقيّة حيث الأب وفي لحظات الظّلام الدّامس نتيجة انقطاع التيار الكهربائيّ يُعلّم أبناءه في أنْ يتعرّف أحدهمْ على الآخر من الصّوت ، وهنا أنمار يتطرّقُ إلى حالة تستوجبُ الجدل و إلاّ كيف لنا أن نعرف في التلفون مثلا من أنّ الذي نتكلّمُ معه فلان ابن فلان دون أن نراه بلحمه ودمه . و بالفعل يُصوّرُ لنا القاصّ عن طلب أبناء الأب كلٌّ و حسب طلبه فيتعرّف عليهم بالصّوت لنقرأ ذلك أدناه:
(أبي المعلّمة طالبتني بنشرة مدرسية أنا و صديقاتي). فعرفها الأب من أنها فلانة فأجابها:(لك هذا يا نور عيني).الابن الأكبر استغل الفرصة مطالباً بحصته :(أبي أين ما وعدتني به حين أنجح في امتحاني؟.لقد وعدتني بساعة يدوية تزين معصمي). فأذعن الأب موفياً بوعده مع اعتذار.الزوجة وهي تهوّد رضيعها نبهت زوجها:( عزيزي غداً بلا شك سوف نعيد ترتيب الحاجيات مع قليل من الخضروات،وعلبة حليب للرضيع). فردّ ربّ الأسرة بالقبول، وأنّه سيذهب غداً إلى التسوق كما رغبتْ.الأصوات تتدفق صوب أذني ربّ الأسرة.الرضيع استمر باكياً مطالباً بحصته (الحليب). البنت تغنّي نشيداً خافت حفظته مؤخراً، الولد يحلم بساعته الجديدة. الزوجة تتأفف لطول فترة انقطاع الضوء وكآبة العتمة ) .

وعلى حين غرّة تحدُث جريمة في البيت إذ يدخلُ المجرمون مستغلّين الظّلام في البيت ويقتلون أربعة من العائلة.فيصفُ القاصّ لنا كيف الأب ينظرُ إلى الحائط حيث تعلّقت صور أبناءه الأربعة الراحلين نتيجة الجريمة أو نتيجة تفجير حلّ بهم وحلّ الظّلام عليهم ودمّر كلّ شيء كما يحصلُ في عراق اليوم بشكل لا يوصف و لا يُصدّق . هذا هو الظّلام الذي يُوظفه الأدباء بشكل منقطع النّظير في تعبيراتهم الرّمزيّة ، وهذا هو أنمار القاصّ الجميل يُوظّف الظّلام على حالة عراقيّة مازلنا نعيشُها حتّى اليوم وفي كلّ الفصول ولم تنتهي بل حتّى النهاية لنا معها ومع أنمار قصّة رائعة تستوجب قراءتها والتّعرف عليها كما أدناه :

قصّة نهاية.

( إطار سيارة المسؤول يتفاخر حين يهرول على الطريق تخافه إشارات المرور والأرصفة،والإسفلت والحصى والتراب. بعد مدّة ليست بالطويلة. وجدوه مرمياً في ساحة أنقاض، بعد أن تمّ استبداله بإطار جديد. قرّر الانتقام، حين تبرّع بحرق نفسه منتحراً، في مظاهرة قام بها ثلّةٌ من الجياع).

القصّة نابعة من ثورات الجياع في الفترة الأخيرة على غرار البوعزيزي الذي أحرق نفسه منتحرا بعد إن ذاق ذرعا بتصرّف المسؤولين ومنعه من العيش بكرامة وسط الشوارع فأعلن احتجاجه بهذه الطريقة الانتحارية كي ينتقم منهم بشكل آخر وهذا ما كان بمستطاعه فعله ضدّ المُتجبّرين . ومن ثمّ حرق الإطارات في شوارع تونس تعبيرا عن التضامن معه في أحدث احتجاج لهذا القرن الذي نعيشه ضدّ البرجوازية والرّجعيّة والقيم العنيفة ضدّ الفقراء وجياع الشّعوب.
هذه القصة والإطارات أستطيع تناولها من جانب آخر حصل لي أنا كاتب المقال إذ أنا الآخر كنت مسؤولا ،وفي يوم جاءني حارس البوابة يخبرني عن تحطيم إطارات سيارتي الأربع،حيث فعلتها بالسكين من كنتُ أحبّها. هنا وفي هذه القصّة أدناه هو موتُ الإطارات الفعلي على يد إحداهنّ من الجنس اللطيف التي كانت وقتها عبارة عن ثورة أيضا، لكنّها الثورة العارمة في الحبّ، فكتبتُ النصّ أدناه :

في السماوةِ
أيامَ حبّها الأطهرِ من أشرفِ عمائمهم
جاءني حارسُ البوّابةِ
يخبرني عمّا ألمّ بسيارتي اليابانيةِ
ذات الدفع الأحادي
وكيفَ فعلتها مليكة ُالقلبِ
وحطّمتْ إطاراتها الأربعِ بالسكين
في لحظةِ عنفوان .

وبهذا ننتهي من المجموعة المطرية والفنية لأنمار التي هي عبارة عن قطعة من الواقع المعاش مرّة و الفنتازية مرّة أخرى، أنمار مازال قادرا على إدهاشنا هذا يعني أنّه يسردُ في الجانب الصّحيح ، لأنّ الإدهاش يتطلّبُ المعرفة الخالصة في إثارة هرمون الإدهاش و يحتاج الكثير من العناء الإبداعي . أنمار إستطاع أن يُجسّد ما قاله أفلاطون قبل 2400 سنة حين قال: (الإنسانُ يحتاجُ إلى تعليم جيّد وطبع جيّد،لكي يُصبح الأقدس والأكثر تمدناً من بين كلّ الحيوانات،ولكنْ إذا ما لم يتثقّف، أو تثقّف بثقافة خاطئة،سيكونُ الأكثر وحشيّة وهمجيّة من جميع الحيوانات)

شاعر و ناقد عراقي مقيم في الدنمارك

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...