السابقة؛ وهو ما أدى إلى تداعيات وخيمة على صورة إسرائيل عالميا؛ تجلت فى حجم الإدانة والنقد الدولى لتعامل الجيش القاتل مع المتظاهرين السلميين؛ والذين نجحوا فى تثبيت سلمية حراكهم، ومن الواضح أن العالم اقتنع بالرواية الفلسطينية عن الحراك بعكس الرواية الإسرائيلية؛ والتى تدعى عدم سلمية تلك المسيرات ولم تلق روايتها آذان صاغية حتى داخل إسرائيل نفسها.
تؤسس مسيرات العودة اليوم مفهوم قديم متجدد؛ جربه الفلسطينيون قبل ربع قرن من الزمان فى انتفاضة الحجارة 1987 فى ظروف سياسية مشابهة لما تمر به القضية الفلسطينية حاليا، واكتسبت التجربة الفلسطينية فى حينه زخمها وقوتها من عاملين مهمين؛ أولهما استناد الانتفاضة الأولى فى حركتها للإرادة الشعبية الفلسطينية الجامعة وعدم الخضوع لأى أجندة فصائلية أو إقليمية، والعامل الثانى فكان سلمية الانتفاضة والتى اعتمدت المقلاع والحجر كأقوى سلاح يمتلكه الفلسطيني.
وبمقارنة بسيطة بين حراك مسيرة العودة اليوم وانتفاضة الحجارة؛ ندرك أنه ثمة اختلافات فى المشهدين، فطابع السلمية لمسيرة العودة يطغى على المشهد، ولكن ورغم أن الحراك المتواصل منذ أسبوع يتسم بالشعبية والتعددية المطلقة لكل الفلسطينيين فى غزة، إلا أن ثمة جهة متحكمة فى مكانزمات هذا الحراك، وهى حركة حماس الحاكم الفعلى لقطاع غزة، وهو بالتأكيد أمر يحسب لحماس فى قدرتها على حشد الجماهير وتوجيهها رغم الوضع المأساوى الذى آلت له غزة بعد ما يزيد على عقد من الزمن من الحصار.
وهنا ثمة أسئلة جوهرية ومنطقية علينا طرحها حول تطورات هذا الحراك ومستقبله خاصة مع استمرار الانقسام الفلسطينى، فهل حراك مسيرة العودة هو حراك استراتيجى يتعدى فى أهدافه اللحظة السياسية القائمة نحو اعتماد أسلوبه كبديل استراتيجى لأساليب النضال التقليدية الفلسطينية، والتى تنقلت عبر تاريخها بين الخنادق وطاولات التفاوض فى أرقى الفنادق ووصل كلاهما إلى طريق مسدود؛ أم أننا أمام مشهد لحظى سينتهى فى يوم النكبة القادم بتحصيل بعض المكاسب الآنية لصالح قطاع غزة؛ وأخرى استراتيجية لصالح حركة حماس نحو تثبيتها كلاعب سياسى رئيسى، وربما رسمى فى أى ترتيبات إقليمية مستقبلية لتسوية القضية الفلسطينية فى ظل حالة الانقسام الراهن بين شطري الوطن، وهو ما يعنى تثبيت واقع الانقسام وتحوله لانفصال دائم.
مع العلم أن إسرائيل تدرك جيدا أنها أمام حراك شعبى سيتطور بسرعة، ويستعصى على الحل من دون تقديم تنازلات سياسية مؤلمة لها، ولكن عزائها أن هذا الحراك قد نشأ فى رحم الانقسام الفلسطينى، وهى تراهن على أن هذا الحراك الشعبى محكوم من وراء الستار من قبل حركة حماس، وهى أحد أطراف الانقسام، وهو ما يعنى أن ثمة عنوان لهذا الحراك يمكنها التعامل معه منفردا بسياسة العصى والجزرة وتماما كما فعلت فى الانتفاضة الأولى، عندما أعطت جزرة أوسلو لمنظمة التحرير، واضطرت لاعتمادها عنوان فلسطينى معترف به إسرائيليا للخلاص من الانتفاضة الشعبية الأولى، وهى على استعداد اليوم لإعطاء جزرة أخرى لحركة حماس ولكن لن تكون مطلقا بحجم أوسلو الذى يبدو ضخما بالمقارنة بما يمكن أن تعطيه إسرائيل اليوم لغزة دون الضفة الغربية.
وتقف اليوم غزة وحركة حماس أمام لحظة تاريخية فارقة، وبمقدورها أن تغير مسار الصراع جذريا، وذلك إن أدركت بديهيات وأسس انتصار المقاومة السلمية الشعبية على اسرائيل ، والتى تتطلب أن تخاض معركتها فى شطرى وطن غير منقسم وموحد خلف إرادة شعبية يقف الجميع وراءها وليس أمامها قولا وفعلا، وهو ما يتطلب أن تنأى كل القيادات والفصائل بنفسها عن هذا الحراك الجماهيرى ليتطور بشكل طبيعى وينشئ قيادته الخاصة والمستقلة، وأن لا يتعدى دور الفصائل حدود الدعم اللوجستى لفاعلياتها، وهو ما يعنى تطوير الحراك نحو أهداف استراتيجية شاملة تتعدى أى أهداف مناطقية أو فصائلية نحو مفاهيم مستقبلية أوسع لإدارة الصراع باتجاه تفعيل وتمكين الإرادة والمشاركة الشعبية فى القرار السياسى الفلسطينى، وهو ما يعنى ضمنيا إنهاء الانقسام فعليا بالإسراع بإجراء انتخابات ديمقراطية فى شطري الوطن، وليس عبر لقاءات الفنادق التى أثبتت التجربة عدميتها.
وهنا ثمة رسالة للشهيد .. بأن الدماء الطاهرة التى تسيل فى قطاع غزة ليست رخيصة، والشهداء ليسوا أرقام عابرة فى نشرات الأخبار،فوراء كل شهيد أم ثكلى وأب مكلوم وأبناء وزوجة هدمت حياتهم ليبنى مجد وطن، وثمة صرح إنسانى عظيم ينهار مع ارتقاء كل شهيد، صرح شيده الفلسطينى بمعاناته اليومية فى حياة غير طبيعية، وفى أحيانا كثيرة غير إنسانية، ولن يعوض ذوي الشهداء ملء الأرض ذهبا، ولكن تعويضهم الحقيقى أن يبنى بتضحيات هذا الصرح مجدا وطنيا لوطن موحد خلف إرادة شعبية.
د. عبير عبد الرحمن ثابت
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق