يوسف الشايب
"هم الأحد عشر الذين كانوا يجيئون من المخيمات المتفرقة، أو من سكن مجاور لها، بدوا في تلك اللقاءات، بل منذ بدايتها، كأنهم يكملون صداقة جمعت بينهم من قبل. لا شيء كان يعكّر ذلك الإجماع العاطفي.. هذه المودة الجامعة قائمة، لا بد، على ما تتيحه كل الأخوة. وهذه باتت نادرة في زمن احتراب أخوة آخرين واكتشافهم أن من هم معهم، أو من كانوا معهم، ليسوا أخوة لهم. وهذا انتقل إلى النصوص التي تدعو قارئها، فيما أحسب، إلى أن يقرأها
بلطف وحب، على الرغم من الاختلاف بينها، تناولًا ولغة وتجربة ورؤيا"- هذا نزرٌ من تقديم الروائي اللبناني حسن داود لمشروع وكتاب "حكايات من اللجوء الفلسطيني"، الذي قاد ورشة تدريب الكتابة للمشاركين بنصوصهم فيه.
وحمل غلاف الكتاب رقم (11) كبيرًا يضم أسماء المشاركات والمشاركين فيه: سالم ياسين، وميرا صيداوي، وطه يونس، ونادية فهد، ويوسف نعنع، ويافا طلال المصري، وحنين محمد رشيد، ووداد طه، وانتصار حجاج، وربا رحمة، ومحمود محمد زيدان، وهو الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت ورام الله، وبدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان التي ربطت في حفل إطلاقه من مقرها أخيرًا ما بين مدينة رام الله ومدن بيروت وحيفا وغزة، عبر تقنية "الربط التلفزيوني" (فيديو كونفرانس).
فكرة الكتاب
برلا عيسى، صاحبة فكرة هذا المشروع، تحدثت من مقر مؤسسة الدراسات الفلسطينية ببيروت، عن "الكتاب/ المشروع"، الذي يأتي في الذكرى السبعين لنكبة الشعب الفلسطيني.
تقول برلا "شكلت الحرب المستمرة والاحتلال والمنفى تاريخ الشعب الفلسطيني، فهم كندف الثلج التي تولد كلها من غيمة واحدة، ثم تتخذ كل ندفة شكلًا وحجمًا خاصًا يقلبها الهواء ويدوّرها ويلف بها صعودًا وهبوطًا... خبرتُ هذا بصورة مباشرة، فأنا التي ولدتُ في لبنان خلال الحرب الأهلية احتجتُ إلى ثلاثة وعشرين عامًا كي أكتشف جذوري الفلسطينية. ولدتُ بهوية لبنانية، ولم أتعرض للتمييز المنهجي والتهميش الاقتصادي اللذين يتعرض لهما اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وظننتُ لأعوام عديدة أن قصتي الشخصية لا ينطبق عليها وصف القصة الفلسطينية، لأنها لا تحمل آثار العنف الجسدي والاقتصادي الذي يطبع حياة الفلسطينيين في لبنان. بمعنى آخر شعرتُ بأنني لا أستحق أن أعدّ فلسطينية، واحتجت إلى بعض الوقت كي أتقبل واقع أن قصتي الشخصية، وعلى الرغم من أنها مختلفة، لا يمكن أن تكون إلا فلسطينية، ولا يمكن أن يتجلى معناها إلا عندما توضع إلى جانب حكايات فلسطينية أخرى".
من هنا نشأت فكرة هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة كتبها لاجئون فلسطينيون في لبنان، ويسردون فيها تجارب من حياتهم الشخصية. إنه خلاصة ورشة تدريبية على الكتابة الإبداعية بعنوان "كتابة اللجوء الفلسطينية عبر السير الذاتية"، نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية خلال شتاء 2016-2017 بدعم من "صلات: روابط من خلال الفنون"، وهو مشروع أطلقته مؤسسة عبد المحسن القطان (فلسطين) بالشراكة مع صندوق الأمير كلاوس (هولندا).
ومشروع "صلات" أطلقته القطان بهدف دعم وتمويل مشاريع فنية وثقافية جديدة في لبنان، تساهم في تعزيز الحياة الثقافية والفنية، ولا سيما في أوساط اللاجئين الفلسطينيين، وتعمل على تمتين صلتهم مع المجتمع اللبناني.
وبالعودة إلى حكاية الكتاب، فقد تم اختيار أحد عشر شخصًا من خلال دعوة مفتوحة إلى المشاركة في هذه الورشة التي أدارها الروائي حسن داود، وتراوحت أعمار المشاركين ما بين العشرين والخمسين، معظمهم من النساء، وهو أمر لم يكن مقصودًا، وفق ما أشارت برلا عيسى، وإنما جاء نتيجة طبيعية للدعوة المفتوحة، حيث تضمنت ورشة العمل اثنتي عشرة جلسة هدفت إلى تدريب لاجئين فلسطينيين من لبنان على كتابة السيرة الذاتية، لتجمع هذه السير في كتاب يروي قصصًا عن حياة اللاجئين الفلسطينيين كتبها أبطال القصص أنفسهم.
تفاعل بطريقة مغايرة
كان السبب وراء تنظيم هذه الورشة الرغبة في التفاعل مع المجتمع الفلسطيني في لبنان بطريقة مغايرة لما هو سائد، إذ كثيرًا ما تنشر مؤسسة الدراسات الفلسطينية بصفتها مؤسسة أكاديمية، أبحاثًا تصف حياتهم وتسرد حكاياتهم، بينما الهدف من هذه الورشة كان إتاحة الفرصة لهؤلاء اللاجئين ليكتبوا عن حياتهم، وأن يتم نشر نصوصهم في كتاب يصدر عن المؤسسة بتوقيعهن وتوقيعهم.
في هذا الكتاب تنوُّعٌ كبير في النصوص، فكل نص يروي حكاية مختلفة تعبّر عن رأي كاتبها. البعض كتب عن الحياة في مخيمات اللجوء من زوايا متعددة، فنجد سالم ياسين يصف ببراعة مرحلة بلوغه سن الرشد في المخيم من خلال ما سمّاه "جريدتنا الشعبية الحرة: الغرافيتي"، بينما تمزج ميرا صيداوي بين المعاش والمتخيّل لتحوّل ما هو اعتيادي إلى استثنائي.
ويتنقل طه يونس بمهارة بين الحاضر والماضي، بين الطفولة والرشد، ليروي تجاربه الشخصية بصراحة صادمة، في حين تصف نادية فهد بشيء من السخرية والبساطة التحديات اليومية التي واجهتها في أثناء اعتنائها بابنتها الصغيرة وبجدّتها المسنة، أما يوسف نعنع فيأخذنا إلى حي "الداعوق" الفلسطيني من خلال سرد يومياته مع عائلته في هذا الحي.
وفضل مشاركون آخرون الاستفادة من هذه الفرصة للتأمل والتفكير، ومنهم يافا مصري التي تحاول تقديم شرح لمعنى المنفى غير مناقشة أحلامها وصداقاتها وعلاقاتها الأسرية، بينما تبحر حنين رشيد في معنى اسمها وصلته بحياة أبيها وجدتها. وفي المقابل تسرد وداد طه قصة حياتها منذ أعوام طفولتها الأولى في الإمارات إلى سنوات شبابها في لبنان ورفضها المجتمع الفلسطيني في هذا البلد.
واختار آخرون الكتابة عن النكبة، فتروي انتصار حجاج التجربة الفلسطينية من خلال قصة خديجة، جدتها لأمها، اللبنانية التي عاشت حياة فلسطينية، بينما تعيدنا ربا رحمة إلى الحاضر المؤلم، إلى النكبة الأحدث: نزوح اللاجئين الفلسطينيين من سوريا وتشردهم.
وفي موضوع هو أقرب إلى الشهادة منه إلى موضوع تعبيري أدبي، يوثق محمود زيدان بتفصيل مؤلم احتلال القوات الإسرائيلية مخيم عين الحلوة عام 1982، كما عاشه عندما كان في سن الثالثة عشرة.
إن الصفة الجامعة لكل هذه القصص تكمن في طابعها الشخصي، ذلك بأنها تروي حياة أناس عاديين نادرًا ما نسمع منهم. ولا حاجة إلى قول المزيد، فالقصص كفيلة بسرد الحكاية كلها.
معنى أن يكون
الكاتبُ لاجئًا
من حيفا تحدث الكاتب أنطوان شلحت عن المشاعر المختلطة التي انتابته إزاء الكتاب. وقال: ثمة تفاصيل ممتعة تنطوي عليها كل حكاية على حدة، لافتًا إلى أن أهمية "حكايات من اللجوء الفلسطيني" تكمن في كونه يطور المقولة التي تحدث عنها الكثير من الكتاب الفلسطينيين، وفحواها أن هناك معنى محددًا لأن يكون الإنسان الفلسطيني كاتبًا، كما قال ذات مرة الأديب غسان كنفاني. وهذا الكتاب طوّر تلك المقولة، وأظهر لنا بشكل جلي، وربما إبداعي، أن هناك معنى لأن يكون الكاتب الفلسطيني لاجئًا، وبالتحديد أن يكون ابن مخيم.
وأضاف شلحت: ما لمسته في النصوص كافة، هو أن المخيم واللجوء بشكل عام، استحالا في هذه النصوص من خلفية تبدو غائرة إلى محور للكتابة، أو إلى سؤال الفلسطينيّ الخاص، فبعض هذه النصوص والقصص نقل الفلسطيني من صورة البطل المؤسطر إلى صورة الشخصية الآدمية التي تتحرك ضمن حيّز من تاريخ شخصي، إلى جانب تاريخ سياسي واجتماعي ونفساني، ناهيك عن تاريخ جمعيّ، تمثّل بصيغة ذاكرة حافلة مركبة لا بصيغة هي أقرب إلى سجل الوقائع التنميطية.
واستعاد شلحت مقولة لكنفاني بأن "الفلسطيني ككاتب يستطيع أن يستكشف الصفة الخاصة جدًا للقضية الفلسطينية أكثر من أي شخص آخر"، وبأن ثمة نبضًا فلسطينيًا فيما يكتبه الفلسطيني، يخشى ألا يستطيع كاتب غير فلسطيني أن يصنعه فيما يكتبه عن فلسطين، منوهًا أنه يمكن تلمس هذا النبض الفلسطيني في كتاب "حكايات من اللجوء الفلسطيني" وما يتضمنه من حكايات ونصوص، وكذلك ما اشتمل عليه من صنعة أدبية، وهو ما تحدث عنه كنفاني أيضًا.
وأشار الكاتب الفلسطيني إلى أنه في معظم نصوص الكتاب هناك درجة عالية من الإحساس بالفردية، فتشعر وأنت تقرأ الحكايات بأن الشخصية الفردية لا تُفنى في الروح الكلية، بل تمتلك وجودًا حقيقيًا بذاته ولذاته، ما ينعكس بشكل منطقيّ ومتسلسل بتعزّز فكرة الحرية، ويتسبّب بنأي النصوص عن الانغلاق.
وشدّد شلحت على أهمية تعميم تجربة هذا المشروع التي وصفها بأنها رائدة، لتشمل شرائح أخرى من اللاجئين، وخصّ بالذكر تجربة اللاجئين في وطنهم، التي تحدث عن قسوتها الشاعر محمود درويش، ووجد أنه قد يكون فيها ما هو أقسى نفسيًا من اللجوء في المنافي، كذلك شدّد على ضرورة استمرارية المشروع لسرد الحكاية الفلسطينية بمختلف تفصيلاتها.
صون الذاكرة
بدوره شدّد وزير الثقافة الفلسطيني د. إيهاب بسيسو من رام الله على أهمية الحفاظ على الرواية الفلسطينية، وصون الذاكرة، وتحفيز وتحديث الإبداع الفلسطيني، وخاصة إبداعات الشباب في كافة المجالات. وقال: عندما قرأت هذا الكتاب قبل أسابيع، تبادر إلى ذهني تساؤل حول الحاجة إلى مثل هذا النوع من الكتابة عبر هكذا مشروع، وأكد أن الجواب البديهي يتمحور حول الحاجة الملحة إلى ذلك، سواء عبر ورشات الكتابة الإبداعية أو التحفيز على كتابة السير اليومية بما يساهم في صيانة ذاكرتنا، لافتًا إلى أهمية رصد "اليومي الفلسطيني" في كافة أماكن تواجد الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"الإنساني"، بمعنى أنسنة الحكاية الفلسطينية، وهو ما نجح فيه هذا المشروع الذي تُوّج بكتاب "حكايات من اللجوء الفلسطيني"، عبر انتشال اليومي من الإهمال، وانتشال الإنساني من الشعار، والعمل على تحديث الشعار ليكون قابلًا للحياة.
ولفت بسيسو إلى أن هذا المزيج لا يخلو من براعة أدبية وسرد جميل، حتى وإن كان يحمل الكثير من الألم في سرد رواية هذا اليومي بكل تداعياته وآماله وتطلعاته، مشيدًا بفريق العمل في بيروت ورام الله والدور الكبير للروائي اللبناني القدير حسن داود، مشددًا على ضرورة الخروج بهكذا أنواع من الكتب.
كما أكد أنه من المهم أن نكتب لأنفسنا نحن كفلسطينيين بالأساس حتى قبل أن نتوجه إلى القارئ العربي، انطلاقًا من إيماننا وحرصنا على حكاية هذه الذاكرة، فالنكبة التي حدثت قبل سبعين عامًا لا يمكن فصلها عن الحاضر، بمعنى أن ما حدث في العام 1948 وتسبب بانهيار المدينة الفلسطينية وتهجير مئات الآلاف ما زال مستمرًا في حكايات اللجوء التي لم تنته حتى هذه اللحظة، وبالتالي لا نستطيع التعاطي مع النكبة كحدث انتهى في فصل من فصول الحكاية الفلسطينية، لكون الأجيال المتعاقبة ما زالت تحمل الذاكرة.
شهادة وتجربة
وفي وقت قدمت الشاعرة أسماء عزايزة من حيفا وطالبات من غزة قراءات لنصوص في الكتاب، تحدث طه يونس من مقر مؤسسة الدراسات في بيروت عن تجربته في هذا الكتاب/ المشروع، فقال: بعد صدور هذا الكتاب، تواصلت معي صديقة من رام الله تدعى حنين، لتسألني بعد أن قرأت نصوصه: هل الكتاب يتضمن الفرح أم الحزن؟. فأجبتها: هذا الكتاب فيه فرح وحزن، وفيه سعادة وشقاء، وفيه بؤس وأمل، وفيه حالة نضالية وحالة من الخمول الفلسطيني.
وأضاف: تجمعنا بمبادرة من برلا من مختلف المخيمات الفلسطينية في لبنان بالإضافة إلى ربا رحمة من أحد المخيمات في سورية.. كل واحد منا له تجربته.. أتذكر أنه في الجلسات الأولى دار نقاش طويل حول جدوى كتابة سيرنا الذاتية، لكن برلا شجعتنا لنقل تجاربنا الشخصية في المخيم عبر هذا الكتاب، كي تتحول النصوص إلى شهادات فلسطينية حية تمشي على الأرض.. بعضنا كتب نفسه، وبعضنا توجه إلى حكايات لا تمسه شخصيًا، ولكنها تؤرخ المخيم في كتاب ميزه أنه ضمَّ نصوصًا لأجيال فلسطينية مختلفة، فبعض الكُتّاب في "حكايات من اللجوء الفلسطيني" يكبرونني بثلاثين سنة على الأقل، وهناك من أبناء جيلي، لكننا جميعًا عشنا ونعيش تجربة اللجوء، وتجربة العيش في المخيم في لبنان وسوريا.
وختم: كتبنا بصدق كبير، فالمخيم في هذا الكتاب يظهر كما هو على أرض الواقع، وكما عايشه ويعايشه كل واحد فينا، حتى أنني بت أرى أن المخيم هو كتاب "حكايات اللجوء الفلسطيني".
جمع الشمل
الروائي حسن داود قال عن الكتاب أيضًا: هنا سنقرأ عن ماضي المخيم، وكذلك عن تشعب خطوطه حتى بلدان هي من الكثرة بين أفراد العائلة الواحدة، بحيث تبدو فكرة إعادة "جمع الشمل" ضربًا من الإعجاز. كما نقرأ عن اللهو في المخيم، وعن الغزل فيه، وعن الجدران المنقوشة عليها كتابات الأحلام، وكذلك كتابات السخط، وقد نقرأ نصوصًا في مديح المخيم، ونصوصًا أخرى في هجائه، كما سنقرأ عن مشاعر أخرى، هي أكثر تعقيدًا إزاءه.
ضفة ثالثة
متابعات المحرر
كتاب حكايات اللجوء الفلسطيني. قام بتأليفه ١١ لاجئ ولاجئة وكانت إبنة مخيم برج الشمالي/صور، حنين محمد رشيد واحدة من أولئك العمالقة الذين سردوا قصصهم مع اللجوء والحلم والألم والجرح النازف والحنين للوطن.
حنين .. وجهها المشع بنور التفاؤل كوفية وإبتسامه. هي ا
لحلم الصغير والذي يبحث عن حنين الأرض والوطن شامخة بين إحدى عشرة لاجئ وحكايات اللجوء الفلسطيني.
كان لحنين محمد رشيد دورا بارزا و مميزا لصغر سنها. :و بسؤالنا لها أجابت: قصتي عنوانها " حَنِـين " كلها حنين لوطنٍ لم أعش فيه. كانت تجربة غنية لتأليف كتاب مع أشخاص من مختلف مناطق و مخيمات لبنان وكتابة سيرة ذاتية خاصة باللجوء بين ذكريات الماضي والحاضر والحلم والحنين لفلسطين والقدس عاصمة دولتنا الفلسطينية التي نهديها إنجازنا بحلم و حنين العودة... كتابنا ذكريات اللجوء والحلم للعودة، سأكرر تجربتي و لن تكون الأخيرة بل الأولى و البداية و سأبقى في خدمة قضيتي الوطنية الفلسطينية.
"هم الأحد عشر الذين كانوا يجيئون من المخيمات المتفرقة، أو من سكن مجاور لها، بدوا في تلك اللقاءات، بل منذ بدايتها، كأنهم يكملون صداقة جمعت بينهم من قبل. لا شيء كان يعكّر ذلك الإجماع العاطفي.. هذه المودة الجامعة قائمة، لا بد، على ما تتيحه كل الأخوة. وهذه باتت نادرة في زمن احتراب أخوة آخرين واكتشافهم أن من هم معهم، أو من كانوا معهم، ليسوا أخوة لهم. وهذا انتقل إلى النصوص التي تدعو قارئها، فيما أحسب، إلى أن يقرأها
بلطف وحب، على الرغم من الاختلاف بينها، تناولًا ولغة وتجربة ورؤيا"- هذا نزرٌ من تقديم الروائي اللبناني حسن داود لمشروع وكتاب "حكايات من اللجوء الفلسطيني"، الذي قاد ورشة تدريب الكتابة للمشاركين بنصوصهم فيه.
وحمل غلاف الكتاب رقم (11) كبيرًا يضم أسماء المشاركات والمشاركين فيه: سالم ياسين، وميرا صيداوي، وطه يونس، ونادية فهد، ويوسف نعنع، ويافا طلال المصري، وحنين محمد رشيد، ووداد طه، وانتصار حجاج، وربا رحمة، ومحمود محمد زيدان، وهو الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت ورام الله، وبدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان التي ربطت في حفل إطلاقه من مقرها أخيرًا ما بين مدينة رام الله ومدن بيروت وحيفا وغزة، عبر تقنية "الربط التلفزيوني" (فيديو كونفرانس).
فكرة الكتاب
برلا عيسى، صاحبة فكرة هذا المشروع، تحدثت من مقر مؤسسة الدراسات الفلسطينية ببيروت، عن "الكتاب/ المشروع"، الذي يأتي في الذكرى السبعين لنكبة الشعب الفلسطيني.
تقول برلا "شكلت الحرب المستمرة والاحتلال والمنفى تاريخ الشعب الفلسطيني، فهم كندف الثلج التي تولد كلها من غيمة واحدة، ثم تتخذ كل ندفة شكلًا وحجمًا خاصًا يقلبها الهواء ويدوّرها ويلف بها صعودًا وهبوطًا... خبرتُ هذا بصورة مباشرة، فأنا التي ولدتُ في لبنان خلال الحرب الأهلية احتجتُ إلى ثلاثة وعشرين عامًا كي أكتشف جذوري الفلسطينية. ولدتُ بهوية لبنانية، ولم أتعرض للتمييز المنهجي والتهميش الاقتصادي اللذين يتعرض لهما اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، وظننتُ لأعوام عديدة أن قصتي الشخصية لا ينطبق عليها وصف القصة الفلسطينية، لأنها لا تحمل آثار العنف الجسدي والاقتصادي الذي يطبع حياة الفلسطينيين في لبنان. بمعنى آخر شعرتُ بأنني لا أستحق أن أعدّ فلسطينية، واحتجت إلى بعض الوقت كي أتقبل واقع أن قصتي الشخصية، وعلى الرغم من أنها مختلفة، لا يمكن أن تكون إلا فلسطينية، ولا يمكن أن يتجلى معناها إلا عندما توضع إلى جانب حكايات فلسطينية أخرى".
من هنا نشأت فكرة هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة كتبها لاجئون فلسطينيون في لبنان، ويسردون فيها تجارب من حياتهم الشخصية. إنه خلاصة ورشة تدريبية على الكتابة الإبداعية بعنوان "كتابة اللجوء الفلسطينية عبر السير الذاتية"، نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية خلال شتاء 2016-2017 بدعم من "صلات: روابط من خلال الفنون"، وهو مشروع أطلقته مؤسسة عبد المحسن القطان (فلسطين) بالشراكة مع صندوق الأمير كلاوس (هولندا).
ومشروع "صلات" أطلقته القطان بهدف دعم وتمويل مشاريع فنية وثقافية جديدة في لبنان، تساهم في تعزيز الحياة الثقافية والفنية، ولا سيما في أوساط اللاجئين الفلسطينيين، وتعمل على تمتين صلتهم مع المجتمع اللبناني.
وبالعودة إلى حكاية الكتاب، فقد تم اختيار أحد عشر شخصًا من خلال دعوة مفتوحة إلى المشاركة في هذه الورشة التي أدارها الروائي حسن داود، وتراوحت أعمار المشاركين ما بين العشرين والخمسين، معظمهم من النساء، وهو أمر لم يكن مقصودًا، وفق ما أشارت برلا عيسى، وإنما جاء نتيجة طبيعية للدعوة المفتوحة، حيث تضمنت ورشة العمل اثنتي عشرة جلسة هدفت إلى تدريب لاجئين فلسطينيين من لبنان على كتابة السيرة الذاتية، لتجمع هذه السير في كتاب يروي قصصًا عن حياة اللاجئين الفلسطينيين كتبها أبطال القصص أنفسهم.
تفاعل بطريقة مغايرة
كان السبب وراء تنظيم هذه الورشة الرغبة في التفاعل مع المجتمع الفلسطيني في لبنان بطريقة مغايرة لما هو سائد، إذ كثيرًا ما تنشر مؤسسة الدراسات الفلسطينية بصفتها مؤسسة أكاديمية، أبحاثًا تصف حياتهم وتسرد حكاياتهم، بينما الهدف من هذه الورشة كان إتاحة الفرصة لهؤلاء اللاجئين ليكتبوا عن حياتهم، وأن يتم نشر نصوصهم في كتاب يصدر عن المؤسسة بتوقيعهن وتوقيعهم.
في هذا الكتاب تنوُّعٌ كبير في النصوص، فكل نص يروي حكاية مختلفة تعبّر عن رأي كاتبها. البعض كتب عن الحياة في مخيمات اللجوء من زوايا متعددة، فنجد سالم ياسين يصف ببراعة مرحلة بلوغه سن الرشد في المخيم من خلال ما سمّاه "جريدتنا الشعبية الحرة: الغرافيتي"، بينما تمزج ميرا صيداوي بين المعاش والمتخيّل لتحوّل ما هو اعتيادي إلى استثنائي.
ويتنقل طه يونس بمهارة بين الحاضر والماضي، بين الطفولة والرشد، ليروي تجاربه الشخصية بصراحة صادمة، في حين تصف نادية فهد بشيء من السخرية والبساطة التحديات اليومية التي واجهتها في أثناء اعتنائها بابنتها الصغيرة وبجدّتها المسنة، أما يوسف نعنع فيأخذنا إلى حي "الداعوق" الفلسطيني من خلال سرد يومياته مع عائلته في هذا الحي.
وفضل مشاركون آخرون الاستفادة من هذه الفرصة للتأمل والتفكير، ومنهم يافا مصري التي تحاول تقديم شرح لمعنى المنفى غير مناقشة أحلامها وصداقاتها وعلاقاتها الأسرية، بينما تبحر حنين رشيد في معنى اسمها وصلته بحياة أبيها وجدتها. وفي المقابل تسرد وداد طه قصة حياتها منذ أعوام طفولتها الأولى في الإمارات إلى سنوات شبابها في لبنان ورفضها المجتمع الفلسطيني في هذا البلد.
واختار آخرون الكتابة عن النكبة، فتروي انتصار حجاج التجربة الفلسطينية من خلال قصة خديجة، جدتها لأمها، اللبنانية التي عاشت حياة فلسطينية، بينما تعيدنا ربا رحمة إلى الحاضر المؤلم، إلى النكبة الأحدث: نزوح اللاجئين الفلسطينيين من سوريا وتشردهم.
وفي موضوع هو أقرب إلى الشهادة منه إلى موضوع تعبيري أدبي، يوثق محمود زيدان بتفصيل مؤلم احتلال القوات الإسرائيلية مخيم عين الحلوة عام 1982، كما عاشه عندما كان في سن الثالثة عشرة.
إن الصفة الجامعة لكل هذه القصص تكمن في طابعها الشخصي، ذلك بأنها تروي حياة أناس عاديين نادرًا ما نسمع منهم. ولا حاجة إلى قول المزيد، فالقصص كفيلة بسرد الحكاية كلها.
معنى أن يكون
الكاتبُ لاجئًا
من حيفا تحدث الكاتب أنطوان شلحت عن المشاعر المختلطة التي انتابته إزاء الكتاب. وقال: ثمة تفاصيل ممتعة تنطوي عليها كل حكاية على حدة، لافتًا إلى أن أهمية "حكايات من اللجوء الفلسطيني" تكمن في كونه يطور المقولة التي تحدث عنها الكثير من الكتاب الفلسطينيين، وفحواها أن هناك معنى محددًا لأن يكون الإنسان الفلسطيني كاتبًا، كما قال ذات مرة الأديب غسان كنفاني. وهذا الكتاب طوّر تلك المقولة، وأظهر لنا بشكل جلي، وربما إبداعي، أن هناك معنى لأن يكون الكاتب الفلسطيني لاجئًا، وبالتحديد أن يكون ابن مخيم.
وأضاف شلحت: ما لمسته في النصوص كافة، هو أن المخيم واللجوء بشكل عام، استحالا في هذه النصوص من خلفية تبدو غائرة إلى محور للكتابة، أو إلى سؤال الفلسطينيّ الخاص، فبعض هذه النصوص والقصص نقل الفلسطيني من صورة البطل المؤسطر إلى صورة الشخصية الآدمية التي تتحرك ضمن حيّز من تاريخ شخصي، إلى جانب تاريخ سياسي واجتماعي ونفساني، ناهيك عن تاريخ جمعيّ، تمثّل بصيغة ذاكرة حافلة مركبة لا بصيغة هي أقرب إلى سجل الوقائع التنميطية.
واستعاد شلحت مقولة لكنفاني بأن "الفلسطيني ككاتب يستطيع أن يستكشف الصفة الخاصة جدًا للقضية الفلسطينية أكثر من أي شخص آخر"، وبأن ثمة نبضًا فلسطينيًا فيما يكتبه الفلسطيني، يخشى ألا يستطيع كاتب غير فلسطيني أن يصنعه فيما يكتبه عن فلسطين، منوهًا أنه يمكن تلمس هذا النبض الفلسطيني في كتاب "حكايات من اللجوء الفلسطيني" وما يتضمنه من حكايات ونصوص، وكذلك ما اشتمل عليه من صنعة أدبية، وهو ما تحدث عنه كنفاني أيضًا.
وأشار الكاتب الفلسطيني إلى أنه في معظم نصوص الكتاب هناك درجة عالية من الإحساس بالفردية، فتشعر وأنت تقرأ الحكايات بأن الشخصية الفردية لا تُفنى في الروح الكلية، بل تمتلك وجودًا حقيقيًا بذاته ولذاته، ما ينعكس بشكل منطقيّ ومتسلسل بتعزّز فكرة الحرية، ويتسبّب بنأي النصوص عن الانغلاق.
وشدّد شلحت على أهمية تعميم تجربة هذا المشروع التي وصفها بأنها رائدة، لتشمل شرائح أخرى من اللاجئين، وخصّ بالذكر تجربة اللاجئين في وطنهم، التي تحدث عن قسوتها الشاعر محمود درويش، ووجد أنه قد يكون فيها ما هو أقسى نفسيًا من اللجوء في المنافي، كذلك شدّد على ضرورة استمرارية المشروع لسرد الحكاية الفلسطينية بمختلف تفصيلاتها.
صون الذاكرة
بدوره شدّد وزير الثقافة الفلسطيني د. إيهاب بسيسو من رام الله على أهمية الحفاظ على الرواية الفلسطينية، وصون الذاكرة، وتحفيز وتحديث الإبداع الفلسطيني، وخاصة إبداعات الشباب في كافة المجالات. وقال: عندما قرأت هذا الكتاب قبل أسابيع، تبادر إلى ذهني تساؤل حول الحاجة إلى مثل هذا النوع من الكتابة عبر هكذا مشروع، وأكد أن الجواب البديهي يتمحور حول الحاجة الملحة إلى ذلك، سواء عبر ورشات الكتابة الإبداعية أو التحفيز على كتابة السير اليومية بما يساهم في صيانة ذاكرتنا، لافتًا إلى أهمية رصد "اليومي الفلسطيني" في كافة أماكن تواجد الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"الإنساني"، بمعنى أنسنة الحكاية الفلسطينية، وهو ما نجح فيه هذا المشروع الذي تُوّج بكتاب "حكايات من اللجوء الفلسطيني"، عبر انتشال اليومي من الإهمال، وانتشال الإنساني من الشعار، والعمل على تحديث الشعار ليكون قابلًا للحياة.
ولفت بسيسو إلى أن هذا المزيج لا يخلو من براعة أدبية وسرد جميل، حتى وإن كان يحمل الكثير من الألم في سرد رواية هذا اليومي بكل تداعياته وآماله وتطلعاته، مشيدًا بفريق العمل في بيروت ورام الله والدور الكبير للروائي اللبناني القدير حسن داود، مشددًا على ضرورة الخروج بهكذا أنواع من الكتب.
كما أكد أنه من المهم أن نكتب لأنفسنا نحن كفلسطينيين بالأساس حتى قبل أن نتوجه إلى القارئ العربي، انطلاقًا من إيماننا وحرصنا على حكاية هذه الذاكرة، فالنكبة التي حدثت قبل سبعين عامًا لا يمكن فصلها عن الحاضر، بمعنى أن ما حدث في العام 1948 وتسبب بانهيار المدينة الفلسطينية وتهجير مئات الآلاف ما زال مستمرًا في حكايات اللجوء التي لم تنته حتى هذه اللحظة، وبالتالي لا نستطيع التعاطي مع النكبة كحدث انتهى في فصل من فصول الحكاية الفلسطينية، لكون الأجيال المتعاقبة ما زالت تحمل الذاكرة.
شهادة وتجربة
وفي وقت قدمت الشاعرة أسماء عزايزة من حيفا وطالبات من غزة قراءات لنصوص في الكتاب، تحدث طه يونس من مقر مؤسسة الدراسات في بيروت عن تجربته في هذا الكتاب/ المشروع، فقال: بعد صدور هذا الكتاب، تواصلت معي صديقة من رام الله تدعى حنين، لتسألني بعد أن قرأت نصوصه: هل الكتاب يتضمن الفرح أم الحزن؟. فأجبتها: هذا الكتاب فيه فرح وحزن، وفيه سعادة وشقاء، وفيه بؤس وأمل، وفيه حالة نضالية وحالة من الخمول الفلسطيني.
وأضاف: تجمعنا بمبادرة من برلا من مختلف المخيمات الفلسطينية في لبنان بالإضافة إلى ربا رحمة من أحد المخيمات في سورية.. كل واحد منا له تجربته.. أتذكر أنه في الجلسات الأولى دار نقاش طويل حول جدوى كتابة سيرنا الذاتية، لكن برلا شجعتنا لنقل تجاربنا الشخصية في المخيم عبر هذا الكتاب، كي تتحول النصوص إلى شهادات فلسطينية حية تمشي على الأرض.. بعضنا كتب نفسه، وبعضنا توجه إلى حكايات لا تمسه شخصيًا، ولكنها تؤرخ المخيم في كتاب ميزه أنه ضمَّ نصوصًا لأجيال فلسطينية مختلفة، فبعض الكُتّاب في "حكايات من اللجوء الفلسطيني" يكبرونني بثلاثين سنة على الأقل، وهناك من أبناء جيلي، لكننا جميعًا عشنا ونعيش تجربة اللجوء، وتجربة العيش في المخيم في لبنان وسوريا.
وختم: كتبنا بصدق كبير، فالمخيم في هذا الكتاب يظهر كما هو على أرض الواقع، وكما عايشه ويعايشه كل واحد فينا، حتى أنني بت أرى أن المخيم هو كتاب "حكايات اللجوء الفلسطيني".
جمع الشمل
الروائي حسن داود قال عن الكتاب أيضًا: هنا سنقرأ عن ماضي المخيم، وكذلك عن تشعب خطوطه حتى بلدان هي من الكثرة بين أفراد العائلة الواحدة، بحيث تبدو فكرة إعادة "جمع الشمل" ضربًا من الإعجاز. كما نقرأ عن اللهو في المخيم، وعن الغزل فيه، وعن الجدران المنقوشة عليها كتابات الأحلام، وكذلك كتابات السخط، وقد نقرأ نصوصًا في مديح المخيم، ونصوصًا أخرى في هجائه، كما سنقرأ عن مشاعر أخرى، هي أكثر تعقيدًا إزاءه.
ضفة ثالثة
متابعات المحرر
كتاب حكايات اللجوء الفلسطيني. قام بتأليفه ١١ لاجئ ولاجئة وكانت إبنة مخيم برج الشمالي/صور، حنين محمد رشيد واحدة من أولئك العمالقة الذين سردوا قصصهم مع اللجوء والحلم والألم والجرح النازف والحنين للوطن.
حنين .. وجهها المشع بنور التفاؤل كوفية وإبتسامه. هي ا
لحلم الصغير والذي يبحث عن حنين الأرض والوطن شامخة بين إحدى عشرة لاجئ وحكايات اللجوء الفلسطيني.
كان لحنين محمد رشيد دورا بارزا و مميزا لصغر سنها. :و بسؤالنا لها أجابت: قصتي عنوانها " حَنِـين " كلها حنين لوطنٍ لم أعش فيه. كانت تجربة غنية لتأليف كتاب مع أشخاص من مختلف مناطق و مخيمات لبنان وكتابة سيرة ذاتية خاصة باللجوء بين ذكريات الماضي والحاضر والحلم والحنين لفلسطين والقدس عاصمة دولتنا الفلسطينية التي نهديها إنجازنا بحلم و حنين العودة... كتابنا ذكريات اللجوء والحلم للعودة، سأكرر تجربتي و لن تكون الأخيرة بل الأولى و البداية و سأبقى في خدمة قضيتي الوطنية الفلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق