اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

حميد الحريزي وروايته الثلاثية " محطات مظلوم ـ العربانة ــ البياض الدامي "

1
حميد الحريزي
حميد الروائي والشاعر اليمامي المتطلّع إلى عالمٍ حرّ إستطاع أن ينتبذ مكانًا في صحن قلبي وقريحتي للمرّة الثّانية ، أن يدخل في ذائقتي وأنا أمرّ في جميع الأمكنة التي شكلّت له حزنا عميقا بقي معلّقا في الذّاكرة حتّى اليوم ممّا حدا به أن يفرغ هذا الوجع النّاجم عن مجتمع مورستْ به شتّى أشكال القسوة والتّعذيب والتّشريد والجهل والإستغلال ، وسطّرها قلمه في روايته الثلاثية (( محطات مظلوم.. العربانة / كفاح/ البياض الدامي ) .
حميد يُعتبر من المحدثين الذين استهوتهم مقولة رامبو من أنّنا لابدّ أن نكون محدّثين بصورة مطلقة في كلّ شيء . رامبو ساهم في نصرة العمّال والطبقات المسحوقة
حين شارك في كومونة باريس . وها هو حميد يُساهم بشكل كبير في نصرة العمّال والذين ظُلموا في الحياة عن طريق شاعريته وإبداعه في مجالاتٍ شتّى .
في عام 1953 أطلق حميد الحريزي بكاءه الأوّل في النجف الأشرف ليشقّ درب الأدب الموجع عبر الطفولة المشخابية الريفية ليصبح شاعرا وناقدا يشار له بالبنان، يمتلك العديد من المجاميع القصصية والشعرية والدراسات التي تنتظر الطبع ،عضو الإتّحاد العام للادباء والكتّاب في العراق ثمّ رئيس تحرير مجلة الحرية ، ناشرا شهيرا في أغلب الصّحف العراقية والأجنبية .
أستنير بما يكتبه الروائي حميد ، ينفتح ذهني وتكبر قريحتي وأصول وأجول بين الأسطر التي تحمل كلّ المعاني الإنسانيّة من شاعرٍ وروائي أمضى أكثر من نصف عمره في الأدب والنّضال ومقارعة الطّغاة بالكلمة وبالكلمة فقط ، إنّها طلقته وسهمه صوب الجائرين اليوم وغدا وأمس.. صوب أمريكا التي قال عنها ذات يوم محمود درويش:( أمريكا هي الطاعون والطاعون هو أمريكا).
يُذكّرني حميد بكلّ رجال الفكر اليساري ، الذين بقوا كما الساموراي الأخير ، أولئك الرّجال الذين حفروا أسماءهم وعناوينهم في سجل التأريخ عبر الأزمنة الغادية والآتية ، وعبر شجرة الحياة الخضراء لا عبر النظريات الدينية الرّمادية لأولئك الذين قتلوا بها الشّعب العراقي و أغرقوا العراق بالخزعبلات حتّى بتنا لا نعرف من هو الولي ومن هو السرسري ، حتّى بتنا نُغنّي ( يا روحي جذاب الوكت موذولة الأحباب) فلذا حتما ستكون هناك شموسا أبدية لوارف أغصان حميد الحريزي .
رواية ( محطات مظلوم) تتحدّث عن نضال الحزب الشيوعي العراقي وما مرّ به من نكسات لو تَمّ تجاوزها بشكل أفضل لكان العراق في مصاف الدّول الكبرى مع طرح مضاد لشيوعيي اليوم وهذا رأيه مهما يكن من أمر وخصوصا في مسألة إشتراك الحزب الشيوعي في مجلس حكم برايمر بزعامة أمريكا وإحتسابه على الطائفة الشيعية . استخدم الروائي حميد هنا في سرده أسلوب الفلاش باك ، فيظهر في بداية الرواية (كفاح) مطلقُ السراح من سجنٍ إقتحمه العراقيون أثناء دخول الإحتلال الأمريكي فيرى ما لا يصدّقه عقله الذي مضى في أقبية البعث أربعة وعشرين عاما . عقله الذي ظلّ يُقارع أمريكا عدوّة الشّعوب التي أتت بالبعث في عام 1963 ، حيث دعّمتْ إدارةُ كندي انقلاباً ضدّ حكومة العراق التي كان يرأسُها اللواء عبد الكريم قاسم ، الذي أطاحَ بالنظام الملَكي العراقي الموالي للغرب السي . آي . أي ، فقامت حكومة حزب البعث الجديدة في تطهير البلد من المشتبَه في أنّهم يساريّون وشيوعيّون. وفي حمّام الدّم البعثيّ استخدمتْ الحكومة قوائم بالمشتبَهِ بهم من شيوعيّين ويساريّين آخرين ، قدّمتْها السي . آي . أي ، لاغتيالٍ منظّمٍ لأعداد لا تُحصى من النّخبة العراقيّة المثقّفة.
لضّحايا يضمّون مئات من الأطبّاء والأساتذة والتقنيّين والمحامين، إضافةً إلى شخصيّاتٍ عسكرية وسياسيّة ، وملاحقة آخرين من ضمنهم والد كفاح المسمّى مظلوم بطل روايتنا هذه الذي كان مناضلا شيوعيا في عام 1963 كما سنبيّن لاحقًا . وها هو كفاح الشيوعي الحقيقي اليوم يرى أمريكا بمدرّعاتها في شوارع بغداد ويا للكارثة والمأساة والحيف ، فيا ترى من جاءوا به الآن فوق ظهور دبّاباتهم . أمريكا تلك التي جاء منها مصطلح المكارثية على لسان السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي للحدّ من الأنشطة الشيوعيّة قتلاً ونفيًا وبشتّى الوسائل ومن الشيوعيّين الذين طالهم القتل جون لينون مؤلّف فرقة البيتلز للموسيقى والغناء أمّا النّفي فطال العظيم شارلي شابلن بينما السّجن طال أعظم سيناريست في القرن العشرين ( Trumbo ترمومبو)مؤلّف سبارتكوس.
أبطال الرواية هم ( مظلوم ) أبو مطشر أو أبو كفاح لاحقا وهو فلاّح بسيط في خمسينيات القرن المنصرم يترك الرّيف نازحاً منه نتيجة ظلم الإقطاع ويصبح بائعا للبلبي في النجف ويذوق ويلات الجوع والبطالة وقهر البلطجية ، فتنزح معه الكثير من العوائل نتيجة ظلم الإقطاعي فكان الفلاّح يحزن حتّى على كلبه الذي يتركه هناك لكنّه لا يذرف دمعةَ حزنٍ واحدة على عائلة إقطاعي لما في الكلب من وفاءٍ عظيم . ويصوّر لنا الرّوائي حميد من أنّ كلاب الرّيف تختلف كثيرا في وفائها من كلاب المدينة. ولم لا فالكلب أصبح مضربا للأمثال في العديد من القصص والحكايات منذ قديم الزّمان حتّى هذا اليوم . ففي مطارٍ كولومبي يموت كلب بسبب الإشتياق لصاحبه الذي نسيه هناك وظلّ شهرا كاملاً يبحث عن صاحبه حتّى باءت محاولاته بالفشل وكان يأخذ الطّعام من عمال المطار الذين عرفوا قصّته بفقدان صاحبه ثمّ انقطع عن الطّعام فجأة حتّى هزلَ عوده ومرض ويُعرض على الأطباء فاكتشفوا من أنّه ُمصاب بالإكتئاب والمرض النفسي من جراء فقدانه لصاحبه حتّى مات منزويًا في زاوية من زوايا المطار .
ملعونة هي الإقطاعية وملعونة كلّ أشكال الإضطهاد كما في أمريكا وإستغلال الزنوج من قبل الإقطاعيّين حيث كان هناك قانون في أميركا يسمّى قانون العشرين زنجي أي أنّ كلّ أبيض إذا كان لديه عشرين زنجي يعفى من الخدمة الإلزامية في أميركا ( فيلم...ولاية جونز الحرة Free State of Jones ) إنتاج 2016 تمثيل الشاب )ماثيو ماكانوكلي( والسمراء )كوكومباثا( ومن إخراج )كاري روز(. ولذلك نجد الإقطاعي الأمريكي يملك العديد من الزنوج لحصاد القطن بينما الفقراء الآخرون من البيض يذهبون إلى الحرب لتأدية الخدمة الإلزامية رغما عنهم فيقتلون هناك أو يطالهم العوق .
في عام 1952 تنشب التظاهرات في النجف وعموم العراق ممّا يؤدّي إلى تفتيش عربة اللبلبي لمظلوم بإعتبارها تحتوي على مناشير ثمّ يُسجن وتأتي (غنودة) لتخرجه من السّجن لما لها من علاقات مع الضباط وغيرهم ولم لا فهي زوجة الثري حجي (معيوف) وفرجها المصدق . غنودة هذه إمرأة جميلة وثرية تكره زوجها ذو الكرش المتدلّي . تستدرج مظلوم إلى بيتها بعد أن تعجب بشهامته ووسامته رغم قلّة ثقافته وريفيته وأثناء ممارسة الجنس والتنهيد مع مظلوم تذكر اسم (شياع) على لسانها وبحرقة عالية فأدى بها ذلك أن تعترف لمظلوم المتعكّر مزاجه من ذكر( شياع) من أنّه كان شابا تقدمياً طيبا يتردّد على بيت الغجر الذي تعمل به غنودة وكان يعطيها قيمتها كإمرأة حتّى أحبّته حدّ الجنون ثمّ يأتي أحد الشيوخ الذي كان يحبّ غنودة ويغدق عليها الأموال فأصابته الغيرة من هذا الرّجل ممّا أدّى به أن يفرغ برأسه رصاصات البندقيه فيرديه قتيلا . قصّة شياع هذه أنا شخصيّا مررتُ بها حين كنّا أيام زمان لا يمكن لنا أن نحقّق صبواتنا إلاّ في المبغى ، فكنّا أنا وصديق لي شاعر توفّاه الأجل ، قد عرض علينا عمّه الذي يكبرنا سنّا بكثير في أن نذهب معه إلى غجر السماوة وبالفعل ذهبنا وهناك تعتعتْ أدمغتنا بحليب السباع وأنتشينا ورقصنا فإذا بإحداهنّ مالتْ عليّ بلطفها وغنجها ودلالها لي والأخرى على صاحبي ... وأنا بدوري أصبحت بطلاً أصول وأجول في خديها وصدرها مع غنائنا سوية وعلى حين غرّة لم أرى غير أنّ عمّ صاحبي الذي أضافنا يشبعنا لكما وضربا وصفعات أنا وابن أخيه صديقي ..حتّى طردنا من الحفل .
ي الصباح وجدنا وجوهنا متورّمة زرقاء من شدّة الضّرب ..التقينا به صباحا فقال لنا ( سرسرية جئت بكم ضيوفي وخسرت عليكم مالي ..وبعدها تسرقون حبيبتي ) فتبيّن أنّ إحدى الغجريات كانت صاحبته وعشيقته.
غنودة وفي لحظات البوح وبينما هي في أحضان مظلوم كانت تذرف دموعها بحرقة وألم شديدين لنقرأ موجز ألمها:

(غنودة الغجرية بعد مقتل حبيبها شياع تركت الغجر وجاءت تعيش في المدينة مع معيوف صاحب المتجر والقواد فأصبحت زوجته ومحضيته تحيي حفلاته وسهراته مع كبار المسؤولين والتجارالذين يظهرون في اللّيل ويتوارون في النّهار.. الباشا ، والمرجع وأفندية ولباس عربي و عمائم وكشايد ووو... أذلاء تتحكّم بهم غرائزهم، متهتكين شواذ خلاف ما يتظاهرون به من الرفعة والعفّة والوقار خلال النّهار. ولم يكتفوا بذلك بل هم شواذ حيث يرافقون صبيانا لممارسة الجنس معهم وعلى فراش غنودة دون حياء ).
يخرج مظلوم من السجن وتدعوه غنودة إلى الغرام مرّة أخرى حيث سبق له قبل السجن أن مارس الجنس معها وأشبعها ولوجا وتنهيدا وتفخيذا حتى ارتوت. ذاق من الطعام لذيذه ومن العصائر ما ينعش القلب والسمك وكؤوس الويسكي المخفّف بالعصائر ، إنّه عالم الخمرة المنعش الذي لو حلّ في الأبدان لأطربها وطار بها إلى الفراديس ولم لا فذات يوم وأنا أقرأُ عن دون بريندون ، مخترعُ الشمبانيا/عرفتُ أنّه كان يتذوّقُ النّجومَ حين يشربُها/وحينما يجلسُ في البارِ /كان ينادي النادلَ: ويقول هاتني المزيدَ من النّجوم .
مظلوم لم يصدّق بهذه النّعمة التي حلّت به مع هذه الحورية المسمّاة غنودة بعد أن كان لا يعرف غير التّمر الزاهدي واللّبن ؟ وكيف له أن يصدّق فالعالم الشرقي كلّه في سبات مشغول في عملية التكثيف الجنسي( الإستمناء) والإعداد له في الغرف المظلمة ، شعوب لايمكن لها أن تعرف الجنس إلاّ بعد عمر الثلاثين حيث الزواج بينما تضيع سنين المراهقة هدرا بين الخيلاء والأحلام التي يتوجّب الاستحمام بعدها بما يسمّى بالجنابة . شعوب لديها الجنس محرّم إلاّ لغرض الإنجاب وكأنّه جريمة تستحقّ العقاب من الربّ والضّمير بينما يقول ألكسندر دوماس ( الحبّ الجسدي ، هذه الخلاصة الحيوية للإنفعالات هي الأكثر عفّة في الروح) الحبّ هو ذلك الأمر الذي لايمكننا الشفاء منه . ولذلك ترى المسلم مريضا معقّدا حتّى يتزوّج فيفرغ كلّ لعناته و صبابته العطشة في وعائها العطش هو الآخر في ليلةٍ واحدة، ويظلّ عطشاً شهوانيا حتّى في شيخوخته طالما طحنته سنين الكبت والحرمان وهو مراهقا غرّا غرير .
استطاع الروائي حميد أن يعطينا معاني الحبّ بأشكاله المختلفة ، الحبّ المؤقّت بحميميته المثيرة أوالأبدي المعروف بالرّباط المقدّس . المؤقّت هو العلاقات العابرة لأجل الجنس والغريزة أو كما يحصل في بيوتات الغجر العراقيّة أو المواخير بشكل عامّ حيث تحبّ أحدى الفتيات فتًى شجاعا في كلّ شيء في تعامله معها واحترامه وشغفه بها كأنثى بمشاعر وقلب لا تلك التي يُدنس اسمها تحت المسميّات الأخرى مثلما حصل لغارسيا ماركيز الذي أدّى به إلى أن يؤلّف روايته الأخيرة ( ذاكرة غانياتي الحزينات) وكيف نرى شقاوته ومغامراته وخصوصا مع خادمته داميانا الوفية التي يولجها من الخلف بعد أن يرفع ثوبها فتصرخ آي آي ياسيدي فهذا للإخراج . فالحبّ الذي وقع بين شياع التقدمي المثقف وغنودة الغجرية حبّا خالصا لا يعرف الحدود لكنّه انتهى بنهاية مأساوية.
وصف لنا الروائي حميد الجنس وما هي التنهيدات من جراء ذلك فكان بارعا حقّا. حيث كان يشرح لنا ما يقوله سيغموند فرويد عن الآيروس . و رغم ذلك فإنّ المرأة لا يمكن لها أن تفضل الركون في سوق الهوى مهما كانت الديانة التي تحملها لأنّ كرامتها هي التي تُحدّد ذلك وليس الدّين. فلا يمكن لها أن تبيع الجسد مقابل حفنة دولارات لو أنّ العامل الإقتصادي الذي أشار له ماركس يسعف هذه المرأة في أن تذود عن هكذا فعلٍ شنيع . ومع هذه وتلك فأنّ البغي موجود منذ معبد إيزيس إلى معبد اللاّة والعزة ، إلى هذا اليوم حيث أبسطُ مواخير بلدان الشّرق المتمثلة في حيّ الطرب في البصرة والكمالية في بغداد وما أكثرها في مصر العروبة نتيجة الظلم الواقع على المرأة بسبب الصّراع الطبقي .
يلتقي مظلوم بغنودة لقاءاَ إنتشائياً مثيرا تصرخ فيه الرّغبة قُبلاً وتمسيدا وتعشيق أعضاء في الليل منير العاشقين حيث سراج الخدر الحقيقي للحياة الجنسية بين طرفي الرغبة والتي تـأتي جزء منها على شكل خيالات وفي الجزء الآخر تستلهم من نماذج أدبية وأساطير أو من مشهاهد أفلامٍ ظلّت تضرب في الذاكرة الجنسانية . وماذا يفعل مظلوم الكادح الفقير اتّجاه غنودة وأفعالها ( الشيطان تكفيه عشر ساعات ليخدع رجلا، والمرأة تكفيها ساعة واحدة لتخدع عشرة شياطين ) فلابدّ أن يستجيب مظلوم لهذا الإغراء الغنودي وما أحلى الإصابة بالعشق في هذا العمر الشبابي الوقور الذي جعل من مظلوم أن يحس بهذه الرغبة في العيش التي تولد فيه ثانية وثالثة وفي كل مرة يدركُ فيها طعم الرعشة وسعادة الدخول فيها ولمس كوامن بضاضتها على مهلٍ وخفة عاليتين ، إنّه الربيع فعليك أن تردّد الدنيا ربيع فلا خريف ، إنّها الحسناء التي تجلس قبالتك فعليك أن تغنّي ( أنا وأنت وبس / أنا وأنت / ولاحد ثالثنا /أنا وانت وبس) . إنّه العذاب الجميل فعليك أن تشجو بلسان العندليب عبد الحليم حافظ (موعود معايا بالعذاب / موعود يا قلبي) إنه الذوبان مع لحمها الطريّ المعافى . فعلام إذن يرتعد مظلوم . فلابدّ له أن يلتحق بنسائم الحبّ حيث قفص الترافة والجنس اللّذيذ المحرّم ، فلا تفكيرٌ ينفع ولا وجوم .

 2

في زورتي الأخيرة الى العراق أنا كاتب المقال رأيت من ان العراق تحول الى عبارة عن ماخور كبير يتميز بزواج المتعة والنقاب الذي يعطي انطباع حول الدعارة الغير مرخصة في ظل نظام ثيوقراطي ديني تكاد تكون فيه بيوتات العاهرات صفرا مع إزدياد الجريمة الجنسية، بينما يؤكد علي الوردي على أنه من الضروري أن تتوفر بيوت الدعارة بشكل علني وأمام الأعين وعرضة للفحص الطبي بدلا من التكتم والأمراض الناجمة عن الجنس الهمجي. أكثر الروايات العالمية والأفلام العربية تحدثت عن البغي والغواني مثلما رأيناها في فلم محمود ياسين ونجلاء فتحي والحب العارم بين الطرفين الذي ينتهي تحت مسميات النظرة الدونية للغواني التي جعلت محمود ياسين يبتعد عن نجلاء فتحي رغما عنه في فيلم ( وتمضي الأحزان) وهم في ذروة العشق الحقيقي مما يؤدي بالنتيجة الى موت نجلاء فتحي كمدا وحرقة وعشقا وشوقا لحبيبها الضائع بين أجنحة التقاليد المميتة .
غادة الكاميليا قتلها حبها لشاب أغرمت به وأغرم بها وهي فتاة ماخور بعد ان أصيبت بالسل الرئوي وهي في عمر الشباب نتيجة حكم العشيرة والبيرواقراطية الطاغية أنذاك والتفرقة بين المحبوب الثري والمعشوقة الفقيرة والعكس صحيح .
ينتهي فصل العشق الغنودي ويظل مظلوم تأخذه الحسرات التي تحاكي العقل حول العدل والمساواة لكن دون وعي تام ولاحرية فهو لازال لايعرف غير اللبلبي والفلاحة (اذا لم نستطع التنسيق بين العدل والحرية فقدنا كل شيء ......البيركامو) .
يبدأ مظلوم يدافع عن بوادر المعرفة والتحرر حينما يمنع أهله من تزويج أخته الصغيرة السن كصة بكصة رغماً عنها فتصوّرّ أهله وذويه انّ اللبلبي والباقلاء جعلته مثقفا هكذا لو كان يبيع الذهب لأصبح في مجلس النواب . وللأسف الريف لازال يعيش تحت التخلف في أكثر مناطق العراق .
يتعرف مظلوم أبو كفاح في النجف على المدرس استاذ منير الشيوعي والذي كان يساعده في كل شاردة وواردة ويصبح من أصدقائه المقربين . استاذ ((منير)) الشيوعي يختفي بعد التظاهرات في النجف . حتى تمر الأيام ويصبح مظلوم معروفا في شوارع المدينة ومن قبل الطلاب وعامة الناس من خلال عربته الجوالة على طول النهار حتى يأتي يوم يقوم به أحد أبناء عمومته بقتل شخصا في الريف على حصة الماء في مزارعهم فيتوجب عليه أن يختفي عن الأنظار خوفا من قتله ثأرا بالقتيل . وقد وصلت هذه القضية الى استاذ منير الذي قام بمساعدته في إخراجه من النجف الى بغداد كي ينجو من الثأر ويغادر مظلوم الى بغداد ويترك ابنه كفاح وابنته وزوجته وهنا بدأ نضاله الشيوعي الحقيقي في بغداد .
وفي بغداد يلتقي مظلوم بمنير والذي يتبين فيما بعد من انه سلام عادل الذي سيصبح سكرتير الحزب الشيوعي العراقي في العام 1956 . في بغداد يتغير اسم مظلوم الى غضبان حتى لا يستدل عليه من قبل عشيرته .
(وفي بغداد يعمل في مطبعة الحزب و التعرف على معنى ومضمون ((الشيوعية )) من خلال بعض المطبوعات في المطبعة التي يجلبها له اسطه جمال...تعرّف على أسماء ماركس وانجلس ولينين وستالين وفهد ووووو. ديكتاتورية البرولتاريا، الرأسمالية ، الاشتراكية، الأدب الواقعي ، الرواية القصة ، والشعر الثوري وووو،السريالية ، والرومانسية ، والشعر العمودي والشعر الحر ) .
يصبح مظلوم واحدا من المناضلين الكبار في الحزب الذين لهم مشاركات فعالة لما في ثقافته وشخصيته ومعرفته بشخصيات مجتمعية لها وزن كبير ومنهم الدكتور (فريد وزوجته) اللذين اشتغل في بيتهم وفي مزارعهم وكان الدكتور يعتز بشخص مظلوم وتفانيه بعد ان يعلم بشيوعيته السرية وهذا الدكتور من الرجال الطيبين العارفين بأمور السياسة والبلد لكنه شخصية مستقلة تحترم الشيوعيين مما دعاه أن يطرح فكرة لم شمل عائلة مظلوم في بغداد مع زوجته ويتم له ذلك في أن يهبه بيتا كاملا مؤثثا لاينقصه سوى مجيء زوجته .
بالفعل تأتي زوجة مظلوم وتعيش معه في بغداد في فصل حب مدني جديد يختلف عن الريف . وهذا البيت ظنه مظلوم إيجارا وحتى الإيجار لايستطيع دفع تكاليفه ولكن فيما بعد تبين انه هدية من الدكتور فريد مسجلة عقاريا بإسم مظلوم فما أكرم هذا الرجل الذي يعادل ألف معمم ومرجع فلن يفعلها مثله من رجال الدين على الأطلاق لا اليوم ولا غدا . لكنها الشهامة اليسارية وحب الشيوعية والإشتراكية لديه التي حتمت عليه في مساعدة مظلوم في بيت يأوي به عائلته . وفي هذا البيت يبدأ فصل الحب من جديد وفي عمر الشيخوخة بين مظلوم وزوجه ولم لا فالشيوعيين هم أهل الحب كما رسمه لنا المؤلف ( نيكولاس سباركس) في رائعته التي مثلت في فيلم رومانسي جميل ( دفتر ملاحظات ) ثمثيل الممثلة الكندية( راشل مكدامس) والممثل الكندي أيضا (رايان كوسلن) وهؤلاء قد قدر لي أنا كاتب المقال أن أرى بيوتهم وأزقتهم الطفولية حيث ولدوا في مقاطعة لندن أونتاريو عند زيارة أخي في كندا قبل أشهر . هذا الفلم يحكي الحب في مراحله الأولى حيث المراهقة النزقة حتى عمر الشيخوخة الذي ينتهي بموت الحبيبين سوية متعانقين وهم على فراش الحب الحريري عجوزين طاعنين في السن . وهكذا كان مظلوم يحب زوجه في هذا البيت الأخير الذي شهد موته ونهاية نضاله البطولي .
وفي ذلك الوقت صدر قانون الاصلاح الزراعي الذي انتصر لمظلومية الفلاح العراقي ومما اثار استغراب مظلوم مدى تذمر وسخط القوى الدينية الحوزوية من صدور هذا القانون . في الوقت الذي يفترض فيهم مساندة الفقيراقتداءا بالامام علي عليه السلام وانتصاره للفقراء وهو القائل (( لوكان الفقررجلا لقتلته)). وكذلك الحال بالنسبة لصدور قانون الاحوال الشخصية والداعي للمساواة بين الرجل والمرأة واعطاء المرأة حقوقها المشروعة ، مما دعاهم الى تاسيس ما اسموه ب (( جماعة العلماء )) وكان لها دور تحريضي كبير ضد الشيوعيين وضد الثورة وضد عبد الكريم قاسم ، مستندين الى فتوى (( الشيوعية كفر والحاد ).
ادات وتقاليد دينية مقرفة يتبعها شيوخنا وأكثر مراجعنا في الزواج من القاصرات منذ تلك العهود الغابرة والمتخلفة. واليوم قرر مجلس النواب من هذا العام 2017 قانونا يسمح للزواج من القاصرات . وحتى الإمام الخميني في كتابه تحرير الوسيلة أقرّ الزواج من الرضيعة حيث تتم مفاخذتها فقط حتى تكبر وتصبح قادرة على تحمل الولوج. فأي شعوب هذه وأي حكومات . كازانوفا العاشق الإيطالي الشهير في عصر النهضة أو عصر الولادة الجديدة أو مايسمى يالرينايسانس Renaissance هذا العاشق عشق أكثر من سبعة آلاف إمرأة وآخرها فتاة لما التقى أمها لكي يعقد عليها تبين انها عشيقته قبل عشرين عام وهذه التي عشقها الآن هي إبنته. كازانوفا في فترة من حياته التي عاشها قبل أربعمئة عام إتهمه القضاء بالجرم لكونه مارس الجنس مع فتاة قاصر . بينما رعاع العراق في القرن الحادي والعشرين يريدون تشريع قانون الزواج بالقاصر . فأي حكومة ٍهذه التي تريد إرجاعنا الى ماقبل ألف وأربعمئة عام ؟ إنها حكومة أولاد قراد الخيل .
إنها سلطة الأكليروس التي تقف مع الظالم بكل الأحوال مثلما كان يحصل في إيطاليا وكيف وقفت سلطة الكنيسة مع موسوليني الذي أغرق إيطاليا بالقتل والدمار .
في العام 1963 يتم تصفية قيادات الحزب برصاص الحرس القومي المسعور أو الموت تحت التعذيب ، فاشتشهد العديد من الأبطال ، سلام عادل( استاذ منير) ، ابو العيس ، عبد القادر اسماعيل ، حسن عوينه ، جمال الحيدري وووو. فتنتهي صفحة نضالية يبقى صداها حتى اليوم لكنها تشكل المحطة الحزينة لمظلوم لوجعه على رفيق دربه وصديقه الذي ساعده في تدبير أمور حياته الرفيق الخالد سلام عادل ( استاذ منير) الذي تقطع أوصاله ويسحق بالحادلة فأي حقدٍ هذا الذي حمله جلاوزة البعث .
يختفي مظلوم عن الأنظار قليلا ويبتعد عن الحزب وبعدها يلتقي العريف (( حسن سريع)) مرة أخرى حيث جمعته به علاقة صداقة ورفقة حميمة حينما كان يعمل في المطبعة ، وكان لهم آراء واحلام وتطلعات مشتركة ، وقد نشأت وتطورت بينهما علاقات عائلية على مستوى الأسرتين آنذاك ، فيجد له حسن سريع عملا في البساتين في بغداد وبعض حدائق البيوت .
كان امر اعادة الصلة بقيادة الحزب هو جل مايشغل مظلوم أبو كفاح أو شمران حاليا، بينما كانت ((غزاله)) الشغالة في نفس الدارالتي يشتغل بها مظلوم ، سمراء مربوعة ، تفيض ملاحة ولطفا وعذوبة ، تستلطف مظلوم ، وغالبا ما ترهف السمع له وهو يدندن بصوته العذب احد أغانيه الريفية المثيرة للطرب والشجن . مظلوم كان يقول الشعر ويغنيه فأصبح محبوبا بين أقرانه ، فالغناء هذا فن يبهج النفس التي تؤديه كما يبهج المستمعين ، الغناء تلحين الشعرالموزون بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة فتكوّن نغمة ثم تتشكل تلك النغمات بعضها الى بعض على نسب متقاربة فيلذ سماعها ومن المغنين الأوائل زرياب الموصلي .
كانت((غزاله)) تختلق الاعذار لتكون بالقرب منه في حديقة الدار، ، بينما وهو العليم بما تريده هذه الغزالة ولكن يردد مع نفسه (( خايبه آني وين وانتِ وين )) ...لكنه الحب وعالم النساء المثير مهما حاولت النفس التواقة الإبتعاد عنه (انّ من الاغراءات الكبيرة ان تكون معشوقا ، واذا كانت الروح سخية فمن السهل إغرائها... راسين). . لكن مظلوم يشكر حسن رعايتها له ، متابعا مشيتها المتبخترة وهي تجر عجيزتها الرجراجة المشتهاة ، وضفيرتها التي تنساب على ظهرها . منذ ذلك الوقت و الفلاّحة العراقية لاترتدي الحجاب فهذا يعني من ان العراق رغم كل الظروف الطغيانية لكنه أكثر تحضرا وتمدنا من اليوم وساسة اليوم الذين أرجعواالعراق الى قرون وقرون . حتى الجوع لم يثني هذه الفلاحة غزالة في أن تكون حاسرة الرأس ، لم يثنها في أن تقول لمظلوم من انّ عبد الكريم قاسم قد شاهدوه في القمر . انه الجوع الذي يحرك هذه الفتاة اتجاه عبد الكريم قاسم لأن عبد الكريم هو الوحيد الذي بنى مساكنا للفقراء في مدينة الثورة بعد ان كانت بيوتهم أكواخا وواحدة من هؤلاء بيتا لهذه الفتاة وعائلتها ولذلك كان القمر جميلا بالنسبة لهذه الجائعة الفقيرة التي تبحث عن رغيف الخبز لعائلتها...ولذلك يقول الشاعر :

القمر جميل
لكن رغيف الخبز أجمل ...
ومافائدة القمر الجميل ورومانسيته بالنسبة لجان فالجان بطل البؤساء في رائعة فيكتور هيجو ، الذي اعتقل خمسة وعشرين عام من اجل رغيف الخبز ، حيث الأنظمة الدينية أنذاك وسلطة الكنيسة التي تسن قوانينها ضد الضعيف وتترك عصابات السرقة المنظمة ومافياتها .
افائدة القمرالجميل اذا ما أطلّ فوق ديار شارع الألف طفل حافي في حي الشعب أيام البعث ولا أدري ان كان موجودا حتى الآن .فاعتقد من انّ الحالة الوحيدة التي يكون فيها رغيف الخبز والقمر سيان في الجمال هو ماحصل بالنسبة لغزالة أو لأولئك الجياع في مدينة الثورة الذين تراءى لهم وجه عبدالكريم قاسم في القمر .
يتفق الرفاق على القيام بإنقلاب عسكري في عام 1964 بقيادة العريف حسن سريع ومعهم مظلوم ويبدأ الأنقلاب من معسكرالرشيد وبعض الفصائل في بغداد وشارك فيها العديد من الضباط وضباط الصف. لكن الإنقلاب يفشل ويلقى القبض على المشاركين في الإنقلاب وتقام لهم محاكمة صورية يعدم فيها أكثر الإنقلابيين بينما مظلوم يستطيع الهرب عبر النهر ويخفي بندقيته .
يتقدم حسن سريع قبل رفاقه اُثناء الأعدام وهو يهتف (( يحيا الحزب يحيا الشعب)) (( السجن الي مرتبه والقيد الي خلخال / والمشنقة ياشعب مرجوحة الأبطال )) وتعلق جثته على عامود الكهرباء في مدينة الثورة لعدة أيام لترهيب الناس..تحزن النساء في مدينة الثورة وترتدي الأسود على مقتل حسن سريع ورفاقه . ثم تشن حملة ضد المثقفين والثقافة في ظل الفاشية ، حيث يبصق المجرم الملازم ((غازي عبد الصمد بوجه عالم الفيزياء ورئيس جامعة بغداد الدكتور عبد الجبار عبدالله)).

3

في ايلول 1967 وصلت حالة التوتر الى اشدها بين تياري قيادة الحزب الشيوعي ، فاعلن رسميا الانشقاق الى (( القيادة المركزية )) بقيادة عزيز الحاج ومن تبعه و (( اللجنة المركزية)) بقيادة عزيز محمد ومن والاه ، وقد كان رفاق (( مظلوم)) ومن ظمنهم (( ابو سلام)) ضمن تشكيلات القيادة المركزية كما هو حال اغلب تنظيمات بغداد المركز ، التي تبنت طريق الكفاح المسلح لاسقاط النظام وكان معهم حين ذاك مظفر النواب ، في حين كانت ((اللجنة المركزية )) بين بين ، وقد بدأ كل من الطرفيين يشن هجوما اعلاميا ودعائيا ضد الطرف الآخر ، وقد فشل الجناح المسلح و تم القبض على عزيز الحاج وتنتهي هذه الصفحة من نضال الحزب عبر الثورة المسلحة والعنف الثوري مما تسبب المزيد من المرارة لمظلوم الذي اعتزل الطرفين رغم ميوله الى جماعة القيادة المركزية ، وقد سلم بندقيته التي كان يحتفظ بها منذ حركة (( حسن سريع)) الى رفيقه (( ابو سلام )) فهو يعتبرها ملكا للحزب .

يموت مظلوم ( غضبان) في العام 1973 في بداية الجبهة الوطنية وقد أوصى مظلوم قبل مماته أن لاتوضع جنازته فوق السيارة مثل الحيوانات والآثاث حيث انه في البلدان المتحضرة توضع الجنازة في داخل السيارة مع باقة من الورود دون البكاء بل قراءة حسنات الرجل وماهي أخلاقه بين أصحابه وأصدقائه كما اوصى ان لايقام له مجلس فاتحة ، وانه لم يترك سوى دراجته ومنجله و((مسحاته)) وعدد من الكتب ، وهو لادائن ولا مدين لأحد .

يموت مظلوم ويبقى ولده كفاح . وكأنه يتوارث النضال في العمل الحزبي حتى السبعينيات والجبهة الوطنية . كفاح هذا كان اسمه مطشر فتغير الى كفاح وهنا علامة دالة من الروائي الى رمز الثورية . كفاح يرسل بزمالة عن طريق الحزب الشيوعي وهو شاب يافع الى الإتحاد السوفيتي فيكمل الدكتوراه في الأدب في جامعة باتريس لو مومبا ثم يعود لوطنه ليصبح استاذاً مميزاً في الادب والنقد العربي في السبعينيات . ونظرا لثقافته العالية وفطنته واتقانه للغة العربية والروسية والانكليزية مما أثار حفيظة وكلاء الامن في الكلية ، مما جعلهم يعرضون عليه الإنتماء لحزب البعث مع اغراءات كبيرة في تسنم مناصب مهمة كعمادة الكلية ، او رئاسة الجامعة أو الوزارة لكنه يرفض. وفي يوم باشرت في الكلية استاذة جديدة انها الدكتورة(( احلام سلام الريان ))، السمراء ذات الهيبة والجمال والعمق المعرفي ، وكان كفاح دليلها في التعرف على اقسام الكلية واساتذتها وطلبتها ، مما جعلها تستانسه كثيرا بعد ان عرفته من انه الشاعر المجدد المبدع (( كفاح)) حيث كانت تتابع شعره باعجاب كبير قبل معرفته ولقاءها به. وهذه الحالة المشابهة حصلت لبدر شاكر السياب حيث كانت الطالبات معه في معهد اعداد المعلمين يقرأن أشعاره دون معرفتهن من انه هو الشخص المقصود معهنّ في المعهد فهو لايستطيع البوح بشخصيته أنذاك لقبح منظره مما حدا به أن يقول بحرقة وألم شديدين ( ياليتني كنتُ ديواني ...لأنتقل من حضنٍ الى ثاني ) .

كفاح وأحلام يتحابان ويتزوجان بعد غرام جميل . لكن أجهزة الأمن تلاحقهم وتضايقهم فيضطرالى الهروب بينما تختطف زوجته أحلام ولايعرف مصيرها بعد ذلك والى الأبد لأنها غيبت في سجون البعث .
بعدها تتمركز عصبة من الشيوعيين من جماعة القيادة المركزية في العراق تمهيدا لخوض الكفاح المسلح انطلاقا من الاهوار لإسقاط النظام القائم وكانت بقيادة المهندس (( خالد احمد زكي)) ابن بغداد .
ثم تنقلنا الرواية في جزئها الثالث الى نضال الحزب الشيوعي في الأهوار ونضالها ضد البعث وكيف نرى إجرام البعثيين أمثال الساقط البعثي حاشوش الذي جاء للأهوار مع أبيه ((ألحرامي فدعوس )) القاتل والهارب من عشيرته... ((الرفيق حاشوش)) يتمنطق مسدسه متنكبا رشاشته قاصدا دارعشيقته ((مريوده))مستعرضا عضلاته بما منّ عليه الحزب من النعمة والجاه ولابد له ان يتأهل فليس هناك أحسن من ((سعيده)) بنت سرحان تصلح زوجة له ، وقد رتب الأمر مع عشيقته ((مريودة)) زوجة والد ((سعيده)) لإقناعها بذلك فيكون تردده على دارهم وعلاقته مع مريوده لا تثير التساؤل كما قال لها.
سعيدة كان لها حبيبا شيوعيا طيبا( ناطور) تنتظرالزواج به عن قريب لكنه جندي في القادسية و في الخطوط الأمامية من القتال بين القوات العراقية والقوات الإيرانية وبعد مكرمة القائد وإعفائه من عقوبة الإعدام لانتمائه للحزب الشيوعي فإكتفوا بنقله الى الخطوط الأمامية كي يموت وبهذا يكونوا قد نفذوا بحقه حكم الأعدام بطريقة أخرى خبيثة وبالفعل يؤتى به ذات يوم ملفوفا بالعلم العراقي ميتا في الخطوط الأمامية بعد ان كانت سعيدة كل يوم تذهب الى القديس يوشع كي يرد لها حبيبها من جيش القادسية لكنه لم ينفعها بشيء مثلما لم يفعل كلُ القديسين مع الكثيرين أمثال ( ناطور) محبوب سعيدة . هذا هودأب القديسين لاينفعوا بشيء البتة والاّ فعلوا شيئا بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقرار القدس حيث أن الفعل هذا أكثر شراً من إبرهة الحبشي الذي رُمي بحجارةٍ من سجيل قبل الإسلام . فهل من أحد يعود بنا الى زمان المعجزات ، أم انّ هناك في الأمر ريب..
وتبقى سعيدة خائفة من مريودة البعثية زوجة أبيها سرحان التي تفعل الرذيلة مع الرفيق حاشوش في إتحاد النساء. سعيدة تخاف من أبيها أيضا لأنها تعتقد من انه هو الآخر متواطيء مع حاشوش مثلما تسمع عن أخبار الشيخ روضان الذي لفلف زوجته بحصيرة وأضرم النار عليها واحترقت حتى الموت لأنها لم تعطه الجنس الذي يريده من بين زوجاته الأربع . وهذه القضية تناولها بشكلٍ آخر الفيلم الأيراني (رجم ثريا) إنتاج 1986 من تمثيل نخبة من الممثلين المعارضين للنظام والذي يحكي قصة رجم (السيدة ثريا مونتشهري) وهي قصة حقيقية حدثت في إحدى قرى الريف الإيراني حيث أن زوج بطلة الفلم يتفق مع رجل الدين المسؤول في القرية بصفقة دنيئة فيسوقها الى الرجم حتى تموت ليس لشيء الاّ لأنها ذاقت به ذرعا وقرفا من أخلاقه الدينية المزيفة مما دبر لها مكيدة الزنا التي يعاقِب عليها الدين بالرجم بينما هي العفيفة الطاهرة فرجمت من قبل أهالي القرية حتى ماتت تلك الميتة التي تهز الضمائر الحية والميتة على حد سواء لكنها لم تهز ضمير زوجها الديني القميء .

فقدت ((سعيده)) قدرتها على الكلام بشكل نهائي بسبب مطاردة البعثي حاشوس لها ومقتل حبيبها ، تضحك ضحكا هستيريا دون سبب ظاهر، تسب تلعن .. تضرب خدودها تبكي بكاءا مرا ثم تسقط . وصل بها الأمر الي التجديف والتطاول على بعض الأسماء المقدسة ومنهم سيد يوشع لأنها عرفت جيدا من أنه الكثير من الأولياء لا يهشون ولا يبشون .

((سرحان)) يهرب من الجيش الشعبي الذي زجته به زوجته البعثية كي يخلو لها الجو مع عشيقها حاشوش ويبدأ بالنضال في الأهوار ضد البعثيين مع رفاقه الآخرين وسعيدة تفوق من جنونها بعد أن يهرب بها ابوها بعيدا عن حاشوش وزوجته وتتعلم السلاح والمعارك وتصبح من إحدى المناضلات الشيوعيات العنيدات ضد البعث .

ثم تبدأ الحملة الإيمانية للبعث التي أطلقها المجرم صدام وخلال هذه الفترة حاشوش زهد في أن يكثر من الصلاة والسجود والركوع وقراءة القرآن والأدعية ويتنبأ بمصائر الناس... أطلق لحيته وحلق شاربه مرتديا خواتمه مع مسبحته السوداء و بسرعة مذهلة بانت على جبهته آثارالسجود والورع وأطلق عليه لقب ( السيد نعمة) والناس الأغبياء يزورونه من كل صوب وحدب لغرض الشفاء فهو نعمة وهدية من رب السماء لسكان الأهوار وكذلك الحال بالنسبة لمريودة عاهرة إتحاد النساء هي الأخرى أصبحت قارئة جيدة للإمام الحسين وأصبح إسمها ( الملّة فاطمة ) وضاع بذلك تأريخها الشائن والمجرم وسط خزعبلات الدين وغباء النساء العراقيات لحد اللعنة.

تنتقل بنا البانوراما الروائية في أحد فصولها الى سقوط الصنم الصدامي على يد المحتل الأمريكي وتفتح الزنزانات على أيدي الناس الغاضبة ويخرج منها المعتقلين منذ اعوام وأعوام في أقبية البعث المجرم ، يخرج منها رجل إسمه كفاح( أشيب فارع القامة ، تبدو عليه علامات الهيبة رغم ملابسه الممزقة ، شعره الابيض يجلل كتفيه ، خال جميل يضيء وجنته اليسرى ، يسير حافي القدمين دون هدى لا يعرف إلى أين يذهب ، ولكنه ظل يردد لازمته كما كان في زنزانته الإنفرادية قبل ((24)) عاما (هل هدم الدرج ؟؟ هل هدم الدرج ؟؟ من هدم الدرج..؟؟؟هل هدم الدرج ؟؟...) هنا إشارة الى ماقبل 24 عام حيث أخفى كفاح كتبه الماركسية تحت الدرج وبنى عليها بالإسمنت خوفا من ملاحقة الأمن البعثي . أحد السابلة يقف مذهولا وهو لا يدري بماذا يجيب هذا الرجل الشبح ، تركه ومضى ، وهو يهز يده مستهزئا ، قائلا (وهل بقي شيء لم يهدم ، ألا ترى ما يجري في البلاد أيها المجنون...؟؟؟) ..

اذن كفاح المناضل الشيوعي ابن الشيوعي مظلوم وزوج الشيوعية الشهيدة أحلام الريان هو الآن مخبولا يجوب الشوارع التي تزدحم بمجنزرات الدبابات الأمريكية التي ناضل ضدها كفاح سنين وسنين . ونظرا لثقافته ظل أصحاب الثقافة يرافقونه معهم الى المقاهي في المتنبي ويدير النقاش باسلوب العارف لا المجنون فتارة يتذكر نيرودا ولوركا وماهو الفرق بين نيرودا هذا الذي عاش حياته بينما لوركا قتل .

تذكر أشياء بينما العراقيين يتشرذمون بين الشيوعي الأخير سعدي يوسف الذي يكيل الشتائم حتى لأهله في البصرة وكل العراقيين .

لرواية تتطرق عن سوء التطبيق للفكر الشيوعي الذي أدى بمايكوفسكي أن ينتحر بعدما رآى الكثير من التناقض بين الفكر وتطبيقه . ففظل الموت إنتحارا وخلاصا من عالم بات لايُطاق .

يسأل كفاح وهو يجادل المثقفين بأسئلة فلسفية عن ناظم حكمت سليل الإرستقراطية التركية العريقة وحبيبته منور. فهنا مواساة للنفس اذ انّ السياسة والثقافة تقتل صاحبها او على الاقل تحطمه فيقول كونفوسيوش من انّ الناس الجهلة أطول عمرا من المثقفين وهذا مانلاحظه اليوم في حياتنا العامة فالمثقف يتمنى لو كان انسانا عاديا كما حال أغلب الرعاع العراقيين ولذلك كفاح حين يتذكر ناظم حكمت فأنه يعرف من انّ ناظم قد ضحى بالكثير وهو ذلك الشاعر العقائدي الشيوعي الذي رُدّ له الإعتبار في تركيا بعد عقود وعقود من موته وأقيم له نصبا تذكاريا بعد ذلك. كفاح كان دائم السؤال عن حبيبته أحلام على طريقة ناظم حكمت الذي كان يقول :

لم اتمكن يا حبيبتي
أن أشتري لك باقة من البنفسج الأصهب

وكان الرفاق جياعاً
فأكلنا بثمنه خبزاً أسمر

كفاح المجنون أصبح مَضربا لكل من يقول خذ الحكمة من أفواه المجانين فنراه يردد في المقاهي مع أصدقائه(لا ادري لماذا رحم بلدي عقيم ، لايلد الفلاسفة ؟؟ لماذا اليونان ولاّدة للفلاسفة ؟؟هل لأنّ نفوسنا أدمنت على تلقي الإجابات ولا تجيد السؤال والتساؤل) .

نعم لأننا نقتل الفلاسفة بعد ان نطلق عليهم كلمة زناديق وعلى سبيل المثال لا الحصر إبن رشد واحد من أبرز و أكبر و أشهر فلاسفة الإسلام ، حتى تم إختيارهُ لتولي منصب القضاء في "أشبيليه" و هو أكبر و أهم منصب في إسبانيا حينها . تم تكريمهُ أوروبياً و تم تدريس كتبهُ في أغلب جامعات أوروبا. تعرض "إبن رشد" لإشرس و أشد حمله تكفيريه، حيث إتهمهُ الفقهاء و رجال الدين بالكفر و الزندقه و الإلحاد، و تم ترحيلهُ الى مراكش قبل أن يتوفى هناك بسبب الكآبه و الإهمال و عدم الرعايه الصحيه .

ينتهي كفاح بقصته الحزينة يجوب الشوارع مجنونا حكيما حكاءاً في المقاهي بكل أنواع المعرفة التي يحملها عن ظهر قلب أيام زمان حتى تنحره يد الإرهاب التكفيري وهو الذي أفلت من يد الطاغية والبعث المجرم . كفاح لم يمت مرة واحدة بل مات مرتين عن طريق الخيانة العظمى إذ انّ أحدهم من يدعي الوطنية سرق إبداعه وهو اليوم في شارع المتنبي بإعتباره شاعرا فحلاً وبهذا مات كفاح للمرة الثانية بهذا العمل القبيح . وقبل أيام نشر الروائي الجميل سلام ابراهيم عن الخيانات الحزبية عن صديقه الشيوعي (حسين السلمان) الذي قتل زوجته الشيوعية(منى) من أهالي الحلة في بلغاريا وقام بتقطيعا ووضعها في بانيو الشقة بالإتفاق مع السفارة العراقية أنذاك مقابل تعيينه في أكاديمية الفنون الجميلة التي يعمل بها حتى الان منذ ذلك الزمن البعثي دون محاسبة أو قصاص .

يموت كفاح و تنطوي صفحته ليلحق بفردوس حبيبته (أحلام) لكنه يظل هادرا بوسامته وأناقته مع الفرات ومع كل الذين ماتوا واستشهدوا في سبيل الأوطان.

أما (السيد نعمة) و عاهرته (الملة فاطمة) البعثيون سابقا تمادوا في النصب والإحتيال حتى أصبحوا من ذوي الشأن في الخارج على إعتبار أنهم قارعوا الديكتاتورية الصدامية وقد شاهدهم أهالي الأهوار ومنهم المناضلة سعيدة وأبوها في التلفزيون من ضمن فريق مجلس الحكم عند سقوط الصنم وبداية الإحتلال الأمريكي والحاكم المدني برايمر ومجلسه السيء الصيت وبهذا يعيد التأريخ نفسه مع قدوم شلّة من الساقطين خلعواالزيتوني البعثي وارتدوا العمّة وأطالوا اللحى وحملوا المسبحة وهذه الثلاث هي أدوات النصب والإحتيال بينما الشعب مغفل تنطلي عليه هذه الممارسات لكونه من أكثر الشعوب تخلفا وتراجعا .

كلمة بحق الروائي حميد :

أراد حميد عن كل ماذكر أعلاه أن يعطينا الإنطباع الحقيقي للقادة العراقيين على مستوى حكام دولة أو وزراء أو مدراء عاميين وماهي صفاتهم الحقيقية على غرار تلك الحكاية التي تتخذ كموعظة من المفروض أن يهتدى بها ومفادها : ( إتفق رجل مع زوجه في إختبار ابنهم الذي لايزال صغير السن ، فوضعوا قرآنا في أحد الآركان وفي الركن الثاني نقودا والثالث زجاجة خمر ، لكي يروا إبنهم حين يدخل ماذا يأخذ ... فقالت الزوجة بم تفسر اذا أخذ القرآن قال الزوج سيكون عالم /واذا اخذ النقود قال سيكون تاجر / واذا أخذ زجاجة الخمر قال سيكون فاسق/ فدخل الطفل واذا به يأخذهم كلهم / فقالت بم تفسر ذلك/ قال زوجها سيصبح زعيما عربيا .

وفي النهاية أستطيع القول من أنّ حميد مازال قادراً على إدهاشي فهذا يعني انه يكتب في الجانب الصحيح ، لأن الإدهاش القادم من أي مبدع يتطلب الكثير من العناء الإبداعي و المعرفة الخالصة في إثارة هورمون الإدهاش .

يبقى حميد الروائي وسط هذه الدوّارة الغبية لشعبٍ لم يسمح لنفسه أن يكون متحضرا بل يفتخر لجهله وتمسكه بحب الأولياء الذين هم مصدر هذا التراجع الرهيب في العقلية والتفكير ، فأستطيع أن أستنتج من رسائل الروائي حميد بما قاله الفرنسي الشهير بودلير في نصه ( الكلب والقنينة) حيث يعطي بودلير كلبه عطرا جميلاً ويرفضه فيقول له أنت كما البشر لايعجبهم الاّ الروائح النتنة . ومع كل هذا وذاك لو سئل حميد مع أي جانب تقف ؟؟ لأجاب كما أجاب فيدريكو غارثيا لوركا حين قيل له في مندلع التمرد الفرانكوي في أسبانيا : مع أيّ جانبٍ تقفُ ؟أجاب لوركا عليه الصلاة والسلام :الشاعرُ مع الخاسر ! .

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...