استشعر الحنين في هذا اليوم القائظ وأنا اقف وسط التراب المتراكم أبحث عن بقاب صوتك .
هبت رياحه من بعيد …
كنت لم أفق بعد من صدمة الفراق الأولي ، وكنت تندثرين ( بعباءتك السوداء ) تهرولين نحو البهو الواسع ، مطمئنة لقدر الله ، ولم تكن صدي خطواتك بئيسة .
كنت تركضين نحو المجهول ، وأنا أركض خلفك والضياء خلفنا يزدا توهجاً ، أحاول أن أغادر بؤسي ، وقوقعة صمتي ،واثنيك عن فرارك ، غير أن خطواتك التي رفضت أن يحملها المقعد المتحرك سبقتني إلي الداخل وتحول الصراع بداخلي إلي أنين والضياء المتغلغل من البوابة الزجاجية خلفنا يتضاءل أصبحنا معاً داخل ممرات الدهاليز الباردة ، وأنا أحمل حقيبتك الصغيرة … ووسائلك الزرقاء …
*
في الزمن الأول …
تصادمت الوجوه في ضجة عجيبة ، كنت أنظر إليه ، وأنا متدثرة بثوبي الزهري :
* حبيبي ينظر إلي .
( التفت لأريهم كيف كانت عيناه الواسعتان تنظران إلي ، غير أني لم أجد أحداً ) .
في الزمن الآخر .. والطرف الآخر من المدينة …
تصادمت الوجوه مرة أخري وهي تصرخ تحت الشمس ، وامرأة متدثرة بثوبها الأسود ، تحاول التغلغل في زحام السير وهي تنظر إليه ، وترفع يدها في حركة صاخبة مشيرة للجسد المسجي فوق الأعناق :
* حبيبي ينظر إلي .
( التفت لتربهم كيف كانت عيناه شبه المغلقة تنظر إليها ، غير أنها لم تجد أحداً ) .
*
أنهض ببطء ..
الشمس تلقي بشظاياها من خلف النافذة ، وأمواج البحر تتلاطم من بعيد ، انظر إلي جانب وجهك ملامحك لم تعد واضحة لدي ، اعتلي السرير الحديدي أعانق جسدك في هذه المساحة الصغيرة من الزمن ، همست بهدوء عجيب :
* بعد قليل أكون جاهزة لمواجهة قدر الله لا تنزعجي ..
أظل متشبثة بجسدك أتتبع بناظري صفاء وجنتيك ، انحدر إلي القاع ، تستلمين للتعامل بين الحين والآخر ، وأسقط في رائحة عبق بخورك ، أحاول أن اصرخ : ( دعينا نفارق هذه الغرفة الباردة ) .
غير أن صوتي تبخر قبل أن يصل إليك ، وفكرة الهروب من هذه البوابة التي أغلقت متاريسها الحديدية خلفنا تلاشت تحت وطء الخطوات الرتيبة التي جاءت لنأخذك لغرفة المجهول .
*
في الزمــن الأول
قفزت من فوق ظهر المقعد المتحرك ، وتركت الممرضة تهرول وخلفي فزعة ، وأنا أهرول خلفحاضنته الزجاجية الصغيرة وهم يهرعون به لغرفة المجهول وأنا متدثرة بثوبي الزهري :
* حبيبي يبتسم إلي .
( التفت لأريهم كيف كان يبتسم إلي ، غير أني لم أجد أحداً ) .
في الزمن الآخـر .. والطرف الآخر من المدينة ..
أخرج الفتية مخزون قهرهم في لحظة محتدمة ، لم يتبق شئ في جوف الأرض من حصي ، قلبوا التراب ، وذرات التراب ، تجمعت أجسادهم متلاصقة ، تراخت قبضاتهم حينما هبت رائحة شواء جسد بشري ، تقهقروا للخلف ، أعادتهم البوابة الخشبية المشرعة للمدينة العتيقة والغبار الساكن إلي بوتقة الحزن فصمت هتافاتهم وهم يتلقون الحاضنة الزجاجية نجسد طفل مسيحي بداخلها وامرأة متدثرة بالسواد تغادر البوابة المشرعة ، مشيرة إليه :
* حبيبي يبتسم إلي :
( التفت لتريهم كيف كان يبتسم إليها ، غير أنها لم تجد أحداً ) .
*
وقفت من بعيد .. خطواتي الثكلي كانت تتأرجح ، كنت أري أخي يلبس (قبعته البحرية ) وأنت فوق السرير الحديدي مدثرة بالبياض ، وأنا أتابعك للنظر وأخي يقبض بأطراف قبعته فوق رأسك حتي لا تسقط ، وهو يتمتم لنفسه أو لربما لي :
* رقيتها .. هل رقيتها طويلاً .. آيات من القرآن الكريم أقرئيها .. انفخي في صدرها فوق وجهها لتعود سالمة .
كنت لم أع بعد معني الضياء المتفجر في وجنتيك ، وابتسامتك التي ظلت تلاحقنا هادئة وأنت تمعنين النظر في وجوه أخواتي المتزاحمة حولك ، مقتربة من غرفة المجهول تصطدم حافة سريرك بالجانب الأيمن من الباب ، وأنا أركض بداخلي خلفك وأحاول أن أسد بجسدي الباب حتي لا تتسللين إلي الداخل ، غير أنك قررت الدخول أو عدم الخروج قبل عثورك علي مقبض السكينة الذي استل طفلي بين حناياه .
*
في الزمن الأول ..
التصقت بي الأصوات .. أغمضت عيني ألملم أثوابك القطنية التي صنعتها أختي الصغري وبألوان عمرها الزاهية ، أجمع ذراتي المتناثرة ، أتقهقر بضع خطوات الخلف ، أتخيلك مبتسمة وفوق رأسك قبعة أخي البحرية ، أتخيله مبتسماً وفوق رأسه الصغير قبعة أختي القطنية التي أهدتها إياه يوم أن أغفي محتضناً بكفه الصغيرة إصبعها وهي تتعتم فوق رأسه بآيات قرآنية لم تكتمل .
حاولت أن أنهض من رماد سقوطي .. ولم أصرخ ، أبداً لم أصرخ وأنا متدثرة بثوبي الزهري :
” الحمد لله .. الحمد لله أنهما يسجدان لله معاً .
( ألتفت لأريهم كيف كانا يسجدان لله معاً ، غير أني لم أجد أحداً ) .
في الزمن الآخر ، والطرف الآخر من المدينة ..
جاءوا بقميصه الملطخ بالدم ، وفي ذاكرة المرأة المدثرة بالسواد آثار لكابوس لم تنطفئ ملامحه بعد ، غير أن الأشياء بدأت تتسع وتصبح في مساحة الرؤية ، حاولت أن تستعيد تفاصيل جسده وهو بودعها في ذاك الصباح الباكر ويتكفئ علي يديها مثلما إياها .. حينما لملمت بقايا ثوبه ، وقميصه ، رأته في وسط الزحام يطل بملامحه الفنية وفوق رأسه عصبته القطنية التي أهدتها إياه خالته في يوم ماطر ، يسابقها صوتها المختنق الضاج بالوجه وهي تردد من الداخل دون أن يسمعه ( أرجوك .. أ.. أ .. ) ولم تصرخ .. أبداً لم نصرخ وهي متدثرة بثوبها الأسود :
* الحمد لله ، إنه يسجد لله ..
( التفت لتريهم كيف كان يسجد لله ، غير أنها لم تجد أحداً ) .
د. كلثم جبر
- قاصة قطرية
هبت رياحه من بعيد …
كنت لم أفق بعد من صدمة الفراق الأولي ، وكنت تندثرين ( بعباءتك السوداء ) تهرولين نحو البهو الواسع ، مطمئنة لقدر الله ، ولم تكن صدي خطواتك بئيسة .
كنت تركضين نحو المجهول ، وأنا أركض خلفك والضياء خلفنا يزدا توهجاً ، أحاول أن أغادر بؤسي ، وقوقعة صمتي ،واثنيك عن فرارك ، غير أن خطواتك التي رفضت أن يحملها المقعد المتحرك سبقتني إلي الداخل وتحول الصراع بداخلي إلي أنين والضياء المتغلغل من البوابة الزجاجية خلفنا يتضاءل أصبحنا معاً داخل ممرات الدهاليز الباردة ، وأنا أحمل حقيبتك الصغيرة … ووسائلك الزرقاء …
*
في الزمن الأول …
تصادمت الوجوه في ضجة عجيبة ، كنت أنظر إليه ، وأنا متدثرة بثوبي الزهري :
* حبيبي ينظر إلي .
( التفت لأريهم كيف كانت عيناه الواسعتان تنظران إلي ، غير أني لم أجد أحداً ) .
في الزمن الآخر .. والطرف الآخر من المدينة …
تصادمت الوجوه مرة أخري وهي تصرخ تحت الشمس ، وامرأة متدثرة بثوبها الأسود ، تحاول التغلغل في زحام السير وهي تنظر إليه ، وترفع يدها في حركة صاخبة مشيرة للجسد المسجي فوق الأعناق :
* حبيبي ينظر إلي .
( التفت لتربهم كيف كانت عيناه شبه المغلقة تنظر إليها ، غير أنها لم تجد أحداً ) .
*
أنهض ببطء ..
الشمس تلقي بشظاياها من خلف النافذة ، وأمواج البحر تتلاطم من بعيد ، انظر إلي جانب وجهك ملامحك لم تعد واضحة لدي ، اعتلي السرير الحديدي أعانق جسدك في هذه المساحة الصغيرة من الزمن ، همست بهدوء عجيب :
* بعد قليل أكون جاهزة لمواجهة قدر الله لا تنزعجي ..
أظل متشبثة بجسدك أتتبع بناظري صفاء وجنتيك ، انحدر إلي القاع ، تستلمين للتعامل بين الحين والآخر ، وأسقط في رائحة عبق بخورك ، أحاول أن اصرخ : ( دعينا نفارق هذه الغرفة الباردة ) .
غير أن صوتي تبخر قبل أن يصل إليك ، وفكرة الهروب من هذه البوابة التي أغلقت متاريسها الحديدية خلفنا تلاشت تحت وطء الخطوات الرتيبة التي جاءت لنأخذك لغرفة المجهول .
*
في الزمــن الأول
قفزت من فوق ظهر المقعد المتحرك ، وتركت الممرضة تهرول وخلفي فزعة ، وأنا أهرول خلفحاضنته الزجاجية الصغيرة وهم يهرعون به لغرفة المجهول وأنا متدثرة بثوبي الزهري :
* حبيبي يبتسم إلي .
( التفت لأريهم كيف كان يبتسم إلي ، غير أني لم أجد أحداً ) .
في الزمن الآخـر .. والطرف الآخر من المدينة ..
أخرج الفتية مخزون قهرهم في لحظة محتدمة ، لم يتبق شئ في جوف الأرض من حصي ، قلبوا التراب ، وذرات التراب ، تجمعت أجسادهم متلاصقة ، تراخت قبضاتهم حينما هبت رائحة شواء جسد بشري ، تقهقروا للخلف ، أعادتهم البوابة الخشبية المشرعة للمدينة العتيقة والغبار الساكن إلي بوتقة الحزن فصمت هتافاتهم وهم يتلقون الحاضنة الزجاجية نجسد طفل مسيحي بداخلها وامرأة متدثرة بالسواد تغادر البوابة المشرعة ، مشيرة إليه :
* حبيبي يبتسم إلي :
( التفت لتريهم كيف كان يبتسم إليها ، غير أنها لم تجد أحداً ) .
*
وقفت من بعيد .. خطواتي الثكلي كانت تتأرجح ، كنت أري أخي يلبس (قبعته البحرية ) وأنت فوق السرير الحديدي مدثرة بالبياض ، وأنا أتابعك للنظر وأخي يقبض بأطراف قبعته فوق رأسك حتي لا تسقط ، وهو يتمتم لنفسه أو لربما لي :
* رقيتها .. هل رقيتها طويلاً .. آيات من القرآن الكريم أقرئيها .. انفخي في صدرها فوق وجهها لتعود سالمة .
كنت لم أع بعد معني الضياء المتفجر في وجنتيك ، وابتسامتك التي ظلت تلاحقنا هادئة وأنت تمعنين النظر في وجوه أخواتي المتزاحمة حولك ، مقتربة من غرفة المجهول تصطدم حافة سريرك بالجانب الأيمن من الباب ، وأنا أركض بداخلي خلفك وأحاول أن أسد بجسدي الباب حتي لا تتسللين إلي الداخل ، غير أنك قررت الدخول أو عدم الخروج قبل عثورك علي مقبض السكينة الذي استل طفلي بين حناياه .
*
في الزمن الأول ..
التصقت بي الأصوات .. أغمضت عيني ألملم أثوابك القطنية التي صنعتها أختي الصغري وبألوان عمرها الزاهية ، أجمع ذراتي المتناثرة ، أتقهقر بضع خطوات الخلف ، أتخيلك مبتسمة وفوق رأسك قبعة أخي البحرية ، أتخيله مبتسماً وفوق رأسه الصغير قبعة أختي القطنية التي أهدتها إياه يوم أن أغفي محتضناً بكفه الصغيرة إصبعها وهي تتعتم فوق رأسه بآيات قرآنية لم تكتمل .
حاولت أن أنهض من رماد سقوطي .. ولم أصرخ ، أبداً لم أصرخ وأنا متدثرة بثوبي الزهري :
” الحمد لله .. الحمد لله أنهما يسجدان لله معاً .
( ألتفت لأريهم كيف كانا يسجدان لله معاً ، غير أني لم أجد أحداً ) .
في الزمن الآخر ، والطرف الآخر من المدينة ..
جاءوا بقميصه الملطخ بالدم ، وفي ذاكرة المرأة المدثرة بالسواد آثار لكابوس لم تنطفئ ملامحه بعد ، غير أن الأشياء بدأت تتسع وتصبح في مساحة الرؤية ، حاولت أن تستعيد تفاصيل جسده وهو بودعها في ذاك الصباح الباكر ويتكفئ علي يديها مثلما إياها .. حينما لملمت بقايا ثوبه ، وقميصه ، رأته في وسط الزحام يطل بملامحه الفنية وفوق رأسه عصبته القطنية التي أهدتها إياه خالته في يوم ماطر ، يسابقها صوتها المختنق الضاج بالوجه وهي تردد من الداخل دون أن يسمعه ( أرجوك .. أ.. أ .. ) ولم تصرخ .. أبداً لم نصرخ وهي متدثرة بثوبها الأسود :
* الحمد لله ، إنه يسجد لله ..
( التفت لتريهم كيف كان يسجد لله ، غير أنها لم تجد أحداً ) .
د. كلثم جبر
- قاصة قطرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق