⏪⏬
خرجت من وكرها وملامح السخط بادية على وجهها. أقرت في نفسها أن كفى! لا مزيد من وصلات العويل التي لا تنقطع و الجدال الذي لا حد له، لا مزيد من المهام التي لم تحبها قط إلا أن الواجب دوما يقتضي أن تقوم بها!الواجب! اها .. لم تفهم حتى من مؤسس
هذا الدستور القهري و هل يقبل التفاوض أم لا! كانت لتتفاوض معه بشأن ترتيب الملابس و تلميع الأثاث لأن تلك المهام بالفعل تُميتها غيظًا على كل لا يهم طفح الكيل و لن تعود!
اتجهت مُجردة من كل متاع إلا من ردائها الأزرق وشالها الوردي وبضع عملات نقدية صوب المقهى المُعتاد وفي بقعتها المُفضلة و النائية عن كل عين شعرت ببرد الشتاء يلسع أرنبة أنفها ومن ثمّ انتبهت إلى وابل الدموع المُنهمر على وجنتيها بكت .. بكت كثيرًا و لم تكن تدري ماذا تبكي! أتبكي قواها التي اندثرت في اللاشيء؟ أم تبكي ذاك الشخص الذي أقسمت ألا تكونه و كانته؟ أم تبكي أمها و الغُربة؟ أتبكي الوحدة رغم الأنس؟ أتبكي اشتعال روحها بالشيب رغم رونق الشباب؟ أم تبكي لأن شالها الوردي لم يستطع حمايتها من لفحات البرد هذه!! سويعات مرت و هي مُتوسدة ذراعها تنتظر و لا تدري ما أو من المنتظَر! في أعماق قلبها كانت تعلم أنها ترقب إشارة ما لتجد على الأقل سببًا واحدًا يدفعها لمزيد مٌحاولة .. لمزيد عيش!
ومن ثم .. مطر! يالله! لطالما كان المطر تميمة أيامها و صوت زخاته أشبه بترانيم السلام على قلبها! وذاك التراب المُبلل يُثير لديها تلقائيًا براعم التذوق و يأخذها لمكان و زمن بعيدين .. يأخذها لحساء جدتها المُحضر خصيصًا لمثل تلك الأوقات، لرائحة دثارها الصوفي الخشن .. لأصوات الأطفال المرحة تصيح في حبور “الحتة بتشتي .. أروح لستي”
أخرجت يدها من شباك المقهى المجاور لها لتُصافح برفق قطرات المطر قطرة .. قطرة كأنه لم شمل لثلة من الصحب طال فِراقهم و ارتسم طيف بسمة على شفتيها؛لكن لحظة! الشراشف هبت واقفة وراحت تردد الشراشف .. الشراشف لابد و أنها تبللت .. أسرعت نحو الطريق الأقصر لبيتها الصغير و لم تكن تفكر إلا في شيء واحد شراشفها المنشورة وكل ذاك الجهد المبذول في تنظيفها و إذا بها تعود للبيت الذي أقسمت ألا تعوده!
هكذا نحن مُتطرفات في كل شئء. فتيات ضاقت بهن محدودية الاختيار في عالمهن الصغير. مُتمردات في حدود الطاعة. ثائرات في حدود الأدب. حمقاوات جِدًا جدًا و جدًا مهما طالتنا أصابع الحكمة! أشد النّاس تأوهًا من الألم وأكثرهم تبسمًا من العدم حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من السعادة .. نضحك كأن الحزن لم يطرق لنا بابًا قط، نبكي كأن الفرح لم يُكتب علينا قط! نرقص على أنغامنا المُفضلة كأنها الرقصة الأخيرة، نلاعب صِغارنا كأنها اللعبة الأخيرة .. نحب ذوينا بقلوب لا بغض فيها، و نبغضهم بقلوب لا حب فيها! “كأنما لم نرَ منهم خيرًا قط” نُعانقهم عناق مودّع ..! و نخاصمهم خصومة فاجر! نرفعهم على براق الود في رضانا، ونحطهم من حيث رفعناهم في سخطنا! لا يُرضينا أشباه العلاقات و لا أنصاف الأصدقاء فإما أن نكون أو لا نكون.
بعد أن جمعت ذات الرداء الأزرق شراشفها نظرت في المرآة مطولًا بعينيها الواسعتين المنهكتين و شعرها الغجري وقالت لنفسها لا بأس “ياما بيحصل”؛ لكن قطعًا لو تكرر الأمر سأترك البيت هذه المرة بلا عودة! سكنت لهذا الرأي و عادت إلى وكرها ورائحة حساء الجدة مازال يٌداعب أنفها و هي تٌدندن “الحتة بتشتي .. أروح لستي”.
-
*ضحى الديب
كاتبة مصرية
خرجت من وكرها وملامح السخط بادية على وجهها. أقرت في نفسها أن كفى! لا مزيد من وصلات العويل التي لا تنقطع و الجدال الذي لا حد له، لا مزيد من المهام التي لم تحبها قط إلا أن الواجب دوما يقتضي أن تقوم بها!الواجب! اها .. لم تفهم حتى من مؤسس
هذا الدستور القهري و هل يقبل التفاوض أم لا! كانت لتتفاوض معه بشأن ترتيب الملابس و تلميع الأثاث لأن تلك المهام بالفعل تُميتها غيظًا على كل لا يهم طفح الكيل و لن تعود!
اتجهت مُجردة من كل متاع إلا من ردائها الأزرق وشالها الوردي وبضع عملات نقدية صوب المقهى المُعتاد وفي بقعتها المُفضلة و النائية عن كل عين شعرت ببرد الشتاء يلسع أرنبة أنفها ومن ثمّ انتبهت إلى وابل الدموع المُنهمر على وجنتيها بكت .. بكت كثيرًا و لم تكن تدري ماذا تبكي! أتبكي قواها التي اندثرت في اللاشيء؟ أم تبكي ذاك الشخص الذي أقسمت ألا تكونه و كانته؟ أم تبكي أمها و الغُربة؟ أتبكي الوحدة رغم الأنس؟ أتبكي اشتعال روحها بالشيب رغم رونق الشباب؟ أم تبكي لأن شالها الوردي لم يستطع حمايتها من لفحات البرد هذه!! سويعات مرت و هي مُتوسدة ذراعها تنتظر و لا تدري ما أو من المنتظَر! في أعماق قلبها كانت تعلم أنها ترقب إشارة ما لتجد على الأقل سببًا واحدًا يدفعها لمزيد مٌحاولة .. لمزيد عيش!
ومن ثم .. مطر! يالله! لطالما كان المطر تميمة أيامها و صوت زخاته أشبه بترانيم السلام على قلبها! وذاك التراب المُبلل يُثير لديها تلقائيًا براعم التذوق و يأخذها لمكان و زمن بعيدين .. يأخذها لحساء جدتها المُحضر خصيصًا لمثل تلك الأوقات، لرائحة دثارها الصوفي الخشن .. لأصوات الأطفال المرحة تصيح في حبور “الحتة بتشتي .. أروح لستي”
أخرجت يدها من شباك المقهى المجاور لها لتُصافح برفق قطرات المطر قطرة .. قطرة كأنه لم شمل لثلة من الصحب طال فِراقهم و ارتسم طيف بسمة على شفتيها؛لكن لحظة! الشراشف هبت واقفة وراحت تردد الشراشف .. الشراشف لابد و أنها تبللت .. أسرعت نحو الطريق الأقصر لبيتها الصغير و لم تكن تفكر إلا في شيء واحد شراشفها المنشورة وكل ذاك الجهد المبذول في تنظيفها و إذا بها تعود للبيت الذي أقسمت ألا تعوده!
هكذا نحن مُتطرفات في كل شئء. فتيات ضاقت بهن محدودية الاختيار في عالمهن الصغير. مُتمردات في حدود الطاعة. ثائرات في حدود الأدب. حمقاوات جِدًا جدًا و جدًا مهما طالتنا أصابع الحكمة! أشد النّاس تأوهًا من الألم وأكثرهم تبسمًا من العدم حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من السعادة .. نضحك كأن الحزن لم يطرق لنا بابًا قط، نبكي كأن الفرح لم يُكتب علينا قط! نرقص على أنغامنا المُفضلة كأنها الرقصة الأخيرة، نلاعب صِغارنا كأنها اللعبة الأخيرة .. نحب ذوينا بقلوب لا بغض فيها، و نبغضهم بقلوب لا حب فيها! “كأنما لم نرَ منهم خيرًا قط” نُعانقهم عناق مودّع ..! و نخاصمهم خصومة فاجر! نرفعهم على براق الود في رضانا، ونحطهم من حيث رفعناهم في سخطنا! لا يُرضينا أشباه العلاقات و لا أنصاف الأصدقاء فإما أن نكون أو لا نكون.
بعد أن جمعت ذات الرداء الأزرق شراشفها نظرت في المرآة مطولًا بعينيها الواسعتين المنهكتين و شعرها الغجري وقالت لنفسها لا بأس “ياما بيحصل”؛ لكن قطعًا لو تكرر الأمر سأترك البيت هذه المرة بلا عودة! سكنت لهذا الرأي و عادت إلى وكرها ورائحة حساء الجدة مازال يٌداعب أنفها و هي تٌدندن “الحتة بتشتي .. أروح لستي”.
-
*ضحى الديب
كاتبة مصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق