“على دلعونا تحتِ الرُّمّانـــي يامـــــا حبيبِ القلب لاقانـــــي
خوفي يا يما حبي ينسانــــي وسافر عالغربي وتركني هونا
تحتِ الرُّمًاني تحتِ الرُّمّاني حبيبِ القلــب هيــــــو استنّاني
دور عليّي، قلـــت هيّانــــي تعــــــــال لعندي يا بو لعيونــا
حبيبي أهداني حبّة رمّـــانِ وقل لي يا مدلل بللّه استنانــي
وأنا عا فراقك صرت مرضانِ كلو على شانك يا أسمر اللونا”
انساب صوت أمه الحنون يردّد الأغنية بينما هو قابع تحت اللحاف، فتح عينيه ورفع وجهه نحو السماء فرأى عبر النافذة هلالًا يتيمًا هائمًا في خضم السواد، وهبّت على وجهه نسمة الليل الباردة فخففت من لفح اللهيب الذي يجري تحت بشرته السمراء، بقي في الفراش متمددًا يتأمّل شقوق السقف المتشعبة في خطوط متكسّرة تلتقي وتتوارى وتتباعد، يتذكّر أيامًا قضاها تحت شجرة الرمان، أيامًا تعيش في قلبه ووجدانه، وتذكّر جلنار بنت الجيران التي لم يرها مذ هجروا من صفورية.. جلنار التي لا يعرف أين هي اليوم…
قديما قالوا:” كلّ الحوادث مبدأها من النظر، ومعظم النار من مستصغر الشرر، كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر”.. وهذا ما فعلته عينا جلنار اللامعتان، جلنار الصوت العميق الدافئ، القوام الفارع، الابتسامة الدائمة التي تطلقها في الهواء دون أن تخصّ بها أحدًا… سحرته بهدوء وجهها، وفتنته تلك السكينة والبراءة التي تعلو ملامحها، أضاعها، وهو منذ ضياعها أصبح مثل دم انسحب من جسد وخلّفه هامدًا.
قضى طيلة الليل يفكّر بحديث دار بين شقيقيه، كانا يتحدّثان عن مجموعات تدخل خفيّة إلى صفورية تقطف الرمان، يضعونه في أكياس أو صناديق ويأتون بها إلى الناصرة، كان الرمان نقطة ضعفه، لا بل كانت تلك الثمرة عشقه الأبديّ، منذ مدة لم ير ثمرة الرمان، وتراءت له بأزهارها البيضاء والحمراء الجميلة وجلدها القرمزيّ اللون يعلوها تاج مميّز، وتذكّر عصيرها الذي كان يشربه سائغًا لذيذًا، وأكلة دبس الرمان التي كانت تعدّها جدته وتصّر أن يتناولها حتى يسمن قليلًا ويحمّر وجهه، تذكّر كيف كان يفرط حباتها اللؤلؤيّة، وكيف أعدّت منها أخته “السنونية” عندما برز أول سن لابنها الصغير، وكيف كان جدّه يشرب عصيرها لتخفّف عنه آلام المفاصل.. ثمّ إنّ في داخله حنين يخنق الروح… فقد اشتاق… اشتاق لبساتين الرمان والتين والحمضيات، اشتاق لسهول صفورية الواسعة، لمياهها العذبة ، اشتاق لنبع القسطل، لقلعة ظاهر العمر، لرائحة ترابها، فكّر في كلّ ذلك واتخذ قرارًا…
-يما أنا رايح عصفورية.
وجاء صوتها حادًا: لا لن تذهب، لا أريد أن أفقدك، هذه مخاطرة كبيرة .
-يما، لا تخافي، سأحضر رمانًا فقط.
-“رمان! ولا بدك تدور على جلنار”؟
انتابه إحساس غامض، وتذكّر عرس الدم حين أمطرت السماء قبل أشهر نارًا وزجاجًا وحديدًا وأجسادًا ممزقة.
واستدرك قائلًا: لا، فقط سأحضر رمانًا.
-لن تذهب.
كانت أمه من تلك النساء اللواتي لا يتراجعن عن قراراتهن، عنيدة حتى والده كان يخشاها.
لكنّه هو أيضًا اتخذ قراره، سيذهب.
وقبل صلاة الصبح بساعة انسلّ من فراشه، أخذ شوالًا من المخزن، وخرج من البيت متوجهًا نحو بيت جدّه، وحده جدّه من سيفهمه ، ألم يكن يقول له: “الرمان بملي القلب ايمان”!
سار حتى وصل بيت جدّه وهو يستحضر الذكريات بكلّ ما فيها من حلاوة وآهات، ويستذكر أحاديث جدّه عن صفورية التي كان يكرّرها كشريط تسجيل لا يعرف الكلل أو الملل، كان الباب الحديديّ مغلقًا ولم يشأ أن يحدث صوتًا في الصباح الباكر فيوقظ الحي بأكمله، استدار ومشى مبتعدًا عن الدار، لكنّ شعورًا غريبًا انتابه فقفل عائدًا إلى منزل جدّه، سيرى جدّه قبل أن يذهب إلى صفورية، قفز عن الجدار ودخل عبر الحديقة، كان الشباك مفتوحًا ورائحة غريبة تنبعث منه، وغيمة سوداء من الدخان الخانق تملأ المكان، وركبه الفزع وصاح: جدّي!
وما هي إلاّ لحظات حتى كسر الباب، وقام بسحب جدّه إلى الخارج، تمسّك به جدّه، وأورق الحنان في تعابيره وتجمّع الشكر دمعًا في عينيه، تشنّجت أطرافه فبدا كأنّما كلّ طرف منها قد دقّ في الأرض بمسمار ، وكست وجهه صفرة كأنّ كلّ شيء فيه قد تخلى عنه حتى دماؤه، أمّا عيناه فكانتا مفتوحتين معلقتين في السماء، وأنفاسه تتهدّج في عنف، امتلأت الدار بالجيران يحاولون انقاذ المنزل من النيران، أخمدت النار ولكن في قلبه نار لم تخمد، وجاءت أمه على عجل لتطمئن على والدها، نظرت إليه نظرة ذات معنى ولم تتكلم.
خرج دون أن ينبس ببنت شفة، منصتًا لنبض روحه الهائمة، نظر إلى الأبنية الحجريّة الراسخة كالجبال، ودور البلدة العتيقة التي صمدت معالمها أمام الزمن، تابع سيره لتحتويه أروقتها الطويلة التي يفوح منها عبق القدم فتحمله إلى زمان الأساطير والحكايات الجميلة، سار في طرقها الضيقة الصاعدة إلى الأعلى. وبين ثنايا ذاكرته رأى آمالًا تتجدّد،حبًّا وشوقًا ونبضًا.
*د نجوى غنيم
فلسطين المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق