⏬ أحمد الدبش
كاتِب وباحِث في التاريخِ - فلسطين
عنوان هذا المقال مستعار من كتاب ألان غريش "علامَ يُطلَق اسمُ فلسطين؟"، في هذا الكتاب ينطلق ألان غريش من تساؤل ينتحل البراءة، تساؤل يطلب تعريفا جامعا مانعا لاسم أفقدته اعتياديةُ التداول اليومي الجدة المؤهِّلة لطرح التساؤل. لسان حاله في انتحال
البراءة يقول: "تعالوا نسرد الأحداث التاريخية منذ بداياتها، في ضوء الوثائق التي عادة ما يغضُّ الغربُ الطرْف عنها".
كتب الباحث العراقي فاضل الربيعي مقالا بعنوان "التوراة لم تذكر اسم الفلسطينيين ولا تعرف فلسطين"، جاء فيه: "أن اسم فلسطين والفلسطينيين لم يظهر في السجلات التاريخية إلا نحو عام 330 ميلادية مع التقسيم الإداري الروماني البيزنطي لسوريا. لقد أطلق البيزنطيون -مع اعتناقهم للمسيحية في سوريا سنة 325م مع صعود قسطنطين العظيم للعرش وترجمة الأناجيل من العبرية إلى اليونانية- اسم فلسطين على القطاع الجنوبي من سوريا". ويضيف الربيعي: "قبل هذا التاريخ لم يكن هناك استخدام للاسم كقطاع إداري في الوثائق والسجلات التاريخية. هذا لا يعني أن اسم الشعب لم يكن معروفا. نحن نتحدث عن نشاط إداري وحسب. إن السرّ في فشل الباحثين والدارسين -في العثور على اسم فلسطين (كقطاع) في السجلات القديمة والنقوش- يكمن هنا".
اقتبسنا هذه الفقرات وفي نيتي أن أقدم في هذه المقالة تقويما تاريخيا لهذه النصوص. وبقليل من الجهد نستطيع أن نقتبس أقوالا وحججا من مصادر تاريخية تفنّد ما طرحه الربيعي في مقاله حول "فلسطين"، ولعل أسوأ ما جاء في المقال أنه حرص على إقصاء "فلسطين" إقليما وشعبا عندما قال: "إن اسم فلسطين والفلسطينيين لم يظهر في السجلات التاريخية إلا نحو عام 330 ميلادية".
يشير هيرودوت في نصوصه عند الحديث عن "فلسطين" الإقليم والسكان بالقول: "ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفينيقيين حتى حدود مدينة كاديتس [غزة] السوريون الذين يسمون "الفلسطينيون"
لسنا هنا في مجال الحديث عن أصول اسم "فلسطين" وجغرافيتها، ونحيل القارئ إلى مؤلفاتنا: "كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب" (2005)، و"عورة نوح ولعنة كنعان وتلفيق الأصول" (2007)، و"سلسلة التاريخ اليمني المجهول، الجزء الأول، اليمن الحضارة والإنسان: بحثا عن الجذور" (2011).
ولكن دعونا نعود بذاكرتنا إلى ذلك المؤرخ الإغريقي الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ويُعرف باسم: أبو التاريخ، وألَّف كتاب "التاريخ" حوالي سنة 440 ق.م. [ترجمه إلى العربية حبيب أفندي بسترس عن طبعة لارشي الفرنسي، تحت عنوان "تاريخ هيرودوتس الشهير"، (1886ــ 1887). وأيضا عبد الإله الملاح، تحت عنوان "تاريخ هيرودوت"، (2001)].
ما يهمنا من مؤلَّفه هو ما كتبه عن "فلسطين"، فقد ذكر هيرودوت أنّ السكيثيين اجتاحوا آسيا، "ولما تم لهم هذا زحفوا إلى مصر للاستيلاء عليها، فلما بلغوا فلسطين وجدوا أمامهم ملك مصر بسميتاك ومعه الهدايا وهو يلهج بالدعاء لهم، راجيا التوقف عن زحفهم. فعادوا أدراجهم حتى توقفوا في عسقلان، دون أنْ يلحقوا ضررا بالبلاد في أثناء مسيرتهم، لولا أنّ قلّة منهم تأخرت عن الركب، وأخذت تعمل نهبا في معبد أفروديت. وقد تقصيتُ الأمر وتبيّن لي أنه أقدم المعابد الخاصة بهذه الآلهة، وما المعبد المكرّس لها في قبرص -كما يُسلّم أهلها بذلك- إلاّ تقليد لهذا المعبد في عسقلان، والمعبد الذي في شتيرا أقامه الفينيقيون، وهم أهل هذه المنطقة من سورية".
كتب هيرودوت عن هوية سكان "فلسطين" عند حديثه عن عادة الختان ما يلي: "الختان معروف عند المصريين والأثيوبيين منذ أقدم العصور. وهذا أمر يقر به الفينيقيون والسوريون سكان فلسطين فيقولون بأنهم إنما أخذوا هذا التقليد عن المصريين". كما يشير هيرودوت إلى "فلسطين" الإقليم بالقول: "إن النصب التي أقامها سيسوستوريس في البلاد التي قهرها قد زال معظمها، ولكني رأيت بأم العين تلك النصب ما تزال قائمة في ذلك الجزء من سورية المسمى فلسطين".
وفي مجال إشارة هيرودوت إلى الضرائب التي يدفعها كل إقليم، حسب تقسيم الفرس الإداري، يضع هيرودوت "فلسطين" جزءا من الإقليم الخامس قائلا: "ثلاثمئة وخمسون تالنت (وزنة) يدفعها سكان المنطقة الواقعة ما بين مدينة بوسيديوم التي أسسها الأمفيلوكيون والتي تقع على الحدود بين قليقيا وسورية حتى مصر، باستثناء المنطقة العربية التي لم تكن تدفع أي ضريبة على الإطلاق، وهذا الإقليم كان يضم الأراضي الفينيقية والقسم من سورية الذي يطلق عليه فلسطين وقبرص".
ويقول أيضا: "أما اللسان القاري الآخر (الهضبة) فيبدأ في فارس ويشمل بلاد الآشوريين والعرب، وينتهي -كما هو متفق عليه- عند خليج العرب (البحر الأحمر) الذي قام داريوس بوصله بنهر النيل عبر قناة. وما بين فارس وفينيقيا أرض شاسعة واسعة، ويمتد هذا الفرع الذي أقوم بوصفه ههنا بمحاذاة ساحل البحر المتوسط من فلسطين - سورية حتى مصر، حيث ينتهي ويضم ثلاثة أقوام".
يعود هيرودوت في نصوصه إلى الحديث مرة أخرى عن "فلسطين" الإقليم والسكان بالقول: "ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفينيقيين حتى حدود مدينة كاديتس [غزة] السوريون الذين يسمون "الفلسطينيون". ومن هذه المدينة -التي تضارع مدينة سارديس في حجمها- فإن جميع الموانئ حتى جينيسيوس تتبع ملك العرب. والمنطقة التي تمتد من هناك حتى بحيرة سربونيس (سبخة البردويل) والتي بالقرب منها ينحدر جبل كاسيوس ليصل إلى البحر، فإنها تعود لسورية أيضا. أما مصر فتبدأ من منطقة بحيرة سربونيس (حيث تذهب الرواية إلى أن تيفون (الإله سيث) يختفي هناك)".
يشير هيرودوت إلى مشاركة سكان "فلسطين" في حروب الفرس بالقول: "وكان الأسطول يتألف من ألف ومائتين وسبع من السفن الضخمة الطويلة، عدا السفن العادية وقوارب النقل: قدم الفينيقيون والسوريون سكان فلسطين 300 سفينة. وبحارتها يرتدون خوذات شبيهة بخوذات أمثالهم من الأغريق فضلا عن الدروع من نسيج الكتان والتروس والرماح. ويروي هؤلاء أنهم كانوا يسكنون الخليج العربي في قديم الزمان ثم هاجروا إلى الساحل السوري، وما زالوا يسكنون هذا الساحل إلى اليوم. وتعرف هذه المنطقة من سورية وما يليها جنوبا حتى مصر بفلسطين".
ثمة عدة حقائق تكمن في نصوص هيرودوت تستعصي على التلفيق، وتفنّد ما ذهب إليه الربيعي، وهي ما يلي:
- أولا: أن هيرودوت أطلق على المنطقة الممتدة من جنوبي مدينة دمشق إلى حدود صحراء سيناء اسم "فلسطين"، وهذه مسألة تجاهلها الربيعي!
- ثانيا: نص هيرودوت على أن "فلسطين" هو اسم الإقليم كما ذُكر في تقسيم الفرس الإداري للمناطق التي احتلوها في الشرق العربي.
- ثالثا: أن هيرودوت كتب مؤلَّفه اعتمادا على ما رآه هو وما سمعه من أهل البلاد، أي أنه لم يختلق اسم "فلسطين"، وإنما نقل اسما كان مستخدما في الإقليم نفسه خلال زيارته.
- رابعا: وصف هيرودوت هوية سكان المنطقة الجغرافية التي يطلق عليها "فلسطين" بالقول: السوريون الذين يسمون الفلسطينيون.
من المناسب أن نختم هذا المقال بما يقول المفكر الفرنسي بير روسي في كتابه "مدينة إيزيس، التاريخ الحقيقي للعرب": "إن إعادة اسم فلسطين الوحيد إلى هذه الأرض يصبح إذًا ليس فقط مطابقا للقاعدة التاريخية الأدق والأصح، ولكن لرفض تدخل أو وساطة أحكام علمية تعسفية ومسبقة. إنه ليس هذا العرق أو ذاك، هذا الدين أو ذاك الذي استفاد من انتخاب الطبيعة، ولكنها، فلسطين، القطر ذاته، الذي أخلى الشكل الخارجي في البحر المتوسط لمركز ثقافي مختار، فإلى غالبية سكانه إنما يعود دور ناشري الفنون والعلوم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المحرر
يناقش ألان غريش الصحافي الفرنسي في كتايه "علامَ يُطلق اسم فلسطين؟" (255 صفحة من القطع الصّغير) القضية الفلسطينية منذ البداية، كأنه يردّ على ادّعاء الصهيونية أنّها استولت على أرضٍ من دون سكان، فيتساءل ببساطة "علام يُطلق اسم فلسطين" لينطلق في سرد الأحداث التاريخية المتشابكة، ويكشف ما يتغاضى عنه الغرب. وأهمية الكتاب في تنوير الرأي العامّ الفرنسي بلغته على حقائق لا ينقلها الإعلام والردّ على من يؤثّر في الفرنسيين، أمثال برنار – هنري ليفي، ولكنّه يفيد القارئ العربي أيضًا في تبيان أهمية القضية الفلسطينية التي بدت تتقلّص أمام اندلاع صراعاتٍ أخرى أو مع قيام الثورات العربية التي أُطلق عليها اسم "الربيع العربي"، فإذ بفلسطين تبقى عنوانًا بارزًا في نفس الشعوب العربية، لا تغيب عنها.
تتّضح أهمية فلسطين في هذا الكتاب أكثر فأكثر، ليس للطابع "المقدّس" الذي تكتسبه عاصمتها القدس، بل بفضل ما يتوقّعه المؤلّف في صيرورتها موئلًا لتخطّي صراع الحضارات (وفي أوجهه الحروب الصليبية)، في سبيل تحقيق حلم طوباوي يُرجّح أن يُحقّقه ضغط الشعوب العربية على إسرائيل والدول الغربية، لقيام دولةٍ واحدة جامعة للفلسطينيين واليهود، تقوم على مبدأ المواطنة لا على التمييز العنصري، فيصحّح مسار نظام عالمي جائر ولّد هذه الدولة العدائية.
كاتِب وباحِث في التاريخِ - فلسطين
عنوان هذا المقال مستعار من كتاب ألان غريش "علامَ يُطلَق اسمُ فلسطين؟"، في هذا الكتاب ينطلق ألان غريش من تساؤل ينتحل البراءة، تساؤل يطلب تعريفا جامعا مانعا لاسم أفقدته اعتياديةُ التداول اليومي الجدة المؤهِّلة لطرح التساؤل. لسان حاله في انتحال
البراءة يقول: "تعالوا نسرد الأحداث التاريخية منذ بداياتها، في ضوء الوثائق التي عادة ما يغضُّ الغربُ الطرْف عنها".
كتب الباحث العراقي فاضل الربيعي مقالا بعنوان "التوراة لم تذكر اسم الفلسطينيين ولا تعرف فلسطين"، جاء فيه: "أن اسم فلسطين والفلسطينيين لم يظهر في السجلات التاريخية إلا نحو عام 330 ميلادية مع التقسيم الإداري الروماني البيزنطي لسوريا. لقد أطلق البيزنطيون -مع اعتناقهم للمسيحية في سوريا سنة 325م مع صعود قسطنطين العظيم للعرش وترجمة الأناجيل من العبرية إلى اليونانية- اسم فلسطين على القطاع الجنوبي من سوريا". ويضيف الربيعي: "قبل هذا التاريخ لم يكن هناك استخدام للاسم كقطاع إداري في الوثائق والسجلات التاريخية. هذا لا يعني أن اسم الشعب لم يكن معروفا. نحن نتحدث عن نشاط إداري وحسب. إن السرّ في فشل الباحثين والدارسين -في العثور على اسم فلسطين (كقطاع) في السجلات القديمة والنقوش- يكمن هنا".
اقتبسنا هذه الفقرات وفي نيتي أن أقدم في هذه المقالة تقويما تاريخيا لهذه النصوص. وبقليل من الجهد نستطيع أن نقتبس أقوالا وحججا من مصادر تاريخية تفنّد ما طرحه الربيعي في مقاله حول "فلسطين"، ولعل أسوأ ما جاء في المقال أنه حرص على إقصاء "فلسطين" إقليما وشعبا عندما قال: "إن اسم فلسطين والفلسطينيين لم يظهر في السجلات التاريخية إلا نحو عام 330 ميلادية".
يشير هيرودوت في نصوصه عند الحديث عن "فلسطين" الإقليم والسكان بالقول: "ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفينيقيين حتى حدود مدينة كاديتس [غزة] السوريون الذين يسمون "الفلسطينيون"
لسنا هنا في مجال الحديث عن أصول اسم "فلسطين" وجغرافيتها، ونحيل القارئ إلى مؤلفاتنا: "كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب" (2005)، و"عورة نوح ولعنة كنعان وتلفيق الأصول" (2007)، و"سلسلة التاريخ اليمني المجهول، الجزء الأول، اليمن الحضارة والإنسان: بحثا عن الجذور" (2011).
ولكن دعونا نعود بذاكرتنا إلى ذلك المؤرخ الإغريقي الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ويُعرف باسم: أبو التاريخ، وألَّف كتاب "التاريخ" حوالي سنة 440 ق.م. [ترجمه إلى العربية حبيب أفندي بسترس عن طبعة لارشي الفرنسي، تحت عنوان "تاريخ هيرودوتس الشهير"، (1886ــ 1887). وأيضا عبد الإله الملاح، تحت عنوان "تاريخ هيرودوت"، (2001)].
ما يهمنا من مؤلَّفه هو ما كتبه عن "فلسطين"، فقد ذكر هيرودوت أنّ السكيثيين اجتاحوا آسيا، "ولما تم لهم هذا زحفوا إلى مصر للاستيلاء عليها، فلما بلغوا فلسطين وجدوا أمامهم ملك مصر بسميتاك ومعه الهدايا وهو يلهج بالدعاء لهم، راجيا التوقف عن زحفهم. فعادوا أدراجهم حتى توقفوا في عسقلان، دون أنْ يلحقوا ضررا بالبلاد في أثناء مسيرتهم، لولا أنّ قلّة منهم تأخرت عن الركب، وأخذت تعمل نهبا في معبد أفروديت. وقد تقصيتُ الأمر وتبيّن لي أنه أقدم المعابد الخاصة بهذه الآلهة، وما المعبد المكرّس لها في قبرص -كما يُسلّم أهلها بذلك- إلاّ تقليد لهذا المعبد في عسقلان، والمعبد الذي في شتيرا أقامه الفينيقيون، وهم أهل هذه المنطقة من سورية".
كتب هيرودوت عن هوية سكان "فلسطين" عند حديثه عن عادة الختان ما يلي: "الختان معروف عند المصريين والأثيوبيين منذ أقدم العصور. وهذا أمر يقر به الفينيقيون والسوريون سكان فلسطين فيقولون بأنهم إنما أخذوا هذا التقليد عن المصريين". كما يشير هيرودوت إلى "فلسطين" الإقليم بالقول: "إن النصب التي أقامها سيسوستوريس في البلاد التي قهرها قد زال معظمها، ولكني رأيت بأم العين تلك النصب ما تزال قائمة في ذلك الجزء من سورية المسمى فلسطين".
وفي مجال إشارة هيرودوت إلى الضرائب التي يدفعها كل إقليم، حسب تقسيم الفرس الإداري، يضع هيرودوت "فلسطين" جزءا من الإقليم الخامس قائلا: "ثلاثمئة وخمسون تالنت (وزنة) يدفعها سكان المنطقة الواقعة ما بين مدينة بوسيديوم التي أسسها الأمفيلوكيون والتي تقع على الحدود بين قليقيا وسورية حتى مصر، باستثناء المنطقة العربية التي لم تكن تدفع أي ضريبة على الإطلاق، وهذا الإقليم كان يضم الأراضي الفينيقية والقسم من سورية الذي يطلق عليه فلسطين وقبرص".
ويقول أيضا: "أما اللسان القاري الآخر (الهضبة) فيبدأ في فارس ويشمل بلاد الآشوريين والعرب، وينتهي -كما هو متفق عليه- عند خليج العرب (البحر الأحمر) الذي قام داريوس بوصله بنهر النيل عبر قناة. وما بين فارس وفينيقيا أرض شاسعة واسعة، ويمتد هذا الفرع الذي أقوم بوصفه ههنا بمحاذاة ساحل البحر المتوسط من فلسطين - سورية حتى مصر، حيث ينتهي ويضم ثلاثة أقوام".
يعود هيرودوت في نصوصه إلى الحديث مرة أخرى عن "فلسطين" الإقليم والسكان بالقول: "ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفينيقيين حتى حدود مدينة كاديتس [غزة] السوريون الذين يسمون "الفلسطينيون". ومن هذه المدينة -التي تضارع مدينة سارديس في حجمها- فإن جميع الموانئ حتى جينيسيوس تتبع ملك العرب. والمنطقة التي تمتد من هناك حتى بحيرة سربونيس (سبخة البردويل) والتي بالقرب منها ينحدر جبل كاسيوس ليصل إلى البحر، فإنها تعود لسورية أيضا. أما مصر فتبدأ من منطقة بحيرة سربونيس (حيث تذهب الرواية إلى أن تيفون (الإله سيث) يختفي هناك)".
يشير هيرودوت إلى مشاركة سكان "فلسطين" في حروب الفرس بالقول: "وكان الأسطول يتألف من ألف ومائتين وسبع من السفن الضخمة الطويلة، عدا السفن العادية وقوارب النقل: قدم الفينيقيون والسوريون سكان فلسطين 300 سفينة. وبحارتها يرتدون خوذات شبيهة بخوذات أمثالهم من الأغريق فضلا عن الدروع من نسيج الكتان والتروس والرماح. ويروي هؤلاء أنهم كانوا يسكنون الخليج العربي في قديم الزمان ثم هاجروا إلى الساحل السوري، وما زالوا يسكنون هذا الساحل إلى اليوم. وتعرف هذه المنطقة من سورية وما يليها جنوبا حتى مصر بفلسطين".
ثمة عدة حقائق تكمن في نصوص هيرودوت تستعصي على التلفيق، وتفنّد ما ذهب إليه الربيعي، وهي ما يلي:
- أولا: أن هيرودوت أطلق على المنطقة الممتدة من جنوبي مدينة دمشق إلى حدود صحراء سيناء اسم "فلسطين"، وهذه مسألة تجاهلها الربيعي!
- ثانيا: نص هيرودوت على أن "فلسطين" هو اسم الإقليم كما ذُكر في تقسيم الفرس الإداري للمناطق التي احتلوها في الشرق العربي.
- ثالثا: أن هيرودوت كتب مؤلَّفه اعتمادا على ما رآه هو وما سمعه من أهل البلاد، أي أنه لم يختلق اسم "فلسطين"، وإنما نقل اسما كان مستخدما في الإقليم نفسه خلال زيارته.
- رابعا: وصف هيرودوت هوية سكان المنطقة الجغرافية التي يطلق عليها "فلسطين" بالقول: السوريون الذين يسمون الفلسطينيون.
من المناسب أن نختم هذا المقال بما يقول المفكر الفرنسي بير روسي في كتابه "مدينة إيزيس، التاريخ الحقيقي للعرب": "إن إعادة اسم فلسطين الوحيد إلى هذه الأرض يصبح إذًا ليس فقط مطابقا للقاعدة التاريخية الأدق والأصح، ولكن لرفض تدخل أو وساطة أحكام علمية تعسفية ومسبقة. إنه ليس هذا العرق أو ذاك، هذا الدين أو ذاك الذي استفاد من انتخاب الطبيعة، ولكنها، فلسطين، القطر ذاته، الذي أخلى الشكل الخارجي في البحر المتوسط لمركز ثقافي مختار، فإلى غالبية سكانه إنما يعود دور ناشري الفنون والعلوم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المحرر
يناقش ألان غريش الصحافي الفرنسي في كتايه "علامَ يُطلق اسم فلسطين؟" (255 صفحة من القطع الصّغير) القضية الفلسطينية منذ البداية، كأنه يردّ على ادّعاء الصهيونية أنّها استولت على أرضٍ من دون سكان، فيتساءل ببساطة "علام يُطلق اسم فلسطين" لينطلق في سرد الأحداث التاريخية المتشابكة، ويكشف ما يتغاضى عنه الغرب. وأهمية الكتاب في تنوير الرأي العامّ الفرنسي بلغته على حقائق لا ينقلها الإعلام والردّ على من يؤثّر في الفرنسيين، أمثال برنار – هنري ليفي، ولكنّه يفيد القارئ العربي أيضًا في تبيان أهمية القضية الفلسطينية التي بدت تتقلّص أمام اندلاع صراعاتٍ أخرى أو مع قيام الثورات العربية التي أُطلق عليها اسم "الربيع العربي"، فإذ بفلسطين تبقى عنوانًا بارزًا في نفس الشعوب العربية، لا تغيب عنها.
تتّضح أهمية فلسطين في هذا الكتاب أكثر فأكثر، ليس للطابع "المقدّس" الذي تكتسبه عاصمتها القدس، بل بفضل ما يتوقّعه المؤلّف في صيرورتها موئلًا لتخطّي صراع الحضارات (وفي أوجهه الحروب الصليبية)، في سبيل تحقيق حلم طوباوي يُرجّح أن يُحقّقه ضغط الشعوب العربية على إسرائيل والدول الغربية، لقيام دولةٍ واحدة جامعة للفلسطينيين واليهود، تقوم على مبدأ المواطنة لا على التمييز العنصري، فيصحّح مسار نظام عالمي جائر ولّد هذه الدولة العدائية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق