*المتوكل طه
إن الحديث عن الدور التكاملي للمؤسسات الإعلامية المختلفة، يفترض ضمن أمورٍ أخرى، أن تقوم هذه المؤسسات على اختلاف أنواعها وأشكالها ومضامينها، بالاتفاق على رسالة واحدة، أو أُطر فكرية ومرجعية واحدة، والاتفاق على الجمهور المستَهدف، والإتفاق على الأهداف الكلية، قومية كانت أم دينية أم سياسية . ولا يمكن أن يكون هناك اتفاق على كل ذلك، دون إطار سياسي وقيمي ناظم، يحوّل أو يصهر جميع هذه المؤسسات في بوتقة واحدة تؤدي عملاً واحداً. وبما أننا لسنا اللاعبين الوحيدين في الساحة، وبما أن
الفضاءات مفتوحة، والأسواق تشهد تنافساً قوياً وحاداً، وبما أن الوضع السياسي شديد التعقيد، فإنه من الصعوبة بمكان الحديث عن تلك الأدوار التكاملية، بعيداً عن الافتراض أو المثالية أو الكلام بلغة التمنّي، وهذا يعني أننا سنتحدث عما يجب أن يكون، لا عمّا هو كائن، فما هو كائن ينبيء عن ضبابية شديدة وتداخل أكيد واضطراب عظيم . والحديث هنا لا يدور عن الانقسام أو الاحتلال فقط، وإنما يدور أيضاً عن الغزو الفكري والثقافي بكافة أشكاله وأنواعه، فعالم التكنولوجيا ووسائلها، التي جعلت من العالم سماءً مفتوحاً، وحولت سكان الكوكب إلى مجرد مستهلكين، لما تلفظه وسائلُ الإعلام المختلفة، عرّضت الثقافاتِ المحليةَ إلى أن تكون أهدافاً حقيقية للخلخلة والتشكيك والإهانة .
وبالتالي نحن نتحدث عن واقع يكاد يقترب من الفانتازية، وخاصة في المجتمع الفلسطيني، الذي يتعرّض لكثير من عمليات الشدّ والجذب، والتغيير والتحوير، على مستوى المرجعيات والانتماءات والتحولات الفكرية. ومن هنا، فإن المؤسسات الإعلامية المختلفة، أكانت حكومية رسمية، أو خاصة تجارية، أو مؤسسات تربية موازية كبيت العبادة والنادي والفصيل، مدعوّة حقاً إلى أن تقف جميعاً في خندق واحد، من أجل مقولة واحدة جامعة في حدودها الدنيا على الأقل .
فهناك تحديات عديدة، قوية وداهمة وطويلة الأمد، فالاحتلال أولاً هو العائق الأكبر والأهم في عمليات التفكيك والانحلال، فالاحتلال يمنع تواصل الجغرافيا، ويمنع تشكّل الهوية السياسية، ويعمل على تذويب الذات الوطنية، ويهدف إلى أن يبقينا مجموعات غير مُعَّرفة قانونياً، والاحتلال له أدواته ووسائله ورموزه وأساليبه المختلفة .
وهناك من التحديات ما يرتبط بالاحتلال أو ما يدعمه من مشاريع ثقافية وتنموية وخدماتية وإعلامية، وهي مشاريع تصوّب بدقة لاستهداف الذات العربية والفلسطينية، بدون مواربة وبدون أقنعة. فنحن، كما في البلدان النامية جميعاً، مستورِدون ومستهلِكون لما تبثّه وكالاتُ الأنباء الدولية الكبرى، ومراكزُ إنتاج البرامج التفلزيونية في الدول المتقدمة، ولم يعد لدينا – بشكل عام – أيُ دور في الرقابة والإشراف على تلك المواد المرئية وغير المرئية، التي تتدفق إلينا من خلال وسائل الإتصال المختلفة، من غير عقبات أو استئذان. إن مثل هذا الغزو، وهو غزو بكل معنى الكلمة، يهدف فيما يهدف إلى ما يلي :
أولاً: تأجيج الصراع الدموي، عرقياً وإثنياً ودينياً وسياسياً، بين مختلف مكوّنات العالم العربي.
ثانياً: تقديم أُطر ثقافية تشجّع نمو نماذج إقتصادية وإجتماعية معينة، في أطراف وقلب العالم العربي .
ثالثاً: محاولة دمج أو العمل على تعايشنا مع الاحتلالات المختلفة، باعتبار ذلك جزءاً من عملية التقدم والتنمية .
رابعاً: محاولات التشكيك وخلخلة المرجعيات الثقافية العربية والاسلامية، وصولاً إلى رفضها أو عدم الايمان بها، أو على الأقل عدم احترامها، وهو هدف أعتقد أنه تم الوصول إليه .
خامساً: تغيير الذائقة العامة والسلوك اليومي وعادات الاستهلاك، وتغيير أساليب الحياة، كتفجير الأُسرة وعدم احترام الكبير وتقديس الحريات الفردية، التي تتعارض مع القيم العامة .. الخ .. الخ .
سادساً: إدخال قيم جديدة كتقديس العنف والقوة، وتمجيد الجنس واحتقار العالم وانتهاكه .
يجب القول إن ما يجري لا يمكن وصفه بالتبادل المتوازن والحوار البناء والتفاعل المفيد بين الثقافات، فهو بالإضافة إلى المحتويات والمضامين السلبية، فإنه يجري باتجاه واحد، وكما يقول هنري غوبار مؤلف كتاب “الحرب الثقافية” فإن هذه الحرب هي أخطر من الحرب الساخنة، لأن الأخيرة تعبىء الجماهير بينما الأولى تتسلل بمكر وتدريجياً، وتدق بمطرقتها بإلحاح واستمرار على الأذهان والعقول والأذواق فتعمل على تسميمها .
وبالمناسبة فإن ما نعانيه من هذه الحرب، تعانيه دول كثيرة وحتى آوروبية. ويمكن القول إن “الحرب الثقافية” هو تعبير يستعمل حتى في الولايات المتحدة، فيما يعرف هناك بتمحور ثقافتين علمانية ودينية تجد تعبيراتها في الاختيارات السياسية والسياسات الخارجية .
إن مواجهة هذه الحرب لا تعني الإنعزال أو الإنكفاء إلى الوراء، بل لا بدّ من المواجهة والنزال بجهد مشترك مبرمج وذكي ومركّز وواعٍ ومستمر وذي إمكانات وقدرات، على أصعدة التعليم والنشر والبرامج التلفزيونية والأفلام والإعلام الرسمي والخاص والموازي . المقصود بالمواجهة هنا، هو الحفاظ على الهوية الثقافية للأُمّة. وكما ورد في مقدمة الخطة المتوسطة الأمد ألأولى لليونسكو قبل عقود، فإن المناداة بالذاتية الثقافية التي تمثّل عنصراً من أكثر العناصر تمييزاً لعصرنا، ليست من قبيل الحنين الذي لا طائل تحته، إلى ماضٍ عفا عليه الزمن، أو هي مجرد حقيقة مرتبطة بالتقاليد، وبذلك السجل الذي تدوّن فيه الخبرات المتراكمة، ألتي اكتسبها المجتمع عبر التاريخ، ولكن مغزاها يكمن في النظر إلى الماضي كنواة لصنع المستقبل. وهكذا فإن التراث الثقافي بمختلف أشكاله يعدّ عملاً لدعم الذات الثقافية، وذلك شرط الإنفتاح الثقافي الإيجابي على الثقافات المختلفة. إن هذه العملية لا يقدم ولا يقوم عليها جهة واحدة أو فرد واحد، بل هي عملية يتكامل فيها دور المؤسسة الرسمية بكامل أذرعها، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني بكامل تفرعاتها، وكذلك الأفراد والشخصيات ذات التأثير الأدبي والفني والإبداعي .
التحدي الثالث الذي نعيشه هو تحدي الإنقسام السياسي والأيديولوجي، وهو انقسام يمسّ بكل منجز فلسطيني سابق أو لاحق . الإنقسام يجرّ معه ادعاءات ومفاهيم ودوافع جديدة تبحث عن تسميات وعن شرعيات، وهنا مكمن الخطر الشديد . إن شرعنة الإنقسام والتعايش معه وقبوله على كل المستويات، إنما يخلق تاريخاً جديداً وثقافة جديدة وسلوكيات جديدة.
ولا يمكن تسوية هذا الانقسام عسكرياً أو أمنياً، بل لا بدّ من استخدام عمليات الحوار والإقناع والإعتراف بالآخر الوطني، والإحاطة والشمولية وتجفيف مصادر الانقسام، وفهم أسبابه ومسوغاته ونزع فتائله، وكذلك الذهاب إلى التسويات والتدوير ونقاط الألتقاء وقطع منتصف الطريق وعمليات التغليف والتأخير والتأجيل . الإنقسام الذي نعيشه ليس مجرد حادث عرضي في تاريخ ثورتنا وشعبنا، الإنقسام حدث فظيع، تستخدمه أطراف كثيرة، وتستفيد منه أطراف كثيرة، وهناك أجندات خارجية، وهناك استقطاب ومحاور، وهناك مصالح داخلية وخارجية، وهناك رؤى استراتيجية، نتحوّل فيها نحن الفلسطينيين جميعاً إلى مجرد أدوات . إن دور الإعلام هنا، ودور مؤسساته المختلفة، لا بدّ له إلا أن يكون إعلاماً موحداً، بمعنى اختيار الوطن، وأن يكون موضوعياً باعتباره ساحة المناظرة، وأن يكون وسطياً بمعنى اختيار الوفاق والاتفاق .
وحتى لا نبسّط الأمر، فإن الإعلام هنا ليس هو من يملك كل مفاتيح الحل، فإنهاء الإنقسام هو مسئولية القيادة ومسئولية الإفراد معاً. فعادة ما يستسهل الإعلام مسألة التوظيف والاستخدام والوقوع تحت التأثير والتمويل والهوى والمصلحة والأجندة الغريبة والمرفوضة . وعادة ما يستسهل الإعلام التبسيط والتسهيل وعدم الرغبة في الخوض في المربك والمحرج والباهظ وذي الفواتير العالية . هذه هي خطيئة الإعلام ومؤسساته، إنها ذات رغبة في السهولة والتبسيط والربح والتجارة . ولكننا هنا نتحدث عن مستقبل الوطن ومستقبل القضية ومستقبل الشعب . التحدي الذي أمامنا تحدٍ عظيم، ولا يجوز لنا، ولا ينبغي أن نقع في دائرة التوظيف والاستخدام واغراءات الفائدة والأجندات .
إن مؤسسات الإعلام المختلفة، على أنواعها، مدعوّة إلى رسالة واحدة وموحدة في هذا الشأن. وإن الوسطية هنا تشكل مدخلاً دينياً ومسوغاً وطنياً وشرعية ثورية للوصول إلى كلمة واحدة ورؤية واحدة، مهما تعددت الرؤى، فنحن مجتمع متجانس ثقافياً، يوحّدنا المكان والهدف والضرر، وحتى الوسيلة لا نختلف على استعمالها، وإنما نختلف على توقيتها. وحتى الوطن، لا نختلف على حدوده، وإنما نختلف على المساحات الممكنة أو المتاحة . هل نحتاج إلى إعلام ذكي أم إلى إرادات ذكية ؟! هذا سؤال برسم الأفراد والقيادات معاً .
ولعلي أهجس بإننا بحاجة إلى إرادات وطنية وأكثر من ذكية ..
كاتب وشاعر فلسطيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق