الرسالة الثامنة
الغالية التي تضن عليّ بكلماتها، على الرغم من أنها شهرزاد الحكاية، تحية ملؤها الحبّ والشوق، أما بعد:
لقد سرّني عندما نشرت مقالتي الجديدة حول كتاب "يوم من حياة كاتب" أن أحد طلابي في المرحلة الثانوية عندما كنت معلما منذ عشر سنوات خلت، قد أبدى رأيه في بعض أفكار المقال، موضحا وجهة نظره، لقد كان أيام الدراسة طالبا ذكيا، في بدايات اشتعال جذوة الشعر في خاطره، كنت قد دخلت وإياه في إحدى حصص اللغة العربية بمهمة مشتركة، أن نكتب معارضين القصيدة القومية المشهورة "بلاد العرب أوطاني"، واتفقنا على مرأى ومسمع من الطلاب أن يكون المطلع "بلاد العرب أكفاني"، وفي اليوم التالي يكتب قصيدة سلسة بارعة، وأكتب أنا أيضا. فرحت لقصيدته جدا، إنه واحد من الطلاب الذين أثمر فيهم التعليم، فصار شاعرا، وهو اليوم يعمل في سلك التربية والتعليم سكرتيرا في إحدى المدارس، وشارك في أمسيات شعرية، وفاز على مستوى مديرية التربية والتعليم التابعين لها (جنوب نابلس) بمسابقة "الشعراء المعلمين". إن هذا الأمر مفرح جدا يا عزيزتي. إنه الشاعر "لطفي مسلم".
ها هو يكتب لي هذا الرأي: "الكتابة الشعرية لها طبيعة تختلف اختلافا جوهريا عن طبيعة كتابة الرواية، فهي بحاجة إلى استقطاب عناصر كثيرة ودمجها في بوتقة واحدة، ذلك لأنها لا تعتمد فقط على مجرد أفكار يحتاج الكاتب لسردها، بل إلى قالب فني يشكل هذه الأفكار ويخرجها إلى العالم بالصيغة التي تعطي هذا الفن عوالمه المختلفة... وهو ما يسهل انتشار أدب الرواية على حساب الأدب الشعري عربيا وعالميا".
أما أنا فقد كتبت له ردا مسهبا فرحا ومنتشيا بما كتب: "ربما ليس هذا هو السبب، فلو اطلعت مثلا على الحوارات الرائجة في التسعينيات، ولو عدت إلى فترة الثمانينيات إلى المجلات والكتب النقدية والصحف لوجدت حضور الحوارات الشعرية بشكل لافت، بل لم تكن تلك المحامل تعنى بالرواية إلا عناية متواضعة. وكان للشعراء في هذه الحوارات طقوس للكتابة بل ربما هي طقوس أكثر خيالية وسحرية من طقوس كتابة السرد التي تجنح نحو العلمية والموضوعية. كان عالم الشعراء زاخرا بما هو مثير حقا، والكل يسعى للشاعر، القارئ والناقد والصحفي. أما الآن أين هم الشعراء إنهم ثلة من المساكين الضائعين على موائد الروائيين، بل إنهم يحاولون التسلل إلى الرواية، وعندما يكتشف أمرهم يطردون من الحلبة شر طردة، يركلهم النقاد والقراء إلى هامشية المشهد، فيزدادون غما على غم، ووهنا على وهن، فيجهضون القصيدة المكسورة الخاطر التي تبحث عن قارئ مشغول بالرواية، وناقد مفتون بالرواية، وناشر مفتون بالروائيين، ومحررين وصحفيين لا يرون مكانا لذلك السيل من غامض الكلام في الصفحة الأدبية إلا خجلا ونادرا".
كم أشعر بالفخر يا عزيزتي وأنا أرى بعض الطلاب ممن علمتهم متألقين في مواقعهم، لحسن حظي أنني كنت معلما جيدا، وكثير من الطلاب على ما أظن يحملون عني أفكارا إيجابية، وما زالت تحياتهم تصلني بعد أكثر من ثلاثة وعشرين عاما من التدريس. ما زال طلاب أول مدرسة علمت فيها يتذكرونني، ويشيدون بي. على الرغم من أنني ربما أحبطت كثيرين، لكنني كنت في كثير من الأحيان أشجعهم على ألا يخافوا، وعلى أن يناقشوا، وعلى أن يتابعوا اهتماماتهم.
كنت في فترة كتابتي لبحث الماجستير قد استأجرت منزلا، وعشت فيه عاما كاملا وحدي بين الكتب، قارئا وكاتبا، كان بعض الطلاب المبدعين يزورني، أحدهم أيضا كان شاعرا، وآخر كان يحب الموسيقى والغناء، شجعته على أن يتابع موهبته بعد الثانوية العامة، وها هو اليوم يعمل في هذا المجال.
ما زلت أومن يا عزيزتي أن المعلم ذو دور كبير، داخل الغرفة الصفية وخارجها، إن الطالب يبحث عن قدوة تحفزه على المضي قدما في درب الحياة، يتطلع إلى معلمه ليساعده، ويمنحه الطاقة الإيجابية، لم أبدُ يوما من الأيام أمام طلابي بائسا أو يائسا، حتى أنني كنت دائما مهتما بأناقتي إلى أبعد حد، أكثر بكثير من هذه الأيام، كنت أعرف أن المظهر الخارجي للمعلم له أثر في نفوس طلابه، تخيلي معي لو أن معلما رث الثياب غير مرجّل الشعر، يدخل على الطلاب ويتمطى بائسا شاكيا، سيكون بالفعل مملا، وعنصر إحباط. لم أكن كذلك أبدا، وأما ما قد أكون أحبطت البعض فيه هو تشددي في التدريس وفي الحرص على التعليم والاهتمام بالواجبات، والشرح المستفيض، وربما هي صعوبة الاختبارات التي كنت أعدها للطلاب، والأبحاث والمهمات التي كنت أطالبهم بها. كنت كثيرا ما أحدثهم عن قراءاتي المتعددة، فيما يتصل بالتعليم، كنت مهتما يوميا بنشرات الأخبار، وأبدأ معهم بخبر طريف ونادر، وعندما كانت إحدى الطالبات تكتب حكمة اليوم على السبورة، يجب أن ألتفت إليها وأناقشها، وأصحح ما كان فيها من أخطاء، وندير نقاشا حول المضمون لبضع دقائق. كان الطلاب يدخلون إلى الحصة وهم مهيأون للمعرفة، وكانت نتائجهم إيجابية.
لقد أسرفت كثير في الحديث عن نفسي معلما، ولكن الحديث ذو شجون، لاسيما وأنا أحدثك، وأجد متعة في السرد بين يديك.
علي أن أخبرك أن الشاعر لطفي زارني في بيتي ومكثنا طويلا نتحدث حول الشعر وغواياته وتطلعاته كشاعر، إنه يا للمصادفة يحمل أفكارا مشابهة فيما يخص صنعة الديوان، تلك التي حدثتك عنها، في أن يكون الديوان ذا موضوع واحد، ويحمل فلسفة واحدة، إنه يعي كونه شاعرا يريد أن يؤثر في الناس، وليس فقط أن يكتب شعرا وينشره. لقد أسهب في الحديث عن أحمد مطر وتأثيره، ونزار قباني وتأثيره، ودرويش وتأثيره. هو كذلك يطمح أن يجعل الشعر متغلغلا بين الناس. إن ما يحلم به هذا الشاعر الواعد كبير، ويلزمه الإصرار، وأنا على يقين أنه قادر على أن يفعل الكثير.
دمت جميلة كعهدي بك، راجيا أن تسعديني ببعض الذكريات حول التعليم والمعلمين والشعر إن أمكن، فإن هذا يسعدني كثيرا.
المشتاق: فراس حج محمد
الغالية التي تضن عليّ بكلماتها، على الرغم من أنها شهرزاد الحكاية، تحية ملؤها الحبّ والشوق، أما بعد:
لقد سرّني عندما نشرت مقالتي الجديدة حول كتاب "يوم من حياة كاتب" أن أحد طلابي في المرحلة الثانوية عندما كنت معلما منذ عشر سنوات خلت، قد أبدى رأيه في بعض أفكار المقال، موضحا وجهة نظره، لقد كان أيام الدراسة طالبا ذكيا، في بدايات اشتعال جذوة الشعر في خاطره، كنت قد دخلت وإياه في إحدى حصص اللغة العربية بمهمة مشتركة، أن نكتب معارضين القصيدة القومية المشهورة "بلاد العرب أوطاني"، واتفقنا على مرأى ومسمع من الطلاب أن يكون المطلع "بلاد العرب أكفاني"، وفي اليوم التالي يكتب قصيدة سلسة بارعة، وأكتب أنا أيضا. فرحت لقصيدته جدا، إنه واحد من الطلاب الذين أثمر فيهم التعليم، فصار شاعرا، وهو اليوم يعمل في سلك التربية والتعليم سكرتيرا في إحدى المدارس، وشارك في أمسيات شعرية، وفاز على مستوى مديرية التربية والتعليم التابعين لها (جنوب نابلس) بمسابقة "الشعراء المعلمين". إن هذا الأمر مفرح جدا يا عزيزتي. إنه الشاعر "لطفي مسلم".
ها هو يكتب لي هذا الرأي: "الكتابة الشعرية لها طبيعة تختلف اختلافا جوهريا عن طبيعة كتابة الرواية، فهي بحاجة إلى استقطاب عناصر كثيرة ودمجها في بوتقة واحدة، ذلك لأنها لا تعتمد فقط على مجرد أفكار يحتاج الكاتب لسردها، بل إلى قالب فني يشكل هذه الأفكار ويخرجها إلى العالم بالصيغة التي تعطي هذا الفن عوالمه المختلفة... وهو ما يسهل انتشار أدب الرواية على حساب الأدب الشعري عربيا وعالميا".
أما أنا فقد كتبت له ردا مسهبا فرحا ومنتشيا بما كتب: "ربما ليس هذا هو السبب، فلو اطلعت مثلا على الحوارات الرائجة في التسعينيات، ولو عدت إلى فترة الثمانينيات إلى المجلات والكتب النقدية والصحف لوجدت حضور الحوارات الشعرية بشكل لافت، بل لم تكن تلك المحامل تعنى بالرواية إلا عناية متواضعة. وكان للشعراء في هذه الحوارات طقوس للكتابة بل ربما هي طقوس أكثر خيالية وسحرية من طقوس كتابة السرد التي تجنح نحو العلمية والموضوعية. كان عالم الشعراء زاخرا بما هو مثير حقا، والكل يسعى للشاعر، القارئ والناقد والصحفي. أما الآن أين هم الشعراء إنهم ثلة من المساكين الضائعين على موائد الروائيين، بل إنهم يحاولون التسلل إلى الرواية، وعندما يكتشف أمرهم يطردون من الحلبة شر طردة، يركلهم النقاد والقراء إلى هامشية المشهد، فيزدادون غما على غم، ووهنا على وهن، فيجهضون القصيدة المكسورة الخاطر التي تبحث عن قارئ مشغول بالرواية، وناقد مفتون بالرواية، وناشر مفتون بالروائيين، ومحررين وصحفيين لا يرون مكانا لذلك السيل من غامض الكلام في الصفحة الأدبية إلا خجلا ونادرا".
كم أشعر بالفخر يا عزيزتي وأنا أرى بعض الطلاب ممن علمتهم متألقين في مواقعهم، لحسن حظي أنني كنت معلما جيدا، وكثير من الطلاب على ما أظن يحملون عني أفكارا إيجابية، وما زالت تحياتهم تصلني بعد أكثر من ثلاثة وعشرين عاما من التدريس. ما زال طلاب أول مدرسة علمت فيها يتذكرونني، ويشيدون بي. على الرغم من أنني ربما أحبطت كثيرين، لكنني كنت في كثير من الأحيان أشجعهم على ألا يخافوا، وعلى أن يناقشوا، وعلى أن يتابعوا اهتماماتهم.
كنت في فترة كتابتي لبحث الماجستير قد استأجرت منزلا، وعشت فيه عاما كاملا وحدي بين الكتب، قارئا وكاتبا، كان بعض الطلاب المبدعين يزورني، أحدهم أيضا كان شاعرا، وآخر كان يحب الموسيقى والغناء، شجعته على أن يتابع موهبته بعد الثانوية العامة، وها هو اليوم يعمل في هذا المجال.
ما زلت أومن يا عزيزتي أن المعلم ذو دور كبير، داخل الغرفة الصفية وخارجها، إن الطالب يبحث عن قدوة تحفزه على المضي قدما في درب الحياة، يتطلع إلى معلمه ليساعده، ويمنحه الطاقة الإيجابية، لم أبدُ يوما من الأيام أمام طلابي بائسا أو يائسا، حتى أنني كنت دائما مهتما بأناقتي إلى أبعد حد، أكثر بكثير من هذه الأيام، كنت أعرف أن المظهر الخارجي للمعلم له أثر في نفوس طلابه، تخيلي معي لو أن معلما رث الثياب غير مرجّل الشعر، يدخل على الطلاب ويتمطى بائسا شاكيا، سيكون بالفعل مملا، وعنصر إحباط. لم أكن كذلك أبدا، وأما ما قد أكون أحبطت البعض فيه هو تشددي في التدريس وفي الحرص على التعليم والاهتمام بالواجبات، والشرح المستفيض، وربما هي صعوبة الاختبارات التي كنت أعدها للطلاب، والأبحاث والمهمات التي كنت أطالبهم بها. كنت كثيرا ما أحدثهم عن قراءاتي المتعددة، فيما يتصل بالتعليم، كنت مهتما يوميا بنشرات الأخبار، وأبدأ معهم بخبر طريف ونادر، وعندما كانت إحدى الطالبات تكتب حكمة اليوم على السبورة، يجب أن ألتفت إليها وأناقشها، وأصحح ما كان فيها من أخطاء، وندير نقاشا حول المضمون لبضع دقائق. كان الطلاب يدخلون إلى الحصة وهم مهيأون للمعرفة، وكانت نتائجهم إيجابية.
لقد أسرفت كثير في الحديث عن نفسي معلما، ولكن الحديث ذو شجون، لاسيما وأنا أحدثك، وأجد متعة في السرد بين يديك.
علي أن أخبرك أن الشاعر لطفي زارني في بيتي ومكثنا طويلا نتحدث حول الشعر وغواياته وتطلعاته كشاعر، إنه يا للمصادفة يحمل أفكارا مشابهة فيما يخص صنعة الديوان، تلك التي حدثتك عنها، في أن يكون الديوان ذا موضوع واحد، ويحمل فلسفة واحدة، إنه يعي كونه شاعرا يريد أن يؤثر في الناس، وليس فقط أن يكتب شعرا وينشره. لقد أسهب في الحديث عن أحمد مطر وتأثيره، ونزار قباني وتأثيره، ودرويش وتأثيره. هو كذلك يطمح أن يجعل الشعر متغلغلا بين الناس. إن ما يحلم به هذا الشاعر الواعد كبير، ويلزمه الإصرار، وأنا على يقين أنه قادر على أن يفعل الكثير.
دمت جميلة كعهدي بك، راجيا أن تسعديني ببعض الذكريات حول التعليم والمعلمين والشعر إن أمكن، فإن هذا يسعدني كثيرا.
المشتاق: فراس حج محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق