أسدل الليل أهدابه ،واستنطقت حروف الهجاء وجعي، وسارت طيور الهجر صوب الشمال تشيع أهاتي في موكبي، فاحتقنت الدموع في جفوني بعدما سقطت أسواري ،لترتشف روحي عويل نفسي ، وتعبر روحي رجة الوجدان ، فينهض الفرح من السبات ،ويكتسح أرضي سيل جارف من انهار الذكريات محمل بتراب أجوري مخضب بعطر أمي الزكي ، وفي زحمة الفصول تورطت في شواطئ مكتوب فيها الحداد قادني موجها الأسود للإبحار ،وأنا مثقلة بأسفاري مسجونة في جوفي شرنقة الأفراح، ولا أخالها أخطأت المكان والزمان .فعزمت حروف الجمر على نسج وشاح لي بلون الرماد ثم أقعدتني فوق جمجمة العذاب .فكبلني ريح الجنوب بأصفاد الفجائع، وقادتني جلاجل عواصفه لعمق الخراب ،وإذ بفرحتي تغتال في الرحم، وتبقى عيوني مشدودة للأفق ترقب ما وراء الضباب ،و روحي المتعبة تصغي لتراتيل الأنهار حين يعبر تهليلها كياني ،وتتناثر لأجلي أوراق التوت من حديقة بابل، فتستيقظ أشجاني في دجى الليل ممزقة ستاري ،فأجمع أشلائي في صمت الرهبان رافعة شراع سفينتي تأهبا للإبحار، فلا توقف دفتها بعدما كسرت قيودي، وأنشدت أغنية الحياة على درب أمي ، لعلي أنسيها خطواتها المتبقية لعلي أستطيع العودة بها لأيام الشباب حين كانت تحلق بين الغيوم ،وخلف الجداول والتلال، وهاهي في أخر فصول العمر تقف في عتبة الآلام صامتة لتشنف مسامعي بعزف العود وأوتاره الرنان، فأجيبها متفجعة : ماذا افعل حين يأخذ الموت جسدك لراحة القبر..؟ و ترفع روحك للسماء، فقدت أبي فبقيت أنت،فمن سيبقى لي إذا فقدتك يا أمي...؟ فأنت الفرح في القلب والابتسامة في الثغر ومؤنس وحدتي ومؤيدي في كل قرار، سأفتقد أناملك الحريرية التي تمسح مدامعي وحضنك الدافئ الذي يضمني في لحظة انكساري.. أنت أمي وأبي ورفيقة دربي ومهذبة شبيبتي ونور الفجر،الذي يضيء أفقي في عتبة الظلام. لقد غرست يا أمي، الخير في روحي وزرعت الأمان في نفسي، فمن غيرك أسترشده إذا ما ذهبت..؟ تتكسر ضلوعي حين أرى جسدها الضعيف، وتتمزق أحشائي حين لا تستطيع أن تراني عن بعد وتميز تقاسيم وجهي، فما عسايّ فعله ، والزمن يختزل و الناقوس يدق و الأجراس تقرع . تمر في صفحاتي ذكريات أمي حين حضنتني بين ذراعيها ،وحفرت في أعماقها وهناك دفنتني، وخبأتني بين ضلوعها مثلما تخبئ النواة في قلب الأرض ، ومنذ الميلاد شذاها يعبق زوايا حياتي كما يعبق عطر الزهر قمم الجبال في شهر حزيران ونيسان ،وفي قلب الضياع أرفع رأسي إليها كما ترفع الأفراخ رأسها في العش عندما ترى أجنحة أمهم تحلق في السماء ،وذاتي المخملية منغمسة في كومة الأحزان. قلبي بعواطفه المتناثرة يماثل شجرة الزيتون بأغصانها المتفرقة ،فهل ستصمد أغصاني أمام قصف الرياح وجذوري هل ستقاوم سيل دموعي الجارفة أما ستنال منها وتتعرى من التربة وتصبح فوق الأرض خامدة. "تغتال كلماتي أشباح ألفاظ تعانق جدران غرفتي الباردة، فلو كانت أحزاني وأوجاعي وحسرتي تنفع قربانا فما تأخرت في إهدائها لأمي ". يظهر وجه أمي كورقة ذهبية على الغصن تنتظر لحظة الاحتضار قبل مجئ فصل الشتاء لتشهد مرحلة الرحيل و تتهاوى على الأرض في انكسار وتكسو نظرتها الكآبة ،والألم بسبب ما أصابها من قسوة الحياة في جسدها من سهام شقاء عمرها ،فجناحيها لم تعد تقوى على حملها، والتحليق بها ،فقد جفت مدامعها في محاجرها ، فضاعت بين أحزانها وهواجسها ونالت منها مثلما تنال الذئاب من فريستها. فإن سكتت أمي فملامحها تتكلم ، فتظهر لي كعود العنبر حين يتصاعد دخانه نحو اللا شئ وينتشر عطره في كل شيء ، فهل ستقاوم أمي هذا الصراع المميت أم ستسعف لتبقى بقربي لفترة أطول، ولن تقصفها الرياح أو تبعدها عني بل سيشفى قلبي المعتل في داخل صدري من كل الآهات ،ولن أقف وقفة وداع بين البقاء والفناء والحب واليأس، ولن تقبض أظافر الموت روحها الطاهرة أو تسرق الفرحة من قلبي، وليت موكبها الجنائزي يؤجل رحيله نحو الفناء وشراعها لا يمزقه الموت أو توقف دفتها في البحار ـ فقلبي ينفطر وأرفض انفصالنا وسماعي لقلب الليل وهو يتغنى بأناشيد الحزن والعزاء ، وما أرغب فيه هو مشهد صلاتها وسماع تراتيلها وتهليلها المنبعث من جوفها الزكي ،عندها فقط ستغمر الأفراح مداركي الحسية وينبثق الأمل من كل زوايا حياتي مرسل شذى عطره فوق شفاه الورد، وأشعة الشمس سترقص لها شقائق النعمان وأوراق الزمرد والمرجان، وتزهر أغصان الزيتون والرمان، وتخيم السكينة عل روحي المعذبة ،والربيع يعانق الطبيعة بعد شتاء قاسي، ويستتب الأمان في أضلعي ونغمة الأمل تعزف لتبلغ وجداني ،وسأتحرر من يقظة مخيفة ،وحلم مزعج يؤرق الوجدان.
* حكيمة شكروبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق