محمد الحمامصي
حتل الملاح التائه علي محمود طه مكانة مرموقة بين شعراء الأربعينيات في مصر منذ صدر ديوانه الأول. و أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر علي محمود طه (1901 ـ 1949) في إطار الاحتفال بمرور قرن كامل على مولده، جمع وتحقيق ودراسة محمد رضوان، وذلك في ثلاثة أجزاء، ضم الأول دواوينه "الملاح التائه" 1934، "ليالي الملاح التائه"1940، "زهر وخمر" 1943، و"الشوق العائد" 1945، والثاني "شرق وغرب" 1942، و"القصائد المجهولة"، والثالث مسرحيتيه "أرواح وأشباح" 1942، و"أغنية الرياح الأربع" 1943.
وأهم ما يميز هذه الأعمال أنها تنشر للمرة الأولى كاملة في مصر، وتقدم قصائده المجهولة التي نشرها في مطلع شبابه خلال الفترة بين عامي 1918 و1923، وقصائده الأخيرة التي نشرها بعد صدور ديوانه الأخير "شرق وغرب" 1947 أي في عاميه الأخيرين 1948 و 1949.
وعلي محمود طه ولد في الثالث من أغسطس/آب سنة 1901 بمدينة المنصورة لأسرة من الطبقة الوسطى وقضى فيها صباه، حصل على الشهادة الابتدائية وتخرج في مدرسة الفنون التطبيقية سنة 1924 حاملاً شهادة تؤهله لمزاولة مهنة هندسة المباني، واشتغل مهندساً في الحكومة لسنوات طويلة، إلى أن يسّر له اتصاله ببعض الساسة العمل في مجلس النواب.
وعاش الشاعر حياة سهلة لينة ينعم فيها بلذات الحياة كما تشتهي نفسه الحساسة الشاعرة، وأتيح له بعد صدور ديوانه الأول "الملاح التائه" عام 1934 فرصة قضاء الصيف في السياحة في أوروبا، يستمتع بمباهج الرحلة في البحر، ويصقل ذوقه الفني بما تقع عليه عيناه من مناظر جميلة.
وقد احتل علي محمود طه مكانة مرموقة بين شعراء الأربعينيات في مصر منذ صدر ديوانه الأول "الملاح التائه"، وفي هذا الديوان نلمح أثر الشعراء الرومانسيين الفرنسيين واضحاً لا سيما شاعرهم لامارتين، وإلى جانب تلك القصائد التي تعبر عن فلسفة رومانسية غالبة كانت قصائده التي استوحاها من مشاهد صباه حول المنصورة وبحيرة المنزلة من أمتع قصائد الديوان وأبرزها. وتتابعت دواوين علي محمود طه بعد ذلك.
وكان التغني بالجمال أوضح في شعره من تصوير العواطف، وكان الذوق فيه أغلب من الثقافة. وكان انسجام الأنغام الموسيقية أظهر من اهتمامه بالتعبير.
قال الشاعر صلاح عبدالصبور في كتابه "على مشارف الخمسين": قلت لأنور المعداوي: أريد أن أجلس إلى علي محمود طه. فقال لي أنور: إنه لا يأتي إلى هذا المقهى ولكنه يجلس في محل (جروبي) بميدان سليمان باشا. وذهبت إلى جروبي عدة مرات، واختلست النظر حتى رأيته. هيئته ليست هيئة شاعر ولكنها هيئة عين من الأعيان. وخفت رهبة المكان فخرجت دون أن ألقاه، ولم يسعف الزمان فقد مات علي محمود طه في 17 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1949 إثر مرض قصير لم يمهله كثيراً وهو في قمة عطائه وقمة شبابه، ودفن بمسقط رأسه بمدينة المنصورة. ورغم افتتانه الشديد بالمرأَة وسعيه وراءها إلا أنه لم يتزوج".
وعلي محمود طه من أعلام مدرسة "أبولو" التي أرست أسس الرومانسية في الشعر العربي، فقد انضم إليها فور تأسيسها عام 1932، حيث شهدت ميلاد شاعريته الخصبة. يقول عنه أحمد حسن الزيات: "كان شابّاً منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك!"
ويرى د. سمير سرحان ود. محمد عناني أن "المفتاح لشعر هذا الشاعر هو فكرة الفردية الرومانسية والحرية التي لا تتأتى بطبيعة الحال إلا بتوافر الموارد المادية التي تحرر الفرد من الحاجة ولا تشعره بضغوطها، بحيث لم يستطع أن يرى سوى الجمال وأن يخصص قراءاته في الآداب الأوروبية للمشكلات الشعرية التي شغلت الرومانسية عن الإنسان والوجود والفن، وما يرتبط بذلك كله من إعمال للخيال الذي هو سلاح الرومانسية الماضي.
كان علي محمود طه أول من ثاروا على وحدة القافية ووحدة البحر، مؤكداً على الوحدة النفسية للقصيدة، فقد كان يسعى - كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه "ثورة الأدب" - أن تكون القصيدة بمثابة "فكرة أو صورة أو عاطفة يفيض بها القلب في صيغة متسقة من اللفظ تخاطب النفس وتصل إلى أعماقها من غير حاجة إلى كلفة ومشقة. كان علي محمود طه في شعره ينشد للإنسان ويسعى للسلم والحرية؛ رافعاً من قيمة الجمال كقيمة إنسانية عليا.
ويعد الشاعر علي محمود طه أبرز أعلام الاتجاه الرومانسي العاطفي في الشعر العربي المعاصر، وصدرت عنه عدة دراسات منها كتاب أنور المعداوي "علي محمود طه: الشاعر والإنسان"، وكتاب للسيد تقي الدين "علي محمود طه، حياته وشعره" وكتاب محمد رضوان "الملاح التائه علي محمود طه"، وطبع ديوانه كاملاًََ في بيروت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق