الأدب الذي أعنيه هنا هو أدب الاعترافات، أو أدب التراجم الذاتية، أو أدب البوح والإفضاء كما يسميه الفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشه.
ومن العجيب أنني حين تناولت القلم لأكتب عن أدب الاعترافات، وقعت على رأي لكروتشه يهاجم فيه هذا الأدب هجوما عنيفاً، ويرميه بالتأنث والسفاهة وقلة الحياء والضعف والانحلال!. . ولو أن رجلا غير كروتشه قد أبدى هذا الرأي في مثل هذا اللون من الأدب لما أثار في نفسي شيئاً من العجب أو شيئا من الإنكار؛ ذلك يبدو أمام المتتبعين لنظرياته في فلسفة الفن متناقضاً مع نفسه، مترجحاً بين اليمين والشمال، لا يكاد يستقر على رأي ينادي به حتى يعود فيتحول عنه. . . إن من يقرأ رأيه في أدب الاعترافات منفصلاً عن رأيه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، ليتبادر إلى ذهنه أن كروتشه من أنصار هذا المذهب والداعين له، مع أنه من أكثر خصومه إلحاحا في الخصومة، وإغراقاً في التحامل، وإسرافا في الهدم والتشهير!.
يقول كروتشه في تعليل ازدياد عدد الكاتبات من النساء: وعندي أن علة ذلك الحقيقية هي هذا الطابع الإعترافي الذي اصطبغ به الأدب الحديث، فبهذا الطابع إنما فتحت أبواب الأدب على مصراعيها أمام النساء اللواتي يمتزن بالانفعال والنشاط، فإذا قرأن كتب الشعر لاحظن فيها ما ينطبق على مغامراتهن الشخصية وفواجعهن العاطفية، فلم يصعب عليهن أن يفرغن ما في قلوبهن بدون أن يعنين بالأسلوب (والأسلوب كما قال بعضهم بحق لا يأتي من امرأة). فلئن أصبح للنساء إذن نشاط ملحوظ في حقل الأدب فلأن الرجال قد تأنثوا بعض الشيء من الناحية الفنية؛ ومن علامات هذا التأنث قلة الحياء في عرض مبائسهم، وهذه الحمى من الصدق التي ما دامت حمى فليست صدقا، وإنما هي شيء من التصنع الذي يوصل المرء بالسفاهة إلى اكتساب ثقة الناس على نحو ما فعل روسو لأول مرة). . .!
هذا هواري الفيلسوف الإيطالي في أدب الاعترافات. . . تأنث وسفاهة وقلة حياء، ويزيد على ذلك قوله بأن هذا اللون من الأدب يتسم بالضعف في طريقة التعبير، فهو على التحقيق أدب لا أسلوب له! وقبل أن أعرض لرأي كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، كاشفا عما فيه من تناقض مع رأيه في أدب روسو وكل أدب آخر يحمل ذلك الطابع الاعترافي، قبل هذا كله أود أن أقول إن تلك الحملات التي شنها الفيلسوف الإيطالي على هذا اللون من الأدب تبعد كل البعد عن جوهر الواقع الملموس؛ لأننا لو وضعنا اعترافات رسو أو يوميات أندريه جيد في ميزان النقد، لاكتملت لها كل الصفات التي ينشدها الباحثون عن حقيقة الفن. . . الفن في كلمات هو أن يعيش الفنان في أعماق الحياة، وأن يستخدم كل حواسه في تذوق هذه الأعماق، وأن يملك القدرة على التعبير الصادق عما شهد وأحس حين يتناول ريشته ليسجل انعكاس الحياة على الشعور، وتلك أشياء يلمسها الناقد في اعترافات روسو ويوميات جيد.
الاعترافات واليوميات صورة واقعية من حياة الكاتبين الكبيرين، تعد في حقيقتها لوناً من الترجمة الذاتية التي تضع في يد القارئ والناقد مفتاح شخصيتهما الأدبية والإنسانية؛ فإطلاق الرأي فيها بضعف الأسلوب أمر لا ينطبق على الواقع؛ لان الصدق في التعبير صفة من صفاتها الرئيسية وسمة من سماتها الأصيلة. . . وليس هناك أسلوب مهما اتصف بالقوة أو بالجمال يستطيع أن يشق طريقه إلى القلوب والآذان، ما لم يستند إلى أقوى دعامة يمكن أن يستند إليها، ونعني بها الصدق في التعبير! ومع ذلك فأن صدق التعبير وجماله يتهيآن لروسو في أكثر فصول كتابه، وبخاصة في تلك المواضع التي تشير إلى علاقته الوجدانية بمدام دي فارنس.
ولعل في رمي الأدب الاعترافي بالتأنث كثيرا من الإغراق في التجني والإسراف والتحامل، وذلك لأن كتاب الاعترافات يقدمون إلى الناس صفحات من سجل الحياة سطرت بمداد الصراحة والأمانة والصدق. . . صفحات عاربة لا تكاد تتشح بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي وتملق عواطف الجماهير. ولعمري أن الكاتب الذي يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما فعلت من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من لذة وألم، دون أن يخشى في ذلك نقدا أو ملامة أو زلزلة لمكانته الأدبية والاجتماعية، هذا الكاتب في رأيي ورأي الحق رجل قوي جدير باحترام الأقوياء وليس متأنثا كما يدعي كروتشه. . . إن هناك كتابا يتظاهرون في كتاباتهم بحب الخير والتمسك بأهداب الفضيلة وهم غارقون في حمأة الموبقات، فهل نستطيع أن نسمي أدبهم أدب قوة؟ كلا! ولا نستطيع أن نرفع قيمة هذا الأدب إذا ما قسناه بمقياس الفن الصادق، مقياس صدق التعبير عن الحياة؛ لأنه أدب يعبث بالحقائق، ويشوه الوقائع، ويكذب على الحياة والناس!. . . إن أندريه جيد لو لم يكن متأثراً في كتاباته بفيلسوف القوة نيتشه، لما تهيأ له أن يتناول قلمه ليكتب ما كتب في اليوميات!.
ونعود إلى تهمتي السفاهة وقلة الحياء لنرد عليهما بكلمات من نقد كروتشه للمذهب الأخلاقي في الفن ومنها يتبين مدى التناقض الذي وقع فيه الفيلسوف الإيطالي حين دافع عن حرية الفن في مكان، ثم عاد فهاجم الحرية في مكان آخر. . .
يقول كروتشه: (إن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً منحطة، فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولكن لن يكون فناً أبداً!).
ويقول: (لئن كانت الإدارة قوام الإنسان الفنان، فليست قوام الإنسان الفنان؛ ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإدارة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي. . . إنك لا تستطيع أن تحكم بأن فرانسسكا دانتي منافية للأخلاق، ولا أن جوردليا شكسبير أخلاقية، وما هما إلا لحنان من روحي دانتي وشكسبير ليس لهما إلا وظيفة فنية، إلا إذا استطعت أن تحكم على المربع بأنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي!. . . إن من تفرعات المذهب الأخلاقي قولهم أن غاية الفن أن يوجه الناس نحو الخير، ويبث فيهم كره الشر، ويصلح من عاداتهم، ويقوم أخلاقهم، وإن على الفنانين أن يساهموا في تربية الجماهير وتقوية الروح القومي أو الحزبي في الشعب، أو إذاعة المثل الأعلى الذي يفرض على المرء أن يحيا حياة بسيطة جاهدة وما إلى ذلك. . . والحق أن هذه أمور لا يستطيع الفن أن يقوم بها أكثر مما تستطيع الهندسة ذلك. فهل عجز الهندسة هذا يجردها من حقها في الاحترام؟ فليت شعري لم يريدون إذن أن يجردوا الفن من مثل هذا الحق في مثل هذه الحال؟!).
هذه الكلمات التي يسوقها كروتشه ليدافع بها عن حرية الفن لا تنفق بحال وما ذهب إليه في نقده لأدب الاعترافات. . . ومع ذلك فلا يمكن أن نجد خيراً منها في مجال الدفاع عن اعترافات روسو ويوميات جيد!.
أنور المعداوي.
مجلة الرسالة - العدد 803
ومن العجيب أنني حين تناولت القلم لأكتب عن أدب الاعترافات، وقعت على رأي لكروتشه يهاجم فيه هذا الأدب هجوما عنيفاً، ويرميه بالتأنث والسفاهة وقلة الحياء والضعف والانحلال!. . ولو أن رجلا غير كروتشه قد أبدى هذا الرأي في مثل هذا اللون من الأدب لما أثار في نفسي شيئاً من العجب أو شيئا من الإنكار؛ ذلك يبدو أمام المتتبعين لنظرياته في فلسفة الفن متناقضاً مع نفسه، مترجحاً بين اليمين والشمال، لا يكاد يستقر على رأي ينادي به حتى يعود فيتحول عنه. . . إن من يقرأ رأيه في أدب الاعترافات منفصلاً عن رأيه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، ليتبادر إلى ذهنه أن كروتشه من أنصار هذا المذهب والداعين له، مع أنه من أكثر خصومه إلحاحا في الخصومة، وإغراقاً في التحامل، وإسرافا في الهدم والتشهير!.
يقول كروتشه في تعليل ازدياد عدد الكاتبات من النساء: وعندي أن علة ذلك الحقيقية هي هذا الطابع الإعترافي الذي اصطبغ به الأدب الحديث، فبهذا الطابع إنما فتحت أبواب الأدب على مصراعيها أمام النساء اللواتي يمتزن بالانفعال والنشاط، فإذا قرأن كتب الشعر لاحظن فيها ما ينطبق على مغامراتهن الشخصية وفواجعهن العاطفية، فلم يصعب عليهن أن يفرغن ما في قلوبهن بدون أن يعنين بالأسلوب (والأسلوب كما قال بعضهم بحق لا يأتي من امرأة). فلئن أصبح للنساء إذن نشاط ملحوظ في حقل الأدب فلأن الرجال قد تأنثوا بعض الشيء من الناحية الفنية؛ ومن علامات هذا التأنث قلة الحياء في عرض مبائسهم، وهذه الحمى من الصدق التي ما دامت حمى فليست صدقا، وإنما هي شيء من التصنع الذي يوصل المرء بالسفاهة إلى اكتساب ثقة الناس على نحو ما فعل روسو لأول مرة). . .!
هذا هواري الفيلسوف الإيطالي في أدب الاعترافات. . . تأنث وسفاهة وقلة حياء، ويزيد على ذلك قوله بأن هذا اللون من الأدب يتسم بالضعف في طريقة التعبير، فهو على التحقيق أدب لا أسلوب له! وقبل أن أعرض لرأي كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، كاشفا عما فيه من تناقض مع رأيه في أدب روسو وكل أدب آخر يحمل ذلك الطابع الاعترافي، قبل هذا كله أود أن أقول إن تلك الحملات التي شنها الفيلسوف الإيطالي على هذا اللون من الأدب تبعد كل البعد عن جوهر الواقع الملموس؛ لأننا لو وضعنا اعترافات رسو أو يوميات أندريه جيد في ميزان النقد، لاكتملت لها كل الصفات التي ينشدها الباحثون عن حقيقة الفن. . . الفن في كلمات هو أن يعيش الفنان في أعماق الحياة، وأن يستخدم كل حواسه في تذوق هذه الأعماق، وأن يملك القدرة على التعبير الصادق عما شهد وأحس حين يتناول ريشته ليسجل انعكاس الحياة على الشعور، وتلك أشياء يلمسها الناقد في اعترافات روسو ويوميات جيد.
الاعترافات واليوميات صورة واقعية من حياة الكاتبين الكبيرين، تعد في حقيقتها لوناً من الترجمة الذاتية التي تضع في يد القارئ والناقد مفتاح شخصيتهما الأدبية والإنسانية؛ فإطلاق الرأي فيها بضعف الأسلوب أمر لا ينطبق على الواقع؛ لان الصدق في التعبير صفة من صفاتها الرئيسية وسمة من سماتها الأصيلة. . . وليس هناك أسلوب مهما اتصف بالقوة أو بالجمال يستطيع أن يشق طريقه إلى القلوب والآذان، ما لم يستند إلى أقوى دعامة يمكن أن يستند إليها، ونعني بها الصدق في التعبير! ومع ذلك فأن صدق التعبير وجماله يتهيآن لروسو في أكثر فصول كتابه، وبخاصة في تلك المواضع التي تشير إلى علاقته الوجدانية بمدام دي فارنس.
ولعل في رمي الأدب الاعترافي بالتأنث كثيرا من الإغراق في التجني والإسراف والتحامل، وذلك لأن كتاب الاعترافات يقدمون إلى الناس صفحات من سجل الحياة سطرت بمداد الصراحة والأمانة والصدق. . . صفحات عاربة لا تكاد تتشح بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي وتملق عواطف الجماهير. ولعمري أن الكاتب الذي يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما فعلت من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من لذة وألم، دون أن يخشى في ذلك نقدا أو ملامة أو زلزلة لمكانته الأدبية والاجتماعية، هذا الكاتب في رأيي ورأي الحق رجل قوي جدير باحترام الأقوياء وليس متأنثا كما يدعي كروتشه. . . إن هناك كتابا يتظاهرون في كتاباتهم بحب الخير والتمسك بأهداب الفضيلة وهم غارقون في حمأة الموبقات، فهل نستطيع أن نسمي أدبهم أدب قوة؟ كلا! ولا نستطيع أن نرفع قيمة هذا الأدب إذا ما قسناه بمقياس الفن الصادق، مقياس صدق التعبير عن الحياة؛ لأنه أدب يعبث بالحقائق، ويشوه الوقائع، ويكذب على الحياة والناس!. . . إن أندريه جيد لو لم يكن متأثراً في كتاباته بفيلسوف القوة نيتشه، لما تهيأ له أن يتناول قلمه ليكتب ما كتب في اليوميات!.
ونعود إلى تهمتي السفاهة وقلة الحياء لنرد عليهما بكلمات من نقد كروتشه للمذهب الأخلاقي في الفن ومنها يتبين مدى التناقض الذي وقع فيه الفيلسوف الإيطالي حين دافع عن حرية الفن في مكان، ثم عاد فهاجم الحرية في مكان آخر. . .
يقول كروتشه: (إن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً منحطة، فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولكن لن يكون فناً أبداً!).
ويقول: (لئن كانت الإدارة قوام الإنسان الفنان، فليست قوام الإنسان الفنان؛ ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإدارة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي. . . إنك لا تستطيع أن تحكم بأن فرانسسكا دانتي منافية للأخلاق، ولا أن جوردليا شكسبير أخلاقية، وما هما إلا لحنان من روحي دانتي وشكسبير ليس لهما إلا وظيفة فنية، إلا إذا استطعت أن تحكم على المربع بأنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي!. . . إن من تفرعات المذهب الأخلاقي قولهم أن غاية الفن أن يوجه الناس نحو الخير، ويبث فيهم كره الشر، ويصلح من عاداتهم، ويقوم أخلاقهم، وإن على الفنانين أن يساهموا في تربية الجماهير وتقوية الروح القومي أو الحزبي في الشعب، أو إذاعة المثل الأعلى الذي يفرض على المرء أن يحيا حياة بسيطة جاهدة وما إلى ذلك. . . والحق أن هذه أمور لا يستطيع الفن أن يقوم بها أكثر مما تستطيع الهندسة ذلك. فهل عجز الهندسة هذا يجردها من حقها في الاحترام؟ فليت شعري لم يريدون إذن أن يجردوا الفن من مثل هذا الحق في مثل هذه الحال؟!).
هذه الكلمات التي يسوقها كروتشه ليدافع بها عن حرية الفن لا تنفق بحال وما ذهب إليه في نقده لأدب الاعترافات. . . ومع ذلك فلا يمكن أن نجد خيراً منها في مجال الدفاع عن اعترافات روسو ويوميات جيد!.
أنور المعداوي.
مجلة الرسالة - العدد 803
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق