اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

قصة ثلاثية: أيام عا البال || الأديبة : إيمان الدرع

(( 1 )) ـــ عا الصاااااااااالحيّة ...وياصاااااااااااالحة ...
يمّمتُ وجهي صوب نافذة الحافلة...أستنشق الهواء المعطر، بأنفاس الغيم الرمادي، المبشّر بمنخفضٍ يحبو على التلال. متجهاً نحو العاصمة..
صوت أمي، الجالسة قربي، يغيب عن أذني، ويعود، كلما اهتزت الحافلة بنا، أو توقفت، حين ينزل راكب ما، في محطة.
..كانت كعادتها تعاتبني لتأخري عن الموعد، حفظتْ أعذاري عن ظهر قلب:
ــــــــ أمي كنت أطعم صغار العصافير، بعد أوبتهم من المدرسة، أعدّ الغداء لزوجي،
عقب يومٍ مرهقٍ في الإدارة... أعرف مسبقاً بأنك ستلومينني على إفراطي بالعناية بسي السيد، وأن أمينة التي تسكنني، آن لها أن تستفيق.
ترمقني بنظرة عتبٍ صامتة.. تحمرّ وجنتاي كطفلةٍ، وأصمت على ضحكة مكتومةٍ، كعادتي..لما أتملّص، من حسم حوارها..
ـــــــ.أمي :أمينة هي التي تحكم بدهاء عقلها اليوم،..والمسكين يفرح بقرارات، ينفذها، بيديها..لو تدرين ؟؟؟!!!
تأبطتُ ذراعها، رائحة الأمومة، تنتشي لها الأعطاف طمأنينة، قطعنا جسر فكتوريا، حتى محطة القطار في الحجاز، ومن حي القنوات، افترقنا ممرا ضيّقاً، إلى باب الجابية.
البسطات تعرض أمامنا كل نماذج الطبيعة، وأصواتها، في لوحة مصغرة لجمال البيئة الشامية، المتداخلة مع بيوتٍ، تنوء بالأسرار، وراء جدرانها، الملتفة بوقارٍ، خلف الأبواب الخشبيّة،..والنوافذ العالية، المؤرتجة على حكايا ،من عمر زمنٍ، تستبينه من تصليحات عدّة، وترقيعات، تخفي ما أمكن من تعب السنين..
وعندما طرقنا الباب، مدت الحاجة أم فهد/ خالة أمي / رأسها الوقور من أعلى النافذة :ــــ مين...لميا وبنتها..!!!!! أهلين تقبريني..... ونادت على أهل الدار، كي يفتحوا لنا الباب، تستعجلهم بلهفة..
المناسبة كانت مباركة ولادة، لحفيدها الجديد، الذي زين الدار، بصوت رقيق، يصدره من حين لآخر،..من لفافة مشكوكة بالذهب، هدايا من عائلته، المبتهجة لحضوره،..حيث تهبّ الأم من فورها لنجدته، تلقمه ثديها، وسط ترديد الراشدات من النساء، بعض تعويذات من العين ، والكثير من النصائح المجرّبة، كي يغدق الحليب مدراراً، في فم وليدٍ، ما زال يبذل جهده، في تحصيل رزقٍ، لم يتقن بعد منه إلا البكاء سبيلا.ً
الصبايا يتنقّلن برشاقةٍ، وجمالٍ.. تعلو وجوههن زينة عفوية ، تظهرهن كالدمى المتحركة، وهن يتمايلن، على أنغام العود، حين بدأت الحاجة بعزفٍ منفردٍ ..يشدّك إلى عالم من ترانيم الروح ...ثم شيئا، فشيئا..يشتدّ صخب الوتر،..لينقلك الى (معزوفة ستي )....وهنا تضجّ القاعة بالطرب، مختلطا بعطر الشاميات ..يشددن بعضهن بعضا ..فيتمنّعنن، ويضحكْن، ويدعين جهلهن بالرقص،..لتنشقّ الأرض عن حوريةٍ، لا إنسيّة، ولاجنية ..تطير الى عالم سريالي، ..بعيد عن الأرض، ..حيث يقطر الحياء،.متداخلاً مع .الجمال، المخبوء تحت الستار،..وفيه من إغاظة، الغيورات، ما لا يخفى، على من يعرف خلفية الحكايا بينهن...المحبوكة في ليالي السمر..مع حياكة الصوف، ونقرشة البزر، وشيّ الكستناء.
..ثم جاء الدور عليّ ..تملصت بقوة عجيبة، جعلتهن يقتنعن، بأني لا أجيد الرقص....وهن يشككن بصحة كلامي، ويدحضن بالبراهين القاطعة ..:ــــــــ لا نصدق... شفناكي بعرس خالك
فجأة.... وقفت امرأة مخضرمة، كم أحبها !!!!! لتطلق بكل عفويةٍ، وبصوت متواضع، ولكنه محلّق، موّالها المغروم بالأسمر، لتتبعه بأغنيةٍ، صارتْ لازمةً لها، في كلّ مناسبة، تلحّ عليها النساء في ترديدها: //عا الصالحية ويا صالحة...ويا وردة جورية...ويا مليحة....//// وبين المقطع، والآخر، تقوم بهزّ كتفيها، ويديها، وخصرها بتناغمٍ فطريّ، وصوت الجوقة يردد وراءها، مع التصفيق المتواتر ارتفاعاً ، ثمّ تغمز بعينها، وأصابعها تتساءل بإشارة ذكية ودلال: ـــ.///..حاكيتو شي ...!!!!! لا والله ...زعلتو شي ..!!!!!لا والله..وانا لعندو رااااااااايحة..///...
ثم بعد انتهاء الوصلة الطربية الخفيفة....وسط استحسانهن...وشكرهن لها: مرددات : الله يعطيكي العافية...... .تعود لتلقي بجسدها المكتنز على الأريكة، تمسح حبات العرق، المنسابة من جبينها، على أطراف خديها، وهي تلهث من التعب.
مشروب الكراوية الساخنة ، المزينة بالفستق الحلبي، والجوز، واللوز، والصنوبر... بطعمها اللذيذ، يضخ في العروق، نكهة ذاكرية غريبة، مرتبطة بالمناسبات السعيدة...نقلت شعورا مشتركاً بالفرح، والسرور.. حين كانت توزع فناجينها ..وسط الزغاريد، والتبريكات.. وضجيج السعادة، بلا اصطناع الضحكة، وأقنعتها...
القبل الصادقة، على الخدود الوردية، عزفت نهاية الزيارة ...على وعدٍ باللقاء..
.وفي صندوق خشبي صغير، على منعطف الدرج، رحت أرقب السلحفاة المعمّرة، وهي تمد رأسها ببطء، تأكل خلسة، من ورقة خسّ، رُميتْ على عجل، ليكون لها من المعايشة الحلوة نصيب
نزلنا الدرج الخشبيّ الضيق، الملتفّ حلزونيا، بحذر شديد، وأنا أمسك يد أمي، خوفا عليها .. رشقات من الماء العذب، بللت ثيابنا، أتتنا من نافورة بحرة حجرية...خرافية الألوان، والزخرفة، والظلال .. رغم تآكل حوافها.. كانت كالعجائز.. لا توقف ثرثرتها، ومشاغبتها.. في أرض الدار...
وعند الباب، عدّلنا هندامنا، ونحن نقف، قبالة مرآة كبيرة، إطارها عتيق، تتوسط الحائط، ، تخبّأت فيها، ملامح مالا يعدّ.. من الوجوه...تركت بصمات مشاعرَ،..وأسرارٍ.... ، لو نطقت لبانت حكايا الحياة، المتوارية وراء الستار..
.ارتطمنا ببرد الجوّ العاصف، خارج الدار الآمنة.،. الدافئة.. اقشعرينا ، لا جئين إلى معاطفنا الجوخيّة ..نشدها باحتماءٍ... ... وبمشاورةٍ بسيطة، سريعة...اتفقنا على

****
الجزء الثاني /// سوق الحميدية ///

قطعت، وأمي الشارع المزدحم بالمارة على جانبيه، المؤدي إلى مدخل الحميدية، عندما تضع قدمك أول خطوة في السوق، تنقطع صلتك بالعالم خلفه، تسرقك كرنفالات الألوان، السقف الذي يرسل بحزمة أضواء من ثقوب كالنجوم، والمتاجر بطابقيها، المرصوصة، كعقد لؤلؤ على امتداد النظر..تحار أين تجوب بعينيك، هل تتبع ماوراء الواجهات الزجاجية الكبيرة المتفننة بطريقة العرض، أم البسطات التي افترشت الأرض ؟؟!!!! أم المعروضات المعلّقة خارج المحال، يحرّك بعضها الهواء الصاخب، المتسرّب خلسة، عبر الأفرع الجانبية للسوق ، تتفحصها أيدي الزبائن، وما استعصى منها يطاله البائع بعصا طويلة...؟؟!!
تقدم منا يافع، يحمل صندوقا خشبيا مسطحاً يربطه بكتفيه، يخرج عدة أمشاط، ينقر بلطف على يدنا:
ـــ (خالة ..جابرينا أربع امشاط بميّة ...جربيهن والله مشط خيزران أصلي... شوفي.... )ورغم التجاهل يصر على المحاولة حتى ييأس..ليستقبل زبونة جديدة عابرة تقبل عرضه.
أمامه بائع يطرطق بصحون بللور على الأرض يكتفي بجملة كأسطوانة يعيدها: ــ (تعى شوف أصلي وضد الكسر.. ضد الكسر...)
شقينا خطونا بصعوبة وسط الزحام...فاقتربنا من صالة بكداش، صوت المدق اليدوي للبوظة، وحركة الزبائن بين داخل، وخارج، ومن يحمل بيده قمعاً ..( بوريّا) شهياً من البوظة العريقة في صنعها، المعجونة بالفستق الحلبي في أعلاها، يدلك على المكان...طلبت اثنين..انتظرت قليلاً حتى وصل دوري في رتل الواقفين...الطاولات ممتلئة عن آخرها بالزبائن، هنا عاشقان يهمسان بخفر، هنا عروس وخطيبها وعائلتيهما، بعد شراء المصاغ، وتناول وجبة شواء دسمة في مطعم (أبي العز) هنا قادمون من عواصم أخرى بلهجاتهم المختلفة، وهنا زائرون من محافظات بعيدة، ومن أريافها، في محطة لابد أن يعبروها حتى تتم الزيارة كما يرغبون.. على الجدار صور مؤطرة لملوك، وزعماء عرب، وشخصيات مشهورة، تباهى بها المعلّم الذي أخذ وضعية تليق بصالة مشهورة،عمرها أكثر من قرن.
تأخذنا واجهات المحال إلى عالمها الساحر، وتغرينا بالشراء حتى وإن لم نخطّط له، تقف أمي أمام متجر عباءات شرقية..تدخل، أتبعها...وأنا أمسح بمنديل أصابعي، وفمي من أثر البوظة...تجول عينا أمي كنسر يصوّب هدفه،..تطلب إحدى (الجلابيات)...تشير: ـــ ( نزلّي هي (البروكار) اللون الفضي... أي أي مو هي التانية...) يمتثل البائع لطلبها...تسأل عن السعر فيجيبها...مباشرة تنزل إلى نصف الثمن...نعم... أمي لا ينافسها أحد بفنون الشراء، واعتصار الأسعار حتى الحدود الدنيا... يذهل البائع.: ــ (لا والله يامدام هيك كتير...الله وكيلك ماجابت رسمالها.....) .أمي بهذه الحالة تتقن دورها، تلتفت نحو باب المتجر بقلب قوي...تهم بالخروج ....دون التفات...مصرة على السعر....يلحق بها البائع....:
ـــ (تعي أختي حبة البركة...والله مابعت لحدا غيرك بها السعر.. تكرمي المحل محلك..) وهو يرتشف جرعات ماء، من كأس موضوع على صينية عتيقة، قرب فنجان قهوة، شبه فارغ، كان قد طلبه، ويضاحكها قائلا:
ـــــ (أي والله نشفتي لي دمي بمفاصلتك...) //// فتظهر علامة النصر على وجهها...وتحمل الكيس بصدر ممتلئ بالغبطة .، وترفقه بمفرش طاولة من (الأغباني) على ذات الطريقة...بحجة لامبالاتها بها، لأنها لا تلزمها ولكنها بالكاد تسأل...مخفية مابنفسها من إعجاب بالقطعة التي تنشدها حتى لا يطمع البائع... ..وتخرج متأبطة ذراعي وسط ذهولي توشوشني:
ـــــ ( إيمااااان ....لقطة. بتاخد العقل.. ــ )
وماكدنا نمشي بضع خطوات، حتى وقف أمامنا شاب، يدعونا إلى متجر على مرمى طرفة عين منا:
ـــ (إذا بدكن شراشف، مناشف، عبايات، قمصان نوم،..كل شي عنا...وبنراعيكن بالسعر...اتفضلوا أختي..) .تجاهلناه رغم إلحاحه، فلقد حفظنا نداء العزّيمة عن ظهر قلب، وكثيراً ما يصادفنا ذلك على امتداد السوق....
وبينما كانت تحدثني عن الصعوبات التي تلاقيها في طباعة ديوانها الشعري..والأشخاص الذين تحتك بهم، منهم المعرقل لمسيرة الإبداع، ومنهم الداعم بقوة، وحماس، ومؤازرة...مرقت بمحاذاتها دراجة مثل السهم كادت ترطمها، وقبل أن توبل سائقها ـــ الذي يحمل على كتفه ثوب قماش ــ بشتيمة نجى منها..كان يشقّ الصفوف بعيداً، وهو مازال يردّد: ـ
( أوعى أوعييييي ــ أوعى ..أوعي أسسسسسع ...)
وقبل أن نصل إلى المسكيّة .....وجدنا عربة مكتظة بأغراض شتى، ...يقف أمامها رجل أشيب، مبحوح الصوت لكثرة النداء، كشريط مسجل:
ـــ ( تعى شوف..حيالله غرض ب50 ..يابلاش ...نقّي.. نقّي...يابلاش الغرض ب50 ...ياعالم الغرض ب50 ...لبّس ولدك ب50 ....).ثم يشفط من كأس شاي قربه، ويأخذ سحبة من دخانه: ويكمل النداء، وهو يسحب درج العربة، يضع أوراقا نقدية ويخرج فكّة ...ويضع الأغراض في أكياسها، يدفعها للزبونة على عجل....: ــ.(يعوّض عليكي أختي )
عندما وصلنا آخر السوق، تأملت المكان، طالعتني أعمدة معبد جوبيتير...وبوابته...الحمائم تحط على رقعة بذرت فيها حبات طعامها..تلتقطها آمنة...وأصوات أشرطة التسجيل، تنبعث منها المدائح النبوية بصوت: الشيخ المنجد، وشكور، وداوود ....وغيرهم ، ودروس الوعظ... وأحمال الكتب تنوء بها الرفوف داخلاً، وخارجاً...ففي المسكية تباع العطور التي تذكرك برائحة الحرم المكي...والسبحات معلقة بكل ألوانها، وأحجامها، وأنواعها.. على شناكل حديدية قريباً من البائع.
بائع العرقسوس بلباسه التقليدي، يقف قرب العمود الحجري الضخم ...يشقلب بخفة الكأس بحركة سريعة بهلوانية في الهواء، ثم يضخ فيها ـــ من إبريقه الزجاجي المختبئ خلف بيته النحاسي الضخم ـ الشراب ذا الرغوة المكثفة، بيده اليمنى العالية، ويقدمها بأطراف أصابعه للزبون ..: .ليعود ويضرب الصاجتبن بيده اليسرى منادياً:
ـ (شفا وخمير يا عرقسوس...بارد وخمير ......واتهنى يا عطشان. ............). /// محاولاً أن يكون صوته هو الأعلى بين أصوات بائعي شراب التوت الشامي ، والتمر الهندي...
وقرب بوابة الجامع الأموي سألت أمي: ( هل ندخل المسجد الآن؟؟؟ أم نتبضّع من (البزورية)، وسوق (تفضلي ياست)...قبلاً..؟؟!!! ) .أومأت برأسها نحو الأموي: ــ ( لاااا سندخله أولاً حتى لانحمل أغراضنا إليه..)
واجتزنا العتبة الطاهرة نحو صحنه، بعد أن خلعنا أحذيتنا، يغمرنا السلام، والطمأنينة، وبرودة البلاط أشعرتنا بشتاء أليف، له نكهة صوفية، تملأ الروح توحداً بالسماء...
ثم انتقلنا بخطونا إلى الداخل نقطع المسافة الفاصلة إلى مقام (النبي يحيى)..فوق السجاد النظيف، المنوع في زركشته، وأحجامه ...بقلب خاشع، فهنا كل شيء يعانق النور . حتى الجدران تنطق بالتوحيد.. والثريات،.حتى الزجاج العالي المعشق بالألوان يدخل من السماء فيضاً من الأمان...قرأنا الفاتحة قرب المقام، نحشر بعض نقود في فتحة مخصّصة للتبرع، وقد توزّع حوله ثلة من المشايخ. المكفوفين،.بعماماتهم الملتفة على طرابش حمراء.. يجمعهم شدة التقوى، والوجوه الوضيئة، والرضا بما قسم لهم،..... يقرؤون الموالد لمن يقصدهم طلباً للبركة، أو للنذر ..أو يجيبون عن استفسار رجال حائرين ببعض الفتاوى، و نسوة تؤرقهن مشاكل عالقة ... وقصدنا سدّة خشبية في زاوية مخصصة للنساء.... لانكاد نسمع سوى أصوات همهمة بين مصلّ، ومبتهل، وقارئ قرآن..
صلينا بعض ركعات، وحيينا المسجد، وقصدنا الله في أدعيتنا، وتسابيحنا،..نبث همومنا...لخالق الكون الذي تجلّى في الروح، حتى ذابت في ملكوته...
تمرّ سيدة نَصِف...مع صبية حلوة تبدو بأنها ابنتها...تتشاوران سريعاً، ثم تقصدان السدة ذاتها، ..تلقيان التحية على عجل، ثم تجلسان.. ترميان عنهما مجموعة أكياس، تضجّ بمشتريات، تدل على أن الصبية عروس تشتري جهازها...انشغلت عنهما حين حدثتني أمي همساً، عن جارتها أم أيمن، ووجوب زيارتها، لمرض شديد ألمّ بها... ثم انتقلت تحدثني عن طفولتها هنا في حارات الشام العتيقة...وكيف كانت تقفز من، وإلى جرن من الرخام...كان سابقاً يُستعمل لتعميد الأطفال، قبل أن يتحول المكان من كنيسةٍ، إلى مسجد، بينما طرف عيني يرقب مشرفاً على خدمة الجامع، يهشّ بعصاه الرفيعة، على بعض من غلبهم النعاس، فاستسلموا له بأمان..
ـــ (قوم يا أخي .. قوم يا حبّاب ...الجامع للعبادة ..مو فندق..قوم الله يرضى عليك وحِّدْ الله...)
تهلّل وجه السيدة التي تجلس قبالتنا، وهي تصافح امرأة أخرى، وتقبّلها ...ـــ ( ييييييي ..أم عمر ؟؟!!! لك شو جابك لهون...؟؟!!! ـ
ـ لك أنت شو جابك.. ؟؟!!!
أنا عم جهز بنتي... من سوق العرايس، ومن القيشاني.. والأسعار نار وكوي....عرسها بعد شهر...أوعك ماتجي...
ـــ الله يتمم بالخير..معقولة ما أجي وفاء بنتنا ...ان شالله جوازة الدهر..
.ـــ لك شو صار بخطبة بنتك سمعت أنها فقست...
ــ أي والله.... فشروا يا خدوها....ولو تقلوها بالدهب... والله مابيطولوا ضفرها طول مالي عايشة...حرام الولد آدمي بس كله من أمه السمّاوية.. يعدمني اياها ...أم أربعة وأربعين ..... ينيشنوها من عينها..وتتحورأ .....متل الحية بتقرص، وبتخبي راسها.
ـــ أي والله يا أختي معك حق..الحماية القوية بلوة لا بترتاح ولا بتريح ... والكنة بدها كَنة تقبريني... يالله كل شي من الله منيح .. وكله قسمة ونصيب....(
.وتودعهما بحرارة ...ـــ ( الله معكن تشكلوا آسي...)..تقول العروس.
. ــــ (بوسيلي مروة خالتي...خليني شوفها قبل عرسي.)
.ــ ( إن شا الله حبيبتي..ربي يسعدك ..بخاطركن هلأ ...)
وكتمت ضحكتي حينما حاولت امرأة عجوز، أن تقرأ عنوة، مولداً لأمي، على نية الفرج والشفاء، والصلاة على الحبيب المصطفى...ثم شرعت به ، من غير مقدمات، تستقدم خشوعا جاهزاً، في حالة تجلٍ سريع، متقن عن ظهر قلبي...وأمي لا يمكن أن تمر عليها، حالات كهذه ...بسهولة دون التعبير عن رفضها...فأوقفتها عن الإنشاد قائلة بحسم : (قلتلك ما بدي: الله يعطيكي العافية..) فهربت المرأة، وهي تتلفت وراءها، تحسبا من غضب قرأته في عينيها.
حاج طيب...قريب لأمي ـ ابن خالها ـ يلوح لنا ويقترب: ((( هه... ايوه ..... أنتو هووووون وما بتزورونا ..؟؟!!! ..وصلاة محمد مرت خالك بتزعل منك قومي معي...ليكو البيت فشخة......))اعتذرت أمي متعللة باستكمال شراء أغراض من السوق، ولضيق الوقت من أجلي، حتى لا أتأخر عن بيتي...ولكنه لم يقنع..ــــ .((عليي الحلال من مرتي، إلا تقومي ياللا عموووو فزّي ...))
وأمام إلحاحه الشديد، لم يكن التملص ممكناً...فمشينا بمحاذاته، قاصدين بيت الحاجّة / أم بشير / وهي امرأة تركت في نفسي أثراً لا يمحى... كقلعة دمشق المعانقة لسوق الحميدية .. الراسخة بشموخ، وحنوّ..
*****************************************************************************
في بيت أمّ بشير.
والأخير...الجزء الثالث
************
******************************
سرتُ وأمي بصحبة ابن خالها ( عدنان )، متوجهين نحو باب الجامع الأمويّ الكبير، المطلّ على سوق الصاغة، ننتعل أحذيتنا، يلفحنا الهواء البارد، المتعبعب في زوايا دمشق القديمة، فتفتح ذراعيها معانقة، بمجرد أن تطأ قدمك، حجارة شوارعها.
كان يرقبنا خشية أن نغيّر رأينا، ونعدل عن الزيارة، متعلّلتين بأمر طارئ، فمشينا حذوه، نطمئنه، نقطع المحال التجارية المتنافسة في عرض منتوجاتها السورية العريقة التي تستهوي السياح: من المشغولات النحاسية، وقطع الموزاييك، والتحف الزجاجية، ومنسوجات الحرير، والبروكار، والأغباني، تحار كيف توزع ناظريك، بين فن رسم بالرمال الملوّنة، ضمن قوارير متعددة الأحجام، أو لوحات زيتية، ممهورة بريشة مبدع..مدهش الخيال..متهاديات كفراشات ملوّنة، هنا، وهناك، على امتداد النظر.
وصلنا (قهوة النوفرة)، ننزل الدرجات الحجرية العريضة، المؤدية إليها، تناثر الرواد على طاولاتها الصغيرة، كأقمار ضاحكة، في سماء قزحية الألوان، بعضهم يلعب الورق، آخرون يتصايحون، وهم يعيدون ترتيب أحجار النرد بنزقٍ، وتحدٍّ، في جولة ثأرية جديدة .. يرتد الصدى متجاذباً، بين غالب، ومغلوب...يقطعه صوت الحكواتي المتربع على عرش الحكايا، بلباسه التقليدي، القنباز، والطربوش الأحمر، والعصا التي يلوح بها كسيف أبي زيد الهلالي، وعنترة، وابن المهلهل..بينما تتناقل طلبات الرواد، عبر المسافات الضيقة: ـــ هات خمسة شاي خمير ...اتنين قهوة سادة ...نااااارة ياولد...
على الجهة المقابلة تذكرت حمّام النوفرة..الذي شهد أحلى الذكريات، والمناسبات...كانت العروس الدمشقية ..قبل زفافها..بفترة بسيطة، تقصده مع أهلها، وأهل العريس..يقمن فيه ولائم باذخة...تقرّب أواصر الصلة، وتتيح لأهل العريس، رؤية كنتهم القادمة إلى ديارهم،عن قرب...
على بعد خطوات قلائل كنا قد وصلنا دار أم بشير: يسبقنا ( عدنان ) ـ اتفضلوا أهلا وسهلا ..حلّت علينا البركة ( وهو يدق ( ساقط الباب) دقات متتابعة ــ يااااااااامو شوفي مين جبتلّك معي ؟؟؟!!!
مدّت رأسها بفضول.. من خلال الدرابزون الحديدي الذي يؤدي إليه درج عالٍ، عتباته حجرية، متباعدة ...زغرد صوتها يستقبلنا قبل أن نصل إليها: ــــ ييييي لميا وبنتا...ولك تقبرو قلبي...اطلعوااااا ...
وصلنا إليها نلهث، فاستقبلتنا بأحضانها، وقبلاتها، وشمّاتها، وهي تسحبنا صوب أرض الدار الكبيرة ـــ لك يا ميت أهلا ويا ميت سهلا...ثم توقفت فجأة عن الترحاب، تتصنّع عقدة على جبينها، مخاطبة أمي بلوم، وعتب المحبين: ــ روحي ارجعي...وين ها الغيبة ؟؟؟ هاتي الحليبات ( على اعتبار أنها قد أرضعتها، مع أولادها، حين كانت أمي في أشهرها الأولى.) .يا خسارة التعب، والترباية فيكي..
اعتذرت أمي بلباقتها المعروفة، متعلّلة بمشاغل الحياة، تسرد لها مجمل تعلاّتها، وأسبابها ...علّها تلتمس مسامحتها..وتطييب خاطرها...
فعادت إلى صفائها، وترحيبها، وهي تجلسنا قربها على كراسي القشّ، قائلة وهي تمسح العرق عن جبينها: ـــ مارح أستحي منكن، ما حدا غريب ...عم ساوي كبة مقلية، وبدي بلّش بالقلي......( أشعلت موقد الغاز الأرضي) ولم تكد تبدأ برمي الأقراص في الزيت ، حتى توافدت إلينا تباعاً، كنائن الدار الكبيرة، من غرفهن المتوزعة، بين أحواض الورد، والياسمين، كحبات عقد على جيد صبية، جميلة التكوين..يرافقهن بعض الأحفاد، بين رضيع يحبو ، .. وآخر يمشي خطواته الأولى، ويلثغ، بينما قربت من صدرها فتى أشقر نحيل، تقبّله، وهي تشده إليها:..ـــ يشكل آسي صار( بالسرتفيكا) والأوّلي على صفّو..
انتشرت في الجو رائحة زكية لاتقاوم...دوائر الزيت الحار..تحيل الأقراص إلى لون ذهبي، أصرّتْ على تناول بعضها، تمنّعنا ادّعاء في البداية معتذرتين، وأمام إلحاحها، وفيض كرمها، التهمنا مافي الطبق، بشهية لاتخفى..أم بشير: كانت امرأة في العقد السابع من العمر، يفيض وجهها حمرة، ونضارة، مكتنزة، ولكنها خفيفة الحركة، نشيطة، دؤوب، تتحرّش بالزيارات العائلية، حرصاً على التواصل، تقوم بالواجب حتى في أقلّ المناسبات أهميّة، حنون ، رزقها الله بسبعة شباب، وابنتين، كانت خفيفة الظل، مرحة، لايكاد عرس يمرّ، دون أن تكون لها فيه مشاركة غنائية، أو أهزوجة دمشقية، مترافقة برقصة شعبية، تقطر ظرفاً، وأنساً.. كم هي مبدعة بالفطرة وهي تردد:.(( ياقضامة مغبّرة، وما بنزل ما بنزل... إلا بحَلَق ألماس، اسمع مقال المعنى...وغيرها ..) ..؟؟!!!
.ولكنها على الجانب الآخر، كانت في المواقف الحاسمة أخت الرجال، حادة الكلمة، صلبة...ولها مواقف تناقلتها العائلة بإعجاب، وإطناب.
..سألتها أمي: ـــ كيف انتهت المشكلة بين أولادك، وأولاد (حي العمارة) ؟؟!!!
ـــــ اسكتي يا لميااااااا ...لما اتهجموا على حارتنا، وقفت بين الطرفين.. وكل واحد الله وكيلك، جايب فزعة شكل، والشر عم يطلع من عيونن..ورح يدبحوا بعضن من الغضب..صرخت ..ارجعوااااا ...ولك انتو اولادي ..انتو أخواااات ..انسيتو شلون ربيتوا سوا ..وأكلتو على سفرة وحدة... وشاركتوا بعضكن الفرح، والحزن ...ياحيف عليكن يا اولاد قلبي... ولك عيب عليكن عييييييييب ...قاموا استحوا...وبوسوا شوارب بعض...وهنه عم يقولوا : على راسي خالتي..سامحينا..وهاتي ايدك لنبوسا..
صوت ابنها (زهير) يسبقه، قبل أن يجتاز الأدراج صعوداً حيث نجلس: يا اللا يا اللا في حداااااااااااا؟؟!!!
ـــ اطلااااااااع تكفّني ... ما حدا غريب ..أختك لميااااااااا
فبادر أمي لما وصل بسبابٍ مازحٍ( لو لم أعرف شيفرته سابقاً، لاستغربته، فهو يعني قمة المؤاخاة، والتودّد) ـــ يووووو العين تطرقِك هاااااد انتي ؟؟!!! حسبت حدا محرز، شو جابك؟؟؟لتكوني مخربطة بالعنوان؟؟بكير لسه ليصير سنة ..!!!؟؟
أجابته ضاحكة: ـــ وحمى ان شالله . الواه الواااااااه ....( محركة أصابع يدها، يمنة، ويسرة ). أصلاً أنا جاية لعند أمي..لو فيك خير كنت أجيت زرتني...أنت أخي عا الفاضي...ومحسوب عليي...
فاعتذر إليها: ـــ ولك وحياة الله لو تعرفي ظروفي ما بتزعلي مني..اتركيها لله ( وجلس يسرد لها مشاكل الشغل، والأولاد ..ونحن نحتسي قهوتنا الساخنة المحمصة يدوياً...) وقد نقلت إلينا الجدران صوت عراضة شامية، لأحد الأعراس، قادمة من الزقاق الخلفيّ للبيت ...
انزرعت قبلات أم بشير على وجنتينا، ونحن نودّعها ...نتعهّد كمن يقرّ بذنبه، بعدم تكرار التأخّر عن زيارتها....
اجتزنا العتبات حيث ( القباقبيّة) ومعروضاتها الخشبيّة، المحفورة بإتقان مذهل، اخترت بعض قوالب المعمول، المنقوشة بحرفية عالية ـــ فالعيد على الأبواب ـــ و بعض مقتنيات لم أقاوم شراءها..
.قطعنا ( البزورية) بعد أن امتلأت الأكياس بتشكيلة كبيرة من توابلها، ونقولها، وفواكهها المجفّفة..قاصدتين ساحة ( الحريقة) التضج بالمتسوّقين، المنتظرين مع أكياسهم، وسيلة ركوب.. يتسارعون لالتقاط سيارة، فرغت للتوّ من راكبيها.
حشرت أغراضي بسرعة في المقعد الخلفي للسيارة، وأنا أحجزها ظافرة بها، ...صوت أم كلثوم يصدح: ــــ أول عينيا ما جت في عينيك عرفت طريق الشوق بينا.../// أستعجل السائق في قيادته، وهو ينفث دخانه بمزاجٍ عالٍ، عبر النافذة ...:
ــــــــ بسرعة شوي يا أخي الله يخليك..
أضحك من نفسي.... ـــ هه ...قال تحررت من ثوب أمينة قال... ومن عقدة سي السيد... بدليل أني الآن، أرسم الحجج التي سأسوقها..للدفاع عن سبب تأخري، حتى هذه الساعة من الليل...؟؟؟!!!!!
وكأن أمي قد قرأت أفكاري، وتضاربها...وهي ترنو إليّ، بفراستها المعتادة...بين استنكار ضمنيّ، وعتب، وتفهّم، وإشفاق، والتماس عذر، طالبة من السائق، أن يوصلني أولاً، قبل أن تتجه إلى بيتها...وهي تعدني بمحادثة على الهاتف ، فور وصولها...علّها ترتب لمواعيد جديدة..لمشاوير قادمة،..لن تغيب عن الخاطر....وستبقى على البااااااااال.
**
الأديبة السورية : إيمان الدرع

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...