أغلق باب بيته الخشبي وراءه وخرج قاصدا مدرسته كالعادة لكن هذه المرة سيرا على الأقدام ، كأنه أراد أن يتعب جسده الصغير ليبعد عن عقله ما أنهكه التفكير فيه ،كان الوقت مبكرا وفي الشوارع الخريفية كل شيء كان هادئا ، صامتا ، لم يعرف في أي الطرقات سيسير وفكره مشوشا ، دخل مدرسته وحيدا منطويا ، لاحظت معلمته تغيرا كبيرا عليه، لا يشارك زملاءه الحديث واللعب، شاحب الوجه،وتعاظم قلقها عليه عندما تقهقر مستواه الدراسي كثيرا. عاد في نهاية اليوم إلى منزله ، وفي ساحته كان يلف ويدور يبحث عن شيء لا يعرف ما هو، أخذ ألبوم الصور احتضنه ثم أعاده برفق
داخل الخزانة ، ينظر إلى النافذة ومن خلالها إلى أغصان بعيدة كانت عارية من أوراقها، يكز على أسنانه، وتذرف عيناه البنيتان اللامعتان دمعا ساخنا ، ينتفض كمن توهم أمرا ما فيتوجه راكضا نحو الباب فيسند ظهره إليه ويشبك يديه خلفه وينادي بفارغ الصبر شبه صائحا " ماما ، متى تعود ماما ، هل ستعود بعد شهر ، شهرين ؟؟ " سحب والده الجريدة بين يديه للأسفل ورمقه ثم قام إليه واحتضنه ثم جلسا قريبا من النافذة يتأملان الأجواء الخريفية الحزينة خارج المنزل والتي لا تختلف كثيرا عن داخله ، أراد أن يخفف من أحزان ابنه الوحيد بأن دورة الحياة ستستمر وأن تجهم الطبيعة لن يدوم وستأتي حتما بهجة الربيع ، ولكنه لا يسمع منه سوى تلك التمتمة المعادة المعذبة التي لا تفيد أي معنى سوى أنه متمسك بشبه حلم لا يزال معلقا بالمستحيل، ابتسم لوالده ابتسامة حملت من خلالها ثقل أحزانه الدفينة في أعماقه ولكنها لم تخف دموعه المحبوسة وظل الصغير مسافرا عبر أحلامه المتشوقة إلى حضن أمه. تمر الأيام على " وليــد " وحالته تزيد سوءا ومعها يزيد استغراب معلمته، قدم أوراق إجابته في الامتحان فارغة ، هجره أغلب زملائه بعدما لاحظوا إهماله في نظافة جسده وملابسه ، وتكرار تأخره عن أوقات الدراسة، علم يوما من خلال حديث زملائه المجتمعين الذي يأتيه عن بعد رغبتهم تنظيم حفل عيد ميلاد لمعلمتهم، أثارت هذه الفكرة في نفسه شعورا ملأه الحماسة فراح يبحث في كل أرجاء منزله عن ما يمكنه أن يشارك به في الحفل وأخيرا وجده ،أو هكذا أراد القدر أن يكون، في الموعد قدم كل تلميذ هديته إلى المعلمة ، فتحت الهدايا أمامهم والسعادة تغمرها،قدم وليد هديته واستغربت المعلمة طريقة تغليفها الفوضوية حاولت إخفاء ما اعتراها من امتعاض سرعان ما تحول إلى قلق أثار حيرتها فتقبلتها دون أن تبدي أي ملاحظة ،فتحتها برفق فوجدتها زجاجة عطر مستعملة لم يتبق فيها سوى بضع قطرات، ولكنها وجدت ورقة صغيرة مكتوبة سألها فيها "هل تقبلين أن تكوني أمـــي ؟ " صمتت المعلمة وقد علمت أنه ذاق صغيرا أمر عذاب في هذه الدنيا، ولكن هالها أنه اختارها هي لتكون عوضا له عنها ،ثارت في نفسها عدة تساؤلات حائرة ، إنها معلمته ومربيته التي يهمها أن يكون ناجحا في دراسته ولكن أن تقوم بدور الأم وهي لا تزال عزباء فان ذلك سيمثل عبئا إضافيا عليها قد تخشى أن لا تتحمله ومسؤولية ثقيلة لم تتأهل لها بعد،القبول بها يعني أن الأمر سيكلفها عمرا ستنفقه من أجل إسعاد حياته .. استبقته بعد انتهاء الدوام وبعد خروج كل التلاميذ اتجهت إليه، شكرته على هديته ولسان حالها يدفعها لمعرفة لغز هذه الزجاجة، أخبرها والحرج يكاد يذيبه أنها آخر شيء احتفظ به من أمه،وانفجر باكيا، أدركت أنه يريد أن يرى فيها أمه، وأن يشم فيها رائحتها، توددت إليه ومالت نحوه هامسة في أذنه بكل حنان وهي تهذب بلطف شعر رأسه الصغير " هل تقبلني كأم؟ " استغرق الأمر مدة قصيرة ولكنها كانت كافية حتى نسجت في قلب أم جديدة ألفة ومحبة لا حدود لها حملت معها إشراقه جديدة لحياة وليد وفتحت أمامه أبواب الأمل مشرعة للمستقبل السعيد، هكذا وجد وليد في سؤالها الإجابة الوافية على أسئلته الحائرة ،وجد من يقف معه في مشوار حياته،عثر على سنده لاستعاد اجتهاده الضائع واسترجاع تفاؤله المفقود ،واظب على طريق العلم ،ولم تتخل هي يوما عنه،وقفت إلى جانبه في كل الظروف في البيت والمدرسة وكانت وراء الكثير من نجاحاته الدراسية التي تواصلت بانتظام حتى كبر ونال شهادته الجامعية وأصبح معيدا بالجامعة، وجاء يوم تكريمه على تفوقه الباهر فأرجع الفضل الأول والأخير لها ، لولاها ما استقامت حياته وما كان له هذا الشرف العظيم استمعت إلى كلماته بكل فخر واعتزاز، وقد كانت له الأم التي لم تلده والتي رافقت دربه في أعسر أوقات حياته ، وفي غمرة سعادتها به غالبت دموع فرحتها به فرحة كبيرة شاركها فيها والده الذي لم يتردد من الشد على يدها امتنانا بفضلها واعترافا بجميلها بينما قبضت يدها الأخرى على تلك الزجاجة الصغيرة التي احتفظت بها طويلا ولم ينقص من قطرات عطرها شيء، كانا سعيدين وسط أبنائهما الذين صفقوا بحرارة في حفل تكريم أخيهم وليد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صبحه بغوره
داخل الخزانة ، ينظر إلى النافذة ومن خلالها إلى أغصان بعيدة كانت عارية من أوراقها، يكز على أسنانه، وتذرف عيناه البنيتان اللامعتان دمعا ساخنا ، ينتفض كمن توهم أمرا ما فيتوجه راكضا نحو الباب فيسند ظهره إليه ويشبك يديه خلفه وينادي بفارغ الصبر شبه صائحا " ماما ، متى تعود ماما ، هل ستعود بعد شهر ، شهرين ؟؟ " سحب والده الجريدة بين يديه للأسفل ورمقه ثم قام إليه واحتضنه ثم جلسا قريبا من النافذة يتأملان الأجواء الخريفية الحزينة خارج المنزل والتي لا تختلف كثيرا عن داخله ، أراد أن يخفف من أحزان ابنه الوحيد بأن دورة الحياة ستستمر وأن تجهم الطبيعة لن يدوم وستأتي حتما بهجة الربيع ، ولكنه لا يسمع منه سوى تلك التمتمة المعادة المعذبة التي لا تفيد أي معنى سوى أنه متمسك بشبه حلم لا يزال معلقا بالمستحيل، ابتسم لوالده ابتسامة حملت من خلالها ثقل أحزانه الدفينة في أعماقه ولكنها لم تخف دموعه المحبوسة وظل الصغير مسافرا عبر أحلامه المتشوقة إلى حضن أمه. تمر الأيام على " وليــد " وحالته تزيد سوءا ومعها يزيد استغراب معلمته، قدم أوراق إجابته في الامتحان فارغة ، هجره أغلب زملائه بعدما لاحظوا إهماله في نظافة جسده وملابسه ، وتكرار تأخره عن أوقات الدراسة، علم يوما من خلال حديث زملائه المجتمعين الذي يأتيه عن بعد رغبتهم تنظيم حفل عيد ميلاد لمعلمتهم، أثارت هذه الفكرة في نفسه شعورا ملأه الحماسة فراح يبحث في كل أرجاء منزله عن ما يمكنه أن يشارك به في الحفل وأخيرا وجده ،أو هكذا أراد القدر أن يكون، في الموعد قدم كل تلميذ هديته إلى المعلمة ، فتحت الهدايا أمامهم والسعادة تغمرها،قدم وليد هديته واستغربت المعلمة طريقة تغليفها الفوضوية حاولت إخفاء ما اعتراها من امتعاض سرعان ما تحول إلى قلق أثار حيرتها فتقبلتها دون أن تبدي أي ملاحظة ،فتحتها برفق فوجدتها زجاجة عطر مستعملة لم يتبق فيها سوى بضع قطرات، ولكنها وجدت ورقة صغيرة مكتوبة سألها فيها "هل تقبلين أن تكوني أمـــي ؟ " صمتت المعلمة وقد علمت أنه ذاق صغيرا أمر عذاب في هذه الدنيا، ولكن هالها أنه اختارها هي لتكون عوضا له عنها ،ثارت في نفسها عدة تساؤلات حائرة ، إنها معلمته ومربيته التي يهمها أن يكون ناجحا في دراسته ولكن أن تقوم بدور الأم وهي لا تزال عزباء فان ذلك سيمثل عبئا إضافيا عليها قد تخشى أن لا تتحمله ومسؤولية ثقيلة لم تتأهل لها بعد،القبول بها يعني أن الأمر سيكلفها عمرا ستنفقه من أجل إسعاد حياته .. استبقته بعد انتهاء الدوام وبعد خروج كل التلاميذ اتجهت إليه، شكرته على هديته ولسان حالها يدفعها لمعرفة لغز هذه الزجاجة، أخبرها والحرج يكاد يذيبه أنها آخر شيء احتفظ به من أمه،وانفجر باكيا، أدركت أنه يريد أن يرى فيها أمه، وأن يشم فيها رائحتها، توددت إليه ومالت نحوه هامسة في أذنه بكل حنان وهي تهذب بلطف شعر رأسه الصغير " هل تقبلني كأم؟ " استغرق الأمر مدة قصيرة ولكنها كانت كافية حتى نسجت في قلب أم جديدة ألفة ومحبة لا حدود لها حملت معها إشراقه جديدة لحياة وليد وفتحت أمامه أبواب الأمل مشرعة للمستقبل السعيد، هكذا وجد وليد في سؤالها الإجابة الوافية على أسئلته الحائرة ،وجد من يقف معه في مشوار حياته،عثر على سنده لاستعاد اجتهاده الضائع واسترجاع تفاؤله المفقود ،واظب على طريق العلم ،ولم تتخل هي يوما عنه،وقفت إلى جانبه في كل الظروف في البيت والمدرسة وكانت وراء الكثير من نجاحاته الدراسية التي تواصلت بانتظام حتى كبر ونال شهادته الجامعية وأصبح معيدا بالجامعة، وجاء يوم تكريمه على تفوقه الباهر فأرجع الفضل الأول والأخير لها ، لولاها ما استقامت حياته وما كان له هذا الشرف العظيم استمعت إلى كلماته بكل فخر واعتزاز، وقد كانت له الأم التي لم تلده والتي رافقت دربه في أعسر أوقات حياته ، وفي غمرة سعادتها به غالبت دموع فرحتها به فرحة كبيرة شاركها فيها والده الذي لم يتردد من الشد على يدها امتنانا بفضلها واعترافا بجميلها بينما قبضت يدها الأخرى على تلك الزجاجة الصغيرة التي احتفظت بها طويلا ولم ينقص من قطرات عطرها شيء، كانا سعيدين وسط أبنائهما الذين صفقوا بحرارة في حفل تكريم أخيهم وليد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صبحه بغوره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق