ياااااااه كم تخوننا الذاكرة أحياناً..؟!
عاتبتُ نفسي، لمّا رحتُ أحثُّ أرشيف الصور، المخبأة في زوايا العمر، كي أعرف هذا الشخص الوقور، الأنيق الجالس على الطاولة قبالتي، في المقهى القابع في حضن ( قاسيون)..هذا الجبل الوفيّ، الذي يعانق دمشق أبداً، يحميها من عوادي الزمن.
كانت نظراته بين الفينة، والأخرى..تتصوّب نحوي..وكأنه يلحّ بشكلٍ غير معلنٍ، على إثارة فضولي، ولفت انتباهي، كي يتاح لنا ، فرصة تبادل التحية، والسلام.
نعم..نعم عرفته..عدتُ إلى الماضي، طرقتُ أبوابه...فُتحتْ لي دهاليز خزائنه:
إنه ماهر: ابن حيّنا القديم.. ..كان في نهاية المرحلة الثانوية، وصديقتي السمراء، المرحة.( ميادة) .في أولها..ونحن الطلبة..كنا في ذلك العهد الجميل..ننتمي إلى بلدتين متجاورتين، تجمعنا صحبة عميقة، غير معلنة، بحكم الاعتياد، حين كنا نتوجّه معاً إلى مدارسنا صباحاً، في حافلاتٍ محدودة العدد، ونؤوب معاً..في مواقيت واحدة..جعلت لهذا الرابط ـ في طقوسه اليوميّة ـ قدسيّته، وحلاوته، وأيّ مضايقة تتعرّض لها إحدانا، كان يهبّ إليها الطلبة الشباب بكلّ نخوةٍ، وشهامة..لتلقين من يتسبّب بها، درساً لا ينسى.
كلّ ذلك يتمّ في تفاهمٍ صامتٍ حيّي، إلا في عيني ماهر اللتين كانتا تنطقان بحبهما المفضوح لصديقتي ميادة..فقد كان يزاحم الجميع ليصعد، ويحجز لها مقعداً، ثم يخليه ، ويقف حارساً قرب مقعدها ـــ بينما كانت أغاني حليم، وفيروز، ونجاة تقطع معنا اللوحات الطبيعية الخلابة بدءاً من جسر فيكتوريا ..إلى الربوة.. إلى محطتنا الأخيرة..بمحاذاة نهر بردى..وسكّة القطار..
صديقتي ميادة كانت واثقة من تمكّنها من قلبه، تطلق بمرحٍ ضحكاتها الحلوة، ذات الرنة المميزة، وأصابعها لا تكفّ عن مداعبة شعرها الأسود الطويل، وهو يطير خلفها في الهواء، عبر النافذة، و مسافة الطريق لا تكفّ عن ثرثرتها العفوية، التلقائية ..بحيويّةٍ تشدّني إلى رفقتها، فلا أشعر بانقضاء الوقت..ولا بالملل...
على صغرها..كانت ذات مقدرةٍ شديدةٍ، على الإمساك بخيوط الأنوثة في عمقها، حتى أقاصيها.
والعاشق الولهان يذوب هياماً، ويمسح بين الفترة، والأخرى..العرق عن جبينه..إلى أن تنتهي رحلة الإياب، فتنزل في محطة قبله، تأسره بدلال مشيتها، وطريقة تلويحها لي، وهي تودعني، بينما كانت أعينهم تتبادل النظرات البريئة، العاشقة.
حاول مراراً أن يكلّمها. ونحن نسارع الخطا نحو مدارسنا، في صباحات ماطرةٍ، نتأبّط كتبنا، نتراكض تحت مظلاتنا الملوّنة، لنحتمي بصفوف المدرسة.. ولكنها كانت تصدّه بسرعةٍ حسماً للموقف. خوفاً من العيون....إلا من بضع كلمات مقتضبة..تطير مع الهواء الصاخب، المبعثر للأسرار.
إلى أن تلاقيا في مناسبةٍ وطنيّةٍ، خرج على إثرها كلّ طلبة دمشق نحو الساحة الرئيسة..وكانت صديقتي تمرْوح يديها على وجهها، تعبّر عن التذمّر من حرّ شديد، زادته المسيرة تأجّجا، وعن عطشٍ نال منها...فما كان من ماهر إلا أن أتى لها بكوب ماءٍ، بيديه المرتعشتين..فشربت ، وبلّلت أطراف أصابعها، بقطراتِ منه..ومسحتْ وجهها بها...هذا المشهد..مرّ سريعاً، كومضةٍ، لست أدري كيف انتبهتْ إليه مدربة الفتوة، المشرفة علينا، فنالتْ سيلاً من الشتائم، والتلويح بعقوبة شديدة في اليوم التالي..فتسارعتْ دقات قلبها وجلاً، واضطراباً، ولم تنم ليلتها خوفاً
حتى الصباح..وما ارتاحتْ إلا بعد أن تأكدتْ بأن المدربة نسيت الموضوع، في زحام مهامها، بدء الدوام...
بعد أيامٍ أتت المدرسة باكية،..شغلتْ فكري، سألتها عن السبب؟؟!! أجابتني:
ـــ البارحة جاء خاطب لي، وافق عليه أهلي، فالعريس يمتلك ما يؤهّله لنيل ثقتهم...هو مرتاح الحال، يمتلك متجراً في سوق الحميدية، وعنده بيت..و..و .. قريباً سنلبس المحابس، وبعد فترةٍ بسيطةٍ سيكون زفافي..
قلت والدهشة قد عقدت لساني: ...وماذا عن مدرستك؟ شهادتك...ماذا عن ...عن.. .من .وضع بك أمله، ومنحك قلبه.؟!
ـــ هذا ما حصل...لن أستطيع أن أغيّر من الأمر شيئاً..لن أنساه ...في الروح سيبقى..
ولمحت في عينيها، رغم بقايا الدمع، الكثير من الرضا....كأنّ الفتاة منذ صغرها، مهيّأة على ترويض مشاعرها البكر، إذ تجعلها تصبّ في صالح بيتها، وزوجها الذي تقترن باسمه ،على أسس واقعيةٍ، صحيحةٍ تضمن مستقبلها، وتشعرها بالأمان..
وانقطعتْ صديقتي عن الدوام..لأيام..وهاهو الأسبوع الأول ينقضي..، وفي الأسبوع الثاني.. كانت الحيرة تأكل / ماهر/..و يكبر عنده السؤال..!!!...
كنت أشفق عليه، أرقبه بطرف عيني، فما من أحاديث بيننا،..كان شارد اللب، ساهماً، والحيرة تنضح، من كلّ سكناته، وحركاته.بينما جلستْ إلى جانبي صديقة أخرى..بيضاء، ذات عينين واسعتين..جميلة..ولكنها باردة كثلج الشتاء...حديثها روتينيّ، مكرّر، مملّ...مما يدفعني في أكثر الأوقات إلى أن أحشر نظري عبر النافذة..أتأمل الطريق..ولوحاته...وأترنّم بسماع الأغنيات..وهاهي نجاة..يتهادى صوتها بانسيابٍ، وشجنٍ عبر أغنية/// وسلّملي عليه...واعرف جرى ايه..واسألّي عينيه..///... فما كان منه إلا أن أخفت صوته ، قرب مقعدي ... يدندن مردّداً: / سلّملي عليه/ ..فوصلتْ إليّ شيفرة السلام...من غير كلامٍ...وما أوصلته..
وتزوّجتْ صديقتي...ووصل الخبر إليه، في وقتٍ كان يستعدّ فيه للتقدّم إلى امتحان الشهادة الثانوية..فجنّ جنونه، وتدمّرتْ ذاته، وكمن ينتحر، رفض التقدّم إلى الامتحان..رغم كارثية الخبر على أهله...واعتزل في غرفته، وأطال ذقنه، وكان الرسوب هو النتيجة الحتميّة لوضعه...إلى أن تجاوز الصدمة في العام التالي، فحصل على الشهادة بمؤهّل كبيرٍ، بينما كانت صديقتي تستعد لاستقبال مولودها الأول.
وتقلّبت بهما الأيام، والسنون.وسافر ماهر إلى بلادٍ صحراوية الظلال...وصديقتي تزداد ارتباطاً بحبال أسرتها ..وهي تستقبل الطفل تلو الآخر...وتتوه في تفاصيل مهامها بصبرٍ عجيب..
.كنت حين أزورها...لا أجد جواباً لسؤالها عنه..وهي تلفّ، وتدور.. تتقصّى أخباره: مستجدّاتها، عن زواجه، أولاده، زياراته !!!!...والحين تسألني ذات السؤال، لمّا فرغت للتوّ من تمشيط ضفائر ابنتها التي ضمّتها، و قبّلتها..وسرحتْ في خيالها بعيداً...حيث تلك البقعة المضيئة في الروح...الماتغيرت أبداً....
وهاهو اليوم أمامي...يطوي جريدةً، كان يقلّب صفحاتها، يبتلع آخر رشفةٍ من فنجان قهوته..، يطفئ سيجارته...بينما كان النادل يعيد إليه بقية الحساب..فيثني يده برفق: ــ خلّه لك..
إنه يهمّ بالمغادرة...ولكنه توقّف أمامي..مصرّاً..على الحديث معي...وبعد تحية راقية...بادرني مصافحاً : ـ فرصة طيبة أن ألقاكِ هنا..كيف الزوج؟ والأولاد ؟ والعمل؟
ـــ الحمد لله..كل شيء على ما يرام..وأنت ؟؟!!!!
( حدّثني في عجالةٍ، عن شركته الخاصة الناجحة، عن زوجه الطبيبة ذات الأصول ، عن تفوّق أولاده في اختصاصاتهم...
....ثم استدرج الحديث عن ذكريات الدراسة،..وأيامنا بها..وذاك الطموح الذي كنا نعيشه رغم كل الظروف...لينتهي بالسؤال عنها:
ـــ كيف حال أصدقاء الدراسة....؟؟!! و صديقتك ؟؟ كيف ميادة ؟؟ ما أخبارها...أظنك كنت شاهداً على قصتنا...وتعلمين ماتعنيه لي...!؟
ـــ أوَ مازلت تذكرها... بعد كل هذا العمر؟؟؟
ـــ حبها سكن القلب، لا يمكن نسيانه...رافقني في كل المراحل...إنها حبي الأول ..المارد الذي يتخفّى في الروح...ويدّعي الهدوء مكرهاً...
ـــ أعرف ..أعرف ... ولكنها مقادير الحياة، وكلّ شيء قسمة، ونصيب...
ـــ آاااه طبعااااااا....أنا متأكّد من ذلك...سعيد في حياتي...ولكن...هذا الركن العنيد في الفؤاد..يأبى النسيان..
لم أشأ ان أسترسل في الحديث أكثر ..فاختصرت عليه الطريق مرددة: ــ ..فعلا فرصة طيبة..أرجو أن ألقاك دائماً على خير...
( تنهّد قليلاً...وهو يهزّ رأسه شجناً....وقبل أن يصافحني، ويمضي مودّعاً....زفر قائلاً... ـــ إيييييييييييه ....سلّملي عليه....
| إيمان الدرع
عاتبتُ نفسي، لمّا رحتُ أحثُّ أرشيف الصور، المخبأة في زوايا العمر، كي أعرف هذا الشخص الوقور، الأنيق الجالس على الطاولة قبالتي، في المقهى القابع في حضن ( قاسيون)..هذا الجبل الوفيّ، الذي يعانق دمشق أبداً، يحميها من عوادي الزمن.
كانت نظراته بين الفينة، والأخرى..تتصوّب نحوي..وكأنه يلحّ بشكلٍ غير معلنٍ، على إثارة فضولي، ولفت انتباهي، كي يتاح لنا ، فرصة تبادل التحية، والسلام.
نعم..نعم عرفته..عدتُ إلى الماضي، طرقتُ أبوابه...فُتحتْ لي دهاليز خزائنه:
إنه ماهر: ابن حيّنا القديم.. ..كان في نهاية المرحلة الثانوية، وصديقتي السمراء، المرحة.( ميادة) .في أولها..ونحن الطلبة..كنا في ذلك العهد الجميل..ننتمي إلى بلدتين متجاورتين، تجمعنا صحبة عميقة، غير معلنة، بحكم الاعتياد، حين كنا نتوجّه معاً إلى مدارسنا صباحاً، في حافلاتٍ محدودة العدد، ونؤوب معاً..في مواقيت واحدة..جعلت لهذا الرابط ـ في طقوسه اليوميّة ـ قدسيّته، وحلاوته، وأيّ مضايقة تتعرّض لها إحدانا، كان يهبّ إليها الطلبة الشباب بكلّ نخوةٍ، وشهامة..لتلقين من يتسبّب بها، درساً لا ينسى.
كلّ ذلك يتمّ في تفاهمٍ صامتٍ حيّي، إلا في عيني ماهر اللتين كانتا تنطقان بحبهما المفضوح لصديقتي ميادة..فقد كان يزاحم الجميع ليصعد، ويحجز لها مقعداً، ثم يخليه ، ويقف حارساً قرب مقعدها ـــ بينما كانت أغاني حليم، وفيروز، ونجاة تقطع معنا اللوحات الطبيعية الخلابة بدءاً من جسر فيكتوريا ..إلى الربوة.. إلى محطتنا الأخيرة..بمحاذاة نهر بردى..وسكّة القطار..
صديقتي ميادة كانت واثقة من تمكّنها من قلبه، تطلق بمرحٍ ضحكاتها الحلوة، ذات الرنة المميزة، وأصابعها لا تكفّ عن مداعبة شعرها الأسود الطويل، وهو يطير خلفها في الهواء، عبر النافذة، و مسافة الطريق لا تكفّ عن ثرثرتها العفوية، التلقائية ..بحيويّةٍ تشدّني إلى رفقتها، فلا أشعر بانقضاء الوقت..ولا بالملل...
على صغرها..كانت ذات مقدرةٍ شديدةٍ، على الإمساك بخيوط الأنوثة في عمقها، حتى أقاصيها.
والعاشق الولهان يذوب هياماً، ويمسح بين الفترة، والأخرى..العرق عن جبينه..إلى أن تنتهي رحلة الإياب، فتنزل في محطة قبله، تأسره بدلال مشيتها، وطريقة تلويحها لي، وهي تودعني، بينما كانت أعينهم تتبادل النظرات البريئة، العاشقة.
حاول مراراً أن يكلّمها. ونحن نسارع الخطا نحو مدارسنا، في صباحات ماطرةٍ، نتأبّط كتبنا، نتراكض تحت مظلاتنا الملوّنة، لنحتمي بصفوف المدرسة.. ولكنها كانت تصدّه بسرعةٍ حسماً للموقف. خوفاً من العيون....إلا من بضع كلمات مقتضبة..تطير مع الهواء الصاخب، المبعثر للأسرار.
إلى أن تلاقيا في مناسبةٍ وطنيّةٍ، خرج على إثرها كلّ طلبة دمشق نحو الساحة الرئيسة..وكانت صديقتي تمرْوح يديها على وجهها، تعبّر عن التذمّر من حرّ شديد، زادته المسيرة تأجّجا، وعن عطشٍ نال منها...فما كان من ماهر إلا أن أتى لها بكوب ماءٍ، بيديه المرتعشتين..فشربت ، وبلّلت أطراف أصابعها، بقطراتِ منه..ومسحتْ وجهها بها...هذا المشهد..مرّ سريعاً، كومضةٍ، لست أدري كيف انتبهتْ إليه مدربة الفتوة، المشرفة علينا، فنالتْ سيلاً من الشتائم، والتلويح بعقوبة شديدة في اليوم التالي..فتسارعتْ دقات قلبها وجلاً، واضطراباً، ولم تنم ليلتها خوفاً
حتى الصباح..وما ارتاحتْ إلا بعد أن تأكدتْ بأن المدربة نسيت الموضوع، في زحام مهامها، بدء الدوام...
بعد أيامٍ أتت المدرسة باكية،..شغلتْ فكري، سألتها عن السبب؟؟!! أجابتني:
ـــ البارحة جاء خاطب لي، وافق عليه أهلي، فالعريس يمتلك ما يؤهّله لنيل ثقتهم...هو مرتاح الحال، يمتلك متجراً في سوق الحميدية، وعنده بيت..و..و .. قريباً سنلبس المحابس، وبعد فترةٍ بسيطةٍ سيكون زفافي..
قلت والدهشة قد عقدت لساني: ...وماذا عن مدرستك؟ شهادتك...ماذا عن ...عن.. .من .وضع بك أمله، ومنحك قلبه.؟!
ـــ هذا ما حصل...لن أستطيع أن أغيّر من الأمر شيئاً..لن أنساه ...في الروح سيبقى..
ولمحت في عينيها، رغم بقايا الدمع، الكثير من الرضا....كأنّ الفتاة منذ صغرها، مهيّأة على ترويض مشاعرها البكر، إذ تجعلها تصبّ في صالح بيتها، وزوجها الذي تقترن باسمه ،على أسس واقعيةٍ، صحيحةٍ تضمن مستقبلها، وتشعرها بالأمان..
وانقطعتْ صديقتي عن الدوام..لأيام..وهاهو الأسبوع الأول ينقضي..، وفي الأسبوع الثاني.. كانت الحيرة تأكل / ماهر/..و يكبر عنده السؤال..!!!...
كنت أشفق عليه، أرقبه بطرف عيني، فما من أحاديث بيننا،..كان شارد اللب، ساهماً، والحيرة تنضح، من كلّ سكناته، وحركاته.بينما جلستْ إلى جانبي صديقة أخرى..بيضاء، ذات عينين واسعتين..جميلة..ولكنها باردة كثلج الشتاء...حديثها روتينيّ، مكرّر، مملّ...مما يدفعني في أكثر الأوقات إلى أن أحشر نظري عبر النافذة..أتأمل الطريق..ولوحاته...وأترنّم بسماع الأغنيات..وهاهي نجاة..يتهادى صوتها بانسيابٍ، وشجنٍ عبر أغنية/// وسلّملي عليه...واعرف جرى ايه..واسألّي عينيه..///... فما كان منه إلا أن أخفت صوته ، قرب مقعدي ... يدندن مردّداً: / سلّملي عليه/ ..فوصلتْ إليّ شيفرة السلام...من غير كلامٍ...وما أوصلته..
وتزوّجتْ صديقتي...ووصل الخبر إليه، في وقتٍ كان يستعدّ فيه للتقدّم إلى امتحان الشهادة الثانوية..فجنّ جنونه، وتدمّرتْ ذاته، وكمن ينتحر، رفض التقدّم إلى الامتحان..رغم كارثية الخبر على أهله...واعتزل في غرفته، وأطال ذقنه، وكان الرسوب هو النتيجة الحتميّة لوضعه...إلى أن تجاوز الصدمة في العام التالي، فحصل على الشهادة بمؤهّل كبيرٍ، بينما كانت صديقتي تستعد لاستقبال مولودها الأول.
وتقلّبت بهما الأيام، والسنون.وسافر ماهر إلى بلادٍ صحراوية الظلال...وصديقتي تزداد ارتباطاً بحبال أسرتها ..وهي تستقبل الطفل تلو الآخر...وتتوه في تفاصيل مهامها بصبرٍ عجيب..
.كنت حين أزورها...لا أجد جواباً لسؤالها عنه..وهي تلفّ، وتدور.. تتقصّى أخباره: مستجدّاتها، عن زواجه، أولاده، زياراته !!!!...والحين تسألني ذات السؤال، لمّا فرغت للتوّ من تمشيط ضفائر ابنتها التي ضمّتها، و قبّلتها..وسرحتْ في خيالها بعيداً...حيث تلك البقعة المضيئة في الروح...الماتغيرت أبداً....
وهاهو اليوم أمامي...يطوي جريدةً، كان يقلّب صفحاتها، يبتلع آخر رشفةٍ من فنجان قهوته..، يطفئ سيجارته...بينما كان النادل يعيد إليه بقية الحساب..فيثني يده برفق: ــ خلّه لك..
إنه يهمّ بالمغادرة...ولكنه توقّف أمامي..مصرّاً..على الحديث معي...وبعد تحية راقية...بادرني مصافحاً : ـ فرصة طيبة أن ألقاكِ هنا..كيف الزوج؟ والأولاد ؟ والعمل؟
ـــ الحمد لله..كل شيء على ما يرام..وأنت ؟؟!!!!
( حدّثني في عجالةٍ، عن شركته الخاصة الناجحة، عن زوجه الطبيبة ذات الأصول ، عن تفوّق أولاده في اختصاصاتهم...
....ثم استدرج الحديث عن ذكريات الدراسة،..وأيامنا بها..وذاك الطموح الذي كنا نعيشه رغم كل الظروف...لينتهي بالسؤال عنها:
ـــ كيف حال أصدقاء الدراسة....؟؟!! و صديقتك ؟؟ كيف ميادة ؟؟ ما أخبارها...أظنك كنت شاهداً على قصتنا...وتعلمين ماتعنيه لي...!؟
ـــ أوَ مازلت تذكرها... بعد كل هذا العمر؟؟؟
ـــ حبها سكن القلب، لا يمكن نسيانه...رافقني في كل المراحل...إنها حبي الأول ..المارد الذي يتخفّى في الروح...ويدّعي الهدوء مكرهاً...
ـــ أعرف ..أعرف ... ولكنها مقادير الحياة، وكلّ شيء قسمة، ونصيب...
ـــ آاااه طبعااااااا....أنا متأكّد من ذلك...سعيد في حياتي...ولكن...هذا الركن العنيد في الفؤاد..يأبى النسيان..
لم أشأ ان أسترسل في الحديث أكثر ..فاختصرت عليه الطريق مرددة: ــ ..فعلا فرصة طيبة..أرجو أن ألقاك دائماً على خير...
( تنهّد قليلاً...وهو يهزّ رأسه شجناً....وقبل أن يصافحني، ويمضي مودّعاً....زفر قائلاً... ـــ إيييييييييييه ....سلّملي عليه....
| إيمان الدرع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق