⏪⏬
*علي المسعود
رواية (شمال الى الحرية) أو”انا ديفيد” للصحفية وكاتبة الاطفال ( آن هولم) – والتي صدرت في باللغة الدنماركية عام 1963 وترجمت الى عدة لغات منها الانكليزية والفرنسية والالمانية وكذالك السويدية والنرويجية . وفازت الرواية بجائزة أفضل كتاب
إسكندنافي للأطفال لعام 1963 . تحولت الى فيلم سينمائي ، وأنتج في عام 2003 وقام بإخراجه المخرج الامريكي “بول فيغ”، تدور أحداث الفيلم حول صبي يبلغ من العمر 12 عامًا يُدعى ديفيد (بن تببر) وقصة فراره من أحد معسكرات العمل القسري في بلغاريا في عام 1952 ، تلك المعسكرات التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية ، رغم أن الفيلم لم يشرح كيف أصبح ديفيد “عدوًا” للدولة في مثل سنه ، ربما ورث وضعه من والديه. الطفل ديفيد الذي وعى على الدنيا وهو في معسكر عمال يعامل فيه معاملة السجين ويمارس بحقه أشد أنواع القسوة .
وفي المعتقل ولحسن حظه ، يضع القدر أمامه الأصدقاء الطيبين بدءًا من يوهانز (جيمس كافيزيل) الشاب المثقف ، وهو أحتضنه ورعاه في السجن والذي يمنحه التشجيع والأحلام بمستقبل أفضل ، وأستطاع يوهانز أن يصنع للصبي عالمه الوردي ويصور له بأن العالم الخارجي أجمل من المعتقل ويفتح بصيرته في فهم العالم ، يوهانز يدفع حياته من أجل تحقيق حلم الصبي ديفيد ، حين يتحمل عنه سرقة صابونة من غرفة ضابط السجن و يقرر الضابط معاقبة السارق ولذا يعدم الشاب يوهانز بدلا من الصبي ديفيد .
لكن يظل صوت (يوهانز) وإرشاداته مرافقة ل( ديفيد) في مسيرته الطويلة . وبعد مقتل صديقه الشاب المثقف الذي كان يرعاه ، يشفق عليه أحد قادة الجيش ومسؤولي الحجز وأصبح يهتم بشؤونه ، لكن مع اقتراب انتقاله من المعسكر قررالتخطيط لتهريب ديفيد خارج المعسكر، ووضع له مخطط لمغادرة بلغاريا إلى اليونان ومنها لإيطاليا عبر البحر، ثم يتجه شمالاً نحو الدنمارك والتي هي موطنه الأصلي ومكان تواجد أمه التي لا يعرف إن كانت حية أم لا . وبمساعدة احد حراس المعسكر ينجح الصبي (ديفيد) في الهروب من المعتقل بعد ايقاف الكشاف الكهربائي الوضوع على الأسوار المكهربة التي تسوّره لمدة 30 ثانية، بحيث يتمكن ديفيد الصبي ذو 12 عاما من التسلل من معسكر الاحتجاز والجري عبر حقل مفتوح . يبدأ الصبي رحلته الطويلة الصبي حاملاّ حقيبة صغيرة وفيها قليل من الخبز مع قطعة من الصابون ، وبوصلة لتحديد إتجاه رحلته نحو الشمال (الدنمارك)، وكذالك يحمل رسالة مختومة عليه توصيلها الى الدنمارك .
قد يتساءل المشاهد ، كيف سيواصل الصبي رحلته المجهولة بالنسبة له في العديد من الأراضي التي يجب أن يجتازها؟ ، تخيل أنك ستدفع بمفردك وتواجه العالم بكل تناقضاته وانت صبي في سن الثانية عشرة ، مسلحًا بقليل من الذكاء والشجاعة وفقير التجربة ، وكل الذي تحمله ، رغيف خبز ، وبوصلة ومظروف وجب عليك توصيله إلى بلد لم تسمع به من قبل . هذا هو الاختبار الكبير بالنسبة لديفيد ، الصبي الحكيم والشجاع الذي جاء إلى الحياة حاملا معه هذا الهمّ ، وكما ورد في صفحات الكاتبة ” آنا هولم ” شمال إلى الحرية” ، الطفل ديفيد الذي وعى على الدنيا وهو في معسكر عمال يعامل فيه مثل السجين ويمارس بحقه أشد أنواع التعذيب . ويعامل حراس معسكر الاحتجاز الطفل ديفيد بقسوة ، ولكن لم يتم عرض أي مشهد يتضمن إعتداء جسدي ل( ديفيد). لديه القليل من المهارات الحياتية ويختزن القليل من الذكريات التي تراوده في المنام ، مثل تلك الومضات من الحظات الدافئة لصورة أمه وهي تضع على خده قبلة قبل النوم ، التي تمنحه شحنة إيجابية وقوة دفع عاطفية .
يرافقه في رحلته صوت صديقة غير المرئي الذي أعده للرحلة ، يواجه الناس ديفيد على طول الطريق ويتعامل معهم بقدر مستوى فهمه وإدراكه المحدود للطبيعة البشرية ، يتحدى مخاوفه المتأصلة ، ويعمل الصبي ديفيد بتوجيهات صديقه بالسجن (يوهانز) بعد هروبه من المعتقل : “لا تثق بأحد”. يذكره الصوت “لقد تعلمت العديد من اللغات الأخرى في المعتقل عليك استخدامها في كل بلد تمر به”، ويبدو أن ديفيد يتحدث بالفعل البلغارية واليونانية والإيطالية والإنجليزية ، يتحمل المشقة في التوسل الى سائقي الشاحنات من أجل توصيله ، وينجح في تخطى الحدود البلغارية ويصل إلى اليونان ومن خلال سلسلة من الأحداث والمواقف الغير متوقعة ، وبايعاز من الصوت الموجه له ( صوت يوهانز) يقفز على متن سفينة أيطالية بسهولة مذهلة ويختبئ في احد مخازنها ومنها يقفز خلسة داخل السفينة الموبوءة بالفئران . ولكن عامل على ظهر السفينة الايطالية يساعده في الاختباء و في الوصول الى بر الامان في ايطاليا ، في ايطاليا تجابه الصبي (ديفيد) مواقف محزنة وأخرى مبهجة أو ممتعة، منها حادثة الخباز ، حين يصل الى ايطاليا و يعثرعلى مخبز إيطالي ويخاطبه : “من فضلك ، سيدي، هل يمكنني الحصول على رغيف؟ ” يشك في أمره الخباز ، و يهدية صورة القديسة اليزابيث، لكن الخباز يتصل بالشرطة ، ينجح ديفيد من الافلات من مكيدة الخباز ، وينجح بالتخلص من هذا المطب ، ليقع في مشكلة أخرى حين يلتحم مع تظاهرة للشيوعيين ضد السلطة ، و يصاب أحد رجال الشرطة بحجارة وتشج راسه ، يلتفت الشرطي لتلتقي عيونه بالصبي (ديفيد) ويعتقد بأن الصبي هو من رماه بالحجر، فيضعه رهن الاعتقال في قفص سيارة الشرطة ، وينجح ديفيد ثانية في الافلات من هذا الشرك الذي يحول دون الوصول الى هدفه وهو إيصال الرسالة المكلف بها الى الدانمارك .
بعدها تستقبله عائلة أرستقراطية إيطالية بعد أنقاذ ابنتهم من الحريق الذي شب في الكوخ قرب القصر بعد المخاطرة بحياته ، حين يربط طفلان أختهما الكبرى على كرسي ويضرمان النار في الحظيرة وتصرخ الصبية طالبة النجدة لانقاذها من النيران التي تحاصرها ، يضع ديفيد كل شيء على المحك لإنقاذ فتاة صغيرة من حظيرة مشتعلة . وبينما يتعافى من الحروق الطفيفة والإرهاق في منزل عائلتها الإيطالية الغنية الذين يريدون أن يردوا الجميل له بإنقاذ حياة ابنتهم ، يعيش الصبي (ديفيد) لحظات سعيدة مع الابنة ماريا . ويغادر قصر العائلة الايطالية الارستقراطية هربا من الحاح الاب و اسئلته المتكررة عن أهله وعن هويته . خلال مراحل سفره يواجه عدة صعوبات واختبارات، ليلتقي أخيراً بامرأة كبيرة في السن فقدت ابنها الوحيد بمرض التهاب رئوي، وأصبحت تُمضي وقتها بالرسم . عطفت المرأة على ديفيد ، وباحساس الفنان المرهف أحست الجدة الصوفي بمعاناة ديفيد وقسوة الحياة عليه ، وقامت برسمه ونقلته معها إلى بيتها في سويسرا حيثُ تسكن، لقاء المصادفة مع الفنانة الأرملة صوفي يضع ديفيد على المسار السريع لاكتشاف الذات ، وعندما تشارك الجدة صوفي مأساة حياتها الخاصة مع ديفيد ، فإنه يتخلى عن حذره ويظهر لها جزءاّ من هواجسه و مخاوفه ، بما في ذلك عدم ثقته في الآخرين .
في المقابل ، تعمل كلمات الجدة صوفي الرسامة والانسانة الطيبة على ترميم روح الصبي المنكسرة ، تخبره الجدة صوفي :” الحياة لن تستحق العيش بدون ثقة وكن حذرًا، وعش الحياة بكل مافيها فرح وحزن وكن حرأ على الدوام ، و لاتنسى أت تكوِّن صداقات اكتشف الخير في الناس وإلا فلن تجد أبدًا أي سعادة “، وأخيرًا، تنجح الفنانة الأرملة (صوفي) في ترميم روح الصبي ، و بالتعاطف والتفاهم وتشجيعها له ببناء ثقته بالناس ، ترسم صوفي له صورة بورتريت وتمنحة الحب والرعاية ، ويمنحها الصبي ديفيد السعادة والذي يذكرها بحفيدها المتوفى بسبب مرض ذات الرئة والذي كان في نفس عمر ديفيد . وأثناء زيارتهم لإحدى المكتبات يصادفا كتاباً وعند سؤاله عنه تخبرة الجدة صوفي أن كاتبة الرواية تروي في هذا الكتاب قصة فقدانها لابنها وزوجها في بلغاريا وأنقاذها من قبل صديق قديم وهو أحد ضباط المعتقل ، (صوفي) الجدة والرسامة أخبرت ديفيد أن الضابط سمح للمرأة بالهروب وانقذها واستطاعا الوصول الى الدنمارك ، وعاشا في الدنمارك بعد زواجهما ، وعندما رأى الفتى ديفيد صورتها ميزها وأدرك بطل الفيلم أنها والدته وعليه العثور عليها وأخبر الجدة صوفي بأن هذه الكاتبة هي والدته ، وتعمل الجدة صوفي على لم شمل ديفيد بوالدته بعد فتح المظروف الذي يحمله والذي تبين أنه يحتوى على اوراقه الثبوتية من شهادة ميلاده وصوره العائلية، ويصل الى الدنمارك ويجد والدته باتنظاره ويتقابلا معًا في مشهد درامي رائع .
الفيلم يكشف بعضا من تعقيدات الطبيعة البشرية – الاختلافات والمواقف التي تتناوب بين الخير أوالشر في سلسلة من الصور التي تمر علينا من خلال حكاية (ديفيد) داخل وخارج جدران معسكر العمل . في رحلته نحو الحرية و الخلاص يصادف ديفيد بعض الناس الذين يساعدونه في طريقه دون أن يعرفوا ذلك ويتعاملون معه بانسانية مؤثرة ، وأبرز هؤلاء ، يوهانز الانسان المثقف ، ومرشده خلال فترة سجنه ، والذي يعلمه المعنى الحقيقي للحب الأخوي والتضحية من خلال مثاله غير الأناني وعندما يأس ديفيد من الحرية ويتمنى لنفسه الموت ، يمنحه رفيقه في الحجز” يوهانز” جرعة من الامل و التفاؤل ويرد عليه : “إذا كنت على قيد الحياة يمكنك تغيير الأشياء ، ولكن إذا كنت ميتًا لا يمكنك فعل ذالك”.
يشكل يوهانز الملاك الذي يحرس الفتى ديفيد طوال رحلته، فهو يحمي حياة ديفيد أكثر من مرة ، والنموذج الطيب الآخر الذي يصادف (ديفيد) هو البحار الذي يضبطه وهو مختبئ في داخل مخزن الشحن الخاص بالسفينة ، ويمد له يد العون حتى وصوله الى شواطئ ايطاليا ، وعلى جانب أخر ، يصادف الصبي في رحلته النموذج السلبي والمحبط من البشر الذين يقفون حجرة عثرة في طريق ديفيد من أجل الوصول الى غايته ، حين يصادف الصبي ديفيد الجائع الخباز الذي يعطيه صورة للقديسة سانت إليزابيث “شفيعة الخبازين” حسب تعريفه لها ، والذي يقول عنها “إنها تعتني بكل من يحتاج إلى المساعدة”. لكن هذا الخباز يفتقر للأنسانية حين يتصل بالشرطة قبل إعطائه فتاتًا ومن بين النماذج اللانسانية ألاخرى والتي يصادفها الصبي” دفيد” أيضاّ ، صاحب متجر الذي يسخر من الصبي ديفيد (الذي بالكاد يعرف مفهوم المال) ، وعندما يقدم له الصبي الجائع فقط ليرتين مقابل بعض الطعام ، يعلق الرجل بسخرية قبل أن يزجره ويطلب منه أن يرحل:” لماذا لا أبيع لك المحل كله وأرمي الزوجة والأطفال أيضًا؟”. وكذالك مضيفة الحفلة الثرية التي يوصل لها سلة من النبيذ هي الاخرى نموذج قبيح حين تقوم بإبعاد الصبي بعيدًا عن طاولاتها المليئة بالماكولات و المشروبات وبشكل فظ ووقح. رغم ذالك يركز المخرج على جانب الخير و الطيبة عند غالبية الناس الذين يقدومون يد العون والمساعدة للصبي ديفيد . قد تكون هذه المواضيع ملهمة في تعزيز الروح و القيم الانسانية ، الفيلم يبرز فيه اسلوب الكاتبة ( أن هولم) في كتابة قصص للاطفال، الذي يحكي حكاية عن رحلة صبي صغير من معسكر الاحتجاز و الفرار منه ، وحتى لم شمله مع والدته في الدنمارك . لم يسبق له أن تعرف للعالم الخارجي من قبل، فهو يواجه الناس لاول مرة ، ويتعامل بمفهوم المال لاول مرة ، ومعضلته المستديمة هي الوثوق بالناس طوال رحلته.
بعد مقتل رفيقة المثقف بالرصاص قبل هروبه ، يمكنه الآن الاعتماد فقط على ذكرياته وحفنة من الأشياء التي تركها له رفيقه الراحل وهو المثقف وصاحب التجربة في الحياة . يمكنني أن أقول بصراحة أن السبب الوحيد الذي جعلني أشاهد هذا الفيلم هو أن العنوان( أنا ديفيد) ، لانه يبدو مناسبًا إلى حد ما واكثر مطابقة للاحداث من عنوان الرواية الماخوذة منه ( شمال نحو الحرية). فيلم ” أنا ديفيد ” يرصد الرحلة الروحية والاستكشافية التي يعيشها البطل الصغير بعد سنوات من الظلم الذي تعرض له في معسكر العمل، لدرجة أنه يفقد الثقة في البشر على وجه الإطلاق ، إلا أنه يقع في أسارير الحب لبنت الأسرة الايطالية البورجوازية والذي هرب من قصر ابيها تاركا صورة القديسة ( سانت أليزابيث) جوارالبنت التي أنقدها وأحبته ويطلب لها حماية القديسة لها ولعائلتها. طوال الفيلم يسعى ديفيد لعلاج ما كُسر بداخله من معانٍ مغلوطة عن السياسة والقسوة والحرب والصراعات بوجه عام ، والغريب في الأمر أنه عاش كل هذه المشاعر وهو في سن مبكرة .فقط لي ملاحظة على سير رحلة الصبي ديفيد ، من المحتمل أن يكون أي شخص في اليونان أو إيطاليا قد قرأ الأوراق في مظروفه وحل مشكلة معضلة ديفيد ، ولم تكن نصيحة السفر إلى الدنمارك مقبولة ومقنعة .
لكننا ننسى ذالك عندما نكتشف سر الصوت الملاك المصاحب ديفيد في رحلته والذي نصحه بالتوجه الى الدنمارك ومتعة المشاهد بالرحلة و أجواءها و المناظر الخلابة. بطولة الفيلم للممثل الانكليزي “بن تينبر” بدور ديفيد وكذالك الممثل “جيم كافيزيل ” بدور يوهانز اما دور الجدة صوفي الرسامة فتقوم به الممثلة الانكليزية المخضرمة جوان بلورايت ، و تجسد الممثلة ” ماريا بونيفي ” دور( أم ديفيد) ، أُنتج الفيلم بواسطة شركة ليونزغيت إنترتاينمنت الكندية ومن إخراج الامريكي ” بول فيغ”.
المملكة المتحدة
*علي المسعود
رواية (شمال الى الحرية) أو”انا ديفيد” للصحفية وكاتبة الاطفال ( آن هولم) – والتي صدرت في باللغة الدنماركية عام 1963 وترجمت الى عدة لغات منها الانكليزية والفرنسية والالمانية وكذالك السويدية والنرويجية . وفازت الرواية بجائزة أفضل كتاب
إسكندنافي للأطفال لعام 1963 . تحولت الى فيلم سينمائي ، وأنتج في عام 2003 وقام بإخراجه المخرج الامريكي “بول فيغ”، تدور أحداث الفيلم حول صبي يبلغ من العمر 12 عامًا يُدعى ديفيد (بن تببر) وقصة فراره من أحد معسكرات العمل القسري في بلغاريا في عام 1952 ، تلك المعسكرات التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية ، رغم أن الفيلم لم يشرح كيف أصبح ديفيد “عدوًا” للدولة في مثل سنه ، ربما ورث وضعه من والديه. الطفل ديفيد الذي وعى على الدنيا وهو في معسكر عمال يعامل فيه معاملة السجين ويمارس بحقه أشد أنواع القسوة .
وفي المعتقل ولحسن حظه ، يضع القدر أمامه الأصدقاء الطيبين بدءًا من يوهانز (جيمس كافيزيل) الشاب المثقف ، وهو أحتضنه ورعاه في السجن والذي يمنحه التشجيع والأحلام بمستقبل أفضل ، وأستطاع يوهانز أن يصنع للصبي عالمه الوردي ويصور له بأن العالم الخارجي أجمل من المعتقل ويفتح بصيرته في فهم العالم ، يوهانز يدفع حياته من أجل تحقيق حلم الصبي ديفيد ، حين يتحمل عنه سرقة صابونة من غرفة ضابط السجن و يقرر الضابط معاقبة السارق ولذا يعدم الشاب يوهانز بدلا من الصبي ديفيد .
لكن يظل صوت (يوهانز) وإرشاداته مرافقة ل( ديفيد) في مسيرته الطويلة . وبعد مقتل صديقه الشاب المثقف الذي كان يرعاه ، يشفق عليه أحد قادة الجيش ومسؤولي الحجز وأصبح يهتم بشؤونه ، لكن مع اقتراب انتقاله من المعسكر قررالتخطيط لتهريب ديفيد خارج المعسكر، ووضع له مخطط لمغادرة بلغاريا إلى اليونان ومنها لإيطاليا عبر البحر، ثم يتجه شمالاً نحو الدنمارك والتي هي موطنه الأصلي ومكان تواجد أمه التي لا يعرف إن كانت حية أم لا . وبمساعدة احد حراس المعسكر ينجح الصبي (ديفيد) في الهروب من المعتقل بعد ايقاف الكشاف الكهربائي الوضوع على الأسوار المكهربة التي تسوّره لمدة 30 ثانية، بحيث يتمكن ديفيد الصبي ذو 12 عاما من التسلل من معسكر الاحتجاز والجري عبر حقل مفتوح . يبدأ الصبي رحلته الطويلة الصبي حاملاّ حقيبة صغيرة وفيها قليل من الخبز مع قطعة من الصابون ، وبوصلة لتحديد إتجاه رحلته نحو الشمال (الدنمارك)، وكذالك يحمل رسالة مختومة عليه توصيلها الى الدنمارك .
قد يتساءل المشاهد ، كيف سيواصل الصبي رحلته المجهولة بالنسبة له في العديد من الأراضي التي يجب أن يجتازها؟ ، تخيل أنك ستدفع بمفردك وتواجه العالم بكل تناقضاته وانت صبي في سن الثانية عشرة ، مسلحًا بقليل من الذكاء والشجاعة وفقير التجربة ، وكل الذي تحمله ، رغيف خبز ، وبوصلة ومظروف وجب عليك توصيله إلى بلد لم تسمع به من قبل . هذا هو الاختبار الكبير بالنسبة لديفيد ، الصبي الحكيم والشجاع الذي جاء إلى الحياة حاملا معه هذا الهمّ ، وكما ورد في صفحات الكاتبة ” آنا هولم ” شمال إلى الحرية” ، الطفل ديفيد الذي وعى على الدنيا وهو في معسكر عمال يعامل فيه مثل السجين ويمارس بحقه أشد أنواع التعذيب . ويعامل حراس معسكر الاحتجاز الطفل ديفيد بقسوة ، ولكن لم يتم عرض أي مشهد يتضمن إعتداء جسدي ل( ديفيد). لديه القليل من المهارات الحياتية ويختزن القليل من الذكريات التي تراوده في المنام ، مثل تلك الومضات من الحظات الدافئة لصورة أمه وهي تضع على خده قبلة قبل النوم ، التي تمنحه شحنة إيجابية وقوة دفع عاطفية .
يرافقه في رحلته صوت صديقة غير المرئي الذي أعده للرحلة ، يواجه الناس ديفيد على طول الطريق ويتعامل معهم بقدر مستوى فهمه وإدراكه المحدود للطبيعة البشرية ، يتحدى مخاوفه المتأصلة ، ويعمل الصبي ديفيد بتوجيهات صديقه بالسجن (يوهانز) بعد هروبه من المعتقل : “لا تثق بأحد”. يذكره الصوت “لقد تعلمت العديد من اللغات الأخرى في المعتقل عليك استخدامها في كل بلد تمر به”، ويبدو أن ديفيد يتحدث بالفعل البلغارية واليونانية والإيطالية والإنجليزية ، يتحمل المشقة في التوسل الى سائقي الشاحنات من أجل توصيله ، وينجح في تخطى الحدود البلغارية ويصل إلى اليونان ومن خلال سلسلة من الأحداث والمواقف الغير متوقعة ، وبايعاز من الصوت الموجه له ( صوت يوهانز) يقفز على متن سفينة أيطالية بسهولة مذهلة ويختبئ في احد مخازنها ومنها يقفز خلسة داخل السفينة الموبوءة بالفئران . ولكن عامل على ظهر السفينة الايطالية يساعده في الاختباء و في الوصول الى بر الامان في ايطاليا ، في ايطاليا تجابه الصبي (ديفيد) مواقف محزنة وأخرى مبهجة أو ممتعة، منها حادثة الخباز ، حين يصل الى ايطاليا و يعثرعلى مخبز إيطالي ويخاطبه : “من فضلك ، سيدي، هل يمكنني الحصول على رغيف؟ ” يشك في أمره الخباز ، و يهدية صورة القديسة اليزابيث، لكن الخباز يتصل بالشرطة ، ينجح ديفيد من الافلات من مكيدة الخباز ، وينجح بالتخلص من هذا المطب ، ليقع في مشكلة أخرى حين يلتحم مع تظاهرة للشيوعيين ضد السلطة ، و يصاب أحد رجال الشرطة بحجارة وتشج راسه ، يلتفت الشرطي لتلتقي عيونه بالصبي (ديفيد) ويعتقد بأن الصبي هو من رماه بالحجر، فيضعه رهن الاعتقال في قفص سيارة الشرطة ، وينجح ديفيد ثانية في الافلات من هذا الشرك الذي يحول دون الوصول الى هدفه وهو إيصال الرسالة المكلف بها الى الدانمارك .
بعدها تستقبله عائلة أرستقراطية إيطالية بعد أنقاذ ابنتهم من الحريق الذي شب في الكوخ قرب القصر بعد المخاطرة بحياته ، حين يربط طفلان أختهما الكبرى على كرسي ويضرمان النار في الحظيرة وتصرخ الصبية طالبة النجدة لانقاذها من النيران التي تحاصرها ، يضع ديفيد كل شيء على المحك لإنقاذ فتاة صغيرة من حظيرة مشتعلة . وبينما يتعافى من الحروق الطفيفة والإرهاق في منزل عائلتها الإيطالية الغنية الذين يريدون أن يردوا الجميل له بإنقاذ حياة ابنتهم ، يعيش الصبي (ديفيد) لحظات سعيدة مع الابنة ماريا . ويغادر قصر العائلة الايطالية الارستقراطية هربا من الحاح الاب و اسئلته المتكررة عن أهله وعن هويته . خلال مراحل سفره يواجه عدة صعوبات واختبارات، ليلتقي أخيراً بامرأة كبيرة في السن فقدت ابنها الوحيد بمرض التهاب رئوي، وأصبحت تُمضي وقتها بالرسم . عطفت المرأة على ديفيد ، وباحساس الفنان المرهف أحست الجدة الصوفي بمعاناة ديفيد وقسوة الحياة عليه ، وقامت برسمه ونقلته معها إلى بيتها في سويسرا حيثُ تسكن، لقاء المصادفة مع الفنانة الأرملة صوفي يضع ديفيد على المسار السريع لاكتشاف الذات ، وعندما تشارك الجدة صوفي مأساة حياتها الخاصة مع ديفيد ، فإنه يتخلى عن حذره ويظهر لها جزءاّ من هواجسه و مخاوفه ، بما في ذلك عدم ثقته في الآخرين .
في المقابل ، تعمل كلمات الجدة صوفي الرسامة والانسانة الطيبة على ترميم روح الصبي المنكسرة ، تخبره الجدة صوفي :” الحياة لن تستحق العيش بدون ثقة وكن حذرًا، وعش الحياة بكل مافيها فرح وحزن وكن حرأ على الدوام ، و لاتنسى أت تكوِّن صداقات اكتشف الخير في الناس وإلا فلن تجد أبدًا أي سعادة “، وأخيرًا، تنجح الفنانة الأرملة (صوفي) في ترميم روح الصبي ، و بالتعاطف والتفاهم وتشجيعها له ببناء ثقته بالناس ، ترسم صوفي له صورة بورتريت وتمنحة الحب والرعاية ، ويمنحها الصبي ديفيد السعادة والذي يذكرها بحفيدها المتوفى بسبب مرض ذات الرئة والذي كان في نفس عمر ديفيد . وأثناء زيارتهم لإحدى المكتبات يصادفا كتاباً وعند سؤاله عنه تخبرة الجدة صوفي أن كاتبة الرواية تروي في هذا الكتاب قصة فقدانها لابنها وزوجها في بلغاريا وأنقاذها من قبل صديق قديم وهو أحد ضباط المعتقل ، (صوفي) الجدة والرسامة أخبرت ديفيد أن الضابط سمح للمرأة بالهروب وانقذها واستطاعا الوصول الى الدنمارك ، وعاشا في الدنمارك بعد زواجهما ، وعندما رأى الفتى ديفيد صورتها ميزها وأدرك بطل الفيلم أنها والدته وعليه العثور عليها وأخبر الجدة صوفي بأن هذه الكاتبة هي والدته ، وتعمل الجدة صوفي على لم شمل ديفيد بوالدته بعد فتح المظروف الذي يحمله والذي تبين أنه يحتوى على اوراقه الثبوتية من شهادة ميلاده وصوره العائلية، ويصل الى الدنمارك ويجد والدته باتنظاره ويتقابلا معًا في مشهد درامي رائع .
الفيلم يكشف بعضا من تعقيدات الطبيعة البشرية – الاختلافات والمواقف التي تتناوب بين الخير أوالشر في سلسلة من الصور التي تمر علينا من خلال حكاية (ديفيد) داخل وخارج جدران معسكر العمل . في رحلته نحو الحرية و الخلاص يصادف ديفيد بعض الناس الذين يساعدونه في طريقه دون أن يعرفوا ذلك ويتعاملون معه بانسانية مؤثرة ، وأبرز هؤلاء ، يوهانز الانسان المثقف ، ومرشده خلال فترة سجنه ، والذي يعلمه المعنى الحقيقي للحب الأخوي والتضحية من خلال مثاله غير الأناني وعندما يأس ديفيد من الحرية ويتمنى لنفسه الموت ، يمنحه رفيقه في الحجز” يوهانز” جرعة من الامل و التفاؤل ويرد عليه : “إذا كنت على قيد الحياة يمكنك تغيير الأشياء ، ولكن إذا كنت ميتًا لا يمكنك فعل ذالك”.
يشكل يوهانز الملاك الذي يحرس الفتى ديفيد طوال رحلته، فهو يحمي حياة ديفيد أكثر من مرة ، والنموذج الطيب الآخر الذي يصادف (ديفيد) هو البحار الذي يضبطه وهو مختبئ في داخل مخزن الشحن الخاص بالسفينة ، ويمد له يد العون حتى وصوله الى شواطئ ايطاليا ، وعلى جانب أخر ، يصادف الصبي في رحلته النموذج السلبي والمحبط من البشر الذين يقفون حجرة عثرة في طريق ديفيد من أجل الوصول الى غايته ، حين يصادف الصبي ديفيد الجائع الخباز الذي يعطيه صورة للقديسة سانت إليزابيث “شفيعة الخبازين” حسب تعريفه لها ، والذي يقول عنها “إنها تعتني بكل من يحتاج إلى المساعدة”. لكن هذا الخباز يفتقر للأنسانية حين يتصل بالشرطة قبل إعطائه فتاتًا ومن بين النماذج اللانسانية ألاخرى والتي يصادفها الصبي” دفيد” أيضاّ ، صاحب متجر الذي يسخر من الصبي ديفيد (الذي بالكاد يعرف مفهوم المال) ، وعندما يقدم له الصبي الجائع فقط ليرتين مقابل بعض الطعام ، يعلق الرجل بسخرية قبل أن يزجره ويطلب منه أن يرحل:” لماذا لا أبيع لك المحل كله وأرمي الزوجة والأطفال أيضًا؟”. وكذالك مضيفة الحفلة الثرية التي يوصل لها سلة من النبيذ هي الاخرى نموذج قبيح حين تقوم بإبعاد الصبي بعيدًا عن طاولاتها المليئة بالماكولات و المشروبات وبشكل فظ ووقح. رغم ذالك يركز المخرج على جانب الخير و الطيبة عند غالبية الناس الذين يقدومون يد العون والمساعدة للصبي ديفيد . قد تكون هذه المواضيع ملهمة في تعزيز الروح و القيم الانسانية ، الفيلم يبرز فيه اسلوب الكاتبة ( أن هولم) في كتابة قصص للاطفال، الذي يحكي حكاية عن رحلة صبي صغير من معسكر الاحتجاز و الفرار منه ، وحتى لم شمله مع والدته في الدنمارك . لم يسبق له أن تعرف للعالم الخارجي من قبل، فهو يواجه الناس لاول مرة ، ويتعامل بمفهوم المال لاول مرة ، ومعضلته المستديمة هي الوثوق بالناس طوال رحلته.
بعد مقتل رفيقة المثقف بالرصاص قبل هروبه ، يمكنه الآن الاعتماد فقط على ذكرياته وحفنة من الأشياء التي تركها له رفيقه الراحل وهو المثقف وصاحب التجربة في الحياة . يمكنني أن أقول بصراحة أن السبب الوحيد الذي جعلني أشاهد هذا الفيلم هو أن العنوان( أنا ديفيد) ، لانه يبدو مناسبًا إلى حد ما واكثر مطابقة للاحداث من عنوان الرواية الماخوذة منه ( شمال نحو الحرية). فيلم ” أنا ديفيد ” يرصد الرحلة الروحية والاستكشافية التي يعيشها البطل الصغير بعد سنوات من الظلم الذي تعرض له في معسكر العمل، لدرجة أنه يفقد الثقة في البشر على وجه الإطلاق ، إلا أنه يقع في أسارير الحب لبنت الأسرة الايطالية البورجوازية والذي هرب من قصر ابيها تاركا صورة القديسة ( سانت أليزابيث) جوارالبنت التي أنقدها وأحبته ويطلب لها حماية القديسة لها ولعائلتها. طوال الفيلم يسعى ديفيد لعلاج ما كُسر بداخله من معانٍ مغلوطة عن السياسة والقسوة والحرب والصراعات بوجه عام ، والغريب في الأمر أنه عاش كل هذه المشاعر وهو في سن مبكرة .فقط لي ملاحظة على سير رحلة الصبي ديفيد ، من المحتمل أن يكون أي شخص في اليونان أو إيطاليا قد قرأ الأوراق في مظروفه وحل مشكلة معضلة ديفيد ، ولم تكن نصيحة السفر إلى الدنمارك مقبولة ومقنعة .
لكننا ننسى ذالك عندما نكتشف سر الصوت الملاك المصاحب ديفيد في رحلته والذي نصحه بالتوجه الى الدنمارك ومتعة المشاهد بالرحلة و أجواءها و المناظر الخلابة. بطولة الفيلم للممثل الانكليزي “بن تينبر” بدور ديفيد وكذالك الممثل “جيم كافيزيل ” بدور يوهانز اما دور الجدة صوفي الرسامة فتقوم به الممثلة الانكليزية المخضرمة جوان بلورايت ، و تجسد الممثلة ” ماريا بونيفي ” دور( أم ديفيد) ، أُنتج الفيلم بواسطة شركة ليونزغيت إنترتاينمنت الكندية ومن إخراج الامريكي ” بول فيغ”.
المملكة المتحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق