⏪⏬
بعدما أصدر نجيب محفوظ عام 1957 رواية “السكرية” التي تعد الجزء الأخير من ثلاثيته الشهيرة، انقطع عن الكتابة ودخل فترة من الصمت دامت نحو خمس سنوات. هذا الصمت أعقب مرحلة قيام ثورة يوليو التي وضعت حداً فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها، سياسياً وثقافياً وفكرياً. ولعلها كانت أيضاً حداً فاصلاً بين مرحلتين في مسار صاحب “خان الخليلي”، مرحلة ما قبلها وما بعدها. في فترة ما قبل الثورة كتب محفوظ روايات مهمة رسخت مدرسته التي أسسها وتفرد بها عربياً وتوّجها عبر “الثلاثية”، وفي فترة ما بعد الصمت أو الانقطاع كتب أيضاً روايات مهمة جداً، مواصلاً بلورة مدرسته ومتوجاً إياها مرة أخرى بروايته “أولاد حارتنا” الإشكالية. أثارت مرحلة الصمت سجالاً كبيراً في حينه بين النقاد والروائيين وطرحت أسئلة كثيرة وشاملة، خصوصاً أنها لم تكن متوقعة من كاتب شديد الغزارة. ماذا يعني أن يتوقف أكبر روائي عربي عن الكتابة لسنوات؟
قد تكون استعادة هذه القضية الآن في وقتها الملائم، لا سيما بعدما توالت خلال الفترة الراهنة، كتب وأبحاث تتناول زوايا جديدة أو مجهولة من تجربة محفوظ ومسيرته. ولعل العودة إلى كتاب الدكتور الإماراتي علي بن تميم “النقاد ونجيب محفوظ- الرواية: من النوع السردي القاتل إلى جماليات العالم الثالث” (دار أبو ظبي للثقافة والتراث) تساهم في إلقاء أضواء جديدة على صاحب “ميرامار” وفي تقديم مقاربة مختلفة ومتميزة بمنهجيتها الصارمة وشموليتها. فالكتاب الضخم الذي يعد واحداً من المراجع الأساسية في هذا الحقل، يتناول جوانب عدة من المدرسة المحفوظية بعين النقد والتحليل والنقد المقارن ويتوسع في قراءة أدب محفوظ الروائي. وقد خصص بن تميم فصلاً مهماً وشاملاً عن ظاهرة الصمت لدى محفوظ.
يتعمق بن تميم في تحليل صمت محفوظ ويسترجع على ضوئه ظواهر عدة عرفتها حركة الأدب والفكر العالميين، ويمنح هذا الصمت بعداً وجودياً وذاتياً، فلا يكتفي بحوافزه السياسية التي جرى الكلام حولها كثيراً. ومهما تم الربط بين صمت صاحب “الثلاثية” والمعطى السياسي، فما يجب تذكره هو أن الأدب لا يمكن حصر حقيقته في إطار الواقعية الصرفة، مهما كان هذا الأدب واقعياً أو طبيعياً. من هنا يكتسب بحث بن تميم في جذور الصمت الذي يعانيه الأدباء، في فترات، طويلة أو قصيرة، أهمية فريدة، وقد انقطع عن الكتابة روائيون وشعراء كبار وعانوا من هذا الانقطاع أو الصمت، وما لبث بعضهم أن تخطاه فيما رزح بعض آخر تحت وطأته. يقول بن تميم إن الصمت الأدبي أمر مخيف ومرعب حتى أنه ليماثل الموت، والكتّاب غالباً ما يتحاشونه، لما ينجم عنه من غياب وانقطاع أو حتى مرض. ويعود بن تميم إلى أطروحات ما بعد البنيوية التي منحت هذا الصمت معنى مجازياً مفاده أن الكتابة تقاوم حضور المؤلف في النص، فيكتب المؤلف من منطلق الصمت الذي يغيّب وجوده. ومن هنا تأتي مقولة الناقد الفرنسي رولان بارت “موت المؤلف” التي انطلق منها ميشال فوكو ليربط بين الكتابة والموت، فالكتابة حال من “الصمت المتكلم”.
وينتقل بن تميم إلى المدرسة “التفكيكية” التي تعتبر أن الصمت يتيح فرصة التأمل في الوجود من أجل توسيع إمكانات التأويل في القراءة والكتابة. ويتحدث عن موقف الشاعر الفرنسي إيف بونفوا الذي رأى أن الصمت يتيح للمبدع إمكانات أكثر مما تتيحه الكتابة. ويرى بونفوا أن الصمت محاولة لتخطي محدودية النص إلى العالم المفتوح. ويتطرق بن تميم إلى التيارات النسوية وما بعد الكولونيالية معتبراً إياها قادرة على تعيين “المراد” بالصمت عن الكتابة أو عن الكلام. فالتيارات النسوية تعتبر أن الصمت الذي يتأتى عن طريق التاريخ الثقافي هو ظاهرة سلبية لا بد من كسرها ومقاومتها وتحدي إكراهاتها الداخلية والخارجية، وهكذا يصبح الصمت بمثابة “طقس عبور”. أما الكولونيالية فترى أن الصمت ليس سلبياً دائماً بل هو قد يفيد المبدع، ويمنحه قدرة على الظهور في مظهر جديد، ويتيح له أن يعيد تسمية الأشياء والكلمات، ولا تقل قوة الصمت عن قوة الكتابة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق