⏪⏬
كانت بداية السنة الدراسية من عام 1978، كنا قد انتقلنا لمرحلة دراسية متقدمة في مدرسة اخرى تقع في المدينة الشقيقة لمدينة رام
الله والمعروفة باغتراب معظم سكانها في الولايات المتحدة الأمريكية، كنت الطالبة الوحيدة من ضمن خمسة تلميذات تم نقلهن إلى هذه المدرسة وتم توزيعنا على الصفوف بعشوائية وتم تفريقنا، شعرت بالخوف والخجل والوحدة وانا أشاهد باقي التلميذات الطويلات الشقراوات ومرايلهن القصيرة وأناقة أحذيتهن، دخلت معلمة اللغة العربية في الحصة الأولى للدرس وفورًا طرحت سؤالها المعجزة؛ عرفي الدستور؟ أصابنا الذهول والغرابة حيث أن هذا المصطلح والسؤال لم يرد على مسامعنا سابقًا، صمت وحيرة داهمت الوجوه... وبعد لحظات ليست طويلة وقفت فتاة فارعة الطول مليحة الوجه شديدة البياض وذات عيون ملونة تميل اكثر للاخضرار شعرها اشقر مصفر كسنابل الذهب يكاد يضرب ركبتيها اعتقدت أنها كاثوليكية من هندامها المنمق أجابت بطريقة سلسة وكلمات مرتبة واضحة وجلست لفتت انتباهي رتابتها وهدوءها ولباقتها في الحديث عدا عن جمالها الأخاذ وعزمت على اتخاذها رفيقة لي رغم ما قد يواجهني من صعوبات لاختلافات عديدة بيننا ، توالت الأيام والأشهر الدراسية وفوجئت بحصول رابعة على أعلى العلامات المدرسية التي قاربت من المئة بل أعلى طالبة على مستوى المدرسة ، تواضع رابعة الشديد وحسن تربيتها وثقافتها كان محور حديث المعلمات ولطالما طلبت مساعدتها لي في شرح بعض الدروس الصعبة في مادة الرياضيات والعلوم وكانت تستجيب بكل سرور، وذات يوم اتفقت معها في نهاية اليوم الدراسي على الذهاب الى مبنى مكتبة البلدية العامة للقراءة واستعارة الكتب وكنا قد بدلنا ملابس المدرسة في نهاية الدرس وخرجنا ومما زاد حبي وشغفي بها هو جمالها الأخاذ وهي مرتدية السروال الجينز والقميص الأبيض المشابه لحبات اللؤلؤ بين شفتيها الورديتين والنجوم الثلاث التي تعتلي وجنتيها من النمش وتزداد بروزًا في خجلها واحمرار وجنتيها ، وفي طريقنا للمكتبة وبينما نحن منسجمتين في الحديث تقدم شاب مسرع وقام بشد شعر رابعة وفر هارباً ، ضحكت أنا بدوري وقلت : كم أتمنى ان تكوني زوجة لشقيقي يوماً ، ابتسمت لي بخجل وأكملنا المسير . انتهى العام الدراسي وبدأت العطلة الصيفية، فراقي وابتعادي عن رابعة أحزنني جداً حيث ان منزل رابعة يبعد مسافة ساعتين ذهاباً وإياباً وكانت الحجة لي للخروج من البيت ورؤية رابعة هو أن تساعدني في دروس تقوية للمواد الصعبة مما جعل والدتي توافق على الذهاب لزيارة رابعة ، ذهبت لبيت رابعة دون موعد وكنت قد حفظت العنوان في أيام الدراسة ، بيت رابعة يقع بمحاذاة شارع رئيسي في وسط مدينة البيرة المحاذية لتوأمها رام الله ، على طرف الشارع توجد ربوة صغيرة ومن ثم درجات صخرية ممتدة من رصيف الطريق حتى البيت ، شاهدتني رابعة وأنا أصعد الدرج المائل فأسرعت تجاهي ضاحكة فرحة حضنتني وعبرنا للبيت ، انصعقت في البداية ولم أصدق ما رأته عيني في مدخل البيت عجوز تجاوز التسعين عام جالس على قطعة بطانية على الأرض يقابله غرفتين صغيرتين وصبْية صغار يضحكون وهناك غرفة ثالثة ملاصقة للغرفة الرئيسية العالية السقف يستخدمونها مكانا للطبخ وفي زاوية الحديقة بناء صغير من الطوب يبدو كعريشة وله باب من الزينكو كان هذا هو مرحاض وغرفة استحمام ، القيت التحية على الشيخ وقلت لرابعة أهذا جدك ؟ ردت بابتسامتها المعتادة إنه أبي وأنا ابنته من زوجته الرابعة ، عبرنا للداخل في الغرفة الصغيرة أجلستني على سرير من الحديد مغطى ببطانية سوداء واشارت لإخوانها الصغار بالخروج للعب ، أحضرت أكواب الشاي وبدأنا نقلب صفحات الكتاب وهي تشرح لي المسائل والمعادلات، داهمنا الوقت وحان موعد صلاة العصر فطلبت الإذن منها بالمغادرة ولكن أعاقني صوت جلبة من الخارج انتظرت قليلاً فاذا هي والدة رابعة عائدة من العمل تحمل أكياس وأغراض كثيرة ، امرأة بيضاء جميلة جداً في عقدها الرابع ، عرفتني رابعة بوالدتها قائلة أمي تعمل خادمة في البيوت ولا معيل لنا سواها وكما ترين والدي شيخ كبير وشبه ضرير ولا يقوى على شيء، ودعتهم وخرجت مذهولة تكاد دموعي أن تقفز حزناً على رابعة التي لم تكن كاثوليكية وليست ابنة أغنياء بل رابعة هي ابنة قرية " عمواس " تلك القرية الجميلة المسلوبة ، بكيتُ رابعة للمرة الاولى .
انتهت العطلة الصيفية وعدنا للدراسة في العام الجديد وكان أول يوم هو يوم فرح لي سوف التقي رابعة مرة اخرى وسنتحدث ونضحك كثيراً، ذهبت في الصباح الباكر وكنت أول الواصلين لساحة المدرسة جلست قرب البوابة السوداء الضخمة على مقعد حجري يجاوره أحواض من الورود وانتظرت رابعة ولكن رابعة لم تحضر في اليوم الأول وكذلك الثاني والثالث فسيطر عليّ الخوف والقلق كم أنا مشتاقة لها يا ترى لماذا لم تأتِ ماذا جرى لها؟ خفت من الاستفسار عنها لأسباب عديدة انها لا علاقات لها وطيدة مع الطالبات وكذلك خشيت أن يكون حصل لها مكروه كما حصل العام السابق مع زميلتنا ديما الفتاة السمراء الهادئة التي ماتت يوم ذهبنا في رحلة مدرسية إلى القرى الثلاث المهجرة يالو ، عمواس ، بيت نوبا ، عندما هرعت الطالبات لقطف اللوز الأخضر والبرقوق الحامض والكرز وكانت ديما قد أكلت الكثير منه قبل تناول طعام الإفطار وبعد عودتنا في المساء اصابها تلبك معوي نقلت للمشفى على أثره وفارقت الحياة ، تجرأت بعد اسبوع وسألت المعلمة أين رابعة هل تعرفون عنها خبر أجابتني ببرود قائلة: رابعة تزوجت من صيدلاني وتركت الدراسة ، انصعقت اختنقت بكيت ، كيف لطفلة لم تكمل العام الخامس عشر من عمرها أن تتزوج؟ كيف زوجوها؟ ولماذا؟ كيف تركتني؟ لماذا لم تخبرني؟ هل أجبرت على ترك المدرسة؟ هل ضربوها لأجل ذلك؟ كيف لرجل متعلم صيدلاني أن يتزوج طفلة؟ أهو الجمال إذن !! أهو الفقر والعوز!؟
وبكيت رابعة للمرة الثانية. توالت السنوات والسنوات ومر على حادثة رابعة عشرة أعوام ونييف، وكنت اسكن حينها في شقة في وسط مدينة رام الله بالقرب من المشفى الحكومي وفي الاتجاه الآخر للشقة يوجد ساحة كبيرة فيها بيوت صغيرة متناثرة احداها ذات طابقين واربعة شقق واسعة كانت ادارة المشفى تستأجره سكن داخلي للممرضات اللواتي يحضرن من المدن البعيدة للعمل في المشفى وكنت على علاقة مع احداهن وتدعى فوزية وهي من قرى شمال فلسطين، كنت أذهب إليها لقضاء وقت الفراغ وهي تساعدني في الاعتناء بالصغيرات غالباً. وذات يوم اصطحبت الصغيرات وذهبت لسكن الممرضات عند فوزية للتسلية فوجدتها تبكي تحدثنا طويلاً وأسّرت لي بأنها على علاقة غرامية مع شقيقي الذي يزورني باستمرار وهي خائفة من رفض اهلها له إذا تقدم لخطبتها، داهمني الوقت في الحديث وهممت بمغادرة المكان وعندما وصلت الى المدخل الرئيس للنزل تصادف خروجي مع دخول امرأة طويلة بيضاء تعرفت على ملامحها بعد لحظات؛ إنها والدة رابعة كيف حالك يا خالة؟ الست والدة رابعة؟ استغربت السيدة ووضعت على الأرض صندوق كرتون كان في يدها وجردل ماء ومكنسة ومدت يدها تسلم عليّ، نعم انا والدة رابعة .. رابعة تزوجت ولديها ستة اطفال ذكور الآن، وتعيش في القرية، صافحتها بحرارة وقلت بلغيها سلامي ومحبتي وتركت فوزية وخرجت باكية رابعة للمرة الثالثة. كان حديث فوزية وحبها لشقيقي اكبر من الخيال مع أنني طمأنتها بأني سوف اساعدها من جانبي قدر استطاعتي وشجعتها على إحضار والدتها لزيارتها كي أكلمها عن حالنا وأحاول اقناعها بالموافقة وهذا كان بعد ذهابنا لخطبة فوزية ولكن للأسف تم رفضنا بحجة أنها من الشمال ونحن من الجنوب ورام الله بالنسبة لها غربة بالرغم من تفوق شقيقي عليها في جميع الأصعدة، هذا الرفض لم يغير شيء من علاقتي مع فوزية بل العكس ازدادت محبتي لها وتقربي منها وأصبحنا بمثابة شقيقات وكانت نعم الصديقة الوفية لدرجة أنها أقسمت لو أن ملكاً سوف يتقدم لخطبتها سأكون انا وعائلتي قبل عائلتها ، وبالفعل تقدم طبيب لخطبة فوزية وتم زواج فوزية وهي في عمر الثلاثين وأنجبت منه خمسة اطفال ذكور وبنت واحدة واصغرهم تخرج من الجامعة هذا العام ، وفرقتنا الأيام والسنوات ومازالت فوزية تبحث عني ولا زلت اتذكر رابعة وأبكي .
*مريم حوامدة
كانت بداية السنة الدراسية من عام 1978، كنا قد انتقلنا لمرحلة دراسية متقدمة في مدرسة اخرى تقع في المدينة الشقيقة لمدينة رام
الله والمعروفة باغتراب معظم سكانها في الولايات المتحدة الأمريكية، كنت الطالبة الوحيدة من ضمن خمسة تلميذات تم نقلهن إلى هذه المدرسة وتم توزيعنا على الصفوف بعشوائية وتم تفريقنا، شعرت بالخوف والخجل والوحدة وانا أشاهد باقي التلميذات الطويلات الشقراوات ومرايلهن القصيرة وأناقة أحذيتهن، دخلت معلمة اللغة العربية في الحصة الأولى للدرس وفورًا طرحت سؤالها المعجزة؛ عرفي الدستور؟ أصابنا الذهول والغرابة حيث أن هذا المصطلح والسؤال لم يرد على مسامعنا سابقًا، صمت وحيرة داهمت الوجوه... وبعد لحظات ليست طويلة وقفت فتاة فارعة الطول مليحة الوجه شديدة البياض وذات عيون ملونة تميل اكثر للاخضرار شعرها اشقر مصفر كسنابل الذهب يكاد يضرب ركبتيها اعتقدت أنها كاثوليكية من هندامها المنمق أجابت بطريقة سلسة وكلمات مرتبة واضحة وجلست لفتت انتباهي رتابتها وهدوءها ولباقتها في الحديث عدا عن جمالها الأخاذ وعزمت على اتخاذها رفيقة لي رغم ما قد يواجهني من صعوبات لاختلافات عديدة بيننا ، توالت الأيام والأشهر الدراسية وفوجئت بحصول رابعة على أعلى العلامات المدرسية التي قاربت من المئة بل أعلى طالبة على مستوى المدرسة ، تواضع رابعة الشديد وحسن تربيتها وثقافتها كان محور حديث المعلمات ولطالما طلبت مساعدتها لي في شرح بعض الدروس الصعبة في مادة الرياضيات والعلوم وكانت تستجيب بكل سرور، وذات يوم اتفقت معها في نهاية اليوم الدراسي على الذهاب الى مبنى مكتبة البلدية العامة للقراءة واستعارة الكتب وكنا قد بدلنا ملابس المدرسة في نهاية الدرس وخرجنا ومما زاد حبي وشغفي بها هو جمالها الأخاذ وهي مرتدية السروال الجينز والقميص الأبيض المشابه لحبات اللؤلؤ بين شفتيها الورديتين والنجوم الثلاث التي تعتلي وجنتيها من النمش وتزداد بروزًا في خجلها واحمرار وجنتيها ، وفي طريقنا للمكتبة وبينما نحن منسجمتين في الحديث تقدم شاب مسرع وقام بشد شعر رابعة وفر هارباً ، ضحكت أنا بدوري وقلت : كم أتمنى ان تكوني زوجة لشقيقي يوماً ، ابتسمت لي بخجل وأكملنا المسير . انتهى العام الدراسي وبدأت العطلة الصيفية، فراقي وابتعادي عن رابعة أحزنني جداً حيث ان منزل رابعة يبعد مسافة ساعتين ذهاباً وإياباً وكانت الحجة لي للخروج من البيت ورؤية رابعة هو أن تساعدني في دروس تقوية للمواد الصعبة مما جعل والدتي توافق على الذهاب لزيارة رابعة ، ذهبت لبيت رابعة دون موعد وكنت قد حفظت العنوان في أيام الدراسة ، بيت رابعة يقع بمحاذاة شارع رئيسي في وسط مدينة البيرة المحاذية لتوأمها رام الله ، على طرف الشارع توجد ربوة صغيرة ومن ثم درجات صخرية ممتدة من رصيف الطريق حتى البيت ، شاهدتني رابعة وأنا أصعد الدرج المائل فأسرعت تجاهي ضاحكة فرحة حضنتني وعبرنا للبيت ، انصعقت في البداية ولم أصدق ما رأته عيني في مدخل البيت عجوز تجاوز التسعين عام جالس على قطعة بطانية على الأرض يقابله غرفتين صغيرتين وصبْية صغار يضحكون وهناك غرفة ثالثة ملاصقة للغرفة الرئيسية العالية السقف يستخدمونها مكانا للطبخ وفي زاوية الحديقة بناء صغير من الطوب يبدو كعريشة وله باب من الزينكو كان هذا هو مرحاض وغرفة استحمام ، القيت التحية على الشيخ وقلت لرابعة أهذا جدك ؟ ردت بابتسامتها المعتادة إنه أبي وأنا ابنته من زوجته الرابعة ، عبرنا للداخل في الغرفة الصغيرة أجلستني على سرير من الحديد مغطى ببطانية سوداء واشارت لإخوانها الصغار بالخروج للعب ، أحضرت أكواب الشاي وبدأنا نقلب صفحات الكتاب وهي تشرح لي المسائل والمعادلات، داهمنا الوقت وحان موعد صلاة العصر فطلبت الإذن منها بالمغادرة ولكن أعاقني صوت جلبة من الخارج انتظرت قليلاً فاذا هي والدة رابعة عائدة من العمل تحمل أكياس وأغراض كثيرة ، امرأة بيضاء جميلة جداً في عقدها الرابع ، عرفتني رابعة بوالدتها قائلة أمي تعمل خادمة في البيوت ولا معيل لنا سواها وكما ترين والدي شيخ كبير وشبه ضرير ولا يقوى على شيء، ودعتهم وخرجت مذهولة تكاد دموعي أن تقفز حزناً على رابعة التي لم تكن كاثوليكية وليست ابنة أغنياء بل رابعة هي ابنة قرية " عمواس " تلك القرية الجميلة المسلوبة ، بكيتُ رابعة للمرة الاولى .
انتهت العطلة الصيفية وعدنا للدراسة في العام الجديد وكان أول يوم هو يوم فرح لي سوف التقي رابعة مرة اخرى وسنتحدث ونضحك كثيراً، ذهبت في الصباح الباكر وكنت أول الواصلين لساحة المدرسة جلست قرب البوابة السوداء الضخمة على مقعد حجري يجاوره أحواض من الورود وانتظرت رابعة ولكن رابعة لم تحضر في اليوم الأول وكذلك الثاني والثالث فسيطر عليّ الخوف والقلق كم أنا مشتاقة لها يا ترى لماذا لم تأتِ ماذا جرى لها؟ خفت من الاستفسار عنها لأسباب عديدة انها لا علاقات لها وطيدة مع الطالبات وكذلك خشيت أن يكون حصل لها مكروه كما حصل العام السابق مع زميلتنا ديما الفتاة السمراء الهادئة التي ماتت يوم ذهبنا في رحلة مدرسية إلى القرى الثلاث المهجرة يالو ، عمواس ، بيت نوبا ، عندما هرعت الطالبات لقطف اللوز الأخضر والبرقوق الحامض والكرز وكانت ديما قد أكلت الكثير منه قبل تناول طعام الإفطار وبعد عودتنا في المساء اصابها تلبك معوي نقلت للمشفى على أثره وفارقت الحياة ، تجرأت بعد اسبوع وسألت المعلمة أين رابعة هل تعرفون عنها خبر أجابتني ببرود قائلة: رابعة تزوجت من صيدلاني وتركت الدراسة ، انصعقت اختنقت بكيت ، كيف لطفلة لم تكمل العام الخامس عشر من عمرها أن تتزوج؟ كيف زوجوها؟ ولماذا؟ كيف تركتني؟ لماذا لم تخبرني؟ هل أجبرت على ترك المدرسة؟ هل ضربوها لأجل ذلك؟ كيف لرجل متعلم صيدلاني أن يتزوج طفلة؟ أهو الجمال إذن !! أهو الفقر والعوز!؟
وبكيت رابعة للمرة الثانية. توالت السنوات والسنوات ومر على حادثة رابعة عشرة أعوام ونييف، وكنت اسكن حينها في شقة في وسط مدينة رام الله بالقرب من المشفى الحكومي وفي الاتجاه الآخر للشقة يوجد ساحة كبيرة فيها بيوت صغيرة متناثرة احداها ذات طابقين واربعة شقق واسعة كانت ادارة المشفى تستأجره سكن داخلي للممرضات اللواتي يحضرن من المدن البعيدة للعمل في المشفى وكنت على علاقة مع احداهن وتدعى فوزية وهي من قرى شمال فلسطين، كنت أذهب إليها لقضاء وقت الفراغ وهي تساعدني في الاعتناء بالصغيرات غالباً. وذات يوم اصطحبت الصغيرات وذهبت لسكن الممرضات عند فوزية للتسلية فوجدتها تبكي تحدثنا طويلاً وأسّرت لي بأنها على علاقة غرامية مع شقيقي الذي يزورني باستمرار وهي خائفة من رفض اهلها له إذا تقدم لخطبتها، داهمني الوقت في الحديث وهممت بمغادرة المكان وعندما وصلت الى المدخل الرئيس للنزل تصادف خروجي مع دخول امرأة طويلة بيضاء تعرفت على ملامحها بعد لحظات؛ إنها والدة رابعة كيف حالك يا خالة؟ الست والدة رابعة؟ استغربت السيدة ووضعت على الأرض صندوق كرتون كان في يدها وجردل ماء ومكنسة ومدت يدها تسلم عليّ، نعم انا والدة رابعة .. رابعة تزوجت ولديها ستة اطفال ذكور الآن، وتعيش في القرية، صافحتها بحرارة وقلت بلغيها سلامي ومحبتي وتركت فوزية وخرجت باكية رابعة للمرة الثالثة. كان حديث فوزية وحبها لشقيقي اكبر من الخيال مع أنني طمأنتها بأني سوف اساعدها من جانبي قدر استطاعتي وشجعتها على إحضار والدتها لزيارتها كي أكلمها عن حالنا وأحاول اقناعها بالموافقة وهذا كان بعد ذهابنا لخطبة فوزية ولكن للأسف تم رفضنا بحجة أنها من الشمال ونحن من الجنوب ورام الله بالنسبة لها غربة بالرغم من تفوق شقيقي عليها في جميع الأصعدة، هذا الرفض لم يغير شيء من علاقتي مع فوزية بل العكس ازدادت محبتي لها وتقربي منها وأصبحنا بمثابة شقيقات وكانت نعم الصديقة الوفية لدرجة أنها أقسمت لو أن ملكاً سوف يتقدم لخطبتها سأكون انا وعائلتي قبل عائلتها ، وبالفعل تقدم طبيب لخطبة فوزية وتم زواج فوزية وهي في عمر الثلاثين وأنجبت منه خمسة اطفال ذكور وبنت واحدة واصغرهم تخرج من الجامعة هذا العام ، وفرقتنا الأيام والسنوات ومازالت فوزية تبحث عني ولا زلت اتذكر رابعة وأبكي .
*مريم حوامدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق