⏬
نفس الصورة، بمكوِّناتها المتبلِّدة، غير المرشَّحة للتبدُّل، وإنْ ماتت التفاصيل، واحدةً بعد أخري، تبعاً لمواقيتَ طائشة، ودون أن أفعص الورقة المطبوعة كما كنت أُفضّل. الفوتوغرافيا التي "أعيد قراءتها" لأوفّر لها خلوداً مؤقّتاً، وانطباعاً بتواجدٍ بائس وعنيد، بعد إرسالي، يوماً ما، إلي ساحة العدَم. وحتي لا أقول "أكرّر مُعاينتَها" بما قد يوحي بفراغٍ زمنيّ، لا أملك ادّعاءَه. ربما لأنها الأصلح للتكبير التقليدي، المهجور تقريباً في هذه الحقبة من الوجود المُتمايع، والوضع في برواز جنائزي، تُظلّله غيمةٌ سينمائية كلمحةٍ من فيلم رعب، ثم العرض المُغرِي علي جدارٍ يواجه الداخل إلي غرفة الاستقبال، فيتنهّد ويقول شيئاً مناسباً. سيظلّ ذلك رهيناً بدوافعي الفنّية المنعزلة، والتي سيخالفها، حتماً ودون مقاصد شرّيرة، مَنْ سيُضطرون للبقاء أحياء بعد أُفولي المنتظَر، فيختارون، بتلقائيّةٍ، صورةً أخري.
***
سأتفاوض، كعازفٍ أصيل عن المطامع، علي أن المُصوِّر أوّل التفاصيل وآخرها، مع أنه غير معدود، بما يتماشي مع احتفالٍ اصطناعيّ بجنديٍّ مجهول. تفصيلةٌ ساربة، غير مرئيّة. سبب لوجودٍ حادث بلا طموحٍ للمشاركة فيه. والأدهي أنه صار غير مذكور. لو سألني أحدهم، وليس السؤال فِعلةً شنعاء علي أيّ حال، عن الواحد الذي أخذ اللقطة، سأراجع نظرةً مركّزة، كما لو أنه حاضر في الصورة، ثم أقول: نعم، لقد كان واحداً. هل كان مارّاً، عابراً شريط القطار إلي شقّته في المساكن، وتضمّن ذلك، ودون تعمُّدٍ منه، عبورَ يومي، الذي لن أتمكّن أبداً من تحديد تاريخه، فاستوقفتُه باستعطاف، ملوِّحاً له بالكاميرا؟ وهل وافق علي الفور بابتسامةٍ مُرحِّبة، أم تراجع خطوةً وقلَّص سحنته، مُحاذراً ألاعيب الأفَّاقين؟.. ربما كان رفيقَ رحلة، فالظاهر أني كنت بعيداً، أجرُّ حقيبة سفرٍ بالقرب من محطة قطار، وبقيّة التفاصيل لا تدلُّ علي معالم مدينةٍ بعينها، ولا علي بقعةٍ اعتدتُ دهسها، برغم أن الصورة أتاحتْها لي، لعشرين عاماً أو يزيد. ثم أنا السائل بعد المسئول؛ هل كان في مثل عمري، عابراً كان أم مرافقاً؟ زميل دراسة أو عمل باعتبار الرفقة؟ هل كنت أكافح قصةَ حبٍّ سِلميّة مع أخته المؤدّبة؟ وبماذا تفوَّه قبل وبعد إمساكه بالكاميرا؟ هل مات الآن، وعرف الشيء، الذي نأكل وننام كل يوم، لسنواتٍ يتمّ حصرها علي سبيل مراهنةٍ خاسرةٍ دائماً، في انتظار معرفته؟ أم أنه أُصيب، فقط، بسرطان القولون؟ ليظلّ غير مطالَبٍ سوي باعتراف اللحظات الأخيرة؛ بأنه مَن اختار، منفرداً، زاوية رؤية الكاميرا، ومَن أوقفني، كمؤدٍّ مطيع، علي هيئة المسافر الأبديّ، وسكة القطار تتطاول من ورائي بلا منتهي. ولن يقول شيئاً عن نظرتي الغائصة في الأفق، كأنما تستقبل موكباً لسنواتٍ كثيرة ، قد يحلّ بي أو يتخطّاني.
***
الجاكت الجلديّ، المفتوح علي مصراعيْه، ربما من هبّة ريحٍ لحظة الفلاش، يدلّ علي أني كنتُ أعيش عصر رخاءٍ ساقطاً من تاريخي، وعلي أني فعلتُها في شتاءٍ ضائع، من خمسةٍ وأربعين شتاءً لم يبقَ من آثارها غير التراكم. الحقيبة أيضاً، بصلابتها السوداء، ومقبضها الذي يطول ويقصر حسب الطلب، وتعبيرها الدبلوماسيّ القديم، تؤرِّخ للعصر نفسه. أم أكون استعرتُهما، الجاكت والحقيبة، من مالكٍ شرعيّ، لم أعد مستعدّاً لأقدِّم له عرفاناً بجميلٍ يطوِّقني، مدّة الرحلة، مع وعدٍ مُقنِع بإعادتهما سليميْن، لأغلق صفحة عصر الرخاء، الذي لم يكن، بأيّ حال، يليق بصورةٍ تموت تفاصيلها بتدرّج عشوائيّ.
أعلم، من معايناتٍ سابقة للصورة، أن بَشَراً زُجَّ بهم فيها، غدراً أو عنوة -يُرجَع في هذا إلي النوايا المقبورة للمصوّر- أو صدفةً محايدة كتلك التي أوقعتْ بهم في ختامٍ باهتٍ للقرن العشرين وليس في النصف الأول، الباهت كالآخَر، من القرن الثالث الميلاديّ، دون أن يتعلّق الأمر بمصائر متشابكة. أعرف الآن، من القراءة المُستجدَّة، أنهم ثمانية، إذا لم يكن البروز الراكع بوَهنٍ في فتحة السور، الفاصل بين المساكن وشريط القطار، والمرتفع قليلاً فوق كتفي الأيسر، تاسعهم. اثنان يمضيان بالتزامٍ، قاطعَيْن السّكة بالعَرض، علي المَدقّ المحكوم للمزلقان، متجاهليْن طموحي في أخذ صورةٍ للذكري، أو لعلّهما شهدا الواقعة من بداية المدقّ، فاعتقدا بأني أرتكب خطأ العشرين عاماً التالية. أما الستّة، فكان السور الأصفر القصير يحوشهم عني، دون أن يمنع تجسّدهم السرمديّ في صورتي، وكان خمسة منهم سيشترون -لابد أنهم اشتروا وطبخوا وأكلوا وتغوّطوا ثم لم يرتدعوا- لحماً من (جزارة محمود سعيد)، المحل المفتوح علي ناصيتيْن، بأبوابه الثلاثة المشرَعة، والتي لم أرها من قبل. وكانوا يتناقشون في موضوعٍ غيري، لأنهم أعطوني أقفيتهم، ولأن الكاميرا لم تغتصب من أحدهم لقطة فضولٍ ناحيتي. السادس كان يتصدّر الباب الأوسط، مواجهاً لهم، وظهر أنه جاء إلي الصورة بعد أن تحوّل، مباشرةً، بعينيه عني. ما الذي تبقّي من التفاصيل الميّتة أو الرائحة إلي الموت؟ العمارات القديمة التي تصنع أجزاءٌ منها خلفيّةً كاريكاتوريّة لرأسي المائل إلي اليسار، ستقع من طولها لحظةً ما، إن لم تكن وقعت بالفعل طوعاً أو كرها، مثلما لم يعد لوقوفي المتشامخ، متحدّياً المصوّر المنسيّ، أيّ معني إلا بقايا إعجابي المتلعثم بنظرتي التي لا تزال غائصةً في الأفق. واللافتات الموزّعة بلا تنسيق علي طوابقها، والتي سأخمّن أنها لأطباء ومحامين، علي قدر صلتي بالواقع في ذلك التوقيت الهارب من قطعيّة حلولي به، لولا ورقة الكرتون هذه التي جري تحميضها في أجواء هاربةٍ أيضا، لأصير قارئها المريد. ستظل اللافتات قيد وظيفتها الإعلانية، حتي وإن تغيّر اسم المُعلِن ونوع المُعلَن عنه، وتظلّ بعض الشقق مغلقة النوافذ والشرفات كنُعوشٍ خرسانيّة، لم تُسكن أبداً، أو كأنها ترعي عرضاً مستمراً لمضاجعات مسروقة. "جزارة محمود سعيد" وحدها ستقدّم وقوفاً عنيداً، دون أن يعاكس ذلك حدوث تعديل بسيط لتصير "جزارة أولاد محمود سعيد" قبل أن يتوالي تقلّب أنسالهم في الأجيال، لأن تجارة اللحوم هي تجارة الديمومة، داخل الفوتوغرافيا وخارجها.
***
كان الغلاف السّماويّ ضئيلاً، ومنزوياً في أقصي اليسار، محمولاً فوق رأسي كعمامةٍ عظيمة، ومكتسياً بالأبيض الناصع، تغبشه قليلاً ظلال لعمائر متناهية البعد كأنها لمدينةٍ أخري، وأعمدة متراصّة تبرز كمسامير مدقوقة في بطن الورقة علي مسافاتٍ متساوية. وكان يقوم، رغم ذلك، بدور لمبة تضيء التفاصيل، أو فلاش مضاد لفلاش الكاميرا. ولعلّه ما هيّأني، نفس التهيّؤ الفنيّ المنطوي علي وهمه، لأتعلّق بالصورة أكثر، فأغوي بها فريق الأحياء من بعدي. والمُريب أن شيئاً لم يتبدّل، بعد تطلّعي الذاهل إلي مِزَق ورقية صغيرة، مجموعةٍ علي المنضدة، ميّزتُ في إحداها عيناً خائفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق