*عماد الدين موسى
في عملهِ الروائي «أعدائي» (دار ممدوح عدوان- دمشق 2016)، يتصدّى الكاتب السوريّ ممدوح عدوان (1941-2004) لمرحلةٍ تاريخيّة حسّاسةٍ وحرجة، لا في الشرقِ الأوسط والعالم العربيّ فحسب، بل والعالم أجمع؛ تلك الأيّام الأخيرة من عمر الدولة العثمانية بالتزامن مع بدء الحرب العالميّة الأولى، إنّها مرحلة الزلزال الأكبر في تاريخ البشريّة، حيثُ يطرق الكاتب باب التاريخ ذاك؛
ليخرجه من الذاكرة مرة أخرى؛ ويعيده إلى الواقع الراهن بكل تجليّاته؛ تفاصيله وأحداثه، في مقاربة لربطهما معاً، ليجسّده في صورة لحاضر مازال يعاني من الآلام والمآسي التي مرت على هذا المجتمع، وجعلته يعاني من الحروب والدمار لسنوات كثيرة، رسمت خطوطها العريضة في تفاصيل حياة أبنائه الذين ما زالوا يدفعون ثمن تذكرة العبور من ذلك الماضي إلى الحاضر؛ لتكون إرهاصات الماضي عسيرة؛ والولادة أصعب منها.
تتناول الرواية في مجمل سردها سيرة دولة أو كيان مهزوز، ذات جسد متعب، كانت السبب في إلحاق الأذى عبر قرون طويلة على الشعوب التي احتلتها، وخلفت بين ظهرانيها الظلم والاستبداد اللذين كانا السبب في ولادة تلك الدولة وموتها معاً؛ إذ حملت بذور موتها منذ أول لحظة وطأتْ أقدامها الأرض التي احتلها، لتزول بعد تلك القرون مثلما بدأت؛ كجسدٍ، وتبقى آثارها المدمرة في هذه الأرض؛ باعثة على التخلّف والتفرّق والتراجع في كافة الميادين الحياتية للمجتمع.
هكذا كانت الدولة العثمانية بداية ونهاية، هذه الدولة التي تشير إليها الأحداث في الرواية بكلّيتها، بحجم الكارثة التي جعلتها تحلّ غازية ومحتلة للدول العربية التي دفعت ثمن احتلالها لها، إذ استمرت في محاولة فرض السيطرة عليها باشتراكها في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا ضد فرنسا وانجلترا؛ لعلها تتمكّن من النجاح، والحفاظ على آخر خيط يجنبها السقوط والهزيمة في هذه البلاد، لتُظهر الرواية آثار انضمامها إلى تلك الحرب في جميع المجالات، ولتعبّر عن وعي دقيق لدى الروائي/ الراوي ممدوح عدوان وعميق في قدرته على نقل الأحداث التي جرت في تلك المرحلة؛ من خلال الاطّلاع على التاريخ، ووقائعه التي حدثت في تلك المرحلة، وبكل ما فيه من حقائق وتجلّيات؛ ساهمت في خلق راهنٍ يعيش فيه المجتمع معانياً من نتائجها.
الشخصيّتان الرئيسيتان
تركّز الرواية على شخصيّتي عارف إبراهيم؛ قائد شرطة القدس، وجمال باشا السفاح؛ حاكم الدولة العثمانية في سوريا في تلك الفترة، حيثُ لكل منهما خطّ سيرٍ مختلف، وبعد نفسيّ، وطبيعة متناقضة تماماً في أحداث الرواية عن الآخر؛ فعارف إبراهيم كان الشخصية المدركة للوقائع، والمطلعة على مآلات الحدث الذي يجري، وتدبّر لها؛ من خلال التآمر بين أطراف من الدولة العثمانية مع الدول الكبرى في ذلك الوقت، وخاصة انجلترا؛ من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين، ويحاول عبثاً من خلال عمله في الثورة أولاً؛ وبحكم منصبه الوظيفي ثانياً؛ للوقوف في وجه هذا المشروع؛ من أجل ألا يتحقق على أرض الواقع، واستطاعت الدول أن تجعلها حقيقة ماثلة أمام أعين الجميع؛ ليصاب بخيبة أمل كبيرة؛ حيث تذهب كل محاولاته سدىً في سبيل فضح المشروع، ومنعه من التحقق؛ كما ورد في الرواية: فـ"البلد يعج بالجواسيس، ولديه انطباع شبه مؤكد أن الجاسوس مطلق الصلاحية في البلد أكثر من ابن الحكومة، هذا إن لم يكن الجاسوس نفسه ابن حكومة. ولا كان اليهود جديدين عليه. فهو مغتاظ مسبقاً من الامتيازات التي يتمتعون بها. هم يهود يريدون حرية ممارسة طقوسهم وعبادتهم. وهم مزارعون يريدون استصلاح الأراضي. وهم في أعلى مناصب الدولة. وهم محميون بامتيازات فرضتها علينا الدول العظمى، وهم جواسيس للدول كلها. لألمانيا وفرنسا وبريطانيا".
وشخصية جمال باشا السفاح؛ الذي كانت له محاولات كبيرة في فرض السيطرة مجدداً على سوريا، والاستقلال بهذه الولاية؛ بأية وسيلة كانت؛ حتى ولو أدى به الأمر إلى التعاون مع أطراف أخرى؛ هم بالدرجة الأولى أعداء لدولته نفسها؛ الدولة العثمانية، يبين الكاتب طبيعته بقوله: "خائن لحلفائك، خائن للألمان الذين يقدمون دماءهم على هذه الأرض، وأنت تريد أن تفاوض الإنكليز لكي تنقلب علينا، وعلى اسطمبول". ومن أجل أن يبلغ غايته هذه ارتكب الكثير من المجازر والفظائع في حق أبناء هذه الولاية أولاً؛ وكل من نالته قبضته ثانياً، ودفع هذا الأمر به إلى إعدام الكثير من الشخصيات العربية المعروفة في مناهضة حكم الدولة العثمانية؛ وهم شهداء أيار؛ الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل التخلص من سقوط هذه الدولة، وظلمها، نتيجة تبلور الوعي القومي لدى العرب، وتشكيلهم جمعيات مناهضة لها.
اتفاقيّة سايكس بيكو
تتبدد الأحلام العربية كما تظهرها الرواية، وتقع الدول العربية فريسة لتآمر فرنسا وانجلترا؛ بتوقيع اتفاقية سايكس بيكو، وتطبيقهما وعد بلفور، ليصاب عارف ابراهيم بألم نفسي عميق، ولتتعمق المحنة العربية، ويدفع الناس مجدداً ثمن هذه الاتفاقية الكثير من التضحيات للخلاص عبثاً، وتصبح المعاناة متوارثة من الخلف إلى السلف.
وعي كبير بالمرحلة إذاً؛ جاء من خلال رسم الراوي لشخصياتٍ حاولت لعب دورها في تلك المرحلة، وأخرى تآمرت على مستقبل المجتمع، وشعب ضائع يدفع ضريبة تلك الخيانة، وأماكن في الرواية هي بيروت والقدس ودمشق، استطاع الكاتب عدوان أن يجسّدها بصورة متمكنة، أبعدتها عن معضلة الوقوع في فصام مع أحداثها، وتفاصيلها، لتغدو الرواية التي تروي عن الزمان والمكان، ويتداخل فيها الشكل مع المحتوى، والمحتوى مع الشكل؛ في كلّ واحدٍ، لا ينفصلان عن بعضهما.
نقرأ من الرواية:
"والله العظيم نحس كأننا دائخون لا نفهم ما يجري. يا ليتها كانت حرباً صليبية. كنا فهمناها. مسيحيون ضد إسلام. أوروبيون ضد مشرقيين. كانت سهلة. ولكنْ مسلمون وإنكليز وفرنسيون يهاجموننا ومسلمون وألمان يدافعون عنا. عرب في الجيش الإنكليزي وفي جيش الشريف يهاجموننا. وعرب في الجيش العثماني يقاومونهم. خليفة المسلمين في اسطمبول يعلن الجهاد المقدس باسم الإسلام. والشريف حسين، سليل الرسول، يعلن الجهاد ضد العثمانيين الكفرة. حتى اليهود لم نعد نستطيع أن نفهمهم. يهود يتبرعون للجيش العثماني ويدعون إلى التطوع فيه. ويهود يتجسسون لصالح الإنكليز ضد العثمانيين. يهود يحتالون لسرقة الأراضي ويهجّرون سكانها العرب، ليقيموا فوقها مستوطنات تتحول إلى ملاجئ للعرب الهاربين من الأتراك. احكِ. لماذا لا تحكي؟.
*عماد الدين موسى
كاتب من سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق