لعل من أغرب ما يحدث في هذه الحقبة العربية بالذات، ذلك الغياب الملحوظ لابن خلدون، بخاصة لمقدمته الشهيرة التي من المؤكد أن أهم ما فيها في ضوء راهننا المعاصر هو تفسير صاحب المقدمة انهيار الأمم والدول. فإذا كان ثمة من مفكر في تراثنا العربي،
يبدو عمله الفكري كأنه توصيف واقعي لبعض - إن لم يكن لكل - ما يحدث من حولنا ونرصده مشدوهين، لا ريب أن هذا المفكر لن يكون سوى ابن خلدون. وتحديداً في تلك «المقدمة» التي يبدو أننا لن نكون في غنى عنها أبداً. مهما يكن، لا بد أن يكون سؤالنا اليوم هو: هل كانت ثمة حقبة في زمننا العربي المعاصر، غاب فيها ابن خلدون، أو غابت مقدمته و «ابتكاره» لعلم العمران، وحديثه المستفيض عن نشوء الأمم وزوالها؟ هل كان ثمة زمن حديث كان يمكننا فيه أن نفهم ما يحدث، وربما ما سيحدث من دون الاستضاءة بفكر ابن خلدون و «القواعد» العمرانية التي شادها، صفحة صفحة وسطراً سطراً وهو يشعر بالمرارة والأسى على حال الأمة والقوم، جالساً وحيداً، آخر أيامه، في قلعة ابن سلامة، يتأمل بحزن. يفكر، يحلل ويكتب.
طبعاً ليس منطقياً هنا القول إن ابن خلدون كان يتوقع أن يعيش نصّه كل تلك القرون ويعترف به كثر من أصحاب العقول في العالم، واضعينه الى جانب كتابات كونت ودوركهايم وكارل ماركس. ولكن من المنطقي القول إن ابن خلدون كتب نصه كما يكتب الإنسان وصيته الفكرية. فكان نصاً للزمن كله وربما للأقوام كلها، على شاكلة تلك النصوص التي تولد، أصلاً، لتعيش. فهل مهمّ أن يكون مؤسس القواعد الجديدة لعلم العمران وبالتالي علم التاريخ، قد أخفق بعد ذلك حين أراد أن يطبق منهجه العبقري المجدد، على كتابته الفعلية للتاريخ؟ هل مهم ألا يعيش «كتاب العبر» إلا بفضل استثنائية مقدمته؟
كان ابن خلدون يعرف أن «التاريخ صناعة لها أصولها وشروطها وضوابطها»، وأنه «لا يكون علماً صحيحاً إلا إذا كانت رواية الأخبار مطابقة للوقائع». ومن هنا كان واضحاً أنه لم يكن يبحث، أصلاً، عن التاريخ بل عن الوقائع. كان يبحث عن الحقيقة، التي يحجبها، في رأيه «الكذب يقلق أخبار المؤرخين». بيد أن ابن خلدون الذي يهز عصا الحقيقة في وجه الزيف، لا يفوته أن يعدد الأسباب التي تدفع المؤرخين الى الكذب: من ولوع النفس بالغرائب، الى الذهول عن تبدل الأحوال، الى التشيع للآراء والمذاهب، الى الجهل بطبائع الأحوال في العمران مروراً ببعض الأسباب الثانوية مثل الثقة العمياء بالناقلين والجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، والتقرب لأصحاب التجلة والمراتب.
فما الذي يعنيه هذا كله؟ يعني أولاً أن ابن خلدون رجل هدم... لكنه كان يعرف لماذا يهدم. إنه، على شاكلة سقراط لا ينطلق من رغبة في كتابة النص لمجرد كتابته، بل هو يكتب لأنه يتأمل ويرى مكمن الخطأ. يعرف أن الصواب لا يمكن الوصول اليه من دون معرفة الخطأ والزيف والكذب. فابن خلدون كان رجل منهج. رجل قضية... والتاريخ لم يكن سوى وسيلته لرسم المنهج وتبيان القضية. الرجل الجالس في قلعة ابن سلامة، لم يكن ابن زمن عادي، لم يكن باحثاً أكاديمياً كلف بوضع كتاب علمي فوضعه بنزاهة واستقامة. كان بالأحرى مفكراً ينظر الى أحوال أمته فلا يرى إلا تخلفاً وانحطاطاً. وكان يدرك أيضاً - وهنا تكمن بارقة الأمل - أن المفكر وحده يمكن أن يساهم في ردع ذلك الانحطاط وإنقاذ ما تبقى من أمل. وهو كان يعرف أن سبباً رئيساً من أسباب الانحطاط يكمن في عدم فهم الناس تاريخهم في إطار الزيف الذي لُفَّ به التاريخ، فصار مجرد نصوص توضع في خدمة السلاطين تبرر لهم أفعالهم وتجمّلها. وابن خلدون حين اشتغل على إخراج التاريخ من إطار الزيف انما فعل ذلك وعينه وقلبه على أمته: إذ لا ننسينّ هنا أن الزمن الذي كتب فيه ابن خلدون مقدمته كان الزمن الشاهد على بداية عصور الظلمات العربية... ومن هنا لم يكن في إمكان الفكر الخلدوني إلا أن يكون حاداً ومشاكساً. ولأنه كذلك لا يزال يطرح علينا أسئلته حتى اليوم. أسئلته الحارقة حتى اليوم. ويقيناً إن مجرد قدرة مفكر على طرح السؤال، ولو وسط حزن العالم كله، معناه انه لا يزال يرى أن الأمل ممكن... أن الأمل داء لا شفاء منه.
مثلما يفعل كثيرون غيره، يتساءل المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مقدمة واحد من أفضل كتبه، «العصبية والدولة» الذي يحلل فيه «المقدمة» قائلاً: «لماذا ابن خلدون؟ وما عساني أضيف الى الدراسات الخلدونية الكثيرة المتنوعة». وتساؤل الجابري ينبع من كون «المقدمة» قد «قتلت» بحثاً ودرساً. والواقع أن الجابري ليس بعيداً من الصواب، لا في تأكيداته ولا في تساؤلاته، لأن «المقدمة» تكاد تكون الكتاب العربي الذي كتب عنه أكبر عدد من الكتب والبحوث خلال القرن الأخير. ولعل أهم ما في «المقدمة» هو أن أحداً لا ينظر اليها على انها تراث، بل تعتبر دائما كتاباً معاصراً يطرح منهجاً في كتابة التاريخ، سبق به ابن خلدون عصره والعصور التالية له. ولئن كان ثمة في العلوم الإنسانية ما يطلق عليه اليوم اسم «علم العمران»، فإن هذا العلم ليس سوى ذاك المرتبط بابن خلدون ومقدمته. ومع هذا، وضع ابن خلدون كتابه الأشهر عن نهايات القرن الرابع عشر، بمعنى أن أكثر من ستة قرون مرّت على ذلك النصّ، ولم تخرجه من أهميته واستثنائيته.
في مستهل كتابه، لا يفوت ابن خلدون أن يستعرض علم التاريخ كما ظهر في الحضارة الإسلامية من قبله آخذاً على أسلافه من المؤرخين عدم اهتمامهم بتحليل الظواهر التاريخية، وعدم ربط التاريخ بالعمران وبأحوال الشعوب. ومن البديهي أن ينطلق ابن خلدون من ذلك التأكيد ليبني منهجه المضادّ الذي يمكن تلخيصه بأنه ردّ الظواهر الى أسبابها، وابتداع تفسيرات جريئة لقيام الدول وانهيارها، ناهيك بنظرة الى التاريخ تجعل دورته: صعود - ازدهار - هبوط (على النمط الدائري الذي اشتغل عليه ارنولد توينبي طويلاً)، دورة حتمية... حيث إن كل مرحلة تحمل التالية لها وتكون مشبعة بما سبقها. هذا هو الإطار العام للتصور الخلدوني لمنهج كتابة التاريخ، فكر فيه وحلله ورسم أطره، وهو منهار ذهنياً، معزول بعد أن خذلته الظروف وحطمته السياسة ووجد أن كل التزلف والانتهازية اللذين مارسهما في حياته، لم يوصلاه الى ما يريد. ومن هنا ما يراه كثر من أن «المقدمة» هي، في نهاية الأمر، عمل ذاتي، كتبه صاحبه في مرحلة انهيار من حياته وكأنه يريد أن يشبّه صعوده وانهياره بصعود الأمم وانهيارها.
لكن ذاك أخرج عملاً فريداً واستثنائياً، ولا تزال له فرادته حتى اليوم، وأوجد بحثاً في «علم العمران» و «العصبية» و «العمران البشري» و «حركة التاريخ»، و «نظرية الدولة» و «مفهوم الحكم»، لا يزال الى اليوم جديداً ومفيداً... لكن الغريب واللافت في الأمر، هو أن ابن خلدون الذي كتب ذلك السفر، الذي أهم ما فيه انتقاداته المنهجية لأسلافه وتأسيسه لما هو جديد في منهج كتابة التاريخ، استنكف عن تطبيق ذلك كله على نفسه حين شرع وضع «كتاب العبر»، إذ إنه أتى كتاباً تقليدياً يعاني «العوارض» ذاتها التي كان ابن خلدون يأخذها على أسلافه.
ولد ابن خلدون في تونس لأسرة أندلسية ذات أصول حضرموتية. وكانت أولى مراحله الدراسية في تونس ذاتها التي غادرها في عام 754 هـ. متنقلاً في مغامرات سياسية لا تنتهي حتى العام الهجري 776. بعد ذلك اعتزل الناس في قلعة ابن سلامة بالجزائر بين الأعوام 776 و780 هـ. ثم عاش في تونس مدرساً وقاضياً أربع سنوات، توجه بعدذاك الى مصر التي ظل يعيش فيها، مؤلفاً وقاضياً على المذهب المالكي حتى رحيله عن عالمنا في العام 808 هـ. وإضافة الى «المقدمة» و «كتاب العبر»، وضع ابن خلدون كتباً عدة في علم الكلام والتاريخ أهمها «لباب المحصل في أصول الدين»، وكذلك وضع سيرته الذاتية في كتاب عنوانه «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً».
*إبراهيم العريس
عن موقع جريدة الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق