«ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنّة، افرنقعوا عني...». لا شك في أن عدداً كبيراً من طلاب المدارس الثانوية وربما الجامعات أيضاً في عدد من البلدان العربية، ولا سيما مصر، يتذكر هذه الجملة، ليس طبعاً لمكانتها الأدبية أو الجمالية أو الفكرية،
علماً بأنها من المفروض أنها تشكل جزءاً من حوار مسرحي وضع ليُلقى على خشبة المسرح ضمن إطار ترجمة عربية لواحدة من أجمل مسرحيات سيّد الشعراء الإنكليز من دون منازع، ويليام شكسبير، وهي إن لم تخنّا الذاكرة، مسرحية «يوليوس قيصر»، وإنما لغرابتها وربما لكونها تمثل بالتالي أسوأ استخدام للغة العربية على خشبة المسرح، في ترجمة قام بها قلم عربي لعمل مسرحي كبير. كثر من الطلبة يحفظون هذه الجملة متفكهين ساخرين ضاحكين، حتى بعد أن ينسوا اسم من دبجها وفي أية مناسبة اقترفها. ومع ذلك قد يستغرب المرء هنا حين يدرك أن مبتدع هذه الجملة ليس سوى واحد من أعظم شعراء العربية في النصف الأول من القرن العشرين: خليل مطران، شاعر القطرين، الذي حسبنا اليوم أن نتصفح أربعة أجزاء من ديوانه «ديوان الخليل» لنكتشف شعراً بالغ القوة والذكاء والرقة وجزالة اللفظ، ناهيك باحتفائه بالصور الشعرية وبوحدة للقصيدة لم يتمكن من مضاهاتها إلا القليل من مجايليه. فما الذي حدا بخليل مطران الى ولوج ذلك العالم اللغوي البائد والمعقد حين ترجم شكسبير، عن الفرنسية لا عن الإنكليزية؟ ما الذي أغراه بـ «ابتكار» ذلك الحوار المتهافت ولا سيما في مجال نقل واحد من أعظم شعراء البشرية الى واحدة من أجمل وأرقّ اللغات، العربية التي لا بد من التأكيد مرة أخرى هنا، أن مطران كان في زمنه واحداً من أكبر أساطينها والمجددين فيها؟
ليس هنا بالطبع مجال الإجابة عن هذا السؤال، لكننا إنما شئنا بذلك التقديم الذي قد يبدو غريباً، الإشارة الى بعض تناقضات خليل مطران في ازدواجية اهتماماته. فهو من ناحية درس الاقتصاد وألّف فيه، ومن ناحية أخرى تقلد وظائف رسمية وأبدع في الاشتغال المسرحي ترجمة وربما تأليفاً وإدارة. كان شاعراً بالغ الحساسية والحداثة، لكنه عرف كيف ينهل من كلاسيكية اللغة العربية. كان فرنسي الهوى ثقافياً - وترجم فكتور هوغو وكورناي - لكنه شغف بالأدب الإنكليزي. وتبدت في أشعاره ملامح رومانسية حقيقية، لكن أفكاره لم تخل من واقعية اجتماعية، ناهيك بضلوعه في كتابة القصيدة التاريخية الطويلة - ولعل خير نماذجه في هذا المجال قصيدة «بزرجمهر» وبعض الأعمال مثل «شيخ أثينا» و «ملحمة نيرون» تكاد تكون إرهاصاً بكتابة مسرحية حقيقية.
أما بالنسبة الى «ديوان الخليل» الذي بدأ هو بإصدار أجزائه في عام 1908، لكنه لم يكتمل في أربعة أجزاء إلا في عام 1949 بعد رحيل شاعرنا بما لا يقل عن السنة، فكان نقطة الفصل بين الكلاسيكية والحداثة في الشعر العربي. وعنه قال مطران ذاته في أخريات حياته: «هذا شعري وفيه كل شعوري، هو شعر الحياة والحقيقة والخيال، نظمته في مختلف الآونة التي تخليت فيها عن العمل لرزقي، نظمته مصبحاً ممسياً منفرداً ومتحدثاً مع عشرائي، وقيّدت فيه زفراتي وأحلامي، وسجلت بقوافيه أحداث زماني وبيئتي في دقة واستيفاء». بهذه العبارات البسيطة ذات اللغة التي ينبغي هنا مقارنة جزالتها بالجملة «المسرحية الشكسبيرية» التي بها افتتحنا هذا الكلام، عرّف خليل مطران إذاً، ذات يوم، علاقته بالشعر هو الذي كان بالتأكيد واحداً من البنائين المؤسسين للنهضة الشعرية العربية: فخليل مطران، الذي كان يلقب بـ «شاعر القطرين» من جراء انتمائه العربي المزدوج الى لبنان الذي ولد فيه وظل يحن اليه، كما الى مصر التي عاش فيها معظم سنوات حياته، وكتب لها وعنها أروع قصائده واحتضنته بوصفه واحداً من أبنائها المبدعين الكبار، كان في المقام الأول شاعراً، وهو بهذه الصفة تولى رئاسة جمعية «أبولو» التي تأسست في مصر وامتد تأثيرها الى شتى أنحاء العالم العربي وكان واحداً من كبار شعرائها، ولكن أيضاً واحداً من كبار مثقفيها، حيث اشتهر مطران بثقافته الرفيعة واطلاعه الواسع على أحدث الآداب والأشعار الأوروبية، بقدر ما كان مرجعاً لرفاقه في الكلاسيكيات العربية والعالمية. وهذه المزاوجة بين الشعر والثقافة هي في الحقيقة من أبرز ما يطالع المتبحّر في «ديوان الخليل».
في شكل عام، وكما يمكننا أن نكتشف بسهولة في «ديوان الخليل»، كان مطران واحداً من ثلاثة شعراء أمنوا شعر المرحلة الانتقالية بين آخر الكلاسيكيين العرب، محمود سامي البارودي، وبدايات الشعر الحديث كما تجلت لدى جماعة ابولو وجماعة الديوان، ثم لدى تحديثيّي النصف الأخير من القرن العشرين. فإلى جانب أحمد شوقي وحافظ ابراهيم، عرف خليل مطران كيف يخرج القصيدة العربية من سكونيتها واعتمادها وحدة البيت، ليجعل منها قصيدة حية نابضة، تتجلى وحدتها من خلال موضوعها وتعبق بلغة طرية معاصرة يمكن فهمها من دون عناء.
والواقع أن ما ساعد خليل مطران على سلوكه درب التجديد كان كما ألمحنا أعلاه، توغله في الأصالة الشعرية العربية. لكن أيضاً وبخاصة انفتاحه على الثقافة الفرنسية، شعراً ومسرحاً، وهي ثقافة نهل منها وترجم الى لغة الضاد بعض أجمل روائعها، كما ترجم العديد من مسرحيات شكسبير يوم بدأ يهتم بالمسرح في شكل جدي وصولاً الى تسلمه مسؤوليات مسرحية كبيرة في مصر خلال حقبتها الليبرالية العظيمة.
ولد خليل مطران في بعلبك شرقي لبنان التي أمضى فيها أيام صباه، لكنه ما إن بلغ سنوات الشباب وبدأت تلوح ميوله الأدبية ويتجلى لديه اهتمام بالعلم وتوق الى الحرية، حتى وجد نفسه مكبلاً بضواغط الحياة اليومية والعائلية، كما رأى أن حريته لا يمكن لها أن تتحقق في بلد يسيطر عليه عثمانيون كاتمون أي صوت. في ذلك الحين، كانت الحرية تعني للأجيال الجديدة مدينتين: باريس والقاهرة. ولئن كان العديد من مجايلي خليل مطران قد اختاروا إما هذه وإما تلك، فإن مطران انتمى الى قلة عرفت كيف تدبّر أمورها بحيث تعيش حرية باريس ثم حرية مصر تباعاً. وهكذا نجده يرحل الى باريس حيث يتمم دراسته وعلومه ويطلع على شتى أنواع الكتابات الأدبية والمسرحية والشعرية، ما ساهم في تعزيز ملكاته الشعرية الأساسية وتطلعه الى أن يكون مجدداً، لا مقلداً في الشعر.
وهكذا حين ترك باريس بعد ذلك ليتجه الى القاهرة، كانت إمكاناته الأدبية والفكرية قد اتسعت، وثقافته ترسخت وصار متمكناً من اللغة الفرنسية تمكنه من العربية. باختصار، كان قد بات قادراً على تحقيق مشروعه الشعري والفكري العربي... في مصر بالتحديد.
منذ وصوله الى مصر، اتخذها خليل مطران وطناً ثانياً له، وعاش حياتها وقضاياها، هي التي كانت مزدحمة بالقضايا وبآيات النضال، خلال مرحلتها الانتقالية الصاخبة أوائل هذا القرن. وصار خليل مطران من أنصار الحزب الوطني، ومن أشد المعجبين بمصطفى كامل ثم بمحمد فريد من بعده. وراح يكتب قصائد جديدة اللغة، ثائرة المعنى نابضة بالوطنية، يؤرخ فيها لكل ما يستجد في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر. والى جانب قصائده في الحثّ على النهضة العربية، كتب خليل مطران العديد من القصائد في تحية مصطفى كامل، يمكنها أن تشكل في حد ذاتها ديواناً متكاملاً. وإضافة الى هذا، راح يكتب في كل المناسبات قصائد سرعان ما أدركت الأوساط الشعرية مبلغ ما فيها من تجديد لغوي وبنياني، فصار شعر مطران مدرسة في حد ذاتها. وكان الرجل، الى ذلك، يقدم نفسه بكل تواضع وهدوء، ويغوص في التاريخ يستخلص منه دروساً ورموزاً، ويمزج الرسالة بالحكاية ليطلع من كل ذلك بقصائد ذات وحدة وكيان مستقل، الى درجة أن بعض من كتب عنه أشار، بحق، الى مبلغ ما في شعره من مناخ مسرحي. والحال أن علاقة خليل مطران بالمسرح كانت علاقة وثيقة، كما أشرنا، منذ كان في باريس، ومن خلال اطلاعه ثم ترجمته أمهات مسرحيات كورناي وفكتور هوغو وغيرهما. ولئن كان خليل مطران قد نقل، كذلك، شكسبير الى العربية، فإنه نقله عن ترجماته الفرنسية. ومع هذا تظل ترجماته، على رغم تلك الفخامة اللغوية التي قد تبدو مضحكة أحياناً، من أفضل ما تحقق، خلال ذلك الزمن، على الإطلاق. وبسبب كل ذلك النشاط، اعتبر رحيل خليل مطران في عام 1949 خسارة للشعر وللمسرح وللحياة الفكرية العربية في شكل عام.
*إبراهيم العريس
عن موقع جريدة الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق