اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

رواية "ملح السّراب" 1ـ 2 ـ 3 .. بقلم مصطفى الحاج حسين .

رواية ..  "ملح السّراب"
 الفصل الأول

 الحرمان 

تسلّق جدار المدرسة ، قفز إلى باحتها ،

ودخل صفّ ( سامح ) ، من النّافذةِ المكسورة ، وفي

الصّفّ كان بمفرده ، شعر بالفرحة تجتاحه ، جلس

على المقعد ، واضعاً يديه أمامه ، مستنداً على


المسند ، دار على المقاعد ، وجلس الجّلسة ذاتها ،

وجد قطعة ( طباشير ) ، فأسرع نحو السّبورة ، وبدأ

يرسم خطوطاً كثيرةً ، خطوطاً لا معنى لها ، فكثيراً

ما كان يسأل والديه ، عن سبب حرمانه وشقيقته

( مريم ) من المدرسة ، فتأتيه الأجوبة غير مقنعة .

والده يقول :

ـ نحن أسرة فقيرة ، والمدرسة مكلفة ،

وأنا كما تراني .. عاجز عن إشباع بطونكم .

ـ وكيف أدخل عمّي ( قدور ) أولاده

إلى المدرسة ، وهو فقير مثلك ؟!.

ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور ، غداً

ترى ، سوف يضطرّ إلى سحبهم ، حين يعجز

عن دفع النفقات .

ويتابع الأب كلامه ، كأنه يزفّ إليه

بشرى :

ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ ( حمزة ) ،

ليحفّظكَ القرآن الكريم .. وهذا خير بألف

مرّة من المدرسة .

وتحاول أمّه جاهدة ، أن تقنعه لتخفّف عنه

حزنه :

ـ حفظ القرآن عند الشّيخ ( حمزة ) ،

سينفعك في الدّنيا والآخرة ، أمّا المدرسة

فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما .

ومن شدّة تلهفه وإلحاحه ، فقد تقرّر

أخيراً ، ذهابه لعند الشّيخ ، ولقد اجبر أمّه ،

على خياطة صدّارة ، تشبه صدّارة

( سامح ) ، وعطفاً على بكائه المرّ ، اشترى

له أبوه محفظة جلدية ، ودفتراً صغيراً مثل

( سامح ) .

بات ليلته وهو في غاية السّعادة ، لم

يغمض له جفن ، كان يتحسّس صدّارته

التي ارتداها ، ومحفظته بمحتوياتها التي

تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني . أمّا

أحلام اليقظة ، فقد بلغت أوجها في

مخيّلته ، الواسعة الخصوبة :

ـ سأتعلم .. مثل ( سامح ) ،

سأتحدّاه .. وأكتب على الجّدران اسمي ،

واسم ( مريم وسميرة ) وسأكتب بابا وماما

ودادا ، وسأحفظ الأرقام .. وأنا في الأصل

أعرف كتابة الرقم واحد ، تعلمته من

( سامح ) ، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم ،

وأضغط بالقوة ، راسماً خطاً من الأعلى إلى

الأسفل ، وسأرسم قطتي أيضاً ، ودجاجات

جارتنا ، وحمار خالي ، وسيّارة رئيس

المخفر ، التي يخافها الجّميع .. والطّائرة

التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا .. سأرسم

كلّ شيء يخطر لي ، القمر ، الشّمس ،

النّجوم ، والعصافير ، والكلاب ، الأشجار

العالية ..نعم سأفعل كلّ هذا ، لأنّ ( سامح )

ليس أفضل منّي .. فأنا أطول قامة ، وأقوى

منه ، عندما نتعارك .

وشعّت ابتسامته في الظّلام ، تقلّب

في فراشه .. متى سيأتي الصّباح ؟.. هكذا

كان يتساءل .. ثمّ أرسل نظرة إلى

( مريم ) النائمة ، وتحسّر من أجلها ، لقد

بكت طويلاً ، لأنّ والدها لم يشترِ لها

صدّارة ومحفظة ، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر ،

فقد قال لها أبوها ، بعد أن ضربها :

ـ يامقصوفة الرقبة أنتِ بنت .. ما

شأنكِ بالمدرسة ؟!.

سأطلب من شيخي أن يعطيني كتباً

كثيرة ، أكثر من كتب ( سامح وسميرة ) ،

سأقوم بتجليدها ، ولن أسمح لأحد أن

يلمسها ، سوى أختي ( مريم ) ، ف ( سامح

وسميرة ) لا يسمحان لنا بلمس كتبهما ..

في كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة

الجيد ، ولن أكون كسولاً مثل ( سميرة ) ،

وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ ، وسأوزّع

السّكاكر على كلّ اهل الحارة ، ولن أطعم

وَلَدَي عمّي ، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما ،

مثلما فَعَلَا معي ، يوم نجح إلى الصّف

الثاني ، لا فرق بيني وبين ( سامح )

سوى أنّه ينادي معلمه ( أستاذ ) وأنا أناديه ،

كما أوصاني أبي ، سيدي الشيخ .

في الصّباح الباكر ، وعلى صياح

الدِّيَكَة ، قفز ليوقظ أمّه ، وبسرعة غسّل

وجهه ويديه ، سرّح شعره الخرنوبي ، حمل

حقيبته الزّرقاء ، وانطلق رافضاً تناول

الزعتر والشّاي .

دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة ،

الضاربة للبياض ، ربع ليرة أجرة الأسبوع

سلفاً ، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة ، بين

كومة الأولاد ، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ

المسنّ ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ ، حتّى

أمره الشّيخ بالوقوف ، تأمّله بعينيه

الحمراوين ، فارتعش الفتى ، لكنّ الشّيخ لم

يشفق عليه ، بل صرخ :

ـ ما هذا الذي تلبسه ؟.. صدّارة !!.. ما

شاء الله ، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة ؟!.

انهارت أحلامه ، لم يكن يتوقّع مثل

هذه المعاملة ، من الشّيخ ، أراد أن يسأله

عن رفضه الصدّارة والحقيبة ، غير أنّ

الخوف عقل لسانه ، فجلس دامع العينين .

ما أسرع ما ينهال الشّيخ ، على

الأطفال بعصاه الغليظة ، وما أكثر ما يغضب

ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين ، وخلال

أيّام قليلة تعرّض ( رضوان) إلى عدّة

( فلقات ) منه .

وذات يوم .. ضبطه الشّيخ وهو يقتل

ذبابة بيده ، فانهال عليه ضرباً ، غير عابئ

بصرخاته ودموعه ، وأخيراً أصدر أمره الحازم :

ـ التقط الذّبابة .. وضعها في فمكَ ..

وابتلعها .

لم يخطر في باله مثل هذا الأمر ،

بكى .. توسّلَ .. ترجّى .. تضرّع .. سَجَدَ

على قدمَي الشّيخ يقبلهما ، استحلفه بالله

وبالرسول ، فلم يقبل .. تناول الذبابة ..

ووضعها في فمه ، فوجد نفسه يتقيّأ فوق

الحصيرة ، وضجّ الأولاد بالضحك ، بينما

جنّ جنون الشّيخ ، فأخذ يضربه ، ويركله ،

كيفما اتفق ، وبعد أن هدأت ثورته ،

واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام ، أمره

أن يغسل الحصيرة والأرض . ولمّا كان

صنبور الماء قريباً من الباب ، أسرع وفتحه

وأطلق العنان لقدميه المتورمتين .. فأرسل

الشّيخ على الفور ، من يطارده من الأولاد ..

ولكن هيهات أن يلحق به أحد .

في المساء .. عاد والده من عمله ،

تعشّى مع أسرته ، ثمّ أخبرته زوجته ، بأمر

هرب ( رضوان ) من عند الشّيخ ، فعضب

الأب وصفع ابنه ، وأمره أن يذهب معه ، في

الصّباح لعند الشّيخ ، ليعتذر منه ، ويقبّل

يده الطّاهرة .

ـ الولد ابنك .. لكَ لحمهِ ولنا عظمه .

قال الأب للشيخ .

ـ لا عليكَ يا أبا ( رضوان ) . الولد امانة

في رقبتي . قال الشّيخ مكشراً عن اسنانه

المنخورة .

في ذلك اليوم ، لم يضربه الشّيخ ،

واكتفى بتحذيره ، أنذره من الشّيطان الذي

بداخله .

وبعد أيام وقع (رضوان) في ورطة جديدة ،

وكان الوقت ظهراً ، وكان الأولاد محشورينَ

مثل السُّجناء ، في غرفة صغيرة ، لا نافذة

لها ، كانوا يتصبّبونَ عرقاً ، شعر الطّفل

برغبةٍ لا تقاوم في النّوم ، رغبة اشدّ من

قسوةِ الشّيخ ، ولا يدري كيفَ سها ، وعلى

حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ

قدمهِ ، فانتبه مذعوراً ، وقبل أن يسبقه

بكاؤه ، تبوّل في مكانه .. بلّل ثيابه

والحصيرة ، وتعالت الضّحكات من رفاقه ،

وفقد الشّيخ رشده ، فلم يجد ( رضوان )

وسيلة للتخلص سوى بالبكاء ، بكى كثيراً ،

حتى رأف الشّيخ بحاله ، وسمح له

بالإنصراف .

منذ ذلك اليوم ، أطلق عليه الأولاد ،

لقب ( الشخاخ ) .

من أجل هذا ، أخذ يجامل الأولاد ،

ويكسب ودهم ، ولكنهم كانوا أوغاداً ،

ازدادوا استهتاراً به ، وبمحاولاته لكسب

صداقتهم ، وكان الجميع يتشجّعون

وينادونه ( الشخاخ ) ، إلى أن جاء يوم من

أيام الشتاء ، عجز فيه والده ، عن دفع ربع

الليرة ، فطرده الشّيخ ، وكان سعيداً ، لأنه

أصبح حرّاً .. بعيداً عن الشيخ والأولاد .

وجلس ( رضوان ) يترقّب موعد طرد

( سامح وسميرة ) من المدرسة ، لكنّ عمه

لم يعجز حتّى الآن ، عن دفع النفقات ، كما

كان يتوقّع والده ، وذلك أمر كان يحزّ في

قلبه .

صار يتسلق جدران المدرسة ، ليراقب

( سامحاً ) الذي يلعب في الباحة ، مع رفاقه

أثناء الفرصة ، صار همّه الوحيد المراقبة

والانتظار ، لحين انصراف ( سامح ) . وكم

كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من ( سامح ) ،

ليحملها عنه ، متخيّلاً نفسه تلميذاً ، وفي

تلك الأيام ، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من

أحد المعلّمينَ ، ليرمي عليه السلام ، وكم

كان يشعر بالغبطة ، حين يردّ عليه ، ظانّاً أنّه

أحد تلامذته .

وما كان يضايقه .. سوى الآذن ( أبي

لطّوف ) ، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته ،

كلّما رآه متسلّقاً على الجدار ، وكم كان

يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن

أمسكه .. وفي إحدى المرّات ، استطاع

الإمساك به ، كان قد تسلّق الجدار ، وجلس

يطوّح بقدميه ، ينظر إلى التلاميذ ، وبينهم

( سامح ) ، وهم ينفّذون درس الرياضة ..

كان يراقبهم بشغف ، وهم يركضون خلف

الكرة ، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير ..

وفجأة أمسك ( أبو لطّوف ) بقدمه .. وأخذ

يشدّها بقوة ، و ( رضوان ) الذي صعقته

المفاجأة ، يصرخ .. وهو يحاول التملّص ،

غير أنّ ( أبا لطّوف ) تغلّب على الصغير ،

فارتمى بين ساعديه ، حيث قاده إلى غرفة

المدير ، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في

ثيابه .

كان المدير بديناً وأعورَ ، صارماً أشدَّ قسوةً

من الشّيخ ( حمزة ) ، أمره بالجلوس على

الكرسي ، وأمسك الآذن به ، ورفع له

قدميه ، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة ،

ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل ، آلاف

المرّات ، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار ،

حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه ،

ينتحب بغزارة وحرقة ، في حين كانت

( كلابيّته ) تقطر بولاً .

منذ ذلك اليوم ، أقلع ( رضوان )عن

تسلّق الجّدار ، صار يكتفي بالدَّوَران حول

سور المدرسة ، ينتظر ( سامحاً ) ، وكان

يصيخ السّمع ، إلى صوت المعلم ، المتسرّب

من النّافذة ، وهو يهتف :

ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .

فيردّد التلاميذ خلفه :

ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ .

وكان يتناهى إلى سمعه ، صوت

( سامح ) من بين الأصوات ، أو هكذا كان

يتخيّل ، فيشعر بالحسد .. ويتمنّى ذلك

اليوم ، الذي سيعجز عمّه ( قدّور ) عن دفع

النّفقات . في تلك اللحظة فقط ،

سوف يسخر من ( سامح ) ، لأنّ هذا لن

يكون متميّزاً عنه بشيء ، بل على العكس :

ـ ( فأنا أطول منه قامةً .. وأشدّ قوةً ..

واسرع ركضاً .. وكذلك أنا أمهر منه في

قذف الحجارة ، ولا أخاف الاقتراب ، من

الحمير والكلاب .) .

في أحد الأيام ، سقط العمُّ ( قدّور )

عن ( السّقالة ) ، في أثناء عمله في البناء ،

وانكسرت رجله ، فاستبشر خيراً ، ولكن

زوجة عمّه ، سرعان ما خيّبت رجاء

( رضوان ) إذ باعت قرطها وخاتمها

الذهبيّين ، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة

العيش ، وكم كره زوجة عمّه هذه .. بل إنّه

يكرهها من قبل ، لقد رضع كرهها من أمّه ،

التي تطلق عليها .. لقب ( أمُّ عُصٍّ ) ، لأنّها

نحيلةً جدّاً ، في حين كانت أمّه ضخمة

جداً .. وهكذا توالت الأيّام ، وهو يمضي

نهاره ، حول سور المدرسة ، في انتظار

( سامح ) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية ...

فينتهزَ الفرصة ، ويقتحم صفّ

( سامح ) ، ويرسم على السّبّورة خطوطاً

كثيرة ، حتّى انتابته حالة انفعالية ،

غريبة .. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ ..

ولم يخرج من الصّف ، إلّا بعد أن رفعَ

( كلّابيَّتهُ ) ، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم ..

وأمامَ السّبّورَة .

الفصل  الثاني 

استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ ، وقبل أن

أفتح عينيّ النّاعستين ، انهمرت دموع الوجع منهما

، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت ، وقد هالني أن

أبصر أبي ، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً ،

نهضت مسرعاً ، يسبقني صراخي وعويلي ، فأنا لم

أدّر بعد ، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة ؟!.

ـ ساعة .. وأنا أناديكَ .. فلا تردّ ياابن

الكلب !.

أنا أعرف أبي ، إنّه قاسٍ ، بل هو أشدّ قسوة

وفظاعة من الشّيخ ( حمزة ) نفسه ، ومن مدير

المدرسة ( الأعور ) ، فكثيراً ما كان يضربني

وشقيقتي ( مريم ) ، لأتفه الأسباب ، حتّى أمّي ، لم

تكن تسلم من ضربه وشتائمه .

ـ إلى متى ستبقى ( فلتاناً ) مثل الحمار ، لا

عمل .. ولا صنعة ؟!.

شهقتُ بعمقٍ ، تنشَّقتُ مخاطي ، بينما راحت

عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي ، المنهمكة باحضار

الفطور ، عن معنى مايقوله أبي ، قرأت أمي

تساؤلاتي .. فاقتربت منّي :

ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ .. صار عمركَ عشر

سنوات .

وكدّت أصرخ :

ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة ، ولا أحبّ

صنعة العمارة .

غير أنّ نظرات أبي الحادّة ، أرغمتني على الصّمت ،

فبقيت مطرق الرّأس ، أشهق بين اللحظة والأخرى .

قال أبي بقسوة :

ـ تحرّك .. اغسل يديك ووجهك .. وتعالَ تناول

لقمة قبل أن نذهب .

خرجتُ من الغرفة ساخطاً ، شعرتُ بكره نحو

أبي ، وصنعة البناء ، فهي متعبة ، تعرّفتُ عليها ،

عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً ، فأرى ما يعانيه ،

الذين يشتغلون بهذه المهنة .. من تعبٍ .

تبعتني أمّي إلى المطبخ ، وما كدّتُ أسمع وقع

خطاها ، حتى التفتُّ نحوها صارخاً :

ـ أنا لا أريد الشّغل .. في العمارة .

فردّت بصوت يكاد يكون همساً ، بينما كانت تضع

إصبعها على فمها :

ـ لو لايّ .. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل ..

الآن لم يعد يسمع كلامي .

ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار ، وأسطلة

الطّين .

قلتُ بحنق شديد . قالت أمّي :

ـ وماذا أفعل ؟.. أنت تعرف أباكَ .. لا يتناقش .

وقبل أن أردّ على أمّي .. انبعث صوت أبي صارخاً ،

من الغرفة :

ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي ؟!.. تأخّرنا ..

صار الظّهر .

أسرعتُ إليه .. متظاهراً بتجفيف وجهي .. وخلال

دقائق ، ازدردتُ عدٌة لقيمات .

ونهضتُ خلفه ، حزيناً .. يائساً .. بي رغبة

للبكاء ، سرت خلفه ، أراقب حركات ( شرواله)

المهترئ ، وسترته ( الكاكيّة ) الممزٌقة ، تأمّلتُ

( جمدانته ) السّوداء العتيقة .. تمنّيتُ في تلك

اللحظة ، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي ، كلّ شيءٍ فيهِ

كريهٍ ، حتّى شكله ، عمّي ( قدّور ) أجمل من

والدي ، والأهمّ من هذا كلّه ، أنّه لا يرتد ( شروالاً ) ،

ولا يرغم ابنه ( سامح ) ، الذي يكبرني بسن

ونصف ، على عمل لا يحبّه ، لقد أدخله و ( سميرة )

المدرسة ، وهو يشتري لهما الألعاب ، ويعاملهما

بمحبّةٍ ودلالٍ .

كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار ، وأتمنّى

التّملّص من أبي ، وكلّما ازداد تعبي ، أزددتُ حنقاً

عليه ، الشّمس حارقة ، والأحجار ثقيلة ، وسطول

الإسمنت قطّعت أصابعي ،الغبار يخنقني ، والعرق

الدّبق يغسّلني ، وأبي لا يتوقّف عن العمل ، ولا

يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة ، في الظّل .

أفكّر في ( سامح ) ، وكيف سيضحك عليّ ،

إذا علم بقصّة عملي ، إنّه الآن في المدرسة ، بعد

قليلٍ ينصرف ، ينطلق باحثاً عنّي ، لكنّه لن يجدني ،

سيجوب الأزقّة .. يسألُ أمّي وإخوتي .. وسيفرحه

الخبر ، فأنا الآن عامل بِناء ، في ثيابٍ وسخة ،

بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري ، يشاركونه

اللعب .

لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس ، ما أطول

النّهار ، وما أبعد المغيب !.. لن يتسنّى لي أن أرتاح ،

وألعب قليلاً مع ( سامح ) .

اللعنة على الإسمنت والحجارة ، اللعنة على

الغبار الذي أمقته ، أكاد أختنق ، رأسي انصهر من

شدّة الحرّ ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة ، عليّ أن

أستحمّ فور عودتي .

هذا اليوم أقسى أيّام حياتي ، لم يكد أن يأذّن

العصر ، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً ، وجهي

تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة ، محمرّة ، رأسي أشتدّ به

صُداع حادّ ، يدايَ ، قدمايَ ، ظهري ، رقبتي ،

أكتافي ، عينايَ ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل ،

تؤلمني ، وتوجعني ، وتصرخ ، وتبكي ، وتمنّيتُ أن

أموتَ في تلك اللحظة ، أو أتحوّل إلى كلبٍ ، أو

قطّةٍ ، تذهب حيث تشاء ، تستلقي في الظلّ ..

وتغفو . وتساءلت :

ـ يا إلهي .. ألا يتعب أبي ؟!.. هل هو من

حجر ، أم من حديد ؟!.. إذاً لماذا لا يستريح ؟!..

ولو خمس دقائق فقط ، خمس دقائق يا أبي لن

تخرب الدّنيا .. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق ،

وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد .

ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك ، أو بعمّالك ، فأنا

تعبت ، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم ، ولن أقوى

على حمل سطل الإسمنت ، أنا منهار أيّها الأب

القاسي ، هل تسمعني ؟!.. ألا تفهم !.. اعلم إذاً

بأنّني سوف أهرب .. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء ،

هل باعوكَ أنفسهم ، من أجلِ بضعِ ليراتٍ ؟!.

ونمت فكرة الهرب في رأسي ، صارت تتغلغل

إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها ، لكنّني سرعان

ما جفلتُ .. من فكرتي هذه ، وصرتُ أرتجف . غير

أنّ الفكرة الرائعة ، كانت قد سيطرت عليّ تماماً ،

سأهرب .. وهناك في البيت ، سوف تتشفّع لي

أمّي .. سأهرب .. وسأرجو والدي أن يعتقني من

هذه الصنعة ، وكبرت الفكرة في ذهني ، سألجأ إلى

عمّي ( قدّور ) ، أتوسّل إليه أن يساعدني ، في إقناع

أبي ، بالعدول عن قراره ، بالعمل معه ، سأعمل في

أيّ مهنة يشاء ، فقط لو يتركني أنجو من هذه

الصّنعة ، وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة .. وتمكّنت من

الفرار ، دون أن يلحظني أحد ، فقد تظاهرتُ بأنّني

أريد التّبوّل ، ولمّا أدركتُ ، أنّني ابتعدت عن أنظار

والدي وعماله ، أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين .

لم أكن أدري ، أنّ أبي سيترك عمله ، ويتبعني

إلى البيت ، فور اكتشافه أمر هروبي ، فما كدّتُ

أطلب من أمّي ، أن تعدَّ لي لقمة ، ريثما أغتسل

وأغيّر ثيابي ، حتّى اقتحم أبي الدار ، والغضب

يتطاير من وجهه المغبرّ ، هجم عليَّ ، وفي يده

خرطوم ، صارخاً في هياج :

ـ هربت يا ابن الكلبة !.

يبست الكلمة في فمي ، تراجعت ، انبعث

صوتي ضعيفاً باكياً :

ـ تعبت يا أبي .. لم تعد لي قدرة على

الشّغل .

انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم ،

عنيفة ، قويّة ، ملتهبة ، ودونَ أدنى شفقة ، أو

رحمة ، وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات ،

حادّة عالية :

ـ دخيلك يا ( يوب ) ، أبوس رجلك ..

أبوس ( صرمايتك ) .

وأسرعت أمّي نحوي ، ارتمت على أبي بضخامتها ،

وقفت حائلاً بيننا ، فما كان منه ، إلّا أن صفعها بكلّ

قوّة :

ـ ابتعدي .. من أمامي يا بقرة .

تلقّت لسعات الخرطوم ، صارخة :

ـ خير !!!.. يا ( أبو رضوان ) .. ماذا فعل

الولد ؟؟؟.

ـ ابن الكلب ...هرب من الشّغل .

تابع ضربي ، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً ، فكانت

سياطه تقع على جسدها الضّخم ، المترهّل ، بينما

وقفت أختي ( مريم ) في أقصى الزّاوية ، جزعة ،

مرعوبة ، تبكي بصمتٍ ، وترتجف ، تدفّق الدّم من

فمي بغزارة ، فارتمت أمي على قدميه ، ترجوه ،

تتضرّع له ، تتوسّل ، تتذلّل ، تبكي بجنونٍ ، وبحرقةٍ

وألمٍ :

ـ أبوس ( قندرتك ) توقّف ، عن ضربه ، الولد

انتهى .

هجم عليّ من جديد ، رفعَ يدهُ عالياً ، وهوى

بها على رأسي ، فطار الشّرر من عينيَّ ، وصرختُ

صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة ، صاحت

( مريم ) بذعرٍ شديدٍ ، وبينما كنتُ أتدحرج ، ممرّغاً

بدمائي ، شقّت أمّي ثوبها ، اندلق على الفور

نهداها الهائلان ، تناهى إلى أسماعنا ، صوت خبطات

قويّة على الباب .. رمى أبي الخرطوم ، وخرج

ليفتح .

انحنت أمّي تغسلني بدموعها ، ضمّتني إلى

صدرها العاري ، وبكت بحرقة ، وهي تدمدم :

ـ أسفي عليك يا ( رضوان ) ... أسفي عليك يا

ولدي .

دخل عمي ( قدّور ) ، فأسرعت أمّي إليه باكية :

ـ دخيلك .. الولد راح من يدي .

زعقَ أبي .. متهدّج الصّوت .. وكان النّدم قد تسلّل

إلى صوته :

ـ ادخلي .. غرفتك يا مقروفة الرّقبة .. واستري

صدرك .

لكنّها لم تأبه بكلامه :

ـ الولد بحاجة إلى دكتور يا ( قدّور ) *



( الفصل الثالث )


كان " سامح " يتقدّمنا بعدّة أمتار ، حين بدأنا

ندخل متسلّلين إلى" مقطع الزَّاغ " ، ومنذ أن خطونا

إليه ، تسرّبت إلى أجسادنا برودة عفنة ، فشعرنا

بالرّاحة والنّشوة ، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت

خانقة .

اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ ،

ولكنّ إحساساً داخلياً بالإنقباضِ والوحشةِ أخذ

يراودنا .

قبعت الظّلمة في المكان ، غير أنّ الجّدران

الحوّاريّة البيضاء خفّفت منها فبدا المكان أشبه

بكهفٍ مسحور .

صاح 'عثمان " :

- انتبهوا من الجّنّ والعفاريت .

وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات"سعيد الجّدع" ، الذي

ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي ، يشير

إلى خوفه وفزعه .

وعندما سَكَتَت الجّدران عن ترديد صدى الضّخكة ..

قال :

- أنا لا أخاف منها .. ففي رقبتي سلسال مكتوب

عليه (( الله - محمد )) وهو يحميني من

الشّياطين .

قلتُ معلقاً على كلامه ، وقد أخذ الممرّ الضّيق

بالاتّساع والعتمة تتضاعف ، بينما الانحدار نحو

الدّاخل يزداد حدّة :

- لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات

المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.

صرخ "عمر" وكان يمشي خلفنا :

- ياأولاد الحرام ، اتركونا من سيرة الأموات والجّن

وإلّا سأرجع إلى الحارة .

البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا ، لدرجة

أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في عروقنا ، بينما

كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً

منبعثاً من الأعماق يتناهى إلى أسماعنا .

صاح "سامح" أبن عمّي فجأة ، بصوتٍ مليءٍ

بالدّهشةِ والفرح :

- يا جماعة .. أشمُّ رائحة نار .

فأسرعنا نهبط فرحين ، وحقيبة" سامح " المدرسيّة

كانت تتأرجح خلف ظهري ، فقد كنتُ أحبّ دائماً

حملها معي ، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة .

زعقَ "عثمان" :

- رائع عندي سيكارتان " ناعورة " ولا أملك شعلة .

وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف ، يبدو أنّها

في القاع تماماً . فسرقت عيوننا نار متأجّجة يتحلّق

حولها ثلاثة شبّان . إلى جوارهم تناثرت زجاجات

العرق .

انكمشنا في أماكننا جامدين ، بينما تتفرّسنا

أنظار الشّباب بدهشةٍ وبهجةٍ واضحتين .

قال أحدهم ، وكان يدعى" جمعة زقّان " ، بصوت

خرجت بحة المشروب معه :

- تفضلوا ياحلوين .. تعالوا .. لا تخافوا ، لا يوجد

بيننا غريب .. كّلنا أولاد حارة .

بقينا على وقفتنا خائفين ، ودقات قلوبنا تطرق

صاخبة عنيفة .. إنّ " جمعة زقّان " هذا نعرفه

تماماً ، ونعرف شلّته أيضاً ، فكلهم مجرمون ،

يغتصبون الأولاد . وكثيراً ما حذَّرني والدي منهم .

صاح الثاني ، واسمه " حمّود النّازل " ، وهو ذو يد

مقطوعة :

- تعالوا .. دخّنوا واشربوا العرق .

وكرع جرعة من زجاجته ، ثمّ أردف قائلاً :

- "تقبروني ما أحلاكم " .

صرخ الثّالث ، وكان يدعى " لطّوف النّابح " ، وكان له

صوت يشبه نباح كلب ، يخرج من تحت شفته

المشرومة :

- هربتم من المدرسة يا عكاريت ، جئتم وألله بعثكم

لنا ، الحرارة متوتّرة معنا .

قال ذلك ونهض نحونا .

صرخ أحدنا بفزعٍ :

- اهربوا .. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا .

انطلقنا راكضين صوب الخلف ، كان الانحدار

صعباً هذه المرّة ، وليس من صالحنا ، وبدأت

أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا ، ونحن

نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف بشدّة لم نعهدها ،

وأنفاسنا تضيق حتّى كأنّها سوف تتفجّر ، والحقائب

خلف ظهورنا تزيد من توتّرنا وخوفنا بتأرجحها ،

ممّا جعلني أندم على حملها في هذه المرّة ، وخطر

لي أن أرميها لابن عمّي " سامح " ، لكن لا مجال

الآن ، ونحن نهرب مذعورين .

انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي . لقد

سقط " سامح ' ابن عمي في أيديهم ، تفاقم الفزع

فينا ، أسرعنا بكلّ ما نستطيع ، صاعدينَ متوقّعينَ

أن تمتدّ يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا ،

كنت الأخير خلف رفاقي ، وكان صراخ " سامح "

وعويله المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النّهائية

في الصّعود .

أخيراً وصلنا إلى فوّهة " المقطع " ، استدرنا

للخلف ، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نَرَ

أحداً . لقد عادوا ليفترسوا " سامحاً " الذي لم نعد

نسمع له أيّ صوت .

توقفنا على مسافة غير بعيدة ، وصدورنا تعلو

وتهبط مسرعة كخوفنا ، وأجسادنا مغسولة بعرقنا

الحارق ، كصوت " سامح " حين أمسكوا به .

قال " عمر " يخاطبني بصوت متهدّج :

- " رضوان " .. عليكَ أن تخبرَ بيت عمّك حتى ينقذوا

ابنهم .

قاطعه " عثمان " :

- ماذا ؟ .. إذا قمنا بتبليغهم يافهيم فسوف يعلم

أهلنا بهربنا من المدرسة .

قلت وقد بدأ التّعب يزايلني :

- ليس أمامنا وسيلة لانقاذ " سامح " غير تبليغ

عمّي ، وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه .

ضحك " سعيد الجّدع " ( صياد الجرابيع )

وعلّق على كلامي :

- منذ اليوم صار لقب " سامح " ( مفعولاً به)

قهقه " عثمان " حتّى آلمته خاصرته ، وقال:

- لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب .

وتابع قهقهته .

صرخ " عمر " بانزعاج :

- أنتم حقراء .. أولاد كلب ، تضحكون بينما لا نعرف

ماذا جرى " لسامح " .

تخيّلت " جمعة زقّان " صاحب الرأس الكبيرة ،

والأنف الممطوط ، وهو يشمّر " كلابيته " وينزّل "

شرواله " واضعاً سكّينه فوق عنق " سامح " ، بينما

يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت " سامح " .

- أنا ذاهب لإبلاغ " عمّي قدّور " .

قال " عمر " وهو يتبوّل من الرّعبة :

- اذهب بعجلة .. أمّا نحن فسنبقى هنا

لنراقب الوضع ، فربما يأخذون " سامحاً " إلى مكان

آخر .

رميت حقيبة " سامح " من خلف ظهري وانطلقت

كالصاروخ ، منحدراً من قمّة الجبل نحو البلدة .

في غمرة هذه الأحداث ، وهذا الانفعال، كانت

تداهمني موجات من الفرح ، فأنا لا أحبّ " سامحاً "

منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله

المدرسة .

غير أنّني سرعان ما كظمت فرحي هذا ، وعاودتني

حالة الخوف والقلق ، " فسامح " ابن عمّي قبل أيّ

شيء آخر ، وقد هرب من المدرسة لأوّل مرّة

لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق . ثمّ ماذا

سيكون موقفي من أبي وعمّي " قدّور " إن أعترف "

سامح " بأنّي سبب هروبه من المدرسة ؟ .

في الطّريق ، بينما كنت أركض بين الأزقّة ،

وعند المنعطف تماماً ، برز والدي " بشرواله "

وسترته ذات اللون " الكاكي " المعهودة ، توقّفت

في مكاني ، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة .

- هارب من الشّغل " يابندوق " ؟!.

حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي ، ماذا

أقول ؟..هل أخبره بما يحدث " لسامح" ، لم أكن

أتوقّع رؤيته ، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي

عليه .. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي .

- عاقل باابن " القحبة " ، تتظاهر بالمسكنة ، والله

لأريك نجوم الظّهر .

وهوت كفّه، ثقيلة خشنة ، صفعتني بقوّة، تطاير

الشّرر من عينيّ ، ترنّحت ، سقطت ، ركلني ، جاءت

ركلته على خاصرتي ، طارت فردة " الصّرماية "

الحمراء من قدمه ، نهضتُ ، فقذفني بها على

رأسي .

- آخ يا " يوب " التّوبة . وحقّ المصحف ماعدت

أهرب .

- امشِ إلى الدّار ياابن " الجحشة " بدّي ألعن أبوك

على أبو أمك .

سبقته بعدّة خطوات ، خائفاً من ضربة مفاجئة ،

ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من بعد المسافة

عنه ، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق

من أنفي .

سبقني صراخي إلى الدّار ، ففتحت أختي"

مريم " الباب ، واستقبلتني أمّي بوجهها الشّاحب ،

وعينيها الفزعتين ، فتعالى بكائي ، وتضاعف

تأوّهي :

- ياأمّي ... خاصرتي .

وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي ، وقالت تسأله :

- خير إن شاء الله .. ماذا فعل " رضوان " حتّى

تعاقبه ؟.

وأتاها صوته ليرعب " مريم " وتنكمش على نفسها :

- ابن " الصّرماية " هرب من الشّغل .

قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.

- يلعن " أبو الشغل " ستقتل الصبي ، الولد لا يحبّ

صنعة العمارة .

صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي :

- كلامك هذا يشجّعه على الهرب ، عليَّ الحرام

والطّلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً .

توقفتُ عن البكاء برهة ، مددتُ رأسي من وراء أمّي ،

وقلت :

- أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة . أرسلوني لعند

الخيّاط فلا أهرب .

هجم نحوي ، صوّب ركلة إلى مؤخرتي :

- عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب ،

هذه صنعتي وصنعة أبي وأجدادي ، وستعمل بها .

ثمّ تابع قوله الصّارخ :

- تحرّك أمامي إلى الورشة .

صاحت أمّي :

- ألا ترى دمه .. أتركه ليوم غد .

عدّل أبي " جمدانته " فوق رأسه وقال :

- أنا ذاهب للشغل ، وعندما أرجع سيكون لي معك

الحساب .

سحبتني أمّي من يدي ، أدخلتني الغرفة

الشّمالية ، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي ..

وهي تقول:

- ألم أنصحكَ بعدم الهرب ؟.

صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ :

- أنا لا أطيق العمل في العمارة .. لماذا لم تدخلوني

المدرسة مثل " سامح " ؟ .

لم أكد أذكر اسم " سامح " حتّى قفزتُ من

مكاني ، غير عابئ باندهاش أمّي ونداءاتها هي

وأختي " مريم " ، صرختُ وأنا أجتاز عتبة الدّار :

- يجب أن أبلّغ عمّي " قدّور " لينقذ ابنه "

سامح " .. لقد تأخّرتُ .. لقد تأخّرتُ .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل ( الرابع )


الفصل ( الخامس )

كان يوماً فظيعاً ، كادت أمي أن تقتل أبي . لأوّل مرّة

في حياتي أراها تثور عليه .

أعرفها دائماً تتحمّل قسوته وضربه وثوراته،

لكنها فيما يبدو لم تعد تأبه به ، لقد فقدت صوابها ،

هجمت عليه عندما دخل علينا ، وضربته على رأسه

بعصا غليظة ، وهي تصرخ بجنون :

- تزوّجتها ياساقط !!! .. تزوّجت أم " عصّ" ؟!؟! ..

ترنّح أبي ، كاد يسقط ، تلمّس رأسه الملفّع "

بالجمدانة " ، سال الدّم فوق جبينه ، فنزع "

الجمدانة " ، صارخاً بغضب :

- أتضربينني يابنت الكلب !!! .. قسماً بالله لأخنقنكِ .

انطلق صوت أمّي على غير عادته ، قوياً كأنّه

نسي خنوعه ، وهي ما تزال ممسكة العصا بيدها ،

تقف متحّدّية متأهبة للعراك :

- أنا التي سأقتلك ، وأقتل أمّ " عصّ " الفاجرة ، ماإن

قتل زوجها حتّى خطفتك منّي !! .

صاح أبي وفي صوته شيء من الليونة :

- ماتزوّجتها إلاّ من أجل أولادها .. أولاد أخي ،

صاروا أمانة في رقبتي .

لكنّ أمي لم ينطل عليها هذا القول ، إنّها تكره "

نجوى " زوجة عمّي المرحوم ، فكيف تتقبّل فكرة

أن تصبح ضرتها ؟! .

زعقت بوجهه المدمّى :

- أمن أجل أولادها تزوّجتها ياحبّة عيني ، أم من

أجل " عصّها " ؟!! .. ألا تخجل من شيبك !!! .. أما

كفاك أن تبيع دم أخيك ، أتأكل زوجته وداره ؟!.

كان التّفاهم مع أمّي ، في تلك اللحظة مستحيلاً ،

لذا فقد خطا والدي نحو الباب ، ويده تمسح دمه

السّائل " بجمدانته " ، في حين كان يزعق ، وهو

يغادر الدار :

- نعم تزوّجتها ، وهي أفضل منكِ يابقرة ، فافعلي

ماتشائين .

وخرج أبي كالمهزوم ، غير عابئ بصياح أمّي

خلفه :

- رايح لعندها ياقليل الناموس !!؟ .. صار عندك

داران !.

ثم التفتت نحوي ، كنتُ واقفاً مع أختي

( مريم ) وأخوتي الصّغار ، نرقب ما يجري بخوفٍ

ودهشةٍ وحزن .

وبنظرة ملتاعةٍ منكسرة ، أمرتنا أمّي بالدّخول

إلى الغرفة الشّمالية .

مصطفى الحاج حسين .

يتبعها الفصل ( السادس )
مصطفى الحاج حسين 

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...