⏪⏬
إنها حقا ليلة رائعة لنبدأ فيها ما كنت أفكر فيه لوقت طويل وما كان يخططه عقلي ،
يُخيل لي أن السماء الآن قد ختمت راضية عن فعلتي ، فالسحب المتراكمة كحشد الجماهير تنتظر المباراة ، تنتظر حدثا صخبا ، نعم
إنها الليلة فقلبي يعلم ، ونبضاته الثائرة تعلم أيضا ، إنه بمثابة سر كبير أعلن في تلك الساعة عن نفسه ، كعروس تعلن عن رغبات الجسد ساعة الزفاف ، و كملك يعلن عن سلطانه حين يُضع التاج على رأسه فتقف شعيراتها مُعلنة عن المجد وترتفع حاجباه في كبرياء لا يبالي باخر ولن يبالي ..
بشرتي الآن مسماتها ترتعش ، قد جاءت من بعيد ساعتي والآن قد اقتربت حتي صرت استنشق أنفاسها وكأنها تتنفس خوفي ، هزعي واضطرابي الداخلي و شكواهما ، تتغذي على كلي . فلم يعد لي من كل ، انا الآن هائم بالروح أما جسدي ف مُنقاد للبعيد ، للبعيد جدا ، نحو شيء مخيف رهيب ..
كانت أمي دائما التحذير لي ، ابتعد عنه ، إنه ذلك الهلاك المُغلف حتي تظنه حلوى و هو المر بعينه ، " إنه الخداع يا بني " الوهم الذي يروج له من يداهم ليست في النار ، الأغنياء ، الساسة ، ومن يتفلسفون علينا ليحصلون عن مجد ذاتي ، ونحن الفقراء من نشتريه ، اتعلم لماذا ؟ لأن كل ما هو هلاك هو بلا ثمن ! ،
كانت تحذرني منه من الآنبطاح له ، وكأنها رغبة شهوانية حقيرة تفتك بالقيمة وربما بالحياة نفسها ، ولكني كنت أسألها لماذا اشتهيه ؟ ولماذا نفسي تحلق له ؟ في كل مرة اجلس مع نفسي ، اجد ضوابطي تسقط ، وسقف ما هو أعلاي يترنح ، أما عرشهم فيسقط أمامي دون هوادة ، فأجده إما لي ساجدا أو متخفيا عن عيني بالخجل ..
هي دوما كثيرة الأحكام دون داعي ، تقول على شهوتي شر محض ، وأنها شهوة إبليس التي اسقطته من حيث ارتفع ، ولكن لذة هذا الشيء تجعلني لا اسمعها ، تجعل أذناي كالأجنحة التي تطير فحسب لتلتقط همسات سماوية ، وأصوات تكسير الحواجز ، وتهشيم الحدود ، ولعن الزوايا الميتة التي اعمتنا عن الرؤية ..
إنها ليلتي ، تلك التي اثبت بها لوالدتي إني على حق ، وأن ما من شيء يقدر أن يمنعني ، وان ما من شيء أكثر لذة من أن نتلاشى في الفضاء كأشلاء لوحات فنية ممزقة، وأن الحدود ما هي إلا أوهام تعبث بعقولنا فتطيح بنا أرضا ، وأن تلك الأوهام هي التي تسقطنا من حيث ارتفعنا لا العكس .
هاتفت صديقي كي يأتي ، كان ينتظر مني أن تأتي ساعتي ، وها الآن قد أتت فماذا انتظر ؟
صديقي جاف بعض الشيء حين يتحدث تجده ناظرا لأسف وكأنه يتجاهلك ، ربما خجول ولكنه حاد أيضا ، حين يقرر شيئا فهو يفعله ، لقد قرر أن يساعدني في التجربة ، كان يتفق معي في معظم ما قلته ، وهو حين يتفق تجده يهز رأسه بجمود ملامحه الشاحبة ، ووجهه الأصفر وكأن الشمس قد ضربت وجهه بالصواعق حين وُلد أول مرة منذ الأزل ،
كان أملسا ناعما ، ذو شعر خشن ، وكأنه يناصف بين القُبح و الجمال ، العذوبة و القسوة ، كخداع الأيام كان يخدعنا ، يعطينا ثم يأخذ ، بعين سوداء و أخرى بيضاء تظنها لا تعمل ولكنها تُبصر سرا ..
جاء لي هاديا كبرودة الثلج مُحدقا في عيني راسما بعض الابتسام على شفتين حمراوتين يجري فيهما دماء عذراوات ، تصافحنا ، فشعرت بيديه وكأنها تأكل يداي ، رعشة ما تملكت جسدي واستحوذت عليه ، التفت إلي بؤبؤ عينيه فوجدته ناظرا وكأنه يعلم بأمر جسدي ، ولكنني عدت إلى طبيعتي مجددا ..
ذهبنا إلى سيارته حيث بداية الرحلة ، رحلة الوجود من البداية إلى النهاية ، من الخلق إلى التناثر في العدم ، و الخروج كالدخان ، جلس كل واحد منت في مقعده ، كنت أنا السائق وهو ضيفي ، وربما كان هو السائق الحقيقي ، ولكني تظاهرت بأني أقود !
شعرت بمن يتحكم حقا ، جميلة تلك المشاعر ، القيادة السيطرة .. بلاهة السلطة و كل تلك الأمور الأخرى التي تجعل أنانية الآنسان و حماقاته تنتشي بأهازيج كاملة الدسم ! ،
وانا الآن انتشي ك أحمق سعيد ، يتطاير شعر رأسي مع الهواء ، وتترنح مشاعري وتهتز مع الشفق ، وخطوط وجهي تتبدل بسرعة كخريطة تتغير معالمها ، وكأن حدثا ما يحدث ، وكأن كل شيء يأخذ صورا جديدة ، ثم يعود كل شيء كما كان و هكذا دواليك ..
انطلقنا بالسيارة ، وكأن الهواء يحملنا لا الأرض ، نسيت الأرض تماما ، فأنا لستُ من هنا ، صديقي أيضا مسرور ، وكأن حالنا واحدا ، أظنه من خارج الأرض ، هيئته ليست أرضية على كل حال ، أما أنا فمشكوك بي !
اظنني اسمع الساعة وعقاربها تدق في رأسي ، نظرت له فوجدته كأنه ساعة حائط كبيرة وعقاربها كعقارب حية تُخرج لي لسانها ، ففُزعت فزعا شديدا مما جعلني اقف بالسيارة ، أغمضت عيناي و اشرقتهما من جديد لأجده جالسا لا يهتم كعادته وكل شيء عاديا كالعادة ،
انطلقت من جديد بسرعة أكبر تلك المرة ، لا أريد قيودا ، فالعقارب تلك كأنها تقول لي أنني لا استطيع ان أمضي ، لا استطيع أن انتزع ما أريد ، تسخر من عجزي ، ولكنني لست بعاجز ، ساُثبت لها أني قادر على ما أنا ماضي فيه ، سأحرق البنزين كله حتي لا احترق أنا ، حتي لا يحترق وجودي قهرا ..
انطلقت بأقصى سرعة ممكنة ، بسرعة تفوق الملائكة في إرسال الوحي ، بسرعة تعدت سرعة ملك الموت في انتزاعه للأرواح المُعذبة ، تلك السرعة التي فاقت انطفاء أنوار الوعي بطلقات دبابات الحروب ، مضيت بسرعة وكأني أسرع من الضوء ، اسرع حتي من الظلام إن كان له من سرعة ، نظرت علي يساري لاجد صديقي ، فوجدت فتاة علي الكرسي صغيرة كالاطفال مرتدية فسان أبيض يبدو جديدا ولكنه واسعا عليها ، فستان عروس بالغة أما هي فطلفة !، وجدتها رافعة عيناها لأعلي ربما ماتت وربما تستغيث بالسقف ، وربما لا تطيق النظر لما حولها ..
كانت عيونها كنفس عيون صديقي ، سوداء إحداها وأخري بيضاء ولكن تلك المرة عين لا تعمل حقا ! فهل تعرف عين الأطفال الأسرار ؟ كلا إنها لا تجيد سوي الاتكشاف .. كعاهرة تجيد الكشف لما بين ساقيها ، كانت تلك الفتاة الصغيرة تكشف عن المعاناة بتنهيدة صغيرة ،
و انا مُلتفت وقد اخذت الفتاة كل انتباهي وذُعري ، إذ بي اسمع في نفس تلك اللحظات صوت ارتطام السيارة بجسد ما ، فازداد ذعري وفتحت فمي حتى ظهر صرير أسناني ، نزلت من سيارتي ، و شاهدتها ، شاهدت نفس المشهد نفس الفتاة بفستانها الأبيض و عيناها المفتوحتان لأعلي وكأنهما يستسلمان للمجهول ، عين أصابها الأبيض ، وعين تُعلن الحداد بالأسود ،
ربااه.. ماذا فعلت ؟ هل هذه هي شهوتي ؟ القتل وانتزاع الأرواح ؟
مهيب ذلك الموقف ، حين تشعر بأنك الوحيد في الساحة ، قائد الحرب الذي يمشي بدبابته على الجثث غير مُباليا ، ولكن لماذا أبالي الآن ، لقد وعدته ألا أبالي كي يساعدني ، ذهبت إلي السيارة مجددا ورأيته وكأن الغضب يلتهمه من جراء فعلتي ، وكأنه يقول الاهتمام غير مسموح في اللعبة ،
انطلقنا من حيث توقفنا إلي حيث المجهول ، وتلك المرة قررت ألا أبالي مهما حدث ، مهما كانت الأوراق المطروحة ، ومهما كان انتماء الأشلاء الممزقة ، انا الآن أحاكي الوجود ، العبثية أنا ذراعها الأيمن ، وقلبي هو الفوضي بعينها ، انا الآن الحرية ! الحرية كلها ، ذلك الشيء الذي اصابتني شهوته فطغت علي كل الشهوات ، تلك النزعة التي صارت تلتهمني انا الآن التهمها بكل معانيها وأسرارها ، اعبث في ملعبها والعب مباراتي ،
وكأن السيارة قد أخذت صورة مركبة فضائية ، اشعر بها تطير بنا ، نحن الآن في السماء السادسة على بعد واحدة منها !
صارت ضحكاتي تتعالي كشيطان مُنتصر ، دمائي تتجمد في عروقها ، فالخضراء صارت الآن زرقاء كلونها و لون الموج ، كانت السيارة تنطلق وحدها ، اما يداي فقد ارتفعت لفوق كالأجنحة التي لا تعبأ بالأسفل ، حتي ارتطمت السيارة مجددا و تلك المرة لم ار سوى حجابا متطايرا وكأن خضرته تتطاير معه ، وقع لونه اضطرابا داخلي ، اضطرابا لم أفهمه حقا ، وكأنني أعرفه جيدا ، ولكني قد وعدته ألا أبالي مهما تكلف الأمر ، ومهما كان انتماء من يسقط !
انطلقت و لكن كان الحجاب يتطاير بجانبي ، يلامس وجهي ، وكأن صديقي يرتديه ، إنه الوهم أعلم ولكنه وهم مؤلم حقا ، ثمة رائحة أيضا تداعب أنفي ، رائحة مألوفة لي جدا
شعرت برهبة ما تغتالني ، حقا مرعب الأمر ، ولكنها اللعبة ، لا مهرب منها ، و لا مهرب من النهاية أيضا .
كل الضوء قد ذهب ، لم يبق نور في السماء إلا وانتهي ، التفت لصديقي ، فهز رأسه مبتسما ، وكأنه يقول : لقد اتممت اللعبة على نحو جيد ، نظرت بجانبي فوجدتنا عند البيت و الظلام يخيم عليه ، فثمة سحابة مظلمة في أعلاه ، امتلأ قلبي رعبا ، نظر لي وكأنه يقول حان وقت المغادرة ، نزلت من السيارة ، وأشار لي بالذهاب وحدي ، قدماي يرتجفان حقا لا استطيع السير ، كنت أسقط ومن ثم اعاود النهوض مجددا ، دخلت البيت أخيرا وكان الظلام والحزن يخيمان عليه ، السكون المدوي ذو الأثر الكئيب على النفس يتصاعد كدخان ضبابي من حولي ، صعدت السلالم لغرفة نومي فاصطدمت بأمي وهي تقول لي : زوجتك وابنتك تأخرا كثيرا ، لقد غادرا البيت هذا الصباح ليشتروا فستان زفافها ولم يأتوا حتي الآن
زوجتي وابنتي ؟ ليس لي زوجة او ابنة ، حينها استنشقت رائحتها كمن يستنشق رائحة جريمته ، ورأيت حجابها الأخضر في عقلي الذي كان يداعب مسامي ، ولكنني لا اتذكرها ، ولا اتذكر انه لي ابنه ايضا ، ما هذا الهراء ؟ اشعر بهما ولكنهما خارج الذاكرة !
، امسكت رأسي ، شعرت بصداع مرير ، هبطت من السلالم وسقطت ، ولكني عاودت النهوض بقلب مخطوف ، خرجت حيث كانت سيارته موجودة ، لم أجده ، أين ذهب ؟ هو من قلتلهما ، يجب أن اجده واقتله ، يجب ان أنادي عليه ، ولكني لا أعرف اسمه حتى ..
لقد كان الظلام في عيني ، لم اعد أبصر شيئا ، ولكني ظللت اجري ، خلف أي شيء اسمع له صوتا ، حتى رأيت نورا يأتي من مصدر ما ، تأملت أمامي فوجدته يأتي من مصابيح سيارة ، ربما هي وقفت مكاني مرعوبا ، وكان الضوء يختفي ثم يأتي ، أعلم أنه يلعب بأعصابي هذا اللعين ،
اقتربت من السيارة اكثر فأكثر حتي اصبحت اسمع صوت أنفاسه ،هو يلهث مثلي لا أعلم لماذا !
أضاء مصابيح السيارة في عيني حتي لم اعد قادرا علي الابصار وضعت يداي علي عيني فسمعت صوت سيارته يعمل ، لقد ضغط علي دواسة البنزين بقوة ، فوجدت نفسي عاجزا عن تحريك أي عضو في جسدي ، وكأنني استسلم بغير إرادتي ! وقفت كمن ينتظر النهاية بيد ترتجف و قلب ثابت ، غير أن ثباته هو استسلام مجهول السبب ، ولكني أدركت أنها شروط اللعبة ، أعني اللا مبالاة طبعا ، يجب ألا أبالي ، وادركت حينها ايضا انها لعنة وليست لعبة ، ولكنها نفس الشيء ، حين تنتزع ما تريد ، عليك أن يُنتزع منك ما يريدون هم ، وأن تلك هي الحرية !
إنها بكل تلك البساطة ، العدل أو اللعنة ، أيهما أقرب ؟ ،
لقد انطلق بكل قوته ، بالسيارة ، او تلك المركبة الفضائية الصغيرة .. حتي وصلنا المحطة الأخيرة ، السماء السابعة ها هي تسقط علي جسدي ، فاصبح هو كلُها ! .
استيقظت أخيرا من النوم بعد ان غرقت في العرق وجسدي مازال ينتفض .. يا إلهي لقد كان كابوسا مزعجا حقا
ما هذا ؟ الحجاب الأخضر ! ، حجابها رأيته فوق صدري ملطخا بقطرات دمي الذي ينزف ، ورائحته النفاذة تقتحم أنفي، وصدى تنهيدة الصغيرة يداعي حلقي
حتى سمعت صوتها يصرخ ، صوت والدتي على الباب وهي تقول : زوجتك وابنتك تأخرا كثيرا ، لقد غادرا البيت هذا الصباح ليشتروا فستان زفافها ولم يأتوا حتي الآن !
-
*علياء يسري
إنها حقا ليلة رائعة لنبدأ فيها ما كنت أفكر فيه لوقت طويل وما كان يخططه عقلي ،
يُخيل لي أن السماء الآن قد ختمت راضية عن فعلتي ، فالسحب المتراكمة كحشد الجماهير تنتظر المباراة ، تنتظر حدثا صخبا ، نعم
إنها الليلة فقلبي يعلم ، ونبضاته الثائرة تعلم أيضا ، إنه بمثابة سر كبير أعلن في تلك الساعة عن نفسه ، كعروس تعلن عن رغبات الجسد ساعة الزفاف ، و كملك يعلن عن سلطانه حين يُضع التاج على رأسه فتقف شعيراتها مُعلنة عن المجد وترتفع حاجباه في كبرياء لا يبالي باخر ولن يبالي ..
بشرتي الآن مسماتها ترتعش ، قد جاءت من بعيد ساعتي والآن قد اقتربت حتي صرت استنشق أنفاسها وكأنها تتنفس خوفي ، هزعي واضطرابي الداخلي و شكواهما ، تتغذي على كلي . فلم يعد لي من كل ، انا الآن هائم بالروح أما جسدي ف مُنقاد للبعيد ، للبعيد جدا ، نحو شيء مخيف رهيب ..
كانت أمي دائما التحذير لي ، ابتعد عنه ، إنه ذلك الهلاك المُغلف حتي تظنه حلوى و هو المر بعينه ، " إنه الخداع يا بني " الوهم الذي يروج له من يداهم ليست في النار ، الأغنياء ، الساسة ، ومن يتفلسفون علينا ليحصلون عن مجد ذاتي ، ونحن الفقراء من نشتريه ، اتعلم لماذا ؟ لأن كل ما هو هلاك هو بلا ثمن ! ،
كانت تحذرني منه من الآنبطاح له ، وكأنها رغبة شهوانية حقيرة تفتك بالقيمة وربما بالحياة نفسها ، ولكني كنت أسألها لماذا اشتهيه ؟ ولماذا نفسي تحلق له ؟ في كل مرة اجلس مع نفسي ، اجد ضوابطي تسقط ، وسقف ما هو أعلاي يترنح ، أما عرشهم فيسقط أمامي دون هوادة ، فأجده إما لي ساجدا أو متخفيا عن عيني بالخجل ..
هي دوما كثيرة الأحكام دون داعي ، تقول على شهوتي شر محض ، وأنها شهوة إبليس التي اسقطته من حيث ارتفع ، ولكن لذة هذا الشيء تجعلني لا اسمعها ، تجعل أذناي كالأجنحة التي تطير فحسب لتلتقط همسات سماوية ، وأصوات تكسير الحواجز ، وتهشيم الحدود ، ولعن الزوايا الميتة التي اعمتنا عن الرؤية ..
إنها ليلتي ، تلك التي اثبت بها لوالدتي إني على حق ، وأن ما من شيء يقدر أن يمنعني ، وان ما من شيء أكثر لذة من أن نتلاشى في الفضاء كأشلاء لوحات فنية ممزقة، وأن الحدود ما هي إلا أوهام تعبث بعقولنا فتطيح بنا أرضا ، وأن تلك الأوهام هي التي تسقطنا من حيث ارتفعنا لا العكس .
هاتفت صديقي كي يأتي ، كان ينتظر مني أن تأتي ساعتي ، وها الآن قد أتت فماذا انتظر ؟
صديقي جاف بعض الشيء حين يتحدث تجده ناظرا لأسف وكأنه يتجاهلك ، ربما خجول ولكنه حاد أيضا ، حين يقرر شيئا فهو يفعله ، لقد قرر أن يساعدني في التجربة ، كان يتفق معي في معظم ما قلته ، وهو حين يتفق تجده يهز رأسه بجمود ملامحه الشاحبة ، ووجهه الأصفر وكأن الشمس قد ضربت وجهه بالصواعق حين وُلد أول مرة منذ الأزل ،
كان أملسا ناعما ، ذو شعر خشن ، وكأنه يناصف بين القُبح و الجمال ، العذوبة و القسوة ، كخداع الأيام كان يخدعنا ، يعطينا ثم يأخذ ، بعين سوداء و أخرى بيضاء تظنها لا تعمل ولكنها تُبصر سرا ..
جاء لي هاديا كبرودة الثلج مُحدقا في عيني راسما بعض الابتسام على شفتين حمراوتين يجري فيهما دماء عذراوات ، تصافحنا ، فشعرت بيديه وكأنها تأكل يداي ، رعشة ما تملكت جسدي واستحوذت عليه ، التفت إلي بؤبؤ عينيه فوجدته ناظرا وكأنه يعلم بأمر جسدي ، ولكنني عدت إلى طبيعتي مجددا ..
ذهبنا إلى سيارته حيث بداية الرحلة ، رحلة الوجود من البداية إلى النهاية ، من الخلق إلى التناثر في العدم ، و الخروج كالدخان ، جلس كل واحد منت في مقعده ، كنت أنا السائق وهو ضيفي ، وربما كان هو السائق الحقيقي ، ولكني تظاهرت بأني أقود !
شعرت بمن يتحكم حقا ، جميلة تلك المشاعر ، القيادة السيطرة .. بلاهة السلطة و كل تلك الأمور الأخرى التي تجعل أنانية الآنسان و حماقاته تنتشي بأهازيج كاملة الدسم ! ،
وانا الآن انتشي ك أحمق سعيد ، يتطاير شعر رأسي مع الهواء ، وتترنح مشاعري وتهتز مع الشفق ، وخطوط وجهي تتبدل بسرعة كخريطة تتغير معالمها ، وكأن حدثا ما يحدث ، وكأن كل شيء يأخذ صورا جديدة ، ثم يعود كل شيء كما كان و هكذا دواليك ..
انطلقنا بالسيارة ، وكأن الهواء يحملنا لا الأرض ، نسيت الأرض تماما ، فأنا لستُ من هنا ، صديقي أيضا مسرور ، وكأن حالنا واحدا ، أظنه من خارج الأرض ، هيئته ليست أرضية على كل حال ، أما أنا فمشكوك بي !
اظنني اسمع الساعة وعقاربها تدق في رأسي ، نظرت له فوجدته كأنه ساعة حائط كبيرة وعقاربها كعقارب حية تُخرج لي لسانها ، ففُزعت فزعا شديدا مما جعلني اقف بالسيارة ، أغمضت عيناي و اشرقتهما من جديد لأجده جالسا لا يهتم كعادته وكل شيء عاديا كالعادة ،
انطلقت من جديد بسرعة أكبر تلك المرة ، لا أريد قيودا ، فالعقارب تلك كأنها تقول لي أنني لا استطيع ان أمضي ، لا استطيع أن انتزع ما أريد ، تسخر من عجزي ، ولكنني لست بعاجز ، ساُثبت لها أني قادر على ما أنا ماضي فيه ، سأحرق البنزين كله حتي لا احترق أنا ، حتي لا يحترق وجودي قهرا ..
انطلقت بأقصى سرعة ممكنة ، بسرعة تفوق الملائكة في إرسال الوحي ، بسرعة تعدت سرعة ملك الموت في انتزاعه للأرواح المُعذبة ، تلك السرعة التي فاقت انطفاء أنوار الوعي بطلقات دبابات الحروب ، مضيت بسرعة وكأني أسرع من الضوء ، اسرع حتي من الظلام إن كان له من سرعة ، نظرت علي يساري لاجد صديقي ، فوجدت فتاة علي الكرسي صغيرة كالاطفال مرتدية فسان أبيض يبدو جديدا ولكنه واسعا عليها ، فستان عروس بالغة أما هي فطلفة !، وجدتها رافعة عيناها لأعلي ربما ماتت وربما تستغيث بالسقف ، وربما لا تطيق النظر لما حولها ..
كانت عيونها كنفس عيون صديقي ، سوداء إحداها وأخري بيضاء ولكن تلك المرة عين لا تعمل حقا ! فهل تعرف عين الأطفال الأسرار ؟ كلا إنها لا تجيد سوي الاتكشاف .. كعاهرة تجيد الكشف لما بين ساقيها ، كانت تلك الفتاة الصغيرة تكشف عن المعاناة بتنهيدة صغيرة ،
و انا مُلتفت وقد اخذت الفتاة كل انتباهي وذُعري ، إذ بي اسمع في نفس تلك اللحظات صوت ارتطام السيارة بجسد ما ، فازداد ذعري وفتحت فمي حتى ظهر صرير أسناني ، نزلت من سيارتي ، و شاهدتها ، شاهدت نفس المشهد نفس الفتاة بفستانها الأبيض و عيناها المفتوحتان لأعلي وكأنهما يستسلمان للمجهول ، عين أصابها الأبيض ، وعين تُعلن الحداد بالأسود ،
ربااه.. ماذا فعلت ؟ هل هذه هي شهوتي ؟ القتل وانتزاع الأرواح ؟
مهيب ذلك الموقف ، حين تشعر بأنك الوحيد في الساحة ، قائد الحرب الذي يمشي بدبابته على الجثث غير مُباليا ، ولكن لماذا أبالي الآن ، لقد وعدته ألا أبالي كي يساعدني ، ذهبت إلي السيارة مجددا ورأيته وكأن الغضب يلتهمه من جراء فعلتي ، وكأنه يقول الاهتمام غير مسموح في اللعبة ،
انطلقنا من حيث توقفنا إلي حيث المجهول ، وتلك المرة قررت ألا أبالي مهما حدث ، مهما كانت الأوراق المطروحة ، ومهما كان انتماء الأشلاء الممزقة ، انا الآن أحاكي الوجود ، العبثية أنا ذراعها الأيمن ، وقلبي هو الفوضي بعينها ، انا الآن الحرية ! الحرية كلها ، ذلك الشيء الذي اصابتني شهوته فطغت علي كل الشهوات ، تلك النزعة التي صارت تلتهمني انا الآن التهمها بكل معانيها وأسرارها ، اعبث في ملعبها والعب مباراتي ،
وكأن السيارة قد أخذت صورة مركبة فضائية ، اشعر بها تطير بنا ، نحن الآن في السماء السادسة على بعد واحدة منها !
صارت ضحكاتي تتعالي كشيطان مُنتصر ، دمائي تتجمد في عروقها ، فالخضراء صارت الآن زرقاء كلونها و لون الموج ، كانت السيارة تنطلق وحدها ، اما يداي فقد ارتفعت لفوق كالأجنحة التي لا تعبأ بالأسفل ، حتي ارتطمت السيارة مجددا و تلك المرة لم ار سوى حجابا متطايرا وكأن خضرته تتطاير معه ، وقع لونه اضطرابا داخلي ، اضطرابا لم أفهمه حقا ، وكأنني أعرفه جيدا ، ولكني قد وعدته ألا أبالي مهما تكلف الأمر ، ومهما كان انتماء من يسقط !
انطلقت و لكن كان الحجاب يتطاير بجانبي ، يلامس وجهي ، وكأن صديقي يرتديه ، إنه الوهم أعلم ولكنه وهم مؤلم حقا ، ثمة رائحة أيضا تداعب أنفي ، رائحة مألوفة لي جدا
شعرت برهبة ما تغتالني ، حقا مرعب الأمر ، ولكنها اللعبة ، لا مهرب منها ، و لا مهرب من النهاية أيضا .
كل الضوء قد ذهب ، لم يبق نور في السماء إلا وانتهي ، التفت لصديقي ، فهز رأسه مبتسما ، وكأنه يقول : لقد اتممت اللعبة على نحو جيد ، نظرت بجانبي فوجدتنا عند البيت و الظلام يخيم عليه ، فثمة سحابة مظلمة في أعلاه ، امتلأ قلبي رعبا ، نظر لي وكأنه يقول حان وقت المغادرة ، نزلت من السيارة ، وأشار لي بالذهاب وحدي ، قدماي يرتجفان حقا لا استطيع السير ، كنت أسقط ومن ثم اعاود النهوض مجددا ، دخلت البيت أخيرا وكان الظلام والحزن يخيمان عليه ، السكون المدوي ذو الأثر الكئيب على النفس يتصاعد كدخان ضبابي من حولي ، صعدت السلالم لغرفة نومي فاصطدمت بأمي وهي تقول لي : زوجتك وابنتك تأخرا كثيرا ، لقد غادرا البيت هذا الصباح ليشتروا فستان زفافها ولم يأتوا حتي الآن
زوجتي وابنتي ؟ ليس لي زوجة او ابنة ، حينها استنشقت رائحتها كمن يستنشق رائحة جريمته ، ورأيت حجابها الأخضر في عقلي الذي كان يداعب مسامي ، ولكنني لا اتذكرها ، ولا اتذكر انه لي ابنه ايضا ، ما هذا الهراء ؟ اشعر بهما ولكنهما خارج الذاكرة !
، امسكت رأسي ، شعرت بصداع مرير ، هبطت من السلالم وسقطت ، ولكني عاودت النهوض بقلب مخطوف ، خرجت حيث كانت سيارته موجودة ، لم أجده ، أين ذهب ؟ هو من قلتلهما ، يجب أن اجده واقتله ، يجب ان أنادي عليه ، ولكني لا أعرف اسمه حتى ..
لقد كان الظلام في عيني ، لم اعد أبصر شيئا ، ولكني ظللت اجري ، خلف أي شيء اسمع له صوتا ، حتى رأيت نورا يأتي من مصدر ما ، تأملت أمامي فوجدته يأتي من مصابيح سيارة ، ربما هي وقفت مكاني مرعوبا ، وكان الضوء يختفي ثم يأتي ، أعلم أنه يلعب بأعصابي هذا اللعين ،
اقتربت من السيارة اكثر فأكثر حتي اصبحت اسمع صوت أنفاسه ،هو يلهث مثلي لا أعلم لماذا !
أضاء مصابيح السيارة في عيني حتي لم اعد قادرا علي الابصار وضعت يداي علي عيني فسمعت صوت سيارته يعمل ، لقد ضغط علي دواسة البنزين بقوة ، فوجدت نفسي عاجزا عن تحريك أي عضو في جسدي ، وكأنني استسلم بغير إرادتي ! وقفت كمن ينتظر النهاية بيد ترتجف و قلب ثابت ، غير أن ثباته هو استسلام مجهول السبب ، ولكني أدركت أنها شروط اللعبة ، أعني اللا مبالاة طبعا ، يجب ألا أبالي ، وادركت حينها ايضا انها لعنة وليست لعبة ، ولكنها نفس الشيء ، حين تنتزع ما تريد ، عليك أن يُنتزع منك ما يريدون هم ، وأن تلك هي الحرية !
إنها بكل تلك البساطة ، العدل أو اللعنة ، أيهما أقرب ؟ ،
لقد انطلق بكل قوته ، بالسيارة ، او تلك المركبة الفضائية الصغيرة .. حتي وصلنا المحطة الأخيرة ، السماء السابعة ها هي تسقط علي جسدي ، فاصبح هو كلُها ! .
استيقظت أخيرا من النوم بعد ان غرقت في العرق وجسدي مازال ينتفض .. يا إلهي لقد كان كابوسا مزعجا حقا
ما هذا ؟ الحجاب الأخضر ! ، حجابها رأيته فوق صدري ملطخا بقطرات دمي الذي ينزف ، ورائحته النفاذة تقتحم أنفي، وصدى تنهيدة الصغيرة يداعي حلقي
حتى سمعت صوتها يصرخ ، صوت والدتي على الباب وهي تقول : زوجتك وابنتك تأخرا كثيرا ، لقد غادرا البيت هذا الصباح ليشتروا فستان زفافها ولم يأتوا حتي الآن !
-
*علياء يسري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق