اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

مفكرون ومستشرقون يكتبون عن ميلاد الإسلام ورسوله : صورة "محمد صلي الله عليه وسلم"

⏪ مصطفى الجنيدى
فى تقديمه لكتاب «حياة محمد» للراحل د.محمد حسين هيكل، يقول الأستاذ الأكبر الشيخ «محمد مصطفى المراغى» إن سيرة محمد صلوات الله عليه وعلى آله، كسائر العظماء، أضيف إليها ما ليس منها، إما عن حب وهوى وحسن قصد، وإما عن سوء قصد وحقد.
غير أنها تمتاز عن سير العظماء جميعهم بأن منها شيئا كثيرا ضمه الوحى الإلهى وضمن حفظه القرآن المطهر، وشيئا كثيرا روى على لسان الحفاظ على الثقات من المحدّثين، وعلى هذه الأسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن يستنبط العلماء منها حكمها وأسرارها ودقائقها، وأن تحلل التحليل العلمى النزيه، ملاحظا فى ذلك ظروف الوسط وحال البيئة ونواحيها المختلفة من عقائد ونظم وعادات.

كان ما نبَّه إليه الأستاذ الأكبر (الشيخ المراغى) من ضرورة اللجوء إلى التحليل العلمى النزيه فى استنباط أحكام وأسرار السيرة، مع ملاحظة ظروف النشأة والأحوال المحيطة بالرسالة الخاتمة (فضلا عن العقائد والنظم والعادات السائدة إذ ذاك) على غرار ما قام به صاحب «حياة محمد» أثره المحفز لعديد من الكتاب والمفكرين الإسلاميين - فيما بعد - لأن يسيروا على الطريق ذاتها.. إذ كانت الساحة حتى ذلك الوقت خلاء أمام حركة الاستشراق، التى إذا أنصفت فى موضع هاجمت فى مواضع أخري!
لذلك.. كانت البيئة الخاصة بالنشأة (أى نشأة الدين الخاتم)، هى نقطة الانطلاق التى اختارها «عباس محمود العقاد» أيضا ليبدأ رحلته فى الكتابة عن «عبقرية محمد».
--
يقول العقاد:
كان عالما (أى عالم ما قبل ميلاد محمد) متداعيا قد شارف النهاية.. خلاصة ما يقال فيه أنه عالم فقد العقيدة كما فقد النظام.
أى أنه فقد أسباب الطمأنينة فى الباطن والظاهر.. طمأنينة الباطن التى تنشأ من الركون إلى قوة فى الغيب، تبسط العدل، وتحمى الضعف وتجزى الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور.
وطمأنينة الظاهر التى تنشأ من الركون إلى دولة تقضى بالشريعة، وتفصل بين البغاة والأبرياء، وتحرس الطريق، وتخيف العانثين بالفساد.
بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذى أصبح بعد ذلك علما عليها، وتضاءلت سطوتها فى البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمى بجوارها.
وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس.. وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات.
والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الحضارة تارة، ومن الهمجية تارة، وبين التوحيد الذى هو ضرب من عبادة الأوثان.. ثم هى بعد هذا التشويه فى الدين، ليست بذات رسالة فى الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ.. فليس لها عمل باق فى سجل الأعمال الباقيات. عالم يتطلع إلى حال غير حاله.. عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء.
ويتابع: وبين هذه الدول المتداعيات، أمة ليست بذات دولة ولكنها تتأهب لإقامة دولة.. هى أمة العرب وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها، كما شعرت بالخطر عليها وبمواضع النقص منها.

فى أيديها تجارة العالمين كلها..

فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم، فهى تسير فى البادية بين حراس من العرب لا سلطان عليهم للدول المتداعية.. أو هم قد شعروا بذلك السلطان حينا فى إبان الصولة الرومانية والصولة الفارسية، ثم علموا أنهم مالكون لزمامهم يرضون فتتصل الأرزاق بين المشرق والمغرب وبين المغرب والمشرق، ويغضبون فتبور التجارة وينضب المورد وتكسد الأسواق.
وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهى فى جيرة الأعراب من كلتا الطريقين.

.. ووسط تلك الأمة قبيلة، وقبيلة فى تلك الأمة، فى تلك المدينة.. لها شعبتان:
إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم كما كان قائما على هواها.
والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوى الذى يجور ويطغى ويستقى أداة الجور والطغيان، ومقام الضعيف الذى يحتمل الأذى ويصبر على الكريهة ولايملك مع السيد الآمر إلا أن يذعن له ويأكل من فضلات يديه.

ويضيف: وبيت من تلك «الشعبة الوسطى» له كرم النسب العريق وليس له لؤم الثروة الجامحة والكبرياء الجائحة، والقسوة على من دونه من المحرومين.
ذلك هو بيت عبدالمطلب من صميم قريش ومن ذؤابتها العليا، وإن لم يكن معدودًا من أثرياء القبيلة القرشية فى ذلك الأوان.
ورئيس هذا البيت - عبدالمطلب - رجل قوى الخلق قوى الإيمان فيما آمن به، حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، خليق أن ينجب العقب الذى يبشر بدعوة وينضح عن دين.
--

على المنوال نفسه يقول المفكر القبطى «د.نظمى لوقا» فى كتابه الفريد من نوعه: «محمد الرسالة والرسول»:
لم يزل الناس بحاجة إذن إلى عقيدة جديدة، يجتمع إليها العقل والقلب جميعًا. وتصحح ما تَرَدَّوْا فيه من الأخطاء فى تفهم ما سبق من عقائد ورسالات.
كان الناس بحاجة بعد إلى دين يؤكد وجود الله، وأنه خالق الخلق، وأنه الكامل المنفرد بالكمال، بيده الأمر، وهو على كل شيء قدير. ويؤكد وحدانية الله توكيدًا يقضى على عقابيل التعدد فى تصور الإله.. ويلزم كذلك أن يؤكد هذا الدين التنزيه لله، حتى لا ينزلق الناس إلى التجسيم الذى طالما وقعوا فيه بعد كل دعوة للتوحيد بسبب غلبة الحس عليهم.

هذا من جهة مضمون العقيدة الجديدة.
أما من جهة موقعها من الناس، فينبغى أن يتجه الدين الجديد إلى الناس جميعًا. لا فرق فيهم بين شعب وشعب، ولا بين جيل وجيل، ولا بين طبقة وطبقة.
وينبغى كذلك أن يكون فى هذا الدين الجديد مقنع للممتاز الميسر لأشواق، وأن يكون فيه كذلك لصاحب الدنيا ملحظ يلفته إلى آفاق الروح، وشعره أن ثمة ارتباطًا بينها وبين السعى فى سبيل الدنيا، فيجد لهذا السعى مددًا من عليين لا يحقر فى عينيه مطالب الحياة، ويجعل فى قلبه موكلا للشعور بالرضا والكرامة، لأنه استطاع أن يكون صالحا وهو من أهل هذا العالم المعنيين بأموره ومهامه ومطالبه.
وللمفكر والمؤمن معًا فى الدين الجديد مكان أولهما ينبغى أن ينتهى إلى ما ينتهى إليه الآخر، لأن الحق واحد فى جميع السرائر والضمائر متى أحسنت التلمس والاهتداء.
--
اختلف المؤرخون فى العام الذى ولد فيه صاحب الدعوة الجديدة؛ فأكثرهم - كما يقول «د.محمد حسين هيكل» على أنه عام الفيل (570 ميلادية).

ويقول ابن عبّاس: إنه ولد يوم الفيل. ويقول آخرون إنه ولد قبل الفيل بخمس عشرة سنة.. ويذهب غير هؤلاء إلى أنه ولد بعد الفيل بأيام أو بأشهر أو بسنين، يقدرها قوم بثلاثين سنة، ويقدرها قوم بسبعين.
واختلف المؤرخون كذلك فى الشهر الذى ولد فيه وإن كانت كثرتهم على أنه ولُد فى شهر ربيع الأول، وقيل: وُلد فى المحرّم. وقيل ولد فى صفر وبعضهم يرجح رجبًا، على حين يرجح آخرون شهر رمضان.
كذلك اختلف فى تاريخ اليوم من الشهر الذى ولد فيه، فقيل: وُلد لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وقيل لثمانى ليال، وقيل لتسع. والجمهور على أنه ولد فى الثانى عشر من شهر ربيع الأول، و هو قول ابن إسحاق وغيره.
وكذلك اختلف فى الوقت الذى ولد فيه أنهارًا كان أم ليلًا. كما اختلف فى مكان ولادته بمكة. ويرجح «كوسَّان دبرسفال» فى كتابه عن العرب أن محمدًا ولد فى أغسطس سنة 570، أى عام الفيل، وأنه ولد بمكة بدار جده عبدالمطلب.. وهو ما ذهب إليه أيضًا المستشرق الفرنسى «غوستاف لوبون» فى كتابه «حضارة العرب».
وفى سابع يوم لمولده أمر عبدالمطلب بجزور فنحرت، ودعا رجالًا من قريش فحضروا وطعموا. فلما علموا منه أنه أسمى الطفل محمدًا سألوه لِمَ رغب عن أسماء آبائه؟ فقال أردت أن يكون محمودًا فى السماء وفى الأرض لخلقه.
-
بعد ميلاد محمد، انتظرت آمنة مجيء المراضِع من بنى سعد لتدفع به إلى إحداهن كعادة أشراف العرب من أهل مكة.. إذ يبعثون أبناءهم إلى البادية فى اليوم الثامن من مولدهم ثم لا يعودون إلى الحضر حتى يبلغوا الثامنة أو العاشرة.
وجاءت مراضع بنى سعد إلى مكة يلتمس الأطفال لإرضاعهم. وكنَّ يعرضن عن اليتامى لأنهن كن يرتجين البر من الآباء، أما الأيامى فكان الرجاء فيهن قليلًا، لذلك لم تُقبل واحدة من أولئك المراضع على محمد، وذهبت كل ممن ترجو من أهله وافر الخير.

بيد أن حليمة بنت أبى دؤيب السعدية التى أعرضت عن محمد أول الأمر كما أعرض عنه غيرها لم تجد من تدفع إليها طفلها، ذلك أنها كانت على جانب من ضعف الحال صرف الأمهات عنها، فلما أجمع القوم على الانطلاق عن مكة قالت حليمة لزوجها الحارث بن عبدالعُزَّى: والله إنى لأكره أن أرجع مع صواحبى ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم ولآخذنه! وأجابها زوجها: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. وأخذت حليمة محمدًا وانطلقت به مع قومها إلى البادية. وكانت تحدّث أنها وجدت فيه منذ أخذته أيّ بركة: سمنت غنمُها وزاد لبنها، وبارك الله لها فى كل ما عنده!

أقام محمد فى الصحراء سنتين ترضعه حليمة وتحضنه ابنتها الشَّيماء، ويجد هو فى هواء الصحراء وخشونة عيش البادية ما يسرع به إلى النموّ ويزيد فى وسامة خلقه وحسن تكوينه، فلما أتم سنتيه وآن فصالُه ذهبت به حليمة إلى أمه ثم عادت إلى البادية، رغبة من أمه، فى رواية، ومن حليمة فى رواية أخرى، عادت به حتى يغلظ، وخوفًا عليه من وباء مكة، وأقام الطفل بالصحراء سنتين أخريين يمرح فى جو باديتها الصحو الطلق لا يرف قيدًا من قيود الروح ولا من قيود المادة.
--
فى هذه الفترة وقبل أن يبلغ الثالثة تقع الرواية التى يقصونها من أنه كان مع أخيه الطفل من سنه فى بهم لأهله خلف بيوتهم، إذ عاد أخوه الطفل السعديّ بعدو ويقول لأبيه وأمه: ذلك أخى القرشيّ قد أخذه رجلان عليهما ثيابٌ بيض فأضجعاه فشقا بطنه، ويروى عن حليمة أنه قالت عن نفسها وزوجها، «فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائمًا ممتقعًا وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بني؟ قال: جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقَّا بطنى فالتمسا فيه شيئًا لم أدر ما هو». ورجعت حليمة ورجع أبوه إلى خبائهما، وخشى الرجل أن يكون الغلام أصابته الجن.

فاحتملاه إلى أمه بمكة، ويروى ابن إسحاق فى هذه الواقعة حديثًا عن النبى بعد بعثه، لكن ابن إسحاق يحتاط بعد أن يقص هذه القصة ويذكر أن السبب فى رده إلى أمه لم يكن حكاية الملكين وإنما كان، على ما روته حليمة لآمنة، أن نفرًا من نصارى الحبشة رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلَّبوه ثم قالوا: لنأخذن هذا الغلام فلنذهب به إلى ملكنا وبلدنا؛ فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره، ولم تكد حليمة تنفلت به منهم!

وكذلك يرويها الطبرى، لكنه يُحيطها بالريبة، إذ يذكرها فى هذه السنة من حياة محمد، ثم يعود فيذكر أنها وقعت قُبيل البعث وسنّه أربعون سنة.
يقول «د.هيكل»:لا يطمئن المستشرقون ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه ويرونها ضعيفة.. فالذى رأى الرجلين فى رواية كتَّاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلًا، وكانت كذلك سن محمد يومئذ، والروايات تجمع على أن محمدًا أقام ببنى سعد إلى الخامسة من عمره. فلو كان هذا الحادث قد وقع وسنّه سنتان ونصف سنة، ورجعت حليمة وزوجها إذ ذاك به إلى أمه، لكان فى الروايتين تناقض غير مقبول، ولذلك يرى بعض الكتَّاب أنه عاد مع حليمة مرة ثالثة.
ولا يرضى المستشرق «سير وليم موبر» أن يشير إلى قصة الرجلين فى ثيابهما البيضاء، ويذكر أنه إن كانت حليمة وزوجها قد نبها لشيء أصاب الطفل فلعله نوبة عصبية أصابته، ولم يكن لها أن تؤذى صحته لحسن تكوينه. ولعل آخرين يقولون: إنه لم يكن فى حاجة إلى من يشق بطنه أو صدره ما دام الله قد أعده من يوم خلقه لتلقى رسالته.
ويرى درمنجم أن هذه القصة لا تستند إلى شيء غير ما يفهم من ظاهر الآيات: «ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك. الذى أنقض ظهرك».
وأن ما يشير القرآن إليه إنما هو عمل روحيٌ بحت، والغاية منه تطهير هذا القلب وتنظيفه ليتلقى الرسالة القدسية خالصًا ويؤديها مخلصًا تمام الإخلاص محتملًا عبء الرسالة المضنى.
وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ فى إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق. وهم فى هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندًا حين ينكرون من حياة النبى العربيّ كل ما لا يدخل فى معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر فى خلق الله، وأن سنَّة الله لن تجد لها تبديلًا، غير متفق مع تعبير القرآن للمشركين أنهم لا يفق هون أن ليست لهم قلوب يعقلون بها.

أقام محمد فى بنى سعد إلى الخامسة من عمره ينهل من جو الصحراء الطلق روح الحرية والاستقلال النفسى، ويتعلم من هذه القبيلة لغة العرب مصفَّاة أحسن التصفية، حتى لقد كان يقول من بعدُ لأصحابه: «أنا أعربكم، أنا قرشى واسترضعت فى بنى سعد بن بكر».

تركت هذه السنوات الخمس فى نفسه أجمل الأثر وأبقاه، كما بقيت حليمة وبقى أهلها موضع محبَّته وإكرامه طوال حياته. أصابت الناس سنةٌ بعد زواج محمد من خديجة، فجاءته حليمة فعادت من عنده ومعها من مال خديجة بعير يحمل الماء وأربعون رأسًا من الغنم، وكانت كلما أقبلت عليه مدّ لها طرف ردائه لتجلس عليه سيما الاحترام.
وكانت الشيماء ابنتها بين من أسر مع بنى هوازن بعد حصار الطائف، فلما جيء بها إلى محمد عرفها وأكرمها، وردها إلى أهلها كما رغبت.
عاد النبى إلى أمه بعد هذه السنوات الخمس. ويقال: إن حليمة التمسته وهى مقبلة به على أهله فلم تجده، فأتت عبدالمطلب فأخبرته أنه ضلّ منها بأعلى مكة، فبعث من يبحث عنه حتى رده عليه ورقة بن نوفل فيما يروون. وكفل عبدالمطلب حفيده، وأغدق عليه، كل حبِّه وأسبغ عليه جمَّ رعايته. كان يوضع لهذا الشيخ، سيد قريش وسيد مكة كلها، فراش فى ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش إجلالًا لأبيهم، فإذا جاء محمد أدناه عبدالمطلب منه وأجلسه على الفراش معه وربت على ظهره، وأبدى من آيات عطفه ما يمنع أعمام محمد من تأخيره إلى حيث يجلسون.

وزاد فى إعززًا الجدِّ لحفيده أنَّ آمنة خرجت بابنها إلى المدينة لِتُرِى الغلام فيها أخوال جده من بنى النجار، وأخذت معها أم أيمن الجارية التى خلفها عبدالله من بعده. فلما كانوا بها أرت الغلام البيت الذى مات أبوه فيه والمكان الذى دفن به؛ فكان ذلك أول معنى لليتم انطبع فى نفس الصبى. ولعل أمه حدثته طويلا عن هذا الأب المحبوب الذى غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بين أخواله أجله، فقد كان النبى بعد هجرته إلى المدينة يقصّ على أصحابه حديث تلك الرحلة الأولى إلى المدينة مع أمه، حديث محب للمدينة محزون لمن تحوى القبور من أهله بها. ولما تم مكثهم بيثرب شهرًا اعتزمت آمنة العودة، فركبت وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما من مكة، فلما كانوا فى أثناء الطريق بين البلدين مرضت آمنة بالأبواء.
وماتت ودفنت بها، وعادت أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحبا وحيدا، يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحشة وألما، لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أّنات الألم لفقد أبيه وهو لا يزال جنينًا، وها هو ذا قد رأى بعينيه أمه تذهب كما ذهب أبوه وتدع جسمه الصغير يحمل همّ اليتم كاملا.
زاد ذلك فى إعزاز عبدالمطلب إياه. مع ذلك بقيت ذكرى اليتم أليمة عميقة فى نفسه، حتى وردت فى القرآن إذ يذكر الله نبيه بالنعمة عليه فيقول (ألم يجدك يتيما فآوى. ووجدك ضالا فهدى).

ولعل جوى هذه الذكرى كان يخف بعض الشيء لو أن عبدالمطلب عُمر أكثر مما عُمر، لكنه مات فى الثمانين من عمره ومحمد لايزال فى الثامنة وحزن محمد لموت جدّه حزنه لموت أمه. حزن حتى كان دائم البكاء وهو يتبع نعشه إلى مقرّه الأخير، وحتى كان دائم الذكر من بعد ذلك له، مع ما لقى من بعد فى كفالة عمه أبى طالب من عناية ورعاية، ومن حماية امتدت إلى ما بعد بعثه ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه.

والحق إن موت عبدالمطلب كان على بنى هاشم جميعا ضربة قاسية؛ فإنه لم يكن من أبنائه من كان فى مثل مكانته عزما وقوة أيد، وأصالة رأى وكرمًا وأثرًا فى العرب جميعا، إلا أن هذا التراجع النسبى الذى شهده «بنو هاشم» بعد وفاة عبدالمطلب، سرعان ما أعاده محمد «صلى الله عليه وسلم».. ذلك اليتيم القرشى الذى غيّر مجرى التاريخ.

  مجلة روزاليوسف  

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...