⏪⏬
أخيرا انتهت الإجازة؛ وعدت إلى عملي الذي أعشقه لدرجة الجنون؛ فالإجازة بالنسبة لي سجن مميت، ومع أن المؤسسة التي أعمل بها؛ لا تسمح سوى بإجازة واحدة في العام، ولمدة شهر واحد فقط؛ فقد كنت أنا وزملائي نتمنى إلغاءها؛ بل وخرجنا - أكثر من مرة -
في مسيرات؛ وهتفنا بأعلى صوتنا مطالبين بذلك .
وصلتني – كما هو متبع في المؤسسة – رسالة من رئيسي في العمل؛ توضح لي المهمة التي سأقوم بها؛ إنها في غاية السهولة؛ كلمتان فقط أرددهما ست مرات؛ وتنتهي المهمة !
في أحد المقاهي الصغيرة، المنتشرة في أحد الأحياء الشعبية الفقيرة ؛ جلست أنتظر الهدف؛ إنه إمام مسجد؛ شيخ وقارئ الحي؛ يعتبره الناس مثلا يُحتذى به؛ ويضربون به الأمثال في والتقوى الورع !
مر َّ النادل أمامي فطلبت منه كوبا من الشاي الساخن؛ وظللت في مكاني أنتظر، فوجئت بأحد زملائي في المؤسسة يجلس بجانبي؛ سألته :
- ما الذي جاء بك إلى هنا ؟!
- العمل يا زميلي .. .. هل يوجد شيء في هذا العالم يحركنا غير العمل ؟!
- بصراحة أنت شعلة نشاط .. .. أنا أحسدك من كل قلبي ! في زمن قياسي ترقَّيت إلى درجة رئيس قسم .. .. أما أنا فلا أزال في نفس درجتي الحقيرة .. .. مع أننا دفعة واحدة !
- أنا سعيد جدا لسماعي هذه الكلمات .. .. أشعر بفخر كبير !
- من حقك .. .. لكن أخبرني .. .. ما الذي جاء بك إلى هذا الحي الحقير ؟!
- لدي عمل .. .. لكن طبعا ليس في مقلب القمامة هذا .. .. إنني أقوم بمتابعة أعمال بعض موظفينا الذين لديهم مأموريات في القرية السياحية القريبة من هنا
لم أستطع كبح جماح السؤال الذي يمزق لساني مثل حد السكين؛ فسألته :
- كيف وصلت بهذه السرعة إلى ما وصلت إليه ؟!
- باختصار .. .. انزع قلبك من صدرك؛ وضع عليه الكثير من البهارات الحارة؛ ثم كله !
- يااه !!
- لا ترحم أحدا مهما كان .. .. الجميع يستحقون الحرق !
في نفس اللحظة رأيت الشيخ يدخل من باب المقهى؛ ما لبث أن ألقى السلام؛ وتصادف مرور النادل وهو يحمل شيشة؛ وينفخ في نارها؛ فتناثرت الجمرات منها؛ ووقعت على قميص زميلي فاشتعلت فيه النار، وطفق يقفز وجلده يحترق لدرجة أنني شممت رائحة جلده المشوي! قبل أن يختفي من أمامي؛ سمعته يصرخ قائلا :
- ألم أقل لك .. .. كلهم يستحقون الحرق !
كنت كالمذهول لا أدري ماذا أفعل؛ وكانت بعض الجمرات قد وصلت إلى كم قميصي فأحرقته؛ لكن سرعان ما انطفأت بمجرد جلوس الشيخ في نفس مكان زميلي المحروق!
جلس الشيخ؛ وطلب زنجبيلا! ضحكت ساخرا؛ لكنه ولحسن حظي لم يلحظ شيئا؛ يبدو أنه كان مشغولا؛ فقد كان يتحدث مع نفسه؛ وسمعته يقول متعجبا :
- ماذا جرى .. .. عين حاسد أصابتنا .. .. سحر معمول لنا .. .. رأسي ستنفجر .. .. بعد كل هذا العمر؛ وبعد ما كبر أولادنا وتزوجوا .. .. أمد يدي عليها وأضربها .. .. أستغفر الله العظيم .. .. سامحني يا رب .. .. ماذا سيقول الناس عني ؟! الشيخ حلال المشاكل أصاب زوجته أم عياله وورم لها عينها .. .. الحمد لله إن العين سليمة .. .. الله يلعن الشيطان .. .. أكيد فيه شيطان يوسوس لها لدرجة أنه جعلها تستفزني بهذه الطريقة !
لاحظت أن يديه كانتا ترتعشان؛ لكنه بعد أن تناول بضع رشفات من الزنجبيل بدأ يهدأ! انتبهت إلى أن النادل لم يحضر لي الشاي الساخن؛ من غضبي علَّقت له ذيلا كذيل الحمار جعل كل من في المقهى يضحك؛ حتى كادوا جميعا يسقطون على الأرض من فرط الضحك!
تذكرت المهمة؛ اقتربت من أذن الشيخ؛ وبدأت أردد على سمعه الكلمتين :
- إنها تخونك .. .. إنها تخونك .. .. إنها تخونك .. ..
كررتهما ست مرات؛ لكن العجيب أن الشيخ في كل مرة؛ كان يبصق ناحيتي ويقول بصوت مسموع :
- أستغفر الله العظيم .. .. أستغفر الله العظيم !
بدأت أشعر بالخطر؛ ربما أخطأت لأنني تركته حتى يهدأ؛ كان من الضروري أن أردد الكلمات وهو في ذروة غضبه؛ يبدو أنني فشلت في مهمتي؛ فالشيخ أصبح أكثر هدوء من ذي قبل !
قمت من مقامي؛ وأنا أمسح آثار البصاق من على وجهي؛ ولكني قبل أن أغادر؛ لمحت رئيسي في العمل قادما نحوي؛ ووجهه يتميز من الغضب؛ والدخان يتصاعد من فروة رأسه؛ صرخ في وجهي غاضبا :
- أيها الفاشل .. .. الله يحرق بيتك كما حرقت بيتي .. ..
- اعذرني سيدي الرئيس .. .. أعرف أنني أخطأت لأنني انتظرته حتى هدأ !
- أيها الأحمق .. .. لماذا لم تقرأ الرسالة جيدا.. .. لم يعد لك مكان بيننا أنت مطرود من المؤسسة !
ثم اختفى قبل أن يسمع مني أي كلمة؛ فتحت الرسالة؛ وبدأت أقرأها من جديد؛ فوجئت بأنها تقول :
- اذهب إلى زوجة الشيخ وردد على سمعها هاتين الكلمتين ست مرات ( إنه يخونك ) !
-
*متولي محمد متولي بصل
دمياط
أخيرا انتهت الإجازة؛ وعدت إلى عملي الذي أعشقه لدرجة الجنون؛ فالإجازة بالنسبة لي سجن مميت، ومع أن المؤسسة التي أعمل بها؛ لا تسمح سوى بإجازة واحدة في العام، ولمدة شهر واحد فقط؛ فقد كنت أنا وزملائي نتمنى إلغاءها؛ بل وخرجنا - أكثر من مرة -
في مسيرات؛ وهتفنا بأعلى صوتنا مطالبين بذلك .
وصلتني – كما هو متبع في المؤسسة – رسالة من رئيسي في العمل؛ توضح لي المهمة التي سأقوم بها؛ إنها في غاية السهولة؛ كلمتان فقط أرددهما ست مرات؛ وتنتهي المهمة !
في أحد المقاهي الصغيرة، المنتشرة في أحد الأحياء الشعبية الفقيرة ؛ جلست أنتظر الهدف؛ إنه إمام مسجد؛ شيخ وقارئ الحي؛ يعتبره الناس مثلا يُحتذى به؛ ويضربون به الأمثال في والتقوى الورع !
مر َّ النادل أمامي فطلبت منه كوبا من الشاي الساخن؛ وظللت في مكاني أنتظر، فوجئت بأحد زملائي في المؤسسة يجلس بجانبي؛ سألته :
- ما الذي جاء بك إلى هنا ؟!
- العمل يا زميلي .. .. هل يوجد شيء في هذا العالم يحركنا غير العمل ؟!
- بصراحة أنت شعلة نشاط .. .. أنا أحسدك من كل قلبي ! في زمن قياسي ترقَّيت إلى درجة رئيس قسم .. .. أما أنا فلا أزال في نفس درجتي الحقيرة .. .. مع أننا دفعة واحدة !
- أنا سعيد جدا لسماعي هذه الكلمات .. .. أشعر بفخر كبير !
- من حقك .. .. لكن أخبرني .. .. ما الذي جاء بك إلى هذا الحي الحقير ؟!
- لدي عمل .. .. لكن طبعا ليس في مقلب القمامة هذا .. .. إنني أقوم بمتابعة أعمال بعض موظفينا الذين لديهم مأموريات في القرية السياحية القريبة من هنا
لم أستطع كبح جماح السؤال الذي يمزق لساني مثل حد السكين؛ فسألته :
- كيف وصلت بهذه السرعة إلى ما وصلت إليه ؟!
- باختصار .. .. انزع قلبك من صدرك؛ وضع عليه الكثير من البهارات الحارة؛ ثم كله !
- يااه !!
- لا ترحم أحدا مهما كان .. .. الجميع يستحقون الحرق !
في نفس اللحظة رأيت الشيخ يدخل من باب المقهى؛ ما لبث أن ألقى السلام؛ وتصادف مرور النادل وهو يحمل شيشة؛ وينفخ في نارها؛ فتناثرت الجمرات منها؛ ووقعت على قميص زميلي فاشتعلت فيه النار، وطفق يقفز وجلده يحترق لدرجة أنني شممت رائحة جلده المشوي! قبل أن يختفي من أمامي؛ سمعته يصرخ قائلا :
- ألم أقل لك .. .. كلهم يستحقون الحرق !
كنت كالمذهول لا أدري ماذا أفعل؛ وكانت بعض الجمرات قد وصلت إلى كم قميصي فأحرقته؛ لكن سرعان ما انطفأت بمجرد جلوس الشيخ في نفس مكان زميلي المحروق!
جلس الشيخ؛ وطلب زنجبيلا! ضحكت ساخرا؛ لكنه ولحسن حظي لم يلحظ شيئا؛ يبدو أنه كان مشغولا؛ فقد كان يتحدث مع نفسه؛ وسمعته يقول متعجبا :
- ماذا جرى .. .. عين حاسد أصابتنا .. .. سحر معمول لنا .. .. رأسي ستنفجر .. .. بعد كل هذا العمر؛ وبعد ما كبر أولادنا وتزوجوا .. .. أمد يدي عليها وأضربها .. .. أستغفر الله العظيم .. .. سامحني يا رب .. .. ماذا سيقول الناس عني ؟! الشيخ حلال المشاكل أصاب زوجته أم عياله وورم لها عينها .. .. الحمد لله إن العين سليمة .. .. الله يلعن الشيطان .. .. أكيد فيه شيطان يوسوس لها لدرجة أنه جعلها تستفزني بهذه الطريقة !
لاحظت أن يديه كانتا ترتعشان؛ لكنه بعد أن تناول بضع رشفات من الزنجبيل بدأ يهدأ! انتبهت إلى أن النادل لم يحضر لي الشاي الساخن؛ من غضبي علَّقت له ذيلا كذيل الحمار جعل كل من في المقهى يضحك؛ حتى كادوا جميعا يسقطون على الأرض من فرط الضحك!
تذكرت المهمة؛ اقتربت من أذن الشيخ؛ وبدأت أردد على سمعه الكلمتين :
- إنها تخونك .. .. إنها تخونك .. .. إنها تخونك .. ..
كررتهما ست مرات؛ لكن العجيب أن الشيخ في كل مرة؛ كان يبصق ناحيتي ويقول بصوت مسموع :
- أستغفر الله العظيم .. .. أستغفر الله العظيم !
بدأت أشعر بالخطر؛ ربما أخطأت لأنني تركته حتى يهدأ؛ كان من الضروري أن أردد الكلمات وهو في ذروة غضبه؛ يبدو أنني فشلت في مهمتي؛ فالشيخ أصبح أكثر هدوء من ذي قبل !
قمت من مقامي؛ وأنا أمسح آثار البصاق من على وجهي؛ ولكني قبل أن أغادر؛ لمحت رئيسي في العمل قادما نحوي؛ ووجهه يتميز من الغضب؛ والدخان يتصاعد من فروة رأسه؛ صرخ في وجهي غاضبا :
- أيها الفاشل .. .. الله يحرق بيتك كما حرقت بيتي .. ..
- اعذرني سيدي الرئيس .. .. أعرف أنني أخطأت لأنني انتظرته حتى هدأ !
- أيها الأحمق .. .. لماذا لم تقرأ الرسالة جيدا.. .. لم يعد لك مكان بيننا أنت مطرود من المؤسسة !
ثم اختفى قبل أن يسمع مني أي كلمة؛ فتحت الرسالة؛ وبدأت أقرأها من جديد؛ فوجئت بأنها تقول :
- اذهب إلى زوجة الشيخ وردد على سمعها هاتين الكلمتين ست مرات ( إنه يخونك ) !
-
*متولي محمد متولي بصل
دمياط
هناك تعليق واحد:
احسنت وابدعت
إرسال تعليق