⏪⏬روائع الاعجاز النفسي في القرآن الكريم
للنفس البشرية عالم رحب وواسع يتسع لما لا يتسع له غيره من مكونات المخلوق البشرى ، ولهذا السبب خص الله النفس بآيات كثيرة فلا تكاد تخلو آية أو حديث من النفس .ولما كانت هذه المفردة تأخذ أبعاداً متنوعة ومختلفة فقد تحدث القرآن عنها وعن مدلو لاتها ،
وخصها بالتفصيل و الإسهاب لما لها من قوة و مكانة فى الانسان حيث ورد ذكرلفظ النفس وما يشتق منها فى " 313 موضعاً " واتخذت معانى كلية وجزئية .
قال الله تعالى :ـ (( وفى أنفسكم أفلا تبصرون )) فى هذه الآية يحثنا الله سبحانه وتعالى على التفكير والتدبر فى أنفسنا لأن فيها لنا العبر الكثيرة حيث تبين لنا هذه الآية عظمة خالقنا وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات و الحيوان والمهاد والجبال و الأنهار والبحار ، واختلاف ألسنة الناس و ألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى ، وما بينهم من التفاوت فى العقول و الفهوم والحركات والسعادة والشقاوة وما فى تركيبهم من الحكم فى وضع كل عضو من أعضائهم فى المحل الذى هو محتاج إليه فيه .
الانسان الناجح هو من يعرف ايجابيات نفسه ويدعمها ويحاول الابتعاد عن سلبياتها وكل انسان يولد على الفطرة أى أنه خيّر ولكن المحيط الذى يعيش فيه هو المسؤول عن تشكيل شخصيته .
ولقد تناول القرآن الكريم أبعاد الشخصية السوية و الغير سوية ، بل تناول مجموعة من العوامل المكونة لكل من السواء وعدم السواء فى الشخصية ، ويوضح لنا القرآن الكريم أن الصحة النفسية تتجلى من خلال عاطفة الحب المتدفق من الانسان نحو خالقه لأن الله هو صاحب الحياة وصاحب الفضل فى هذه النعم التى ينعم بها الانسان .
النفس البشرية فى القرآن والسنة :ـ
ينظر الإسلام إلى نفس الانسان على أنها مستودع قوى والمؤمن الذى يطيع ربه يكون ربانياً ، فالله هو الذى يقول للشىء كن فيكون ، وطاعة الله واجبة لقوله تعالى (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) ويعني هذا أن على الانسان اتباع أوامر الله و اجتناب نواهيه حتى ينال رضا الله وييسر له أموره .
لقد فسر القرآن الكريم أحوال النفس البشرية بما يتصل بها من الخواطر و الوساوس والهواجس والأحاسيس من فرح وحزن ووحشة وأنس وانقباض وانبساط وارتجاف وقلق واضطراب وغير ذلك مما سجله العلماء بعد طول معاناة ودراسة و تأمل . وفى القرآن معلومات كثيرة وشاملة عن النفس البشرية لأن مهمته الأولى هى التربية والتوجيه فهو كتاب يخاطب النفس ويوجهها لقوله تعالى(( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى )) ، ولقوله تعالى : (( الله أعلم بمافى أنفسهم )) .
ولقد وجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته رضوان الله عليهم الشىء نفسه فى القرآن الكريم مما أعانهم على فهم أنفسهم والسيطرة عليها . والدليل على ذلك هو فهم الصحابه والرسول صلوات الله عليه أن الله لا يطلب من العبد الشكر على المعروف لقوله تعالى : ((إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءاً ولا شكوراً )) .
ولما كان من أصعب أنواع الجهاد جهاد النفس فهذا يدل على مدى أهمية النفس فى الإسلام ،و العاقل يعلم أن حياته الصحيحة هى التوبة والرجوع إلى الله سبحانه ومحبته واغتنام الفرص للعبادة وهذا من أهم أساليب العلاج النفسى وقد سئل النبى عن أفضل الناس فقال " كل مخموم القلب صدوق اللسان فقالوا له صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب . فقال هو التقى النقى لاإثم فيه ولا بغى ولا غل ولا حسد " .
ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " اغتنم خمساً قبل خمس ، حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وشبابك قبل هرمك و فراغك قبل شغلك وغناك قبل فقرك " وعلم النفس يهتم بمراحل النمو وهنا حدثنا الرسول الكريم عن اغتنام مرحلة الشباب قبل الهرم فيما يفيدنا ويفيد ديننا .
قال تعالى : (( ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور )) إن فى الهدى النبوى البلسم الشافى للقلوب الضامئة إلى الحق والنفوس الطالبة لليقين والعقول الراشدة أو الرشيدة التى تنمو فى الصدق و الإخلاص فى العلم والعمل ، والنفس فى الهدى النبوى إذا صلحت انصلح أمر الجسم وإذا فسدت فسد أمر الجسم فعلاجها أولى وأهم من علاج البدن . فالمقصود من هذا أن كثيراً من الأمراض العضوية يكون سببها المباشر أو غير المباشر نفسى أى نتيجة اضطراب الحالة النفسية .
قام الرسول صلي الله عليه وسلم بتشخيص الأمراض البدنية التي ألمت ببعض أصحابه ووصف العلاجات المناسبة لها وربط صلوات الله عليه بين العلاج البدني والعلاج النفسي فنصح بعض أصحابه ممن يعانون منهم بألم فى بطنه أو ألام فى رأسه بالصلاة أوالإستعاذه أو باستخدام الرقية أو بذكر بعض الآيات القرآنية كالمعوذتين و آية الكرسى وغير ذلك من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الشريفة.
لقد فرق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الأزمات النفسية التى يمكن أن تهاجم الانسان وتعترض حياته فتصيبه بالهم والغم والكرب و الحزن والأرق والقلق وربما تنتهى به إلى الصراع النفسى ( الروحانى ) .
تصنيفات النفس البشرية وماذكر عنها فى القرآن والسنة :ـ
لقد وردت صراحة ثلاث آيات تبين مستويات النفس من حيث الإيمان ، فهناك النفس الأمارة بالسوء ، النفس اللوامة ، و النفس المطمئنة .. إضافة إلى النفس المسولة ، والنفس البصيرة ، والنفس الضطربة، والنفس الوسواسة. وهذا توضيح لكل نوع من هذه الأنفس :ـ
1ـ النفس المطمئنة :ـ
قال الله تعالى فى سورة الفجر الآية "27"(( ياأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى )) . صدق الله العظيم
النفس المطمئنة هى أرقى درجات الرفعة التىتصل إليها النفس البشرية ، فلم ترد النفس فى القرآن الكريم بهذه الصفة إلاَ فى هذه الآية ولعلّ الوصول إلى الإطمئنان يحتاج الكثير من المسلم حتى يرقى إليه . فالنفس المطمئنة هى تفاعل ايجابى أساسه الإيمان ،فالروح التى أراد الله لها أن تكون نقية صافية مؤمنة تتفاعل بالعقل الذى آمن بالله من خلال التفكير بمعجزات الكون والخلق كافة .
شروطها :
1ـ أن تكون صادقة مع نفسها بمعنى أنها يجب أن تكون صادقة مع ذاتها .
2ـ أن تكون صادقة مع الله أى أن تكون صادقة مع خالقها الذى هو سبب وجودها .
3ـ أن تكون صادقة مع الآخرين أىأن تكون صادقة مع من حولها من الآ خرين .
ويكون الإنسان راضياً عن نفسه عندما يكون الله تعالى راضياً عنه وهذه النفس مبشرة بالجنة ، مبتعدة عن الذنوب والمعاصى خالية من الأمراض والأنانية و التكبر.
2ـ النفس الأمارة بالسوء :ـ
قال تعالى فى سورة يوسف الآيه "53" (( وما أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى )) . صدق الله العظيم . وقال صلى الله عليه وسلم " نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل " .
من خلال هذه الآية نرى للنفس هنا مكانا للشر و الفتنة وتقترن بالهوى والشيطان وبفعل السوء ، والنفس الأمارة بالسوء تأمر صاحبها بفعل الخطايا و الآثام وارتكاب الرذائل وهى التى توسوس لصاحبها بشتى الو سائل مستعملة معه التحسين و التيسير وكل المغريات التى توقعه بلا شك فى الإثم و الخطأ ، فمثلاً أولئك الذين يعملون السحر و الشعوذة ويفرقون به بين المرء وزوجه أو بين الأخوة فما عملهم هذا إلا دليل على ضعف نفوسهم وعقولهم و سيطرة الشيطان عليها . فهذه النفس الحاقدة و المستهزءة سوف تخرج وتضخ مواد سامة مضرة بصحة الانسان و العديد من الأمراض النفسية التى تكون سبب للأمراض الجسدية كفقدان البصر و السمع و الشيخوخة المبكرة و كذلك أمراض السرطان و سقوط الشعر وحب الشباب وتسوس الأسنان ولا نقول أن كل تسوس أسنان بسبب الأمراض النفسية ولكن قد يكون 20% بسبب الشكولاة و20% الآخرين بسبب الالتهابات الحادة و60% بسبب الغيبة والنميمة .
3ـ النفس اللوامة :ـ
قال تعالى فى سورة القيامة الآية "2،1" (( لاأقسم بيوم القيامة( 1) ولا أقسم بالنفس اللوامة(2) )) صدق الله العظيم .
تعتبر النفس اللوامة درجة وسطى بين النفس المطمئنة و النفس الأمارة بالسوء،
والرقى من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة يحتاج إلى الإعتراف بالذنب و غسل الذنب بالدموع والعودة إلى الله والتوبة النصوحة فى جادة الصواب (( وأما من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى )) .
وهى من أفضل الأنفس عند الله لأنها تعمل كرقيب على الإنسان حتى لا يقع فى المعاصى وتلوم صاحبها وتشعره بالذنب عندما يخرج عن دائرة الصواب إلى دائرة الإنحراف ، أى هى بمثابة الناهى عن الخطأ و المرشد إلى الصواب .
4 ـ النفس المسولة :ـ
قال الله تعالى فى سورة يوسف الآية "12" (( وجاءو على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) .
وهى التى تزين وتسهل شيئا منكرا لصاحبها ليعمله ،وتسمح للإنسان بارتكاب المعاصى التى لا ترضى الله عز وجل وتجعل ارتكاب الذنوب أمر بسيط وهى النفس التى يقصدها الشيطان لضعف إيمانها وسهولة التأثير عليها . كماأن هذه النفس تظهر الشر على أنه خير مثل تزيين وتسهيل عملية الرشوة وهى حرام .
5ـ النفس البصيرة :ـ
قال تعالى فى سورة الذاريات الآيه "21" (( وفى أنفسكم أفلا تبصرون )) .
لقد كرمنا الله تعالى بالعقل والحواس من أجل أن نستخدمهما فيما هو نافع ، ونفخ فينا من روحه الخيّرة وهذا قمة التكريم . فهذه النفس هى التى تكون بصيرة بفعال العباد وتعرف ما يسلكونه من خير أوشر وتقوم بتبصير الإنسان بأخطاءه وتنبهه لها، ولقد أمرنا الله بأن ندرك أنفسنا وذلك بالوعى والإدراك وأن نعى ما بداخلنا لقوله صلى الله عليه وسلم " من عرف نفسه عرف الله " وهذا يعنى أن الإنسان عندما يعرف ذاته أى نفسه ويعرف ماذا يريد فى الحياة وماهى أهدافه سوف يستطيع بعد ذلك أن يعرف الله سبحانه وتعالى .
6ـ النفس المضطربة :ـ
وهى النفس التى لا تعرف الاستقرار فدائما فى حالة اضطراب وعدم استقرار فصاحبها إما متصف بالغرور أو النميمة و التكبر أو الأنانية فهذه كلها حالات اضطراب وكذلك الحقد والحسد والغيرة كلها تدل على النفس المضطربة والغيرة ليست دليل على الحب بل هى دليل على الكره وعدم الثقة والشك والغيرة تسبب للإنسان 26 عقدة نفسية و الغيرة تختلف عن الغيرية فالغيرية شىء جميل لأنه سوف تكون له غيرية عن الوطن و الشرف والعرض وغيرها .
وفى هذا السياق نجد أن الله تعالى يدعونا إلى التحول النفسى حيث قال رب العزة (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ))وهذا يعنى أن الله يطالبنا بالنظر إلى أنفسنا بغية تغييرها والعمل على إصلاحها فالتغيير النفسى ضرورة ملحة .
7ـ النفس الوسواسة :ـ
قال الله تعالى فى سورة ق الآية "16" ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه )) . صدق الله العظيم .
فوسوسة النفس هى وسوسة الشيطان ، ومهمة الشيطان دوماً هى غواية الإنسان وتضليله حتى يصبح كل حرام حلالاً لديه فلا يكسب الدنيا ولا يكسب الآخرة
ولما كانت النفس محطة يستقر بها الشيطان شيئاً فشيئافإنها ذاتها تعيش حالة الشيطان فى الوسوسة .
فالشيطان يزين للعين المنظر الحسن ولو كان الانسان مؤمناً فهو أيضاً مستهدفاً من قبل الشيطان فقد يترك الإنسان يتعبد ويصلى ولكن ليس فى وقت الصلاة فإذا تأخر الإنسان عن صلاته مرة بعد مرة يستطيع الشيطان بعدها أن يؤثر فيه أكثر وأكثر حتى يلغى وقتاً من الأوقات ثم وقتين وهكذا حتى يبعده كلياً عن فرض من فرائض الله .
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم " إن العبد إذا أذنب نكث فى قلبه نكثه سوداء فإن نزع واستغفر وتاب وصقل ، وإن عاد زيد فيه حتى تعلو قلبه " .
لقد أخذت النفس عالماً واسعاً من التحليلات النفسية والفلسفية لما فيها من ظواهر وعلامات كثيرة تشير إلى سير عملها ونشاطها ومجال حركتها ، وعلاقتها بالعقل والقلب والجسد ومن ثم علاقتها بالأهواء والنزوع نحو الشر أو الخير وجميع ذلك نجده فى القرآن الكريم .
يقول الله تعالى فى سورة الشمس الآيات (( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكّاها ، وقد خاب من دسّاها ))
فالنفس فى الخلق الأول وضع الله فيها الخيار والاختيار فهى ملهمة أن تعرف التقوى وتعرف الفجور فمن زكىّ النفس وارتقى بها يفلح ومن جعلها تتبع الهوى والشهوات تخيب ويخيب معها صاحبها ، فمن عرف أصول النفس عرف أن لا قدرة له عليها إلا بالإستعانة بخالقها عز وجل وعبادته وترفّعه عما يذم ويؤدى به إلى المهالك .
والنفس إذا تمكن منها الهوى والفجور يتملكها الشيطان فتلجأ النفس إلى القلب تطالبه باستعمال الجوارح فى الفجور . فخاطر النفس وخاطر الشيطان مذمومان محكوم لهما بالسوء ، كثيرون يقولون أن لا وجود للشيطان ويقولون إن النفس الأمارة بالسوء هى الشيطان ذاته ، والحقيقة أن النفس محكومة لحاكمين حكم الشيطان إذا غفلت عن ربها وحكم الروح والإيمان إذا جفت الشيطان وحاربته ورفضت غوايته ، والنفس ملجأ الشيطان ينفذ منها إلى كافة الجسد فإذا ضيقت عليه الخناق و ذلك عن طريق الايمان فإنه يخرج منها وإلا سيظل يمتلك زمام قيادتها يجرها إلى الفساد والافساد وتزيين المحرمات والسقوط فى مهاوى الشهوات .
ـ اهتمام علماء الإسلام بالنفس البشرية :ـ
لقد فهم العلماء المسلمون النفس البشرية من خلال تعمقهم فى آيات الله واقتداءهم بالرسول الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى يعتبر أعظم معالج نفسى ، فقد عالج أمراض نفسية يعجز الأطباء فى العصور القديمة والحديثة على السواء فى إيجاد علاج لها ، فالقرآن الكريم فيه علاج لكل زمان ومكان لجميع الأمراض المستعصية ، ولقد كان للعلماء المسلمون اهتمام بالطب النفسى وأفردوا لهذا العلم الكثير من أبحاثهم واشتملت العديد من مؤلفاتهم على الإفاضة فى ذكر المصطلحات النفسية والروحية . ويتمثل ذلك فى بعض المصطلحات التى ورد ذكرها فى مؤلفات الشيخ الرئيس ابن سينا والرازى والإمام الغزالى " الجو النفسى ، المزاج النفسى،العلاج النفسى والأحوال النفسيةوالأهواء النفسية و الانفعالات والعلل النفسية ، الآفات النفسية ،
الوساوس ، الصرع الروحى ، الكروب ، الهم ، الأفعال المنعكسة ……إلخ .
وقد تناول الرازى فى كثير من مؤلفاته موضوع الأمور والأحوال النفسية مثل النوم و السرور والحزن كما أنه كتب رسالة عن الطب الروحى وله كتاب بعنوان " العلاج الروحى " .
ولقد اهتم أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزى بالطب الروحى والنفسى وله كتاب "ذم الهوى " كما له كتاب يسمى " الطب الروحانى " .
كما عالج الرازى وابن سينا موضوعات أخرى منها ماترتبط فيها الجوانب الفسيولوجية بالجوانب النفسية للإنسان تحت "قوى الأفعال " .
وواضح لنا أن العلماء المسلمون كانوا يقرنون الأمراض البدنية بالنفسية ويرون الاضطرابات النفسية إنما هى حالة ذهنية تصيب الإنسان نتيجة الأهواء العنيفة والمشاعر القوية فى النفس البشرية إذ أن النفس شديدة الحساسية ولديها القدرة على أن تشعر بالنافع والضار فى كل الأمور ، ووصف الشيخ الرئيس الكآبة والقلق والميلانوليا والميول الانتحارية والانفعالات وتأثيرها فى البدن وعلاقة الانفعال بالتغيرات الجسمية كنبضان القلب فى حالة القلق .
استخدم الرازى الموسيقى والإيحاء والتسلية فى العلاج النفسى ويفخر العرب بأنهم أول من أنشئوا المستشفيات وخصصوا قسماً منها للأمراض العقلية .
إن الطب النفسانى العربى استمد انسانيته من التعاليم الاسلامية ومن الموضوعية العلمية للأطباء الإغريق ومن التحسس العمرانى الحضارى للخلفاء .
كيف يحقق الإسلام الصحة النفسية :ـ
يحقق منهج الإسلام أركان الصحة النفسية فى بناء شخصية المسلم بتنمية هذه الصفات الأساسية :ـ
1ـ قوة الصلة بالله :ـ
وهى أمر أساسى فى بناء شخصية المسلم فى المراحل الأولى من عمره حتى تكون خالية من القلق والاضطرابات النفسية وتتم تقوية الصلة بالله بتنفيذ ما جاء فى وصية الرسول الكريم لعبد الله بن العباس :
"ياغلام إنى أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده اتجاهك ، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لشىء لم ينفعوك إلا لشىء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لشىء لم يضروك إلا لشىء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " .
2 ـ الثبات والتوازن الانفعالى :ـ
الايمان بالله يشيع فى القلب الطمأنينة والثبات والاتزان ويقى المسلم من عوامل القلق والخوف والاضطراب قال تعالى (( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة )) وقال أيضاً ((هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً )).
3ـ الصبر عند الشدائد :ـ
يربى الإسلام فى المؤمن روح الصبر عند البلاء عندما يتذكر قوله تعالى (( والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :ـ "عجباً لأمر المؤمن إن أمره خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء فكان خيراً له " .
4 ـ التفاؤل وعدم اليأس :ـ
فالمؤمن المتفائل دائماً لايتطرق اليأس إلى نفسه لقوله تعالى ((ولاتيئسوا من روح الله إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) . ويطمئن الله المؤمنين بأنه دائماً معهم إذا سألوه فإنه قريب منهم ويجيبهم إذا دعوه لقوله تعالى (( وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون )) . وهذه قمة الأمن النفسى للإنسان .
5 ـ المرونة فى مواجهة الواقع :ـ
وهى من أهم ما يحصّن الإنسان من القلق أو الاضطراب حين يتدبر قوله تعالى (( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وانتم لاتعلمون )) .
6ـ توافق المسلم مع نفسه :ـ
حيث انفرد الإسلام بأن جعل سن التكليف هو سن البلوغ للمسلم وهذه السن تأتى فى الغالب مبكرة عن سن الرشد الاجتماعى الذى تقرره النظم الوضعية وبذلك يبدأ المسلم حياته العملية وهو يحمل رصيداً مناسباً من الأسس النفسية السليمة التى تمكنه من التحكم والسيطرة على نزعاته وغرائزه وتمنحه درجة عالية من الرضا عن نفسه بفضل الإيمان والتربية الدينية الصحيحة التى توقض ضميره وتقوى صلته بالله .
7 ـ توافق المسلم مع الآخرين :ـ
الحياة بين المسلمين حياة تعاون على البر والتقوى ، والتسامح هو الطريق الذى يزيد المودة بينهم ويبعد البغضاء وكظم الغيظ والعفو عن الناس دليل على تقوى الله وقوة التوازن النفسى قال تعالى (( لاتستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم )) .
وهناك قضية أساسية تتعلق بمنهجية الرؤية إلى الإنسان وأن القرآن الكريم فى وصفه للإنسان من حيث أبعاده التى تميز شخصيته ، قد وضع منهجاً فريداً ينطبق فى كل زمان ومكان بما يحتويه من أسس ومبادىء . تتضح فى العناصر الآتية :ـ
أ ـ شمولية النظرة إلى الإنسان :ـ
إن نظرة الإسلام إلى الإنسان متكاملة و شاملة فلم يهتم بجانب دون آخر حيث نجده خلاف الأديان الأخرى نظر إلى الإنسان ككل فلم يفصل بين الروح والجسد والعقل بل هناك ترابط وتآزر وانسجام ويجب أن نرفض كل اتجاه أو عقيدة أو نظام يرى أنه ليس ثمّة روح للإنسان أو قيم أو دين .
ب ـ طاقات الأنسان تجعله قوة فاعلة وموجهة :ـ
إن الله سبحانه وتعالى قد وهب للإنسان مجموعة من القدرات يستفيد عن طريقها . ومن خلال توظيفه لهذه القدرات يرقى بنفسه وبمن حوله وفق منهج ونظام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وتوجهه ذاته الوجهة السليمة . هذا التكامل الموجود فى الشخصية كما ورد فى القرآن الكريم يمزج بين طاقاته كلها ويعمل على ربطها بحيث تجعل الموجود البشرى طاقة متسقة فعالة … فالإنسان كما يريده الله قوة فاعلة موجهة ومريده وهو قوة دافعة إلى الأمام .
ج ـ الإبتعاد عن الخصال التى تجعل الإنسان سلبياً متخاذلاً :ـ
يحذر القرآن الكريم الإنسان من أن يتصف بالسلوك المتخاذل الذى يجعله ضعيفاً أمام رغباته سلبياً أمام مواجهة دوافعه الغريزية وشهواته المادية ويصف الله سبحانه وتعالى ضعف الإنسان وتخاذله أمام هذه المغريات فى قوله سبحانه وتعالى (( زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة و الخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )) .
د ـ الإنسان يتصرف فى حدود قدراته ويتطلع إلى المثل العليا :ـ
لقد كان التكليف الإلهى للبشر فى حدود الطاقة ، فالله سبحانه وتعالى يجعل المسؤوليات فى حدود طاقة البشر ولايحمّله مالا يستطيع تحمّله أو لايستطيع الوفاء به ، بل يعامل الإنسان معاملة حانية فهو الخالق وهو القادر وهورب العرش العظيم فيقول الحق (( لايكلف الله نفساً إلا وسعها )) ، ويقول جل جلاله (( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً )) .
وأخيراً نقول أن صحة النفس من صحة الإيمان فكلما كان الإنسان طيب الصلة بربه عابداً إياه سلك بذلك طريقاً إلى الجنة وهوطريق السعادة ومع الطهارة والإبتعاد عن الهوى والدنيا لابد من الترفع عن الحقد والحسد والغل وقد ورد أنه من آوى فراشه لاينوى ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما اجترم وإذا طهرت النفس عن الرذائل انجلت مرآة القلب .
-
*د. زهير شاكر
للنفس البشرية عالم رحب وواسع يتسع لما لا يتسع له غيره من مكونات المخلوق البشرى ، ولهذا السبب خص الله النفس بآيات كثيرة فلا تكاد تخلو آية أو حديث من النفس .ولما كانت هذه المفردة تأخذ أبعاداً متنوعة ومختلفة فقد تحدث القرآن عنها وعن مدلو لاتها ،
وخصها بالتفصيل و الإسهاب لما لها من قوة و مكانة فى الانسان حيث ورد ذكرلفظ النفس وما يشتق منها فى " 313 موضعاً " واتخذت معانى كلية وجزئية .
قال الله تعالى :ـ (( وفى أنفسكم أفلا تبصرون )) فى هذه الآية يحثنا الله سبحانه وتعالى على التفكير والتدبر فى أنفسنا لأن فيها لنا العبر الكثيرة حيث تبين لنا هذه الآية عظمة خالقنا وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات و الحيوان والمهاد والجبال و الأنهار والبحار ، واختلاف ألسنة الناس و ألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى ، وما بينهم من التفاوت فى العقول و الفهوم والحركات والسعادة والشقاوة وما فى تركيبهم من الحكم فى وضع كل عضو من أعضائهم فى المحل الذى هو محتاج إليه فيه .
الانسان الناجح هو من يعرف ايجابيات نفسه ويدعمها ويحاول الابتعاد عن سلبياتها وكل انسان يولد على الفطرة أى أنه خيّر ولكن المحيط الذى يعيش فيه هو المسؤول عن تشكيل شخصيته .
ولقد تناول القرآن الكريم أبعاد الشخصية السوية و الغير سوية ، بل تناول مجموعة من العوامل المكونة لكل من السواء وعدم السواء فى الشخصية ، ويوضح لنا القرآن الكريم أن الصحة النفسية تتجلى من خلال عاطفة الحب المتدفق من الانسان نحو خالقه لأن الله هو صاحب الحياة وصاحب الفضل فى هذه النعم التى ينعم بها الانسان .
النفس البشرية فى القرآن والسنة :ـ
ينظر الإسلام إلى نفس الانسان على أنها مستودع قوى والمؤمن الذى يطيع ربه يكون ربانياً ، فالله هو الذى يقول للشىء كن فيكون ، وطاعة الله واجبة لقوله تعالى (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) ويعني هذا أن على الانسان اتباع أوامر الله و اجتناب نواهيه حتى ينال رضا الله وييسر له أموره .
لقد فسر القرآن الكريم أحوال النفس البشرية بما يتصل بها من الخواطر و الوساوس والهواجس والأحاسيس من فرح وحزن ووحشة وأنس وانقباض وانبساط وارتجاف وقلق واضطراب وغير ذلك مما سجله العلماء بعد طول معاناة ودراسة و تأمل . وفى القرآن معلومات كثيرة وشاملة عن النفس البشرية لأن مهمته الأولى هى التربية والتوجيه فهو كتاب يخاطب النفس ويوجهها لقوله تعالى(( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى )) ، ولقوله تعالى : (( الله أعلم بمافى أنفسهم )) .
ولقد وجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته رضوان الله عليهم الشىء نفسه فى القرآن الكريم مما أعانهم على فهم أنفسهم والسيطرة عليها . والدليل على ذلك هو فهم الصحابه والرسول صلوات الله عليه أن الله لا يطلب من العبد الشكر على المعروف لقوله تعالى : ((إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءاً ولا شكوراً )) .
ولما كان من أصعب أنواع الجهاد جهاد النفس فهذا يدل على مدى أهمية النفس فى الإسلام ،و العاقل يعلم أن حياته الصحيحة هى التوبة والرجوع إلى الله سبحانه ومحبته واغتنام الفرص للعبادة وهذا من أهم أساليب العلاج النفسى وقد سئل النبى عن أفضل الناس فقال " كل مخموم القلب صدوق اللسان فقالوا له صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب . فقال هو التقى النقى لاإثم فيه ولا بغى ولا غل ولا حسد " .
ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " اغتنم خمساً قبل خمس ، حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وشبابك قبل هرمك و فراغك قبل شغلك وغناك قبل فقرك " وعلم النفس يهتم بمراحل النمو وهنا حدثنا الرسول الكريم عن اغتنام مرحلة الشباب قبل الهرم فيما يفيدنا ويفيد ديننا .
قال تعالى : (( ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور )) إن فى الهدى النبوى البلسم الشافى للقلوب الضامئة إلى الحق والنفوس الطالبة لليقين والعقول الراشدة أو الرشيدة التى تنمو فى الصدق و الإخلاص فى العلم والعمل ، والنفس فى الهدى النبوى إذا صلحت انصلح أمر الجسم وإذا فسدت فسد أمر الجسم فعلاجها أولى وأهم من علاج البدن . فالمقصود من هذا أن كثيراً من الأمراض العضوية يكون سببها المباشر أو غير المباشر نفسى أى نتيجة اضطراب الحالة النفسية .
قام الرسول صلي الله عليه وسلم بتشخيص الأمراض البدنية التي ألمت ببعض أصحابه ووصف العلاجات المناسبة لها وربط صلوات الله عليه بين العلاج البدني والعلاج النفسي فنصح بعض أصحابه ممن يعانون منهم بألم فى بطنه أو ألام فى رأسه بالصلاة أوالإستعاذه أو باستخدام الرقية أو بذكر بعض الآيات القرآنية كالمعوذتين و آية الكرسى وغير ذلك من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الشريفة.
لقد فرق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الأزمات النفسية التى يمكن أن تهاجم الانسان وتعترض حياته فتصيبه بالهم والغم والكرب و الحزن والأرق والقلق وربما تنتهى به إلى الصراع النفسى ( الروحانى ) .
تصنيفات النفس البشرية وماذكر عنها فى القرآن والسنة :ـ
لقد وردت صراحة ثلاث آيات تبين مستويات النفس من حيث الإيمان ، فهناك النفس الأمارة بالسوء ، النفس اللوامة ، و النفس المطمئنة .. إضافة إلى النفس المسولة ، والنفس البصيرة ، والنفس الضطربة، والنفس الوسواسة. وهذا توضيح لكل نوع من هذه الأنفس :ـ
1ـ النفس المطمئنة :ـ
قال الله تعالى فى سورة الفجر الآية "27"(( ياأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى )) . صدق الله العظيم
النفس المطمئنة هى أرقى درجات الرفعة التىتصل إليها النفس البشرية ، فلم ترد النفس فى القرآن الكريم بهذه الصفة إلاَ فى هذه الآية ولعلّ الوصول إلى الإطمئنان يحتاج الكثير من المسلم حتى يرقى إليه . فالنفس المطمئنة هى تفاعل ايجابى أساسه الإيمان ،فالروح التى أراد الله لها أن تكون نقية صافية مؤمنة تتفاعل بالعقل الذى آمن بالله من خلال التفكير بمعجزات الكون والخلق كافة .
شروطها :
1ـ أن تكون صادقة مع نفسها بمعنى أنها يجب أن تكون صادقة مع ذاتها .
2ـ أن تكون صادقة مع الله أى أن تكون صادقة مع خالقها الذى هو سبب وجودها .
3ـ أن تكون صادقة مع الآخرين أىأن تكون صادقة مع من حولها من الآ خرين .
ويكون الإنسان راضياً عن نفسه عندما يكون الله تعالى راضياً عنه وهذه النفس مبشرة بالجنة ، مبتعدة عن الذنوب والمعاصى خالية من الأمراض والأنانية و التكبر.
2ـ النفس الأمارة بالسوء :ـ
قال تعالى فى سورة يوسف الآيه "53" (( وما أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى )) . صدق الله العظيم . وقال صلى الله عليه وسلم " نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل " .
من خلال هذه الآية نرى للنفس هنا مكانا للشر و الفتنة وتقترن بالهوى والشيطان وبفعل السوء ، والنفس الأمارة بالسوء تأمر صاحبها بفعل الخطايا و الآثام وارتكاب الرذائل وهى التى توسوس لصاحبها بشتى الو سائل مستعملة معه التحسين و التيسير وكل المغريات التى توقعه بلا شك فى الإثم و الخطأ ، فمثلاً أولئك الذين يعملون السحر و الشعوذة ويفرقون به بين المرء وزوجه أو بين الأخوة فما عملهم هذا إلا دليل على ضعف نفوسهم وعقولهم و سيطرة الشيطان عليها . فهذه النفس الحاقدة و المستهزءة سوف تخرج وتضخ مواد سامة مضرة بصحة الانسان و العديد من الأمراض النفسية التى تكون سبب للأمراض الجسدية كفقدان البصر و السمع و الشيخوخة المبكرة و كذلك أمراض السرطان و سقوط الشعر وحب الشباب وتسوس الأسنان ولا نقول أن كل تسوس أسنان بسبب الأمراض النفسية ولكن قد يكون 20% بسبب الشكولاة و20% الآخرين بسبب الالتهابات الحادة و60% بسبب الغيبة والنميمة .
3ـ النفس اللوامة :ـ
قال تعالى فى سورة القيامة الآية "2،1" (( لاأقسم بيوم القيامة( 1) ولا أقسم بالنفس اللوامة(2) )) صدق الله العظيم .
تعتبر النفس اللوامة درجة وسطى بين النفس المطمئنة و النفس الأمارة بالسوء،
والرقى من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة يحتاج إلى الإعتراف بالذنب و غسل الذنب بالدموع والعودة إلى الله والتوبة النصوحة فى جادة الصواب (( وأما من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى )) .
وهى من أفضل الأنفس عند الله لأنها تعمل كرقيب على الإنسان حتى لا يقع فى المعاصى وتلوم صاحبها وتشعره بالذنب عندما يخرج عن دائرة الصواب إلى دائرة الإنحراف ، أى هى بمثابة الناهى عن الخطأ و المرشد إلى الصواب .
4 ـ النفس المسولة :ـ
قال الله تعالى فى سورة يوسف الآية "12" (( وجاءو على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) .
وهى التى تزين وتسهل شيئا منكرا لصاحبها ليعمله ،وتسمح للإنسان بارتكاب المعاصى التى لا ترضى الله عز وجل وتجعل ارتكاب الذنوب أمر بسيط وهى النفس التى يقصدها الشيطان لضعف إيمانها وسهولة التأثير عليها . كماأن هذه النفس تظهر الشر على أنه خير مثل تزيين وتسهيل عملية الرشوة وهى حرام .
5ـ النفس البصيرة :ـ
قال تعالى فى سورة الذاريات الآيه "21" (( وفى أنفسكم أفلا تبصرون )) .
لقد كرمنا الله تعالى بالعقل والحواس من أجل أن نستخدمهما فيما هو نافع ، ونفخ فينا من روحه الخيّرة وهذا قمة التكريم . فهذه النفس هى التى تكون بصيرة بفعال العباد وتعرف ما يسلكونه من خير أوشر وتقوم بتبصير الإنسان بأخطاءه وتنبهه لها، ولقد أمرنا الله بأن ندرك أنفسنا وذلك بالوعى والإدراك وأن نعى ما بداخلنا لقوله صلى الله عليه وسلم " من عرف نفسه عرف الله " وهذا يعنى أن الإنسان عندما يعرف ذاته أى نفسه ويعرف ماذا يريد فى الحياة وماهى أهدافه سوف يستطيع بعد ذلك أن يعرف الله سبحانه وتعالى .
6ـ النفس المضطربة :ـ
وهى النفس التى لا تعرف الاستقرار فدائما فى حالة اضطراب وعدم استقرار فصاحبها إما متصف بالغرور أو النميمة و التكبر أو الأنانية فهذه كلها حالات اضطراب وكذلك الحقد والحسد والغيرة كلها تدل على النفس المضطربة والغيرة ليست دليل على الحب بل هى دليل على الكره وعدم الثقة والشك والغيرة تسبب للإنسان 26 عقدة نفسية و الغيرة تختلف عن الغيرية فالغيرية شىء جميل لأنه سوف تكون له غيرية عن الوطن و الشرف والعرض وغيرها .
وفى هذا السياق نجد أن الله تعالى يدعونا إلى التحول النفسى حيث قال رب العزة (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ))وهذا يعنى أن الله يطالبنا بالنظر إلى أنفسنا بغية تغييرها والعمل على إصلاحها فالتغيير النفسى ضرورة ملحة .
7ـ النفس الوسواسة :ـ
قال الله تعالى فى سورة ق الآية "16" ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه )) . صدق الله العظيم .
فوسوسة النفس هى وسوسة الشيطان ، ومهمة الشيطان دوماً هى غواية الإنسان وتضليله حتى يصبح كل حرام حلالاً لديه فلا يكسب الدنيا ولا يكسب الآخرة
ولما كانت النفس محطة يستقر بها الشيطان شيئاً فشيئافإنها ذاتها تعيش حالة الشيطان فى الوسوسة .
فالشيطان يزين للعين المنظر الحسن ولو كان الانسان مؤمناً فهو أيضاً مستهدفاً من قبل الشيطان فقد يترك الإنسان يتعبد ويصلى ولكن ليس فى وقت الصلاة فإذا تأخر الإنسان عن صلاته مرة بعد مرة يستطيع الشيطان بعدها أن يؤثر فيه أكثر وأكثر حتى يلغى وقتاً من الأوقات ثم وقتين وهكذا حتى يبعده كلياً عن فرض من فرائض الله .
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم " إن العبد إذا أذنب نكث فى قلبه نكثه سوداء فإن نزع واستغفر وتاب وصقل ، وإن عاد زيد فيه حتى تعلو قلبه " .
لقد أخذت النفس عالماً واسعاً من التحليلات النفسية والفلسفية لما فيها من ظواهر وعلامات كثيرة تشير إلى سير عملها ونشاطها ومجال حركتها ، وعلاقتها بالعقل والقلب والجسد ومن ثم علاقتها بالأهواء والنزوع نحو الشر أو الخير وجميع ذلك نجده فى القرآن الكريم .
يقول الله تعالى فى سورة الشمس الآيات (( ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكّاها ، وقد خاب من دسّاها ))
فالنفس فى الخلق الأول وضع الله فيها الخيار والاختيار فهى ملهمة أن تعرف التقوى وتعرف الفجور فمن زكىّ النفس وارتقى بها يفلح ومن جعلها تتبع الهوى والشهوات تخيب ويخيب معها صاحبها ، فمن عرف أصول النفس عرف أن لا قدرة له عليها إلا بالإستعانة بخالقها عز وجل وعبادته وترفّعه عما يذم ويؤدى به إلى المهالك .
والنفس إذا تمكن منها الهوى والفجور يتملكها الشيطان فتلجأ النفس إلى القلب تطالبه باستعمال الجوارح فى الفجور . فخاطر النفس وخاطر الشيطان مذمومان محكوم لهما بالسوء ، كثيرون يقولون أن لا وجود للشيطان ويقولون إن النفس الأمارة بالسوء هى الشيطان ذاته ، والحقيقة أن النفس محكومة لحاكمين حكم الشيطان إذا غفلت عن ربها وحكم الروح والإيمان إذا جفت الشيطان وحاربته ورفضت غوايته ، والنفس ملجأ الشيطان ينفذ منها إلى كافة الجسد فإذا ضيقت عليه الخناق و ذلك عن طريق الايمان فإنه يخرج منها وإلا سيظل يمتلك زمام قيادتها يجرها إلى الفساد والافساد وتزيين المحرمات والسقوط فى مهاوى الشهوات .
ـ اهتمام علماء الإسلام بالنفس البشرية :ـ
لقد فهم العلماء المسلمون النفس البشرية من خلال تعمقهم فى آيات الله واقتداءهم بالرسول الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى يعتبر أعظم معالج نفسى ، فقد عالج أمراض نفسية يعجز الأطباء فى العصور القديمة والحديثة على السواء فى إيجاد علاج لها ، فالقرآن الكريم فيه علاج لكل زمان ومكان لجميع الأمراض المستعصية ، ولقد كان للعلماء المسلمون اهتمام بالطب النفسى وأفردوا لهذا العلم الكثير من أبحاثهم واشتملت العديد من مؤلفاتهم على الإفاضة فى ذكر المصطلحات النفسية والروحية . ويتمثل ذلك فى بعض المصطلحات التى ورد ذكرها فى مؤلفات الشيخ الرئيس ابن سينا والرازى والإمام الغزالى " الجو النفسى ، المزاج النفسى،العلاج النفسى والأحوال النفسيةوالأهواء النفسية و الانفعالات والعلل النفسية ، الآفات النفسية ،
الوساوس ، الصرع الروحى ، الكروب ، الهم ، الأفعال المنعكسة ……إلخ .
وقد تناول الرازى فى كثير من مؤلفاته موضوع الأمور والأحوال النفسية مثل النوم و السرور والحزن كما أنه كتب رسالة عن الطب الروحى وله كتاب بعنوان " العلاج الروحى " .
ولقد اهتم أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزى بالطب الروحى والنفسى وله كتاب "ذم الهوى " كما له كتاب يسمى " الطب الروحانى " .
كما عالج الرازى وابن سينا موضوعات أخرى منها ماترتبط فيها الجوانب الفسيولوجية بالجوانب النفسية للإنسان تحت "قوى الأفعال " .
وواضح لنا أن العلماء المسلمون كانوا يقرنون الأمراض البدنية بالنفسية ويرون الاضطرابات النفسية إنما هى حالة ذهنية تصيب الإنسان نتيجة الأهواء العنيفة والمشاعر القوية فى النفس البشرية إذ أن النفس شديدة الحساسية ولديها القدرة على أن تشعر بالنافع والضار فى كل الأمور ، ووصف الشيخ الرئيس الكآبة والقلق والميلانوليا والميول الانتحارية والانفعالات وتأثيرها فى البدن وعلاقة الانفعال بالتغيرات الجسمية كنبضان القلب فى حالة القلق .
استخدم الرازى الموسيقى والإيحاء والتسلية فى العلاج النفسى ويفخر العرب بأنهم أول من أنشئوا المستشفيات وخصصوا قسماً منها للأمراض العقلية .
إن الطب النفسانى العربى استمد انسانيته من التعاليم الاسلامية ومن الموضوعية العلمية للأطباء الإغريق ومن التحسس العمرانى الحضارى للخلفاء .
كيف يحقق الإسلام الصحة النفسية :ـ
يحقق منهج الإسلام أركان الصحة النفسية فى بناء شخصية المسلم بتنمية هذه الصفات الأساسية :ـ
1ـ قوة الصلة بالله :ـ
وهى أمر أساسى فى بناء شخصية المسلم فى المراحل الأولى من عمره حتى تكون خالية من القلق والاضطرابات النفسية وتتم تقوية الصلة بالله بتنفيذ ما جاء فى وصية الرسول الكريم لعبد الله بن العباس :
"ياغلام إنى أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده اتجاهك ، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لشىء لم ينفعوك إلا لشىء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لشىء لم يضروك إلا لشىء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " .
2 ـ الثبات والتوازن الانفعالى :ـ
الايمان بالله يشيع فى القلب الطمأنينة والثبات والاتزان ويقى المسلم من عوامل القلق والخوف والاضطراب قال تعالى (( يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة )) وقال أيضاً ((هو الذى أنزل السكينة فى قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً )).
3ـ الصبر عند الشدائد :ـ
يربى الإسلام فى المؤمن روح الصبر عند البلاء عندما يتذكر قوله تعالى (( والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :ـ "عجباً لأمر المؤمن إن أمره خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء فكان خيراً له " .
4 ـ التفاؤل وعدم اليأس :ـ
فالمؤمن المتفائل دائماً لايتطرق اليأس إلى نفسه لقوله تعالى ((ولاتيئسوا من روح الله إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) . ويطمئن الله المؤمنين بأنه دائماً معهم إذا سألوه فإنه قريب منهم ويجيبهم إذا دعوه لقوله تعالى (( وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون )) . وهذه قمة الأمن النفسى للإنسان .
5 ـ المرونة فى مواجهة الواقع :ـ
وهى من أهم ما يحصّن الإنسان من القلق أو الاضطراب حين يتدبر قوله تعالى (( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وانتم لاتعلمون )) .
6ـ توافق المسلم مع نفسه :ـ
حيث انفرد الإسلام بأن جعل سن التكليف هو سن البلوغ للمسلم وهذه السن تأتى فى الغالب مبكرة عن سن الرشد الاجتماعى الذى تقرره النظم الوضعية وبذلك يبدأ المسلم حياته العملية وهو يحمل رصيداً مناسباً من الأسس النفسية السليمة التى تمكنه من التحكم والسيطرة على نزعاته وغرائزه وتمنحه درجة عالية من الرضا عن نفسه بفضل الإيمان والتربية الدينية الصحيحة التى توقض ضميره وتقوى صلته بالله .
7 ـ توافق المسلم مع الآخرين :ـ
الحياة بين المسلمين حياة تعاون على البر والتقوى ، والتسامح هو الطريق الذى يزيد المودة بينهم ويبعد البغضاء وكظم الغيظ والعفو عن الناس دليل على تقوى الله وقوة التوازن النفسى قال تعالى (( لاتستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم )) .
وهناك قضية أساسية تتعلق بمنهجية الرؤية إلى الإنسان وأن القرآن الكريم فى وصفه للإنسان من حيث أبعاده التى تميز شخصيته ، قد وضع منهجاً فريداً ينطبق فى كل زمان ومكان بما يحتويه من أسس ومبادىء . تتضح فى العناصر الآتية :ـ
أ ـ شمولية النظرة إلى الإنسان :ـ
إن نظرة الإسلام إلى الإنسان متكاملة و شاملة فلم يهتم بجانب دون آخر حيث نجده خلاف الأديان الأخرى نظر إلى الإنسان ككل فلم يفصل بين الروح والجسد والعقل بل هناك ترابط وتآزر وانسجام ويجب أن نرفض كل اتجاه أو عقيدة أو نظام يرى أنه ليس ثمّة روح للإنسان أو قيم أو دين .
ب ـ طاقات الأنسان تجعله قوة فاعلة وموجهة :ـ
إن الله سبحانه وتعالى قد وهب للإنسان مجموعة من القدرات يستفيد عن طريقها . ومن خلال توظيفه لهذه القدرات يرقى بنفسه وبمن حوله وفق منهج ونظام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وتوجهه ذاته الوجهة السليمة . هذا التكامل الموجود فى الشخصية كما ورد فى القرآن الكريم يمزج بين طاقاته كلها ويعمل على ربطها بحيث تجعل الموجود البشرى طاقة متسقة فعالة … فالإنسان كما يريده الله قوة فاعلة موجهة ومريده وهو قوة دافعة إلى الأمام .
ج ـ الإبتعاد عن الخصال التى تجعل الإنسان سلبياً متخاذلاً :ـ
يحذر القرآن الكريم الإنسان من أن يتصف بالسلوك المتخاذل الذى يجعله ضعيفاً أمام رغباته سلبياً أمام مواجهة دوافعه الغريزية وشهواته المادية ويصف الله سبحانه وتعالى ضعف الإنسان وتخاذله أمام هذه المغريات فى قوله سبحانه وتعالى (( زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة و الخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )) .
د ـ الإنسان يتصرف فى حدود قدراته ويتطلع إلى المثل العليا :ـ
لقد كان التكليف الإلهى للبشر فى حدود الطاقة ، فالله سبحانه وتعالى يجعل المسؤوليات فى حدود طاقة البشر ولايحمّله مالا يستطيع تحمّله أو لايستطيع الوفاء به ، بل يعامل الإنسان معاملة حانية فهو الخالق وهو القادر وهورب العرش العظيم فيقول الحق (( لايكلف الله نفساً إلا وسعها )) ، ويقول جل جلاله (( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً )) .
وأخيراً نقول أن صحة النفس من صحة الإيمان فكلما كان الإنسان طيب الصلة بربه عابداً إياه سلك بذلك طريقاً إلى الجنة وهوطريق السعادة ومع الطهارة والإبتعاد عن الهوى والدنيا لابد من الترفع عن الحقد والحسد والغل وقد ورد أنه من آوى فراشه لاينوى ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما اجترم وإذا طهرت النفس عن الرذائل انجلت مرآة القلب .
-
*د. زهير شاكر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق