⏪⏬
أدخل كابينة الهاتف العموميّ باكرا.. أشعل النّور ثمّ أجرّ سطل الماء من الحمام الخلفيّ، أدلقه وأبدأ بشطف المكان قبل أن يهلّ الزّبائن ثمّ أفتح الباب على مصراعيه لتجفّ الأرضية وأنتحي ركنا خفيّا وراء الكونتوار وأشرع في غزل الحلفاء قفيفات صغيرة أبيعها
للعرائس يضعن فيها الحلوى والحناء والسّواك..لو كنت أنا العروس لصنعت لنفسي مثلها أيضا لكني لم أجد الرجل المناسب بعد.. لا أرفع رأسي عن الحلفاء إلاّ لأفكّ القطع النقديّة لبعض الزبائن.. وأحيانا أخرى، فليغفر الله لي، أرفع رأسي وأفتح عينيّ وأصغر أذنيّ حين تشدّني محادثة أحد العاشقين أو أحد أولئك الذين لديهم حبيبات لم يروهم مطلقا إلا من خلال الخيالات وكابينات الهواتف العموميّة..يا الله ماأكثرهم!
هذا المساء.. عندما جنّ الليل نهضت، نفضت الحلفاء عن حجري ومضيت إلى الكابينات أُعمل مفتاحي في صناديق الهواتف فتنصرم القطع النقديّة رنّانة في الكيس البلاستيكيّ..
الكابينة رقم 05، إنّها الأخيرة،يكون صندوقها ثريّا في العادة لأنّها الأقرب إلى الباب لهذا يدلفها أغلب الزبائن.. هممت بفتح الصندوق ولكنّ وردة وحيدة كانت عالقة تحت سمّاعة الهاتف طالعتني في انكسار.. هل ينسى العشّاق ورودهم؟ دار في رأسي السؤال قليلا ثمّ سحبت الوردة ووضعتها في كأس ماء على الكونتوار ثم أقفلت الباب وغادرت.
اليوم الموالي الكابينة رقم 05.. وردة منسيّة من جديد. وضعتها في كأس الماء. وغادرت المكان.
في اليوم الثالث والرابع والخامس.. وردة منسية أيضا!
فكرت أن أعود بالورود إلى بيت الحاج.. ولكن في الحقيقة، أنا كذبت كثيرا يا الله..وأنا خجلة جدا من فعليَ هذا.. إذ لم يسبق أن أحضر لي أحدهم وردة مطلقا.. وإنّما كنت أتبجّح بذلك بهتانا أمام بنات الحاج وهنّ كنّ يعرفن كذبي..
ولكن؟ هذه الورود! أيمكن أن يكون أحدهم قد تركها لي فعلا؟
في اليوم الموالي، لم أستطع غزل الحلفاء للعرائس.. كان عليّ أن أغزل قفيفات لنفسي.. الورود قبالتي فتحت شهيّتي لأفكّر في رجل من جديد.. ربما هذا الذي ينسى وروده كل يوم على سماعة الهاتف الصّدئة..
ناديت البصّارة وفتحت لها كفّي خِفية وراء الكونتوار، همست لي.. سِمح ومڨدود، رثّ الحال لكن طيبة القلب ماتتشراش بالمال.. نقدتُها وأرسلتها.
عنّ لي خاطرٌ فقفزت ناحية الكابينة رقم 05 ولم ينته النهار بعد.. وردة أخرى !
ربّما آن لي الآن أن أعود بورود رجل حقيقيّ، خفق قلبي فعلا.
عقب النهار أفرغت صناديق الكابينات ثمّ ملت إلى ورداتي أغمرها.. حين وقف بطوله الفارع في الباب، تراجعت إلى الوراء.. في الحقيقة لم يكن الرّجال الشُّقر يستهوونني ولكن لابأس.. ثيابه رثّة كما قالت البصّارة ولكن لابأس أيضا سنجد صِرفة لهذا.. تقدّم خطوات إلى الداخل فارتعشت في يدي الورود، فتح فمه ليتكلّم فخرج صوته غريبا.. بَهْ.. بَهْ باا... ثمّ أشار إلى الورود بعينين هائمتين..
إن كان أصمّا فهذا أفضل أيضا.. في الحقيقة أنا امرأة ثرثارة وهذا نفّر من حولي الكثير من الرّجال، كما تعلمون لايحب الرّجل المرأة المهذار.
انتبهت إلى سلّة في يده مليئة بالورود.. تقدّم نحوي ثمّ رفعها في منتصف وجهي، أخذتها منه فآبتسم. خفق قلبي مجدّدا.
بقينا صامتين.. عاد يصدر أصواته الغريبة من جديد مشيرا إلى الورود التي في يدي..
دخل نادل المقهى المجاور ليأخذ القطع النّقديّة ويصمّدها، صرخ في الرّجل..
- مخلوف ! لقد عدت يا رجل!
تعانقا.. نظرت إليهما..
بهبه مخلوف من جديد، أخفيت الورود عن النّادل خجلا.. تحدّثا فيما بينهما ببضع إشارات لم أفهمها..
نظر النّادل إلى الورود التي أداريها ثمّ همس لي..
- يقول مخلوف إنّه يترك لك وردة كلّ يوم منذ ستّة أيّام.. فلتنقديه ثمنها الآن.. إنّه لايعمل نهاية الأسبوع.
* رحمة بريكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق