⏬ بقلم : عزيز لعويسي
تكتسي العملية التقويمية التربوية أهمية بالغة في العملية التعليمية التعلمية ، وهي عملية لا محيدة عنها تتيح فرصة مناسبة لكل من المدرس (ة) والمتعلمين للاشتراك في الأنشطة التربوية التي تساعد على تحقيق التعلم الأمثل، وتحديد مختلف الصعاب والمشكلات التي تواجههم، لإبراز جوانب التمكن و التحسن و جوانب الضعف، فتـــؤدي إلى تدعيم جوانب التحسن و معالجة التعثرات(1) ،وهذا التقويم التربــوي يعد عنصرا محوريا في مدخل الكفايات التربوية، بحيث يغطي مكونات العملية التعليمية التعلمية، ويتنوع حسب الوضعيات والمراحل في سيرورة التعلم بين التقويم التشخيصي و التقويم التكويني والتقويم الإجمالي(2) ، كما تتنوع أهدافه وغاياته وسبل أجرأته حسب المواد والتخصصات وحسب الأسلاك التعليمية، وقد تم تحديد أهم
مكونات التقويم التربوي في المدرسة العمومية في ثلاثة عناصر تتنوع بين “المراقبة المستمرة” و”الامتحان الجهوي” و”الامتحان الموحد الوطني”، وهي التركيبة الثلاثية التي تحضر في التقويم المرتبط بالسلك الثانوي التأهيلي والذي يتدرج من الامتحانات الموحدة الوطنية مرورا بالامتحانات الجهوية وانتهاء بالمراقبة المستمرة، وليس القصد الذي تحكم في هذا المقال، الخوض في ماهية التقويم التربوي وأنواعه وسيروراته وأهدافه و مقاصده، ولكن أملته الرغبة في مساءلة التقويم في منهاج التاريخ و الجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي، الذي يقوم على أساس “وضعيتين اختباريتين” تشمل الأولى الاشتغال على الموضوع المقالي (موضوعان اختياران في إحدى المادتين) والثانية ترتبط بالاشتغال على الوثائــق (في المادة الثانية) (3) وهذه الوضعية التقويمية تتأسس وفق ضوابط ومحددات الأطر المرجعية، التي تبقى بمثابة خارطة طريق تحدد المفاهيم و المضامين الدراسية المقررة والمهارات المستهدفة من عملية التقويم، و توضح الوضعيات الاختبارية للامتحانات سواء الوطنية أو الجهوية بما في ذلك تلك المتعلقة بالفروض الكتابية المحروسة، وهذه المساءلة ليس الهدف منها استعراض العملية التقويمية في مادة التاريخ و الجغرافيا من حيث المرجعيات الديدكتيكية والتربوية المتحكمة فيها، أو الخوض في سبل أجرأتها وتصريفها سواء عبر سيرورات العملية التعليمية التعلمية، أو عبر الفروض الكتابية المحروسة، أو عبر الامتحانات سواء الوطنية الموحدة أو الجهوية أو رصد ما تحققه من نتائج تقتضي وضع الخطط المناسبة لمعالجة التعثرات القائم ، أو كشف النقاب عما قد تثيره من ملاحظات نقدية (4)، ولكن الهدف الأساس الذي تحكم فيها، أملته الرغبة في الإحاطة بوضعية “الموضوع المقالي” التي ترافق المتعلم(ة) على امتداد سنوات الدراسة الإعدادية و التأهيلية بنفس “التركيبة”، مما يجعلها تكرس واقعا “نمطيا” يقوي رهان التجديــد يوما بعد يوما، وعليه سنحاول تشريح وضعية “الموضوع المقالي” من خلال تشخيص واقع النمطية (أولا) ورصد كل الاعتبارات التي تجعل من “التجديــد” رهانا أساسيا (ثانيا)، على أن نختم بتقديم بعض المقترحات التي من شأنها تحقيق غاية التجويد (ثالثا).
-أولا: واقـــــع النمطيــــة :
لابد ابتداء من بسط مثالين تطبيقيين لموضوعين مقاليين تم الاستشهاد بهما على سبيل المثال لا الحصر، الأول يتعلق بنموذج موضوع مقالي مقتبس من امتحان وطني موحد للباكالوريا (2016)، والثاني يخص نموذج موضوع مقالي ورد في امتحان جهوي سابق (الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الدارالبيضاء سطات، دورة يونيو 2017) ، وذلك على النحو التالي :
– مثال 1 : الامتحان الوطني الموحد للباكالوريا – الدورة العادية 2016- (الموضوع الأول) :
– خلفت الحرب العالمية الثانية نتائج سياسية مهدت لبــروز نظام القطبية الثنائية الذي تأرجحت فيه العلاقات الدولية بين الحرب الباردة و التعايش السلمي.
أكتب(ي) موضوعا مقاليا تبرز(ين) فيه ما يلي :
-النتائج السياسية للحرب العالمية الثانية وظروف بروز نظام القطبية الثانبة .
-مظاهر الحرب الباردة الأولى و أزماتها.
-مظاهر التعايش السلمي و الأزمات التي تخللته .
– مثال 2 : الامتحان الجهوي الموحد لنيل شهادة الباكالوريا (الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الدارالبيضاء سطات) – دورة يونيو 2017 – (الموضوع الاختياري الثاني) :
-تعتبر الفلاحة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و الصين قطاعا حيويا واستراتيجيا على الصعيد العالمي، بفعل تضافر عدة عوامل، ومع ذلك يواجه القطاع مجموعة من التحديات بالبلدين .
-أكتب(ي) موضوعا مقاليا توضح (ين) فيه ما يأتي :
-العوامل الطبيعية و البشرية و التنظيمية المفسرة لقوة الفلاحة في كل من الولايات المتحدة و الصين.
-المشاكل و التحديات التي تواجه الفلاحة في البلدين.
إذن وباستقراء المثالين المشار إليهما سلفا،يمكن إبداء الملاحظات التالية :
– بالنسبة للمثال الأول ، فقد تم توجيه المتعلم (ة) بكل عناية نحو العناصر المطلوب منه الإحاطة بها، وفي هذا الصدد ما عليه إلا أن يستحضر مكتسباته المعرفية ويكون ثلاث فقرات، تتعلق الأولى بالنتائج السياسية للحرب العالمية الثانية وظروف بروز نظام القطبية الثانية، والثانية بمظاهر الحرب الباردة الأولى و أزماتها والثالثة بمظاهر التعايش السلمي و الأزمات التي تخللته، ثم يعمل على الربط بين الفقرات المتوصل إليها عبر استعمال أدوات الربط (7 نقط)، مع صياغة مقدمة و خاتمة مناسبتين (نقطتان) وحسن الاعتناء بالجانب الشكلي (نقطة واحدة) :
– بالنسبة للمثال الثاني، فقد حضي أيضا المتعلم (ة) بما يكفي من العناية والمساعدة و التأطير، وما عليه إلا بناء فقرتين، الأولى حول العوامل الطبيعية و البشرية و التنظيمية المفسرة لقوة الفلاحة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و الصين، والثانية تلقي الضوء على المشاكل و التحديات التي تواجه الفلاحة في البلدين، ثم يربط في مرحلة ثانية بين الفقرتين باستعمال أدوات الربط(7 نقط)، وفي مرحلة ثالثة، وضع مقدمة و خاتمة مناسبتين (نقطتان)، مع الحرص على حسن الاعتناء بالجانب الشكلي (نقطة واحدة).
– انطلاقا من المثالين المشار إليهما سلفا، يلاحظ أن كل الامتحانات سواء الوطنية أو الجهوية الخاصة بمادتي التاريخ والجغرافيا (وضعية الموضوع المقالي)، أصبحت تتقاسم جميعها صفة “النمطية” لا من حيث الجانب الشكلي(طريقة الصياغة) ولا من حيث الجانب المنهجي، وهذه النمطية انتشرت كالعدوى في جسد الفروض الكتابية المحروسة التي أصبحت تلبس جبة الامتحانين الوطني و الجهوي.
– على المستوى الشكلي تصاغ وفق جملة تمهيدية (ممهدة للموضوع) تغطي وحدة دراسية (درس) أو تمتد لتشمل أكثر من وحدة دراسية (دروس) ، وتذيل بتوجيه المتعلم(ة) نحو العناصر المطلوب منه الإحاطة بها أو توضيحها أو إبرازها.
– على المستوى المنهجي ، تقدم هذه المواضيع المقالية “تصاميم جاهزة” على طابق من ذهب لمتعلم(ة) ما عليه إلا أن يستحضر ما “حفظه” من مكتسبات ذات الصلة ، لصياغة فقرات وحسن الربط بينها عبر أدوات الربط.
– تحاول تأطير إجابات المتعلمين وتوجيههم بعناية مركزة نحو العناصر المطلوب منهم الإحاطة بتوضيحها وتركيبها ، استثمارا لما تلقوه من مكتسبات معرفية طيلة موسم دراسي كامل، في إطار رؤية يحضر فيها “البعد المعرفي” بقوة على حساب “البعد المنهجي”و “المهاري” و”المواقفي” … إلخ.
– باستقراء سلم التنقيط المعتمد، يلاحظ أن الموضوع المقالي تمنح له عشر(10) نقط، موزعة بين سبع(7ن) نقط للجانب المعرفي و نقطتان (2ن) للجانب المنهجي ونقطة(1ن) واحدة للجانب الشكلي، بشكل يعطي الأفضلية للجانب المعرفي (7ن) بنسبة 70% من إجمالي النقطة، مقابل نسبة 20% للجانب المنهجي و10% للجانب الشكلي، وهذا السلم إذا كان من ناحية الشكل يصب في مصلحة المتعلم(ة)، فهو من ناحية الجوهر يشكل “تقييدا” له، من منطلق أن النقطة المحصل عليها ترتبط بمدى الإجابة على العناصر “المطلوبة”/”المفروضة” بطريقة “آليــــــة ” تغيب فيها “رؤيتة” للموضوع وطريقة معالجته، وحتى المدرس (ة) يكون في وضعية “تقييد” لأنه يصحح امتحانات وطنية أو جهوية أو فروض كتابية محروسة، “معالمها” مرسومة بشكل مسبق.
– ثانيــا : رهــان التغييـــر :
الملاحظات المومأ إليها أعلاه، قد يجد لها البعض مبررا معقولا لاعتبارين اثنــــين : أولهما أنها تساعد المتعلم(ة) وتضعه في صلب الموضوع المراد الإجابة عنه دون التيهان المعرفي والمنهجي، وثانيهما تدريبه من أجل تملك آليات ومهارات تحرير موضوع مقالي كمرحلة أولى، لإعداده في مرحلة لاحقة (الجامعة) للتعامل مع مواضيع أكثر تعقيدا تسائل “البعد المنهجي” بالقدر الذي تسائل “البعد المعرفي”، لكن قد يرى البعض الآخر أن المتعلم(ة) يتدرب على طريقة تحرير الموضوع المقالي لمدة ثلاثة مواسم طيلة المرحلة الإعدادية في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية على المواطنــة، وهي مدة كافيــة للاستئناس بالجوانب المعرفية والمنهجية والشكلية، خاصة فيما يتعلق بتركيب الفقرات وحسن الربط بينها بشكل منهجي، بما في ذلك وضع تقديم إشكالي وخاتمة مناسبتين، وبالتالي ليس هناك أي تبرير للاحتفاظ بنفس طريقة الصياغة في المرحلة الثانوية التأهيلية .
يمكن مشاطرة وجهة النظر الأولى على مستوى السلك الإعدادي الذي يعد مرحلة وسطية بين السلك الابتدائي والسلك التأهيلي ، حيث لا بد من أن يستأنس المتعلم(ة) بخطوات تحرير الموضوع المقالي أولا، بمساعدته عبر تذييل نص الموضوع بنوعيـــــة العناصر التي يتعين عليه الإحاطة بها في الموضوع، بشكل لا يتطلب منه إلا استحضار الجانب المعرفي وحسن الربط بين الفقرات مع وضع مقدمة وخاتمة مناسبتين، وبالتالي فثلاثة مواسم التي يقضيهــا المتعلم(ة) في السلك الإعـــدادي، تبقى كافيــــة لتملك منهجية تحرير موضوع مقالي “مؤطر” و”متحكم فيه”، لكن هذا التوجه لابد أن يتوقف عند حدود المرحلة الإعدادية (الثالثة ثانوي إعدادي)، وهنا يمكن تقاسم وجهة النظر الثانية، ذلك أن خصوصيات المرحلة التأهيلية (جذع مشترك، أولى باكالورياـ ثانية باكالوريا) تقتضي القطــع مع الوضعية الاختبارية المألوفـــة التي ليس فقط توجه المتعلم(ة)، بل وتقدم له “تصميما جاهــــزا” ، وهذه الطريقة تحرم المتعلم (ة) من فرص الاجتهاد من أجل وضع خارطة طريق (تصميم) من شأنها أن تؤطر عمله وتوضح رؤيته للموضوع ومنهجية معالجته، وبالتالي تقتل فيه روح التفكير و ملكة التعامل المنهجي مع المواضيع، مما يعكس أن الممارسة التربوية لا زالت تعرف استمرار "مركزية المحتوى" و "المدرس" على حساب المتعلم، الذي يصبح مجرد تلميذ يتلقى مادة تعلمه من الخارج وبطريقة جاهزة (5)، وهذا يساهم في تشكيل متعلم (ة) فقير على المستوى المنهجي.
قد يقول البعض أن مستويات الكثير من المتعلمين بالسلك التأهيلي تتميز بالمحدودية - مع بعض الاستثناءات- وبالتالي لا مفر من الإبقاء على المواضيع المقالية على صيغتها الحالية، لكن هذه الرؤية قد تتناسى أن الصيغ المعتمدة تكرس لواقع البساطة والرداءة، وتساهم في بناء متعلم (ة) معاق منهجيا ومهاريا ومواقفيا … إلخ، وتفسح المجال لتشجيع المتعلمين المتهاونين لممارسة فعل الغش في مواضيع مقالية تسائل الجانب المعرفي بنسبة 70% ، بدليــل أن واقع الممارسة الفصلية، يوضــح بما لا يدع مجالا للشك أن جل المتعلمين يواجهون صعوبات متعددة المستويات في التعامل مع المواضيع المقالية رغم بساطتها، إذ أن نسبة كبيرة تجد صعوبات في صياغة “تمهيد إشكالي” مناسب استثمارا لمخزونهم المعرفي، ويتم اللجوء إلى طريقة “ترقيعية” من خلال “فبركة” تمهيد إشكالي بإعادة كتابة “نص الموضوع” وربطه بالأسئلة التي تشتق من العناصر المطلوب الإجابة عنها، والبعض الآخر يكتب فقرات غير مترابطة لا يربط بينها أي رابط منهجي، بسبب ضعف تملك آليات الربط بين الفقرات ومحدودية المستوى الإدراكي واللغوي، والبعض الثالث يستغل “ملكة الحفظ”، ويكتب الموضوع بشكل “حرفي” كما أنزل في الملخص، والبعض الرابع لا يقوى حتى على تركيب جملة سليمة خالية من الأخطاء الإملائية، بل أكثر من ذلك يتبين بمناسبة إجراء الفروض الكتابية المحروسة، أن جميع المتعلمين بدون استثناء يحررون المواضيع المقالية بشكل “آلــي” دون أن يكلفوا أنفسهم عناء صياغة ” تصميم” الموضوع المقالي المقترح عليهم في المسودة، من أجل تحديد العناصر التي سيتعين عليهم الإحاطة بها، وهذه” الارتباكات المنهجية” يمكن أن نجد لها تفسيرا، من منطلق أن المتعلم(ة) ومنذ السنة الأولى إعدادي إلى حدود السنة الثانية باكالوريا (آداب وعلوم إنسانية) تعود على مواضيع مقالية “موجهة” و”متحكم فيها” وتقدم له “تصاميم جاهزة ”، والنتيجة هي “شلل” منهجي مثير للقلق أمام مواضيع “بسيطة لا تتطلب سوى الإحاطة بالجانب المعرفي، بل أكثر من ذلك فلابد من الإقرار أن “بساطة” و”رتابة” هذه المواضيع المقالية وإن كانت تنسجم و المستويات المتوسطة أو دون ذلك، فهي ولا شك في ذلك تخدم مصلحة المتعلمين المجدين و المتميزين الذين يحصلون على نقط متميزة بأقل تكلفة، وهي في نفس الوقت “تظلمهم” لأنها تقيدهم ولا تمنحهم الفرصة للارتقــاء و تطوير القدرات والإمكانيــات خاصة المنهجية .
– ثالثا : مقترحات :
– لا مناص إذن، من إعادة النظر في طريقة صياغة المواضيع المقالية الغارقة في أوحال النمطية و الرتابة، خصوصا في السلك الثانوي التأهيلي المفضي إلى التعليم العالي، عبر مساءلة “بنية تقويمية” لا زالت مصرة على احتضان “الجانب الكمي” على حساب البعد الكيفي، في زمن صارت فيه المعلومة متاحة في عالم تحول إلى قرية صغيرة لا تؤمن بالحدود والقيود، واقع متغير أصبحت فيه المعرفة “عالمية”، و في متناول الجميع في عصر المعلوميات والقنوات الفضائية التي كشفت خبايا و أسرار العلم و المعرفة التي كان المدرس يحتفظ بها لنفسه، لأنه كان آنذاك هو “المرجع الوحيد” الذي يمتلكها، وكان يركز عليها في العملية التعليمية التعلمية متجاهلا بذلك التلميذ(ة) الذي كان خاضعا لأوامر مدرسه ويتقبل منه كل ما يقوله أو يمليه عليه دون معارضة، لأنه كان ملزما بإعادة المعلومات كما استقبلها على صيغتها الأولية دون تغيير أو تحريف (6)، وذلك من خلال التفكير في صيغ تقويمية بديلة قادرة على الارتقاء بالمتعلم(ة) معرفيا و منهجيا ومهاريا و مواقفيا ولغويا، بشكل يجعله يندمج بسلاسة في المسار الجامعي دون فشل أو ارتباك، من منطلق أن النماذج و الطرق البيداغوجية الحديثة تتأسس على الاعتراف بفاعلية التلميذ(ة)، و تثمين قيمته باعتباره عنصرا إيجابيا و تواقا إلى التعلم و العمل والإنتاج(7)، وفي نفــــس الآن تحرير المدرس (ة) من سلطة “أطر مرجعية” راكدة و”توجيهات تربوية” عقيمة تقيده ولا تترك له أي مجــال أو هامش للخلق والتجديد والابتكار، بشكل يجعله “مدرسا نمطيا” يجد نفسه في كل موسم دراسي مجبــرا على إنتــاج و تصحيــح “مواضيع مقالية نمطيـــة”، وما يقوي رهــان التجديـــد، هو أن وضعية المواضيع المقالية في مادة التاريخ والجغرافيا – بصيغتها الحالية – أضحت متجاوزة قياسا مع طبيعة الوضعيات الاختبارية لبعض المواد، من قبيل -مثلا- مادة “اللغة العربية” (الإنشاء) و مادة “الفلسفة”، و بشكل خاص تلك المرتبطة بمادة التربية الإسلامية التي تبدو أكثر تقدما وتفتحا، حيث تتم مساءلة المتعلم(ة) انطلاقا من “وضعيات” تتطلب قدرات معرفية ومنهجية ومهارية ومواقفية، وليس انطلاقا من مواضيع موجهة ومؤطرة تعمق الرداءة و الهشاشة، و تقوي الدافع نحو ممارسة فعل الغش المدرسي الذي يرتفع منسوبه في زمن الفروض الكتابية والامتحانات الإشهادية، وبالتالي يمكن تبني خيار”الوضعيات” محل “الموضوع المقالي” المؤطر والمتحكم فيه خاصة في السلك التأهيلي.
– في إطار التجارب المقارنة، وباستقراء امتحانات الباكالوريا في التاريخ و الجغرافيا وفق النظام الفرنسي، يلاحظ أن طريقة صياغة “المواضيع المقالية” تبدو أكثر تقدما، ولتوضيح الرؤية يمكن الإشارة إلى مثالين من الباكالوريا العامة بفرنسا :
-مثال أول : (دورة يونيو 2017- شعبة العلوم) : الموضوع الاختياري الأول كان حول الصين ” الصين و العالم منذ 1949″ بينما الموضوع الاختياري الثاني ارتبط برصد جوانب من تاريخ فرنسا ” نظام الحكم بفرنسا منذ 1946 : الدولة، الحكومة،الإدارة،الرأي العام” (8).
-مثال ثان : (دورة يونيو 2017- شعبة الآداب) : الموضوع الاختياري الأول كان حول ” الاشتراكية، الشيوعية ، التنظيمات النقابية بألمانيا غداة الحرب العالمية الثانية إلى الزمن الحاضر”، في حين الموضوع الاختياري الثاني ارتبط بالصين في علاقاتها بالعالم ” الصين و العالم منذ 1949 “(9).
وعلى ضوء المثالين المشار إليهما سلفا، يتضح و بجلاء أن هكذا مواضيع تشكل محكا حقيقيا للمترشح(ة) ليس فقط على المستوى المعرفي، ولكن أيضا على المستويات المنهجية و المهارية و اللغوية و غيرها، فالموضوع الاختياري المتعلق بالصين – مثلا- يضع المترشح(ة) أمام إطار مجالي ممتد (الصين و العالم) وإطار زمني (منذ 1949 إلى الزمن الحاضر) ، وهذا الإطار”الزمكاني” من الصعب ضبطه و التحكم في مداخله و مخارجه، دون تملك "الآليات المنهجية" التي تساعد على ترويض الجانب المعرفي و حسن تنزيل “رؤية “المترشح(ة) للموضوع المقترح، إذ الهدف ليس هو المعرفة بذاتها، بل في كيفية تطويقها والسيطرة عليها منهجيا، وهذا يتضارب كليا مع ما هو معمول به بنظام الباكالوريا المغربية كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا (امتحانات التاريخ و الجغرافيا)، حيث يقدم للمترشح(ة) المغربي كل شئ، وما عليه إلا استحضار ما شحن في ذاكرته من معارف، وفي هذا الصدد يمكن الاعتماد على الطريقة المعمول بها في فرنسـا خاصة في المرحلة التأهيلية من أجل تمكين المترشح(ة) من مرور “سلس” نحو التعليم العالي.
إذن تأسيسا على ماسبق، فإذا كان الكثير من المهتمين والمتتبعين يضعون الأصابع على مجموعة من الاختلالات التي تعتري منهاج تدريس التاريخ والجغرافيا بحكم المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، فقد آن الأوان لمساءلة هذا المنهاج ككل وفق رؤية شمولية من شأنها أن تمنح الحياة لمادة أصبح إسمها مقرونا بالرتابة المملة، وهذا لن يتأتى إلا بنفض الغبار عن “التوجيهات التربوية و البرامج الخاصة بتدريس التاريخ و الجغرافيا بسلك الثانوي التأهيل”، و تحريك المياه الراكدة للأطر المرجعية التي تؤطر مختلف الوضعيات التقويمية، أطر مرجعية متناقضة تماما، ظاهرها يتبنى مقاربة التدريس بالكفايات، أما جوهرها فيقدم المعارف أو على الأصح تاريخ المعارف، لأن المناهج الدراسية التي لم يتم تجديدها لأكثر من عشر سنوات هي معارف تنتمي لتاريخ المعرفة وليس للمعرفة، والنتيجة هي تحول البرامج الدراسية إلى “سلكة” كما هو الحال في التعليم العتيق، وتحول التدريس إلى “تحفيظ” و التقويم إلى لحظة يرجع فيها التلاميذ/ الطلبة (بسكون اللام) البضاعة إلى أهلها، حتى إذا عجزوا عن ذلك و فشلوا في شحن “ذاكرتهم” ب”اللغو”، عمدوا إلى شحن ذاكرات هواتفهم واستعمالها في الغش (10)، وإذا وضعنا “التاريخ و الجغرافيا” في قفص المساءلة و الاتهام، فليس من باب تحميلها مسؤولية انحطاط المستوى المنهجي للمتعلم(ة)، لأن الانحطاط يبدو كما لو كان “أخطبوطا” يخترق كل المواد والتخصصات، خاصة تلك التي تحضر فيها آليات وميكانيزمات التفكير والتحليل والتركيب (اللغة العربية ، الفلسفة، التربية الإسلامية ، اللغات ..)، لذلك آن الأوان للقطع مع”النمطية” التي تعشش لسنوات كخيوط العناكب في كل المواد ومن ضمنها “التاريخ والجغرافيا”، والإيمان بفلسفة “التجديد " في زمن "رؤية الإصلاح"..
*عزيز لعويسي
Laaouissiaziz1@gmail.com
مراجع معتمدة :
(1) المصطفى لخصاضي،تدريس التاريخ والجغرافيا”حقل الجغرافيا” ،المرجعية الفكرية و الممارسة الديدكتيكية ، إفريقيا الشرق، السنة 2012، ص 160.
(2) المصطفى لخصاضي،تدريس التاريخ والجغرافيا”حقل التاريخ ” ،المرجعية الفكرية و الممارسة الديدكتيكية ، إفريقيا الشرق، السنة 2012، ص 201
(3) التوجيهات التربوية وبرامج تدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، ص 35 .
(4) للمزيد من التوسع ينظر في هذا الصدد ، المصطفى لخصاضي، مرجع سابق، ص 218 وما بعدها،
(5) الحبيب استاتي ، “من التلميذ الى المتعلم بالمدرسة العمومية تقاطعات بين الحمولة الدلالية و المعرفية و الممارسة البيداغوجية “، دفاتر التربية و التكوين العدد10 نونبر 2013 ، ص 15 مكتبة المدارس الدارالبيضاء.
(6) حمد الله جبارة مؤشرات كفايات المدرس “علاقة المدرس بالتلميذ في المقاربة بالكفايات ” مطبعة النجاح الجديدة بالدارالبيضاء الطبعة الاولى 2009 ، ص 18.
(7) محمد مومن، “بيداغوجيا التعليم المغربي”، مجلة علوم التربية، العدد 55 ابريل 2013 ص 13.
(8) وردت الصيغة الفرنسية للموضوعين الاختياريين على النحو التالي :
Sujet 1 : La Chine et le monde depuis 1949 – sujet 2 : GOUVERNER LA France depuis 1946 : ETAT, GOUVERNEMENT, ADMINISTRATION,OPINION .
(9) وردت الصيغة الفرنسية للموضوعين الاختياريين على النحو التالي :
Sujet 1 : Socialisme, Communisme et Syndicalisme en Allemagne des lendemain de la seconde guerre mondiale a nos jours – sujet 2 : la Chine et le monde depuis 1949 .
(10) المصطفى مورادي، الوزارة المنتدبة لدى وزير الداخلية المكلفة بالتربية ، جريدة الأخبار العدد 1119 6 يوليوز 2016.
تكتسي العملية التقويمية التربوية أهمية بالغة في العملية التعليمية التعلمية ، وهي عملية لا محيدة عنها تتيح فرصة مناسبة لكل من المدرس (ة) والمتعلمين للاشتراك في الأنشطة التربوية التي تساعد على تحقيق التعلم الأمثل، وتحديد مختلف الصعاب والمشكلات التي تواجههم، لإبراز جوانب التمكن و التحسن و جوانب الضعف، فتـــؤدي إلى تدعيم جوانب التحسن و معالجة التعثرات(1) ،وهذا التقويم التربــوي يعد عنصرا محوريا في مدخل الكفايات التربوية، بحيث يغطي مكونات العملية التعليمية التعلمية، ويتنوع حسب الوضعيات والمراحل في سيرورة التعلم بين التقويم التشخيصي و التقويم التكويني والتقويم الإجمالي(2) ، كما تتنوع أهدافه وغاياته وسبل أجرأته حسب المواد والتخصصات وحسب الأسلاك التعليمية، وقد تم تحديد أهم
مكونات التقويم التربوي في المدرسة العمومية في ثلاثة عناصر تتنوع بين “المراقبة المستمرة” و”الامتحان الجهوي” و”الامتحان الموحد الوطني”، وهي التركيبة الثلاثية التي تحضر في التقويم المرتبط بالسلك الثانوي التأهيلي والذي يتدرج من الامتحانات الموحدة الوطنية مرورا بالامتحانات الجهوية وانتهاء بالمراقبة المستمرة، وليس القصد الذي تحكم في هذا المقال، الخوض في ماهية التقويم التربوي وأنواعه وسيروراته وأهدافه و مقاصده، ولكن أملته الرغبة في مساءلة التقويم في منهاج التاريخ و الجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي، الذي يقوم على أساس “وضعيتين اختباريتين” تشمل الأولى الاشتغال على الموضوع المقالي (موضوعان اختياران في إحدى المادتين) والثانية ترتبط بالاشتغال على الوثائــق (في المادة الثانية) (3) وهذه الوضعية التقويمية تتأسس وفق ضوابط ومحددات الأطر المرجعية، التي تبقى بمثابة خارطة طريق تحدد المفاهيم و المضامين الدراسية المقررة والمهارات المستهدفة من عملية التقويم، و توضح الوضعيات الاختبارية للامتحانات سواء الوطنية أو الجهوية بما في ذلك تلك المتعلقة بالفروض الكتابية المحروسة، وهذه المساءلة ليس الهدف منها استعراض العملية التقويمية في مادة التاريخ و الجغرافيا من حيث المرجعيات الديدكتيكية والتربوية المتحكمة فيها، أو الخوض في سبل أجرأتها وتصريفها سواء عبر سيرورات العملية التعليمية التعلمية، أو عبر الفروض الكتابية المحروسة، أو عبر الامتحانات سواء الوطنية الموحدة أو الجهوية أو رصد ما تحققه من نتائج تقتضي وضع الخطط المناسبة لمعالجة التعثرات القائم ، أو كشف النقاب عما قد تثيره من ملاحظات نقدية (4)، ولكن الهدف الأساس الذي تحكم فيها، أملته الرغبة في الإحاطة بوضعية “الموضوع المقالي” التي ترافق المتعلم(ة) على امتداد سنوات الدراسة الإعدادية و التأهيلية بنفس “التركيبة”، مما يجعلها تكرس واقعا “نمطيا” يقوي رهان التجديــد يوما بعد يوما، وعليه سنحاول تشريح وضعية “الموضوع المقالي” من خلال تشخيص واقع النمطية (أولا) ورصد كل الاعتبارات التي تجعل من “التجديــد” رهانا أساسيا (ثانيا)، على أن نختم بتقديم بعض المقترحات التي من شأنها تحقيق غاية التجويد (ثالثا).
-أولا: واقـــــع النمطيــــة :
لابد ابتداء من بسط مثالين تطبيقيين لموضوعين مقاليين تم الاستشهاد بهما على سبيل المثال لا الحصر، الأول يتعلق بنموذج موضوع مقالي مقتبس من امتحان وطني موحد للباكالوريا (2016)، والثاني يخص نموذج موضوع مقالي ورد في امتحان جهوي سابق (الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الدارالبيضاء سطات، دورة يونيو 2017) ، وذلك على النحو التالي :
– مثال 1 : الامتحان الوطني الموحد للباكالوريا – الدورة العادية 2016- (الموضوع الأول) :
– خلفت الحرب العالمية الثانية نتائج سياسية مهدت لبــروز نظام القطبية الثنائية الذي تأرجحت فيه العلاقات الدولية بين الحرب الباردة و التعايش السلمي.
أكتب(ي) موضوعا مقاليا تبرز(ين) فيه ما يلي :
-النتائج السياسية للحرب العالمية الثانية وظروف بروز نظام القطبية الثانبة .
-مظاهر الحرب الباردة الأولى و أزماتها.
-مظاهر التعايش السلمي و الأزمات التي تخللته .
– مثال 2 : الامتحان الجهوي الموحد لنيل شهادة الباكالوريا (الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة الدارالبيضاء سطات) – دورة يونيو 2017 – (الموضوع الاختياري الثاني) :
-تعتبر الفلاحة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و الصين قطاعا حيويا واستراتيجيا على الصعيد العالمي، بفعل تضافر عدة عوامل، ومع ذلك يواجه القطاع مجموعة من التحديات بالبلدين .
-أكتب(ي) موضوعا مقاليا توضح (ين) فيه ما يأتي :
-العوامل الطبيعية و البشرية و التنظيمية المفسرة لقوة الفلاحة في كل من الولايات المتحدة و الصين.
-المشاكل و التحديات التي تواجه الفلاحة في البلدين.
إذن وباستقراء المثالين المشار إليهما سلفا،يمكن إبداء الملاحظات التالية :
– بالنسبة للمثال الأول ، فقد تم توجيه المتعلم (ة) بكل عناية نحو العناصر المطلوب منه الإحاطة بها، وفي هذا الصدد ما عليه إلا أن يستحضر مكتسباته المعرفية ويكون ثلاث فقرات، تتعلق الأولى بالنتائج السياسية للحرب العالمية الثانية وظروف بروز نظام القطبية الثانية، والثانية بمظاهر الحرب الباردة الأولى و أزماتها والثالثة بمظاهر التعايش السلمي و الأزمات التي تخللته، ثم يعمل على الربط بين الفقرات المتوصل إليها عبر استعمال أدوات الربط (7 نقط)، مع صياغة مقدمة و خاتمة مناسبتين (نقطتان) وحسن الاعتناء بالجانب الشكلي (نقطة واحدة) :
– بالنسبة للمثال الثاني، فقد حضي أيضا المتعلم (ة) بما يكفي من العناية والمساعدة و التأطير، وما عليه إلا بناء فقرتين، الأولى حول العوامل الطبيعية و البشرية و التنظيمية المفسرة لقوة الفلاحة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و الصين، والثانية تلقي الضوء على المشاكل و التحديات التي تواجه الفلاحة في البلدين، ثم يربط في مرحلة ثانية بين الفقرتين باستعمال أدوات الربط(7 نقط)، وفي مرحلة ثالثة، وضع مقدمة و خاتمة مناسبتين (نقطتان)، مع الحرص على حسن الاعتناء بالجانب الشكلي (نقطة واحدة).
– انطلاقا من المثالين المشار إليهما سلفا، يلاحظ أن كل الامتحانات سواء الوطنية أو الجهوية الخاصة بمادتي التاريخ والجغرافيا (وضعية الموضوع المقالي)، أصبحت تتقاسم جميعها صفة “النمطية” لا من حيث الجانب الشكلي(طريقة الصياغة) ولا من حيث الجانب المنهجي، وهذه النمطية انتشرت كالعدوى في جسد الفروض الكتابية المحروسة التي أصبحت تلبس جبة الامتحانين الوطني و الجهوي.
– على المستوى الشكلي تصاغ وفق جملة تمهيدية (ممهدة للموضوع) تغطي وحدة دراسية (درس) أو تمتد لتشمل أكثر من وحدة دراسية (دروس) ، وتذيل بتوجيه المتعلم(ة) نحو العناصر المطلوب منه الإحاطة بها أو توضيحها أو إبرازها.
– على المستوى المنهجي ، تقدم هذه المواضيع المقالية “تصاميم جاهزة” على طابق من ذهب لمتعلم(ة) ما عليه إلا أن يستحضر ما “حفظه” من مكتسبات ذات الصلة ، لصياغة فقرات وحسن الربط بينها عبر أدوات الربط.
– تحاول تأطير إجابات المتعلمين وتوجيههم بعناية مركزة نحو العناصر المطلوب منهم الإحاطة بتوضيحها وتركيبها ، استثمارا لما تلقوه من مكتسبات معرفية طيلة موسم دراسي كامل، في إطار رؤية يحضر فيها “البعد المعرفي” بقوة على حساب “البعد المنهجي”و “المهاري” و”المواقفي” … إلخ.
– باستقراء سلم التنقيط المعتمد، يلاحظ أن الموضوع المقالي تمنح له عشر(10) نقط، موزعة بين سبع(7ن) نقط للجانب المعرفي و نقطتان (2ن) للجانب المنهجي ونقطة(1ن) واحدة للجانب الشكلي، بشكل يعطي الأفضلية للجانب المعرفي (7ن) بنسبة 70% من إجمالي النقطة، مقابل نسبة 20% للجانب المنهجي و10% للجانب الشكلي، وهذا السلم إذا كان من ناحية الشكل يصب في مصلحة المتعلم(ة)، فهو من ناحية الجوهر يشكل “تقييدا” له، من منطلق أن النقطة المحصل عليها ترتبط بمدى الإجابة على العناصر “المطلوبة”/”المفروضة” بطريقة “آليــــــة ” تغيب فيها “رؤيتة” للموضوع وطريقة معالجته، وحتى المدرس (ة) يكون في وضعية “تقييد” لأنه يصحح امتحانات وطنية أو جهوية أو فروض كتابية محروسة، “معالمها” مرسومة بشكل مسبق.
– ثانيــا : رهــان التغييـــر :
الملاحظات المومأ إليها أعلاه، قد يجد لها البعض مبررا معقولا لاعتبارين اثنــــين : أولهما أنها تساعد المتعلم(ة) وتضعه في صلب الموضوع المراد الإجابة عنه دون التيهان المعرفي والمنهجي، وثانيهما تدريبه من أجل تملك آليات ومهارات تحرير موضوع مقالي كمرحلة أولى، لإعداده في مرحلة لاحقة (الجامعة) للتعامل مع مواضيع أكثر تعقيدا تسائل “البعد المنهجي” بالقدر الذي تسائل “البعد المعرفي”، لكن قد يرى البعض الآخر أن المتعلم(ة) يتدرب على طريقة تحرير الموضوع المقالي لمدة ثلاثة مواسم طيلة المرحلة الإعدادية في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية على المواطنــة، وهي مدة كافيــة للاستئناس بالجوانب المعرفية والمنهجية والشكلية، خاصة فيما يتعلق بتركيب الفقرات وحسن الربط بينها بشكل منهجي، بما في ذلك وضع تقديم إشكالي وخاتمة مناسبتين، وبالتالي ليس هناك أي تبرير للاحتفاظ بنفس طريقة الصياغة في المرحلة الثانوية التأهيلية .
يمكن مشاطرة وجهة النظر الأولى على مستوى السلك الإعدادي الذي يعد مرحلة وسطية بين السلك الابتدائي والسلك التأهيلي ، حيث لا بد من أن يستأنس المتعلم(ة) بخطوات تحرير الموضوع المقالي أولا، بمساعدته عبر تذييل نص الموضوع بنوعيـــــة العناصر التي يتعين عليه الإحاطة بها في الموضوع، بشكل لا يتطلب منه إلا استحضار الجانب المعرفي وحسن الربط بين الفقرات مع وضع مقدمة وخاتمة مناسبتين، وبالتالي فثلاثة مواسم التي يقضيهــا المتعلم(ة) في السلك الإعـــدادي، تبقى كافيــــة لتملك منهجية تحرير موضوع مقالي “مؤطر” و”متحكم فيه”، لكن هذا التوجه لابد أن يتوقف عند حدود المرحلة الإعدادية (الثالثة ثانوي إعدادي)، وهنا يمكن تقاسم وجهة النظر الثانية، ذلك أن خصوصيات المرحلة التأهيلية (جذع مشترك، أولى باكالورياـ ثانية باكالوريا) تقتضي القطــع مع الوضعية الاختبارية المألوفـــة التي ليس فقط توجه المتعلم(ة)، بل وتقدم له “تصميما جاهــــزا” ، وهذه الطريقة تحرم المتعلم (ة) من فرص الاجتهاد من أجل وضع خارطة طريق (تصميم) من شأنها أن تؤطر عمله وتوضح رؤيته للموضوع ومنهجية معالجته، وبالتالي تقتل فيه روح التفكير و ملكة التعامل المنهجي مع المواضيع، مما يعكس أن الممارسة التربوية لا زالت تعرف استمرار "مركزية المحتوى" و "المدرس" على حساب المتعلم، الذي يصبح مجرد تلميذ يتلقى مادة تعلمه من الخارج وبطريقة جاهزة (5)، وهذا يساهم في تشكيل متعلم (ة) فقير على المستوى المنهجي.
قد يقول البعض أن مستويات الكثير من المتعلمين بالسلك التأهيلي تتميز بالمحدودية - مع بعض الاستثناءات- وبالتالي لا مفر من الإبقاء على المواضيع المقالية على صيغتها الحالية، لكن هذه الرؤية قد تتناسى أن الصيغ المعتمدة تكرس لواقع البساطة والرداءة، وتساهم في بناء متعلم (ة) معاق منهجيا ومهاريا ومواقفيا … إلخ، وتفسح المجال لتشجيع المتعلمين المتهاونين لممارسة فعل الغش في مواضيع مقالية تسائل الجانب المعرفي بنسبة 70% ، بدليــل أن واقع الممارسة الفصلية، يوضــح بما لا يدع مجالا للشك أن جل المتعلمين يواجهون صعوبات متعددة المستويات في التعامل مع المواضيع المقالية رغم بساطتها، إذ أن نسبة كبيرة تجد صعوبات في صياغة “تمهيد إشكالي” مناسب استثمارا لمخزونهم المعرفي، ويتم اللجوء إلى طريقة “ترقيعية” من خلال “فبركة” تمهيد إشكالي بإعادة كتابة “نص الموضوع” وربطه بالأسئلة التي تشتق من العناصر المطلوب الإجابة عنها، والبعض الآخر يكتب فقرات غير مترابطة لا يربط بينها أي رابط منهجي، بسبب ضعف تملك آليات الربط بين الفقرات ومحدودية المستوى الإدراكي واللغوي، والبعض الثالث يستغل “ملكة الحفظ”، ويكتب الموضوع بشكل “حرفي” كما أنزل في الملخص، والبعض الرابع لا يقوى حتى على تركيب جملة سليمة خالية من الأخطاء الإملائية، بل أكثر من ذلك يتبين بمناسبة إجراء الفروض الكتابية المحروسة، أن جميع المتعلمين بدون استثناء يحررون المواضيع المقالية بشكل “آلــي” دون أن يكلفوا أنفسهم عناء صياغة ” تصميم” الموضوع المقالي المقترح عليهم في المسودة، من أجل تحديد العناصر التي سيتعين عليهم الإحاطة بها، وهذه” الارتباكات المنهجية” يمكن أن نجد لها تفسيرا، من منطلق أن المتعلم(ة) ومنذ السنة الأولى إعدادي إلى حدود السنة الثانية باكالوريا (آداب وعلوم إنسانية) تعود على مواضيع مقالية “موجهة” و”متحكم فيها” وتقدم له “تصاميم جاهزة ”، والنتيجة هي “شلل” منهجي مثير للقلق أمام مواضيع “بسيطة لا تتطلب سوى الإحاطة بالجانب المعرفي، بل أكثر من ذلك فلابد من الإقرار أن “بساطة” و”رتابة” هذه المواضيع المقالية وإن كانت تنسجم و المستويات المتوسطة أو دون ذلك، فهي ولا شك في ذلك تخدم مصلحة المتعلمين المجدين و المتميزين الذين يحصلون على نقط متميزة بأقل تكلفة، وهي في نفس الوقت “تظلمهم” لأنها تقيدهم ولا تمنحهم الفرصة للارتقــاء و تطوير القدرات والإمكانيــات خاصة المنهجية .
– ثالثا : مقترحات :
– لا مناص إذن، من إعادة النظر في طريقة صياغة المواضيع المقالية الغارقة في أوحال النمطية و الرتابة، خصوصا في السلك الثانوي التأهيلي المفضي إلى التعليم العالي، عبر مساءلة “بنية تقويمية” لا زالت مصرة على احتضان “الجانب الكمي” على حساب البعد الكيفي، في زمن صارت فيه المعلومة متاحة في عالم تحول إلى قرية صغيرة لا تؤمن بالحدود والقيود، واقع متغير أصبحت فيه المعرفة “عالمية”، و في متناول الجميع في عصر المعلوميات والقنوات الفضائية التي كشفت خبايا و أسرار العلم و المعرفة التي كان المدرس يحتفظ بها لنفسه، لأنه كان آنذاك هو “المرجع الوحيد” الذي يمتلكها، وكان يركز عليها في العملية التعليمية التعلمية متجاهلا بذلك التلميذ(ة) الذي كان خاضعا لأوامر مدرسه ويتقبل منه كل ما يقوله أو يمليه عليه دون معارضة، لأنه كان ملزما بإعادة المعلومات كما استقبلها على صيغتها الأولية دون تغيير أو تحريف (6)، وذلك من خلال التفكير في صيغ تقويمية بديلة قادرة على الارتقاء بالمتعلم(ة) معرفيا و منهجيا ومهاريا و مواقفيا ولغويا، بشكل يجعله يندمج بسلاسة في المسار الجامعي دون فشل أو ارتباك، من منطلق أن النماذج و الطرق البيداغوجية الحديثة تتأسس على الاعتراف بفاعلية التلميذ(ة)، و تثمين قيمته باعتباره عنصرا إيجابيا و تواقا إلى التعلم و العمل والإنتاج(7)، وفي نفــــس الآن تحرير المدرس (ة) من سلطة “أطر مرجعية” راكدة و”توجيهات تربوية” عقيمة تقيده ولا تترك له أي مجــال أو هامش للخلق والتجديد والابتكار، بشكل يجعله “مدرسا نمطيا” يجد نفسه في كل موسم دراسي مجبــرا على إنتــاج و تصحيــح “مواضيع مقالية نمطيـــة”، وما يقوي رهــان التجديـــد، هو أن وضعية المواضيع المقالية في مادة التاريخ والجغرافيا – بصيغتها الحالية – أضحت متجاوزة قياسا مع طبيعة الوضعيات الاختبارية لبعض المواد، من قبيل -مثلا- مادة “اللغة العربية” (الإنشاء) و مادة “الفلسفة”، و بشكل خاص تلك المرتبطة بمادة التربية الإسلامية التي تبدو أكثر تقدما وتفتحا، حيث تتم مساءلة المتعلم(ة) انطلاقا من “وضعيات” تتطلب قدرات معرفية ومنهجية ومهارية ومواقفية، وليس انطلاقا من مواضيع موجهة ومؤطرة تعمق الرداءة و الهشاشة، و تقوي الدافع نحو ممارسة فعل الغش المدرسي الذي يرتفع منسوبه في زمن الفروض الكتابية والامتحانات الإشهادية، وبالتالي يمكن تبني خيار”الوضعيات” محل “الموضوع المقالي” المؤطر والمتحكم فيه خاصة في السلك التأهيلي.
– في إطار التجارب المقارنة، وباستقراء امتحانات الباكالوريا في التاريخ و الجغرافيا وفق النظام الفرنسي، يلاحظ أن طريقة صياغة “المواضيع المقالية” تبدو أكثر تقدما، ولتوضيح الرؤية يمكن الإشارة إلى مثالين من الباكالوريا العامة بفرنسا :
-مثال أول : (دورة يونيو 2017- شعبة العلوم) : الموضوع الاختياري الأول كان حول الصين ” الصين و العالم منذ 1949″ بينما الموضوع الاختياري الثاني ارتبط برصد جوانب من تاريخ فرنسا ” نظام الحكم بفرنسا منذ 1946 : الدولة، الحكومة،الإدارة،الرأي العام” (8).
-مثال ثان : (دورة يونيو 2017- شعبة الآداب) : الموضوع الاختياري الأول كان حول ” الاشتراكية، الشيوعية ، التنظيمات النقابية بألمانيا غداة الحرب العالمية الثانية إلى الزمن الحاضر”، في حين الموضوع الاختياري الثاني ارتبط بالصين في علاقاتها بالعالم ” الصين و العالم منذ 1949 “(9).
وعلى ضوء المثالين المشار إليهما سلفا، يتضح و بجلاء أن هكذا مواضيع تشكل محكا حقيقيا للمترشح(ة) ليس فقط على المستوى المعرفي، ولكن أيضا على المستويات المنهجية و المهارية و اللغوية و غيرها، فالموضوع الاختياري المتعلق بالصين – مثلا- يضع المترشح(ة) أمام إطار مجالي ممتد (الصين و العالم) وإطار زمني (منذ 1949 إلى الزمن الحاضر) ، وهذا الإطار”الزمكاني” من الصعب ضبطه و التحكم في مداخله و مخارجه، دون تملك "الآليات المنهجية" التي تساعد على ترويض الجانب المعرفي و حسن تنزيل “رؤية “المترشح(ة) للموضوع المقترح، إذ الهدف ليس هو المعرفة بذاتها، بل في كيفية تطويقها والسيطرة عليها منهجيا، وهذا يتضارب كليا مع ما هو معمول به بنظام الباكالوريا المغربية كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا (امتحانات التاريخ و الجغرافيا)، حيث يقدم للمترشح(ة) المغربي كل شئ، وما عليه إلا استحضار ما شحن في ذاكرته من معارف، وفي هذا الصدد يمكن الاعتماد على الطريقة المعمول بها في فرنسـا خاصة في المرحلة التأهيلية من أجل تمكين المترشح(ة) من مرور “سلس” نحو التعليم العالي.
إذن تأسيسا على ماسبق، فإذا كان الكثير من المهتمين والمتتبعين يضعون الأصابع على مجموعة من الاختلالات التي تعتري منهاج تدريس التاريخ والجغرافيا بحكم المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، فقد آن الأوان لمساءلة هذا المنهاج ككل وفق رؤية شمولية من شأنها أن تمنح الحياة لمادة أصبح إسمها مقرونا بالرتابة المملة، وهذا لن يتأتى إلا بنفض الغبار عن “التوجيهات التربوية و البرامج الخاصة بتدريس التاريخ و الجغرافيا بسلك الثانوي التأهيل”، و تحريك المياه الراكدة للأطر المرجعية التي تؤطر مختلف الوضعيات التقويمية، أطر مرجعية متناقضة تماما، ظاهرها يتبنى مقاربة التدريس بالكفايات، أما جوهرها فيقدم المعارف أو على الأصح تاريخ المعارف، لأن المناهج الدراسية التي لم يتم تجديدها لأكثر من عشر سنوات هي معارف تنتمي لتاريخ المعرفة وليس للمعرفة، والنتيجة هي تحول البرامج الدراسية إلى “سلكة” كما هو الحال في التعليم العتيق، وتحول التدريس إلى “تحفيظ” و التقويم إلى لحظة يرجع فيها التلاميذ/ الطلبة (بسكون اللام) البضاعة إلى أهلها، حتى إذا عجزوا عن ذلك و فشلوا في شحن “ذاكرتهم” ب”اللغو”، عمدوا إلى شحن ذاكرات هواتفهم واستعمالها في الغش (10)، وإذا وضعنا “التاريخ و الجغرافيا” في قفص المساءلة و الاتهام، فليس من باب تحميلها مسؤولية انحطاط المستوى المنهجي للمتعلم(ة)، لأن الانحطاط يبدو كما لو كان “أخطبوطا” يخترق كل المواد والتخصصات، خاصة تلك التي تحضر فيها آليات وميكانيزمات التفكير والتحليل والتركيب (اللغة العربية ، الفلسفة، التربية الإسلامية ، اللغات ..)، لذلك آن الأوان للقطع مع”النمطية” التي تعشش لسنوات كخيوط العناكب في كل المواد ومن ضمنها “التاريخ والجغرافيا”، والإيمان بفلسفة “التجديد " في زمن "رؤية الإصلاح"..
*عزيز لعويسي
Laaouissiaziz1@gmail.com
مراجع معتمدة :
(1) المصطفى لخصاضي،تدريس التاريخ والجغرافيا”حقل الجغرافيا” ،المرجعية الفكرية و الممارسة الديدكتيكية ، إفريقيا الشرق، السنة 2012، ص 160.
(2) المصطفى لخصاضي،تدريس التاريخ والجغرافيا”حقل التاريخ ” ،المرجعية الفكرية و الممارسة الديدكتيكية ، إفريقيا الشرق، السنة 2012، ص 201
(3) التوجيهات التربوية وبرامج تدريس التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، ص 35 .
(4) للمزيد من التوسع ينظر في هذا الصدد ، المصطفى لخصاضي، مرجع سابق، ص 218 وما بعدها،
(5) الحبيب استاتي ، “من التلميذ الى المتعلم بالمدرسة العمومية تقاطعات بين الحمولة الدلالية و المعرفية و الممارسة البيداغوجية “، دفاتر التربية و التكوين العدد10 نونبر 2013 ، ص 15 مكتبة المدارس الدارالبيضاء.
(6) حمد الله جبارة مؤشرات كفايات المدرس “علاقة المدرس بالتلميذ في المقاربة بالكفايات ” مطبعة النجاح الجديدة بالدارالبيضاء الطبعة الاولى 2009 ، ص 18.
(7) محمد مومن، “بيداغوجيا التعليم المغربي”، مجلة علوم التربية، العدد 55 ابريل 2013 ص 13.
(8) وردت الصيغة الفرنسية للموضوعين الاختياريين على النحو التالي :
Sujet 1 : La Chine et le monde depuis 1949 – sujet 2 : GOUVERNER LA France depuis 1946 : ETAT, GOUVERNEMENT, ADMINISTRATION,OPINION .
(9) وردت الصيغة الفرنسية للموضوعين الاختياريين على النحو التالي :
Sujet 1 : Socialisme, Communisme et Syndicalisme en Allemagne des lendemain de la seconde guerre mondiale a nos jours – sujet 2 : la Chine et le monde depuis 1949 .
(10) المصطفى مورادي، الوزارة المنتدبة لدى وزير الداخلية المكلفة بالتربية ، جريدة الأخبار العدد 1119 6 يوليوز 2016.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق