يحملقون صامتين، أسفل المبني الإداريّ، بابتساماتٍ شبَحيّة، كأنما لم يتحدّد مغزاها، وأفواهٍ مفتوحة علي المفاجأة. كنت واقفاً أعلي السلّم، إحدي يديّ في جيب بنطالي، والأخري أستعملها في تقريب المعني. وكنت مصرّاً علي كسر الباب، واقتحام غرفة المعاون، معلناً نبذ التواطؤ مع التّسيُّب، وعدم انصرافي إلا بعد التوقيع في الدفتر. ولابد أن هيئتي وشَتْ بعنفٍ وشِيكٍ كاسح، وملامحي المتغايرة رفعتْ سقف استشعارهم خطورة الحدَث. لأنهم، وإنْ ظلّوا صامتين، تخلّصوا من ابتساماتهم، التي انحرفتْ قليلاً درجةُ شبحيّتها، كما لو أنها لم تعد تناسب التصعيد المستمرّ من ناحيتي، وأغلقوا
أفواههم بعد أن أُجبروا علي عبور بوابة الصدمة الأُولي. والظاهرُ أنّي اندمجتُ أكثر مما خطّطتُّ، لأني نظرتُ إلي فرعِ شجرةٍ قصير ومتماسك في قبضة يدي، أطوّحه في هواء المسافة بين وجوههم والباب المرصود. توقّعتُ، متفاجئاً بدوري، أنه منزوع توّاً من شجرة الجوافة، الواقفة علي حالها منذ عشر سنوات، يمين الداخل إلي الإدارة ويسار الذاهب إلي مركز المعلومات. لم يزل موضع انتزاعه من ساقِ شجرته مُخضرّاً مثل جرح حديث طريّ ومتجلّط، والفرع نفسه بحاجةٍ إلي تشذيب الفريْعات الرفيعة الحاملة لأوراق الجوافة المتربة. المُخيِّب في الأمر أني لا أذكر متي ولا كيف تناولتُ سلاحي هذا، مع أن الواقع يقول -ما أشدّ خضوعي لمقولاته!- إنه حدث قبل دقيقتيْن أو ثلاث علي الأكثر. فكّرتُ للحظةٍ في أن التصعيد، الملاحَظ من الجميع بمَن فيهم أنا، صار خارجاً عن سيطرتي، فالصامتون الذين يتزايد عددهم مع الوقت، مُشكّلين منتخَباً متوازناً من موظّفي الإدارة جنساً وعمراً ودرجةً وظيفية، لم ينشق واحدٌ عنهم لينضمّ إلي صفّي، لأظنّ مطمئناً أنه مَنْ أمدّني بفرع الشجرة علي سبيل تأكيد البَيْعة وإظهار الولاء. ثم إن هذا الفرع المتطفّل، مهما بلغتْ صلابته، لا يضمن أبداً عمليّة اقتحامٍ سَلِسة لغرفة المعاون. سمعتُ بعضهم يقدّم دمدمةً ساخرة من "مسرحيّتي" كما أسماها، مؤكّداً -مؤكّدةً بالأصوب، فقد تبيّن أنه صوت أنثي- أن غلق الحجرة دليل علي تعاون المعاون، وأنه سيوقّع لنا جميعاً، لذا فهو يستحقّ الشكر لا الاقتحام!. كنت سأكتفي عند هذا الحدّ، وأصارحهم بأنني....... لكن ما سبق إعلان اكتفائي كان الأسوأ: صرخ أحدهم بضرورة فضّ "المهزلة" كما أسماها طبقاً لاجتهاده المختلف!. قال إنه نصحني مراراً بألا أشرب أثناء العمل. أوحتْ نبرته بأنه يسوّي مسألة شخصيّة بيننا، مع أني لم أحدّد شخصه بعد. خرج مُستنفَراً من بين الجموع، رافعاً زجاجة من فئة (2 لتر) حمراء فارغة، مشفوطة الوسط، تشبه دميةً لراقصة!، وكان احمرارها الفاقع يوهِم بامتلائها بسائلٍ أحمر، حتي أني كدتُ أحذّره من اندلاقه. أَقسمَ أنه أخرجها منذ قليل من السلّة تحت مكتبي. كان ذلك ككتابةِ (النهاية) آخر الفيلم، فانصرفوا آخذين معهم ضجيجاً مرِحاً يفنّد الموقف. لا أدري كيف فقدتُ فرع الشجرة، الذي لم يعد في قبضتي ولا علي بلاط المدخل من حولي، تماماً مثلما لم أدرِ كيف تحصّلتُ عليه. ما كان يغيظني، حقيقةً، أني لم أعرف أبداً مَن يكون رافع الزجاجة.
***
وضعتُ توقيع حضوري في الدفتر. ضحك المعاون مُكشِّراً عن الشماتة: (الآن بلغتَ سنّ الرّشد مثلنا!). فهمتُ بسرعة، فتقلّصتْ عضلةٌ في وجهي، وعاودتُّ الإمساك بالقلم. ضحكتُ له بارتباك قبل أن أستدير. ولمّا تجاوزت الباب، السالم من أيّ شُبهة اقتحام، اعتنقني خوفٌ فلسفيّ مُبهَم، كالذي يحلّ بمَن يُكاشَف بإصابته بمرضٍ مميت في عِزّ اغتراره بعافيته: خالفتُ العُرف البيروقراطي، الذي ابتدعتُه أنا بالتفاهم مع المعنيّين، لأول مرة منذ تسع سنوات. اعتدتُ مهْرَ توقيعيْن للحضور ومثلهما للإنصراف كل يوم. واحد لي والآخر لزميلتي التي صارتْ زوجتي. اسمانا متتاليان في صفحة (11). وإذا أُعيد توزيع الأسماء في الدفتر، بسبب نقل أحدهم أو انتدابه أو سفره أو إحالته علي المعاش أو حتي موته المبكّر -سأظلّ أنعت الموت قبل المعاش بالمبكّر- يتحرّك الإسمان ليستقرّا في حيزٍ آخر من الصفحة، أو يُرحّلا معاً إلي صفحة جديدة، ليُتخمَني الامتنان نحو كتيبة المُعاونين التي تناوبتْ علي الدفتر، لتعاطفهم الإداري الراسخ معنا، والذي لم يفتر أبداً بمرور السنين. زميلتي التي صارت زوجتي لم يعد لها أي بصمات أصابع علي ورق الدفتر، وربما لا تعرف الآن أين تقع غرفة المعاون. نسيتُ، اليوم، التوقيع لها. لن أتخطّي هواجسي الوظيفيّة المتأصّلة، فأقسو علي نفسي لائماً: نسيان التوقيع خطوة علي طريق نسيان الموقَّع له!.. واصلتُ صعودي إلي المكتب. تقلّصتْ، فجأة، عضلةٌ أخري من جسدي، لما تذكّرت أني هممتُ بتقليب صفحات الدفتر، لأوّقع لزميلتي التي رفضتْ، قبل نفس السنوات التسع، أن تصير زوجتي، لولا ضحكة المعاون الشامتة!
***
جرَتْ صباحاتي علي أن أسرد أحلامي لزوجتي، أولاً بأول، في طريق ذهابنا إلي العمل، بحُكم أنها كانت وما زالت زميلتي. أحكي بتدفّقٍ فصيح، وأمنح مخيّلتي دوراً مساعداً في تقديم حُلمٍ جذّاب، محافظاً علي عدم التّلبّس بمبالغةٍ تسوقني إلي فرضيّة الكذب والتأليف، علي الأقلّ أمام ذاتي. أثناء ذلك، يحتدّ تشبّثي بمقود السيّارة، وتحنو قدمي اليمني علي دوّاسة البنزين، ولا ألتفت إلي المُتسلّية بالإنصات في المقعد المجاور، كما لو أني أتعلّم مباديء القيادة، أو أَهيم في طقس اعترافٍ دينيّ.
اليوم، ودون مقدّماتٍ تُخفّف لهيب لدغة المباغَتة، تغيّرتْ أحوال. احتفظتُ بحُلمي الأخير، السخيف، بعيداً عن زوجتي الزميلة. حُلمي الذي أسميته، بتحفّظٍ مُغتمّ، لحظة انفلاتي منه: (الإصرار الغبيّ، الفاضح، علي نيل لقب الموظّف المثالي).. سرعان ما تُرجِم داخل وعيي المستثار بسبب الزجاجة الحمراء: (الإصرار الغبيّ، الفاضح، علي توبيخ الماضي!).. تيقّظتُ، فرأيت زميلتي، الرافضة القديمة، تتحرّك، في الغرفة حول سريري، حركةَ مُقيمٍ مبتذل لا ضيف مُتهيّب، تُسكِت منبّه المحمول، تلمّ قطع ملابس مبعثرة، وتلمّ شعرها في مرآة التسريحة. هل يعني هذا أنها باتت عندي الليلة؟.. قمت لأبدأ يومي، دافعاً أيّ شعور بالاستغراب، كأن وجودها كان مجرّد تصحيحٍ لخطأ دام تسع سنوات، حتي أني تطلّعتُ إليها مبتسماً، بعاديّةٍ زنّخها الزمن، أثناء توجّهي إلي الحمّام، وهي واقفةٌ في المطبخ تلفّ إفطارنا الذي سنتناوله في المكتب، مثلما أفعل وتفعل زوجتي كل يوم. وإمعاناً في الابتذال، أدّتْ كل مهامّ زوجتي الصباحية، المنزليّة منها والشخصيّة، بنفس الأسلوب والترتيب. فكّرتُ أنا، كموظّفٍ حاذق متزوج من موظّفةٍ زميلة بعد أن زجرتْه زميلةُ الزميلة، بأن الزوجة قامت بإجازة اعتياديّة وأن زميلتها وقّعتْ لها كقائمٍ بالعمل. فقط، عند السيّارة، فتحت الموقِّعة الباب، فتعهّدت الأخري بالاستلام، وركبتْ إلي جواري. خمّنتُ الآن ظروف استدعاء زميلتنا إلي بيتنا لتؤدّي وصلة نشاطها المبكّرة، ذلك أن أول هواجسي -بعد فشل عملية اقتحام مكتب المعاون- كانت أن أحكي لها وحدها.
***
وجدتُّني جالساً علي دكّةٍ خشبيّة متروكة أمام المبني القديم المهجور، والذي وُضعتْ خطّة ترميمه ضمن العام الماليّ القادم. إذن، فقد تراجعتُ عن الصعود، وامتلكتُ من العزيمة الجوفاء ما أرسلني كل هذه المسافة، دون محفّزات أو ضغوط وظيفيّة، ربما لأنفرد بحُلمي الهزيل، المتضاخم بتأثير لقطة الزجاجة، وربما كي أتحلّل من تخصيصه لهذه أو لتلك. استلمتُ عملي هنا قبل إحدي عشرة سنة، محمّلاً بضغائن أبثّها بغِلٍ إلي واقعٍ يصنعني ولا أصنعه، وحاملاً لزجاجةٍ يوميّة، أشربها علي دفعاتٍ مسروقة. أحببتُ المنطوية علي حالها منذ اليوم الأول، بسبب حياد عينيها المستعصي علي التأويل، وبسبب طريقة مشيتها المستعلية، الملتزمة بقوْل: (لقد فعلتُ كل ما يمكنني فعله، وعلي الآخرين تحمّل مسئوليّاتهم).. بعد عاميْن، تقدّمتُ لأتحمّل مسئوليّتي، فقالت: (ليس مع سكّير).. ورغم انهزامي العريض في عموم الإدارة بطوابقها الثلاث، لاعتقادي المغرور بأن الزجاجة سِرّي الدفين، أخذتُ زميلتها، راضياً بتقلّصيْن في كل يومِ عمل لمدة تسع سنوات، ليس في عضلةٍ أو أكثر من جسدي، إنما في وجودي المزعوم كلّه، مرّةً في التاسعة عند حضورها، ومرّةً في الواحدة عند انصرافها.
***
نفضتُ جسدي فزِعاً من فوق الدّكة، باعثاً نظراتٍ كسيرةٍ إلي كل نوافذ الإدارة، والجزء الظاهر من مركز المعلومات، عارضاً يديّ الفارغتين لجمهورٍ وهميّ. نفس الدّكة التي شهدت بانتظامٍ اقتناص رشفات العاميْن البعيديْن. قصدتُ المكتب بخطوٍ سريع هارب، مُفسِّراً -بشكلٍ نهائيّ- حلمي المتواضع، بأنه محض طفحٍ غير واعٍ لمسألةِ طموحٍ وظيفيّ متذبذب، يناسب حركة ترقياتٍ وشيكة. رأيتهما تتبادلان حواراً ضاحكاً. الزميلة التي لم تزل حبيبة، والزوجة التي لم تزل زميلة. ناولتْني إحداهما السندوتش، فقضمتُ منه باشتهاء.
أفواههم بعد أن أُجبروا علي عبور بوابة الصدمة الأُولي. والظاهرُ أنّي اندمجتُ أكثر مما خطّطتُّ، لأني نظرتُ إلي فرعِ شجرةٍ قصير ومتماسك في قبضة يدي، أطوّحه في هواء المسافة بين وجوههم والباب المرصود. توقّعتُ، متفاجئاً بدوري، أنه منزوع توّاً من شجرة الجوافة، الواقفة علي حالها منذ عشر سنوات، يمين الداخل إلي الإدارة ويسار الذاهب إلي مركز المعلومات. لم يزل موضع انتزاعه من ساقِ شجرته مُخضرّاً مثل جرح حديث طريّ ومتجلّط، والفرع نفسه بحاجةٍ إلي تشذيب الفريْعات الرفيعة الحاملة لأوراق الجوافة المتربة. المُخيِّب في الأمر أني لا أذكر متي ولا كيف تناولتُ سلاحي هذا، مع أن الواقع يقول -ما أشدّ خضوعي لمقولاته!- إنه حدث قبل دقيقتيْن أو ثلاث علي الأكثر. فكّرتُ للحظةٍ في أن التصعيد، الملاحَظ من الجميع بمَن فيهم أنا، صار خارجاً عن سيطرتي، فالصامتون الذين يتزايد عددهم مع الوقت، مُشكّلين منتخَباً متوازناً من موظّفي الإدارة جنساً وعمراً ودرجةً وظيفية، لم ينشق واحدٌ عنهم لينضمّ إلي صفّي، لأظنّ مطمئناً أنه مَنْ أمدّني بفرع الشجرة علي سبيل تأكيد البَيْعة وإظهار الولاء. ثم إن هذا الفرع المتطفّل، مهما بلغتْ صلابته، لا يضمن أبداً عمليّة اقتحامٍ سَلِسة لغرفة المعاون. سمعتُ بعضهم يقدّم دمدمةً ساخرة من "مسرحيّتي" كما أسماها، مؤكّداً -مؤكّدةً بالأصوب، فقد تبيّن أنه صوت أنثي- أن غلق الحجرة دليل علي تعاون المعاون، وأنه سيوقّع لنا جميعاً، لذا فهو يستحقّ الشكر لا الاقتحام!. كنت سأكتفي عند هذا الحدّ، وأصارحهم بأنني....... لكن ما سبق إعلان اكتفائي كان الأسوأ: صرخ أحدهم بضرورة فضّ "المهزلة" كما أسماها طبقاً لاجتهاده المختلف!. قال إنه نصحني مراراً بألا أشرب أثناء العمل. أوحتْ نبرته بأنه يسوّي مسألة شخصيّة بيننا، مع أني لم أحدّد شخصه بعد. خرج مُستنفَراً من بين الجموع، رافعاً زجاجة من فئة (2 لتر) حمراء فارغة، مشفوطة الوسط، تشبه دميةً لراقصة!، وكان احمرارها الفاقع يوهِم بامتلائها بسائلٍ أحمر، حتي أني كدتُ أحذّره من اندلاقه. أَقسمَ أنه أخرجها منذ قليل من السلّة تحت مكتبي. كان ذلك ككتابةِ (النهاية) آخر الفيلم، فانصرفوا آخذين معهم ضجيجاً مرِحاً يفنّد الموقف. لا أدري كيف فقدتُ فرع الشجرة، الذي لم يعد في قبضتي ولا علي بلاط المدخل من حولي، تماماً مثلما لم أدرِ كيف تحصّلتُ عليه. ما كان يغيظني، حقيقةً، أني لم أعرف أبداً مَن يكون رافع الزجاجة.
***
وضعتُ توقيع حضوري في الدفتر. ضحك المعاون مُكشِّراً عن الشماتة: (الآن بلغتَ سنّ الرّشد مثلنا!). فهمتُ بسرعة، فتقلّصتْ عضلةٌ في وجهي، وعاودتُّ الإمساك بالقلم. ضحكتُ له بارتباك قبل أن أستدير. ولمّا تجاوزت الباب، السالم من أيّ شُبهة اقتحام، اعتنقني خوفٌ فلسفيّ مُبهَم، كالذي يحلّ بمَن يُكاشَف بإصابته بمرضٍ مميت في عِزّ اغتراره بعافيته: خالفتُ العُرف البيروقراطي، الذي ابتدعتُه أنا بالتفاهم مع المعنيّين، لأول مرة منذ تسع سنوات. اعتدتُ مهْرَ توقيعيْن للحضور ومثلهما للإنصراف كل يوم. واحد لي والآخر لزميلتي التي صارتْ زوجتي. اسمانا متتاليان في صفحة (11). وإذا أُعيد توزيع الأسماء في الدفتر، بسبب نقل أحدهم أو انتدابه أو سفره أو إحالته علي المعاش أو حتي موته المبكّر -سأظلّ أنعت الموت قبل المعاش بالمبكّر- يتحرّك الإسمان ليستقرّا في حيزٍ آخر من الصفحة، أو يُرحّلا معاً إلي صفحة جديدة، ليُتخمَني الامتنان نحو كتيبة المُعاونين التي تناوبتْ علي الدفتر، لتعاطفهم الإداري الراسخ معنا، والذي لم يفتر أبداً بمرور السنين. زميلتي التي صارت زوجتي لم يعد لها أي بصمات أصابع علي ورق الدفتر، وربما لا تعرف الآن أين تقع غرفة المعاون. نسيتُ، اليوم، التوقيع لها. لن أتخطّي هواجسي الوظيفيّة المتأصّلة، فأقسو علي نفسي لائماً: نسيان التوقيع خطوة علي طريق نسيان الموقَّع له!.. واصلتُ صعودي إلي المكتب. تقلّصتْ، فجأة، عضلةٌ أخري من جسدي، لما تذكّرت أني هممتُ بتقليب صفحات الدفتر، لأوّقع لزميلتي التي رفضتْ، قبل نفس السنوات التسع، أن تصير زوجتي، لولا ضحكة المعاون الشامتة!
***
جرَتْ صباحاتي علي أن أسرد أحلامي لزوجتي، أولاً بأول، في طريق ذهابنا إلي العمل، بحُكم أنها كانت وما زالت زميلتي. أحكي بتدفّقٍ فصيح، وأمنح مخيّلتي دوراً مساعداً في تقديم حُلمٍ جذّاب، محافظاً علي عدم التّلبّس بمبالغةٍ تسوقني إلي فرضيّة الكذب والتأليف، علي الأقلّ أمام ذاتي. أثناء ذلك، يحتدّ تشبّثي بمقود السيّارة، وتحنو قدمي اليمني علي دوّاسة البنزين، ولا ألتفت إلي المُتسلّية بالإنصات في المقعد المجاور، كما لو أني أتعلّم مباديء القيادة، أو أَهيم في طقس اعترافٍ دينيّ.
اليوم، ودون مقدّماتٍ تُخفّف لهيب لدغة المباغَتة، تغيّرتْ أحوال. احتفظتُ بحُلمي الأخير، السخيف، بعيداً عن زوجتي الزميلة. حُلمي الذي أسميته، بتحفّظٍ مُغتمّ، لحظة انفلاتي منه: (الإصرار الغبيّ، الفاضح، علي نيل لقب الموظّف المثالي).. سرعان ما تُرجِم داخل وعيي المستثار بسبب الزجاجة الحمراء: (الإصرار الغبيّ، الفاضح، علي توبيخ الماضي!).. تيقّظتُ، فرأيت زميلتي، الرافضة القديمة، تتحرّك، في الغرفة حول سريري، حركةَ مُقيمٍ مبتذل لا ضيف مُتهيّب، تُسكِت منبّه المحمول، تلمّ قطع ملابس مبعثرة، وتلمّ شعرها في مرآة التسريحة. هل يعني هذا أنها باتت عندي الليلة؟.. قمت لأبدأ يومي، دافعاً أيّ شعور بالاستغراب، كأن وجودها كان مجرّد تصحيحٍ لخطأ دام تسع سنوات، حتي أني تطلّعتُ إليها مبتسماً، بعاديّةٍ زنّخها الزمن، أثناء توجّهي إلي الحمّام، وهي واقفةٌ في المطبخ تلفّ إفطارنا الذي سنتناوله في المكتب، مثلما أفعل وتفعل زوجتي كل يوم. وإمعاناً في الابتذال، أدّتْ كل مهامّ زوجتي الصباحية، المنزليّة منها والشخصيّة، بنفس الأسلوب والترتيب. فكّرتُ أنا، كموظّفٍ حاذق متزوج من موظّفةٍ زميلة بعد أن زجرتْه زميلةُ الزميلة، بأن الزوجة قامت بإجازة اعتياديّة وأن زميلتها وقّعتْ لها كقائمٍ بالعمل. فقط، عند السيّارة، فتحت الموقِّعة الباب، فتعهّدت الأخري بالاستلام، وركبتْ إلي جواري. خمّنتُ الآن ظروف استدعاء زميلتنا إلي بيتنا لتؤدّي وصلة نشاطها المبكّرة، ذلك أن أول هواجسي -بعد فشل عملية اقتحام مكتب المعاون- كانت أن أحكي لها وحدها.
***
وجدتُّني جالساً علي دكّةٍ خشبيّة متروكة أمام المبني القديم المهجور، والذي وُضعتْ خطّة ترميمه ضمن العام الماليّ القادم. إذن، فقد تراجعتُ عن الصعود، وامتلكتُ من العزيمة الجوفاء ما أرسلني كل هذه المسافة، دون محفّزات أو ضغوط وظيفيّة، ربما لأنفرد بحُلمي الهزيل، المتضاخم بتأثير لقطة الزجاجة، وربما كي أتحلّل من تخصيصه لهذه أو لتلك. استلمتُ عملي هنا قبل إحدي عشرة سنة، محمّلاً بضغائن أبثّها بغِلٍ إلي واقعٍ يصنعني ولا أصنعه، وحاملاً لزجاجةٍ يوميّة، أشربها علي دفعاتٍ مسروقة. أحببتُ المنطوية علي حالها منذ اليوم الأول، بسبب حياد عينيها المستعصي علي التأويل، وبسبب طريقة مشيتها المستعلية، الملتزمة بقوْل: (لقد فعلتُ كل ما يمكنني فعله، وعلي الآخرين تحمّل مسئوليّاتهم).. بعد عاميْن، تقدّمتُ لأتحمّل مسئوليّتي، فقالت: (ليس مع سكّير).. ورغم انهزامي العريض في عموم الإدارة بطوابقها الثلاث، لاعتقادي المغرور بأن الزجاجة سِرّي الدفين، أخذتُ زميلتها، راضياً بتقلّصيْن في كل يومِ عمل لمدة تسع سنوات، ليس في عضلةٍ أو أكثر من جسدي، إنما في وجودي المزعوم كلّه، مرّةً في التاسعة عند حضورها، ومرّةً في الواحدة عند انصرافها.
***
نفضتُ جسدي فزِعاً من فوق الدّكة، باعثاً نظراتٍ كسيرةٍ إلي كل نوافذ الإدارة، والجزء الظاهر من مركز المعلومات، عارضاً يديّ الفارغتين لجمهورٍ وهميّ. نفس الدّكة التي شهدت بانتظامٍ اقتناص رشفات العاميْن البعيديْن. قصدتُ المكتب بخطوٍ سريع هارب، مُفسِّراً -بشكلٍ نهائيّ- حلمي المتواضع، بأنه محض طفحٍ غير واعٍ لمسألةِ طموحٍ وظيفيّ متذبذب، يناسب حركة ترقياتٍ وشيكة. رأيتهما تتبادلان حواراً ضاحكاً. الزميلة التي لم تزل حبيبة، والزوجة التي لم تزل زميلة. ناولتْني إحداهما السندوتش، فقضمتُ منه باشتهاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق