*حميد الحريزي
((إننا الروائيين سوف نكون أشباه الآلهة)) فرنسوا مورياك الروائي وشخوصه – ترجمة علا شطنان التميمي ص78. دار المأمون ط1.
قول في التصنيف والتعريف:-
هذه الرواية أو كما عرفها المؤلف بنص سردي، فمن المعروف أن كل رواية أو قصة هي نص سردي، ولكن ليس كل نص سردي رواية، لكن السؤال ماذا أراد المؤلف من وراء هذا التوصيف لمؤلفه هذا ولغيره كما درج عليه مهدي علي ازبين، هل يريد أن يؤكد مقولة تداخل الأجناس الأدبية وذوبان أو ميوعة وتداخل الحدود فيما بينها؟؟
أو أن الكاتب أراد أن يترك للقارئ والناقد عملية التصنيف والتعريف بمنجزه الإبداعي دون أن يفرضه عليه أو يقيده بحدود توصيفه كونه قصة أو رواية أو خاطرة… الخ
أرى أن التفسير الأخير لدلالة المؤلف وتعريفه لمنجزه، فهو لا شك نص إبداعي سردي يفيض بالجمال ومشبع بالدلالة وعمق المعنى والفرادة والتميز في اختيار الراوي العليم ((الكلب)) في الرواية العراقية، ولكن هل هو رواية ؟
((إن الرواية تعبير إنساني، وجد منذ القدم، واغتنى بإضافات عديدة من لدن مبدعين ينتمون إلى ثقافات وحضارات متباينة، من ثم يصعب القول بوجود شكل روائي فرنسي أو أمريكي أو روسي أو عربي، بل هناك شكل مفتوح، مستوعب لمختلف الإضافات، يتوفر على مكونات نصية وجمالية تتعدى ((الأصل)) الاثني أو الثقافي لأنها مكونات تعتمد السرد والتخييل والحبكة وتعدد اللغات والأصوات، وهي جميعها عناصر مشتركة في التراث الروائي الإنساني المتفاعل باستمرار)) ص49 الرواية العربية ورهان التجديد د. محمد برادة مايو 2011
تعريف جان غوستاف لوكليزيو للرواية ((تقوم الرواية على اللايقين والتساؤلات وإعادة النظر أنها نظرية من لا اكتمال الحياة. الرواية جنس تعبيري للحاضر، إنها وصف لحالة العالم والمجتمع والذات، وبهذا المعنى فهي تلائم تمامًا عصرنا الذي هو عصر شك وعدم تيقن من المستقبل)) ص40 الرواية العربية ورهان التجديد .
((الرواية كلا ظاهرة متعددة في أساليبها متنوعة في أنماطها الكلامية، متباينة في أصواتها… الرواية تنوع كلامي ((وأحيانا لغوي، اجتماعي منظم فنيًا وتباين أصوات فردية)) ص9-11 الكلمة في الرواية – ميخائيل باختين – ترجمة يوسف حلاق ط1 دمشق 1988.
فلو راجعنا مختلف تعريفات وتوصيفات الرواية التي اعتمدت من قبل كبار الروائيين والنقاد لوجدنا أن ((هياكل خط الزوال)) رواية بدون شك.
فهي بالأساس فن سردي يقص حكايات بصورة نثرية سواء من الواقع المعاش أو من بنات مخيلة المؤلف والذي غالبًا تمتد جذوره في أرض الواقع مهما كانت درجة عجائبيته وغرائبيته، ولكنه مشروط بعد استنساخ الواقع بل تخليقه وتصنيعه فنيًا وأدبيًا فلا يكون سردًا تاريخيًا أو تسجيليًا…
كما أن الرواية هي عملية تذكر غالبًا ما يكون أحداثًا تروى إما بشكل متسلسل زمنيا أو متداخل ينتقل فيه الراوي من زمن إلى آخر قد يكون اللاحق سابقًا ومستهلاً للرواية أو يسير سيرًا تقليديًا متواترًا، كما أن الرواية تتطلب حضورًا للمكان والزمان أثناء عملية السرد وقد تكون شخصيات الرواية بشرية أو تروى على لسان الحيوان كما في روايتنا فالروائي العليم هنا ((كلب)).
وفق ما تقدم يحق لنا أن نصنف ونجنس ((هياكل خط الزوال)) برواية لأنها تمتلك كل مقومات الرواية وشروطها الأساسية.
العنوان ودلالته:-
عنوان الرواية أو عنوان أي نص أدبي هو من يملك المفتاح السحري لمغاليق العمل الروائي ومصباح إضاءة وإنارة لخبايا وزوايا ودلالات النص الأدبي والروائي على وجه الخصوص…
عنوان رواية ((هياكل خط الزوال)) في الحقيقية إجابة استباقية على تساؤلات القارئ الناقد حول مكان وزمان الرواية، فخط الزوال هو خط التلاشي والذي تنطلق منه أو تستدل به كل خطوط العرض والطول في الكرة الأرضية، ونقطة تقاطع خطوط العرض والطول هذه تحدد المكان المعين على الأرض، وحينما تكون الرواية هياكل خط الزوال فهي أحداث وصور وأساليب تمارس على كل الأرض دون استثناء ولا تخص دولة بعينها أو أرضًا بعينها دون غيرها، هذا يشير لنا تاريخ البشرية وتاريخ الشعوب ضمن مسيرتها الطويلة ولحين التاريخ، فهو تاريخ حروب وصراعات دموية هوجاء سواء أكانت داخلية بين الشعوب وحكامها أو بين الطبقات الاجتماعية والأديان والطوائف في داخل البلد أو بين الشعوب وحكامها، أو كونها حروبًا خارجية بين دولة وأخرى أو بين عدد من الدول كما في الحرب العالمية الأولى والثانية .
فالكاتب هنا لم يذكر لنا مكان وزمان الرواية؛ وإن كانت تدل حيثياتها وإحداثها أنها حرب نظام مستبد وطاغية على أبناء شعبه وربما يمكننا الاستنتاج أنها مستلة من أحداث إخماد الانتفاضة الشعبية الآذارية عام 1991 ضد نظام الديكتاتور بعد هزيمته في حرب الخليج .
الكلب والإنسان \ الكلب شخصية محورية في الرواية:-
تذكر بعض البحوث والدراسات في ما يخص علاقة الإنسان بالحيوان فتشير إلى أن الإنسان روّض الكلب أو الكلب رافق وصادق الإنسان منذ 14000 إلى 150000 ألف سنة خلت، فهو من أقرب الحيوانات إليه، وقد تميز عن العديد من الحيوانات كونه تميز بالوفاء والإخلاص الأعمى لسيده الإنسان ومصاحبته في مختلف الظروف، ربما يشاركه في هذه الصفة الحمام الزاجل حين يعتاد على مكان محدد، فنرى أن البقرة والحمار والفرس حينما تباع أو تساق إلى مالك جديد أو مكان جديد تتأقلم معه وتتعايش مع سيدها الجديد ولكن الكلب يصعب تطويعه وجعله ينسى ويتناسى سيده وصاحب نعمته الأول لذلك كان له ذكر واسع في التراث الأدبي والحكواتي وحتى الديني للإنسان وليس خافية علينا قصة أهل الكهف وخامسهم كلبهم.
كتبت العديد من الروايات والقصص العراقية والعربية والعالمية على لسان الحيوان وخصوصا الكلب ونذكر بعضًا منها على سبيل المثال وليس الإحصاء :-
– رواية ((حرب الكلب)) لإبراهيم صنع الله.
– تحريات كلب – لفرانز كافكا .
– رائحة الكلب- للكاتب الجزائري جيلالي خلاص.
– مذكرات كلب عراقي- للروائي العراقي عبد الهادي سعدون .
– كلب آل باسكرفيل – آرثر كونان .
– الكلب الأبلق الراكض عند حافة البحر – جنكيز ايتماتوف .
– رواية حوار كلب – للروائي الاسباني ميغيل دي ثيربانتس سافيدرا.
– الكلب السائب – للكاتب الإيراني صادق هدايت .
– موت كلب – قصة للكاتبة بثينة الناصري
– ((كبرياء كلب وحنان كلب، وغيرة كلب، وبصمة كلب)) أربع قصص قصيرة للقاص والروائي حميد الحريزي .
هنا نريد أن نقول إن الكاتب مهدي علي ازبين الأول في كتابة رواية يكون فيها الراوي العليم الكلب ونؤكد كونه أبرز من اجترح هذا الأسلوب من السرد الروائي في العراق خصوصا حسب علمنا.
مراحل حياة ((كلب)) ازبين وتحولاته :-
لا يعطينا الكاتب صورة عن شكل ولون ومميزات كلبه الراوي العليم، فهو لم يؤثثه؛ بل وصفه بجرو يتعرض للملاحقة والمطاردة بدفع من قبل السلطات للقضاء عليه وعلى أبناء جنسه كونه مخلوقًا فائضًا سائبًا فائضًا عن حاجة الإنسان في بلد الدكتاتور الذي أراد أن يطوع الإنسان في بلده على العنف والكراهية وتمرينه على القتل دون تساؤل ودون تردد مبتدئًا بالحيوان المسالم البريء، ليعده نفسيًا وسايكلوجيًا وسلوكيًا لمهاجمة وقتل أبناء جلدته من البشر أيضًا دون تردد ودون تساؤل وإنما لإرضاء رغبة الحاكم والنظام القائم وهو ما حدث بعد ذلك ليكون ((الجرو)) شاهدًا على قتل الإنسان وإذلاله واغتصابه وليأخذ دور حاميه والمدافع عنه والمحافظ على وجوده وكرامته حيًّا أو ميتًا المهدورة من قبل أخيه الإنسان…
فكان الجرو المدافع ضد وجود سيدته ضد من فهم أن خطيبها يريد سلبها منه وخطفها من عائلته فعاجله بعضّة شرسة دامية في إليته حينما كان يتبختر ببدلة عرسه الجديدة…
ولكنه أحس بالجبن والعجز بالدفاع عن سيدته حينما تعرضت للاغتصاب من قبل العسكري حامل المدية الذي اقتحم الدار هو وزمرته واغتصب الابنة الكبرى وربما والدتها، مدعيًا بأن لا حول ولا قوة له بصدّ الجاني المغتصب بينما تصوب إلى جمجمته فوهة سلاح حارس المغتصب. فيردد مع نفسه متهمًا إياها بالتخاذل ((ألوم نفسي “متخاذل”)) ص45.
وهنا إشارة بأن الحيوان الحامي لا يمكن أن يكون بديلاً عن الإنسان في الدفاع عن حريته وصيانة كرامته، فماذا عساه أن يفعل حيوان لا يمتلك سوى أنيابه ومخالبه وسط خضوع وخنوع كل سكان المدينة مغلقة الأبواب خوفًا وهروبًا من بطش العسكر الذي استباح المدينة…
ولكن هذا الجرو الذي أصبح كلبًا ناضجًا كفر عن ذنبه ومهادنته وانهزاميته هذه في الاستبسال حد الموت في منع الكلاب والذئاب والثعالب والقطط من تمزيق جسدي سيديه الأب وابنه الأوسط اللذين وجدهما مقتولين في الأرض الجرداء، وتمكن من صد هذه الحيوانات المتوحشة وتمكن من دفنهما والحفاظ عليهما حتى حضور الأم الزوجة والولد الأكبر والعثور على جثتيهما بدلالة الكلب الوفي الذي ربما فارق الحياة بعد ذلك في المكان نفسه.
نسبية الخير والشر، الإنسانية والتوحش:-
وفي الوقت الذي أشار فيه الروائي إلى نسبية نزعة الخير والشر نزعة الإنسانية والتوحش عند البشر كذلك هي موجودة في عالم الحيوان ومنها الكلاب…
فكما كان كلب العائلة متمثلاً بأرقى قيم الإنسانية من حيث الرحمة والإخلاص والوفاء التي تخلّى عنها الكثير من البشر، كذلك هناك كلاب وحيوانات شريرة ومفترسة وشريرة، وقد تعرض أشرسها للهزيمة من قبل كلاب خيرة تمكنت من إصابته بعدد من الجروح وبتر ذيله الذي أصبح لعبة من قبل القطط!!
كذلك هناك تناظر لحالات الخيانة والدونية بين الأعداء في عالم الحيوان وعالم الإنسان حيث يكون الفرد وسيلة للإيقاع بابن جلدته متعاونًا مع عدوه، كما هو حال الكلبة الخائنة المتواطئة مع الثعلب وتمكينه من افتراس دجاج القرية في الوقت الذي يجب أن تكون هي الحامية لها من شر الثعالب.
للتعبير عن موضوعيته في سرد الأحداث وتظهير السلوكيات ذكر لنا الكاتب سلوكيات متباينة من قبل حتى عساكر النظام فربما يكون بعض منهم مغلوبًا على أمره وغير قادر على العصيان والتمرد للانتصار للقيم الإنسانية وقيم الحرية والعدالة ولكنه يحاول إثبات إنسانيته متى توفرت له الفرصة الممكنة غير القاتلة، مثال ذلك الضابط العسكري فارع الطول وبالغ الهيبة الذي أخذ الطفل الجريح وتطبيبه في الطبابة العسكرية وإعادته إلى أمه سيدة المنزل وهو طافح بالحنان والرقة والإنسانية، بالضد من العسكري حامل المدية وهي إشارة وتلميح ربما لقادة فدائي صدام وجلاوزة عدي أو بعض أفراد الحرس الجمهوري الخاص الذي كان بالغ العنف والشر والذي اغتصب النساء في المنزل دون رحمة، وعجز الجندي المتعاطف مع الضحية وكانت دموعه تسيل على خديه ألمًا وغضبًا لما جرى من عملية انتهاك واغتصاب لعفة وعذرية الفتاة الشابة في المنزل.
كذلك أشار لنا الروائي إلى وجود حالة من التضامن والمحبة بين الناس بعضهم البعض رغم كل أساليب السلطات على قتل هذه الروح ومحاولة تفكيك المجتمع وتجريف كل قيمه الايجابية النبيلة، كان هذا الموقف ممثلا من مجازفة ومغامرة الجارة على إيصال المرهم الشافي والضمادات للبنت التي أصيبت بالحرق في قدمها جراء انسكاب الزيت المقلي عليه، متحدية الرصاص والخوف متسلقة الجدار البيني بين المنزليين تمتلكها روح التضامن والدعابة لتخفف من الأم الجارة رغم المخاطر ولعلعة الرصاص.
الحبكة الروائية وأسلوب السرد :-
الرواية يمكن عدّها من الروايات المدورة حيث تبدأ من حيث تنتهي، كما الرواية تنحو منحًا غرائبيًا عجائبيًا حينما تجعل كلبًا راويًا عليمًا وليس أحد الشخصيات الروائية كما في العديد من الروايات التي أشرنا إليها سابقًا، وتجعله يصارع الكثير من الكلاب وغير الكلاب من الحيوانات المفترسة، بأشكال وهيئات مختلفة، ينطقها ويجعلها تحاور بعضها، وتجري في دواخلها منولوغًا حواريًا داخليًا، وكأنه يقوم بمتابعة وتظهير مشاعر الكلاب وتصوراته واسترجاعاته في أوقات مختلفة محاولاً قدر الإمكان أن يكون مستترًا خلف الكلب المأنسن بعد تكالب الإنسان المدجن من قبل السلطات ولم يحِد الروائي الكاتب عن هذه الحالة إلا في مداخلته وتساؤله حول سلوك الكلب وقيامه بحماية الجثتين لسيديه الأب وابنه الأوسط ((ميتان منذ صباح الأمس، ملقيان على الأرض.. والعجيب هذا الكلب لا يفارقهما، يتنقل بين الرجل والفتى. هل يحرسهما؟؟)) ص59.
نرى أنه إيضاح فائض عن الحاجة أكيد القارئ سيصل إلى هذه النتيجة وهو يتابع معاناة الكلب وإصراره على حفظ جثتيهما وحمايتهما من الحيوانات كي لا تنهش جسديهما، وقيامه بعملية دفنهما وتوسد قبريهما إلى حين حضور الزوجة والبنت والابن الأكبر، وكأنه يسلمهما الأمانة وليسلم روحه معهما بعد أن تعرض لأذى كبير وجروح خطيرة أثناء عراكه مع الكلاب والثعالب والقطط .
كان الكاتب فطنًا وذكيًا ومتابعًا لحركات وسكنات الكلب منذ دخوله لاجئًا إلى بيت الأسرة التي رعته وحتى هلاكه وهو يحرس الجثتين..
كما أنه كان دقيقًا في توصيف الضحايا وهم ناس مسالمين لم يحملوا السلاح ضد السلطة، فمثلا الأب طلب تزويده بعصا ليهشّ بها الكلاب الذي قد تعترض طريقه ولم يحمل سلاحًا ناريًا ولا سلاحًا جارحًا، وهي إشارة إلى مدى وحشية النظام وقذارته واستهدافه للناس العزل من كل سلاح وهذا بالفعل ما حصل للكثيرين أثناء أحداث انتفاضة آذار عام 1991.
رغم ذلك نرى أن هناك صعوبة في إقناع القارئ أن الكلب ذو حاسة الشم القوية جدا يقدم على شرب النفط متوهمًا كونه ماءًا، وكذلك صعوبة إقناع القارئ بأن الكلب قادر على الإمساك بقنينة الخمر ودلق محتوياتها في جوفه فيسكر، ناهيك أن شارب الخمر لا يمكن أن يرمي قنينة الخمر إلا بعد إفراغها تمامًا.. لا نرى أن للمؤلف حاجة في ذكر هذين المشهدين ولو من أجل تلطيف جو السرد وإدخال نوع من الطرافة في الرواية المشحون بالألم والمشاهد المؤلمة والحزينة، كنا نأمل أن يكتفي بطرافة عضّ الكلب لخطيب البنت، وبوصية الكلب الثري بأملاكه للناس من موظفين من دون ذكر القاضي الذي جعل من الكلب المذموم إنسانا مرحومًا طمعًا بحصوله على جزء من ثروته ((ألم يوصي المرحوم بشيء آخر)) ص62.
وتوصيف كلابنا للأجنبي محاولاً إقناعه بأن كلابنا أكثر ذكاءً من كلاب الغربيين، فهناك كلب يقوم بدور الشرطة السرية، والكلب الوسخ الملطخ بدهن السيارات ((إنه يصلح السيارات))، والكلب الغاطس في بركة قذرة ((إنه كلب عاطفي وحساس لقد سمع للتو بنبأ وفاة حبيبته)) ص68
و((هل أصبحت محلتكم كلها كلابًا)) ص69
من خلال سرد وعبارة رشيقة وجملة محكمة شدنا الروائي إلى متابعة حركات أفراد العائلة من كونها عائلة سعيدة ومنسجمة وهانئة ومحبة للخير وللحيوان، إلى عائلة مكلومة منكسرة فقدت الأب والابن الأوسط ، وعفة وشرف الأم والبنت الكبرى، ولكنه يبدو غير مقنع من الناحية المنطقية للأحداث وخطورة الوضع القائم أن يجعل الأم تقرر العودة ثانية إلى المدينة بدعوى تفقد الدار بعد أن تركتها مجبرة تحت تهديد السلاح وطلب العسكر إخلاء المدينة بأسرع وقت، مما عرضهما لمهاجمة العسكر والتعرض للاغتصاب خصوصًا وأن الزوجة تعلن موقفها حين تقول ((خسارة الأموال يمكن تعويضها، أما خسارة الإنسان لذاته فلا تعوض)) ص57 بمعنى أنها تفضل الحفاظ على النفس على المال كمبدأ حياتي لها فما الذي يدفعها للعودة للدار وتفقدها صبيحة اليوم الثاني رغم جسامة المخاطر؟ وكأنه لم يجد وسيلة لاغتصابهما إلا بعودتهما، في حين كان الأمر ممكن الحدوث قبل مجيئهما للواحة في المرة الأولى، كما أنه صنع هذه العودة ليبرر حالة عدم التقاء رب الأسرة وولده الأوسط للزوجة والبنت الكبرى ومن ثم البحث عنهما ومقتلهما في الطريق صوب المدينة.
نرى هنا خلل في الحبكة ويمكن اختزال الحدث واعتماد الحدث الأول لتصنيع وهندسة مشهد الاغتصاب ومقتل الأب وولده..
نرى أن الروائي تطرف في عملية الاختزال والتكثيف للمشاهد والصور التي يفترضها الحدث محملاً القارئ عملية تصنيع المشهد المفترض كما في توصيفه لعملية الاغتصاب وما يفترض أن يرافقها من صراخ ومقاومة وتمزيق ملابس الضحية ومصاحبة دماء النزف للضحية العذراء ضمن عملية الاغتصاب الوحشية من قبل العسكري المتوحش.
كما أن الروائي لم يؤثث شخصيات الرواية فهي مجرد تسميات أب وأم وطفل وبنت كبرى وولد أكبر والوسط وخطيب، دون ذكر أي توصيفات لأشكالهم وأطوالهم ولون العيون والحركة المميزة لكل منهم، لترتسم في ذاكرة القارئ صورة للشخصية تعايشه بعد الانتهاء من قراءة الرواية، كما فعل مثلا في توصيف ولو مختصر جدا للضابط الملازم أول الذي احتضن الطفل وتطبيبه في الطبابة العسكرية كونه شابًا فارع الطول ذا كبرياء وشموخ، وقسماته التي تدل على الحزن وعدم الرضا عما يحدث. في حين لم يصف المجرم المغتصب بما يتناسب مع شخصيته المتوحشة الشريرة.
كما أننا لم نستمع إلى الحوار الداخلي لأغلب هذه الشخصيات: البنت المغتصبة، والأم المكلومة، والأب الملهوف لرؤية ولقاء زوجته وابنته العزيزة وما اعتراهما في طريقهما للمدينة وتوصيف اللحظات الأخيرة لهما قبل الموت قتلا برصاص العسكر، بل حصر هذه الحوارية بالكلب فقط .
كذلك الحال بالنسبة للمكان فليس هناك توصيف للمكان: البيت، الحي، الواحة، فهي ليست أكثر من دوال الحضور بدون أية سمات وأشكال ومواصفات، ربما يرتبط هذه برغبة الروائي عدم الإفصاح عن مكان وزمن الحدث بالضبط كما أسلفنا عند الحديث حول عنوان الرواية.
لا شك أن الروائي أدهشنا في سعة خياله واجتراحه لهذا الراوي العليم غير المسبوق في الرواية العراقية على الأقل، وكما يقول أحدهم ((لو اكتمل الشيء مات)) فليس هناك عمل روائي مكتمل .
رواية ((هياكل خط الزوال)) عمل سردي مميز ومتفرد من حيث الثيمة وأسلوب السرد تحتسب للروائي المبدع مهدي علي ازبين .
((إننا الروائيين سوف نكون أشباه الآلهة)) فرنسوا مورياك الروائي وشخوصه – ترجمة علا شطنان التميمي ص78. دار المأمون ط1.
قول في التصنيف والتعريف:-
هذه الرواية أو كما عرفها المؤلف بنص سردي، فمن المعروف أن كل رواية أو قصة هي نص سردي، ولكن ليس كل نص سردي رواية، لكن السؤال ماذا أراد المؤلف من وراء هذا التوصيف لمؤلفه هذا ولغيره كما درج عليه مهدي علي ازبين، هل يريد أن يؤكد مقولة تداخل الأجناس الأدبية وذوبان أو ميوعة وتداخل الحدود فيما بينها؟؟
أو أن الكاتب أراد أن يترك للقارئ والناقد عملية التصنيف والتعريف بمنجزه الإبداعي دون أن يفرضه عليه أو يقيده بحدود توصيفه كونه قصة أو رواية أو خاطرة… الخ
أرى أن التفسير الأخير لدلالة المؤلف وتعريفه لمنجزه، فهو لا شك نص إبداعي سردي يفيض بالجمال ومشبع بالدلالة وعمق المعنى والفرادة والتميز في اختيار الراوي العليم ((الكلب)) في الرواية العراقية، ولكن هل هو رواية ؟
((إن الرواية تعبير إنساني، وجد منذ القدم، واغتنى بإضافات عديدة من لدن مبدعين ينتمون إلى ثقافات وحضارات متباينة، من ثم يصعب القول بوجود شكل روائي فرنسي أو أمريكي أو روسي أو عربي، بل هناك شكل مفتوح، مستوعب لمختلف الإضافات، يتوفر على مكونات نصية وجمالية تتعدى ((الأصل)) الاثني أو الثقافي لأنها مكونات تعتمد السرد والتخييل والحبكة وتعدد اللغات والأصوات، وهي جميعها عناصر مشتركة في التراث الروائي الإنساني المتفاعل باستمرار)) ص49 الرواية العربية ورهان التجديد د. محمد برادة مايو 2011
تعريف جان غوستاف لوكليزيو للرواية ((تقوم الرواية على اللايقين والتساؤلات وإعادة النظر أنها نظرية من لا اكتمال الحياة. الرواية جنس تعبيري للحاضر، إنها وصف لحالة العالم والمجتمع والذات، وبهذا المعنى فهي تلائم تمامًا عصرنا الذي هو عصر شك وعدم تيقن من المستقبل)) ص40 الرواية العربية ورهان التجديد .
((الرواية كلا ظاهرة متعددة في أساليبها متنوعة في أنماطها الكلامية، متباينة في أصواتها… الرواية تنوع كلامي ((وأحيانا لغوي، اجتماعي منظم فنيًا وتباين أصوات فردية)) ص9-11 الكلمة في الرواية – ميخائيل باختين – ترجمة يوسف حلاق ط1 دمشق 1988.
فلو راجعنا مختلف تعريفات وتوصيفات الرواية التي اعتمدت من قبل كبار الروائيين والنقاد لوجدنا أن ((هياكل خط الزوال)) رواية بدون شك.
فهي بالأساس فن سردي يقص حكايات بصورة نثرية سواء من الواقع المعاش أو من بنات مخيلة المؤلف والذي غالبًا تمتد جذوره في أرض الواقع مهما كانت درجة عجائبيته وغرائبيته، ولكنه مشروط بعد استنساخ الواقع بل تخليقه وتصنيعه فنيًا وأدبيًا فلا يكون سردًا تاريخيًا أو تسجيليًا…
كما أن الرواية هي عملية تذكر غالبًا ما يكون أحداثًا تروى إما بشكل متسلسل زمنيا أو متداخل ينتقل فيه الراوي من زمن إلى آخر قد يكون اللاحق سابقًا ومستهلاً للرواية أو يسير سيرًا تقليديًا متواترًا، كما أن الرواية تتطلب حضورًا للمكان والزمان أثناء عملية السرد وقد تكون شخصيات الرواية بشرية أو تروى على لسان الحيوان كما في روايتنا فالروائي العليم هنا ((كلب)).
وفق ما تقدم يحق لنا أن نصنف ونجنس ((هياكل خط الزوال)) برواية لأنها تمتلك كل مقومات الرواية وشروطها الأساسية.
العنوان ودلالته:-
عنوان الرواية أو عنوان أي نص أدبي هو من يملك المفتاح السحري لمغاليق العمل الروائي ومصباح إضاءة وإنارة لخبايا وزوايا ودلالات النص الأدبي والروائي على وجه الخصوص…
عنوان رواية ((هياكل خط الزوال)) في الحقيقية إجابة استباقية على تساؤلات القارئ الناقد حول مكان وزمان الرواية، فخط الزوال هو خط التلاشي والذي تنطلق منه أو تستدل به كل خطوط العرض والطول في الكرة الأرضية، ونقطة تقاطع خطوط العرض والطول هذه تحدد المكان المعين على الأرض، وحينما تكون الرواية هياكل خط الزوال فهي أحداث وصور وأساليب تمارس على كل الأرض دون استثناء ولا تخص دولة بعينها أو أرضًا بعينها دون غيرها، هذا يشير لنا تاريخ البشرية وتاريخ الشعوب ضمن مسيرتها الطويلة ولحين التاريخ، فهو تاريخ حروب وصراعات دموية هوجاء سواء أكانت داخلية بين الشعوب وحكامها أو بين الطبقات الاجتماعية والأديان والطوائف في داخل البلد أو بين الشعوب وحكامها، أو كونها حروبًا خارجية بين دولة وأخرى أو بين عدد من الدول كما في الحرب العالمية الأولى والثانية .
فالكاتب هنا لم يذكر لنا مكان وزمان الرواية؛ وإن كانت تدل حيثياتها وإحداثها أنها حرب نظام مستبد وطاغية على أبناء شعبه وربما يمكننا الاستنتاج أنها مستلة من أحداث إخماد الانتفاضة الشعبية الآذارية عام 1991 ضد نظام الديكتاتور بعد هزيمته في حرب الخليج .
الكلب والإنسان \ الكلب شخصية محورية في الرواية:-
تذكر بعض البحوث والدراسات في ما يخص علاقة الإنسان بالحيوان فتشير إلى أن الإنسان روّض الكلب أو الكلب رافق وصادق الإنسان منذ 14000 إلى 150000 ألف سنة خلت، فهو من أقرب الحيوانات إليه، وقد تميز عن العديد من الحيوانات كونه تميز بالوفاء والإخلاص الأعمى لسيده الإنسان ومصاحبته في مختلف الظروف، ربما يشاركه في هذه الصفة الحمام الزاجل حين يعتاد على مكان محدد، فنرى أن البقرة والحمار والفرس حينما تباع أو تساق إلى مالك جديد أو مكان جديد تتأقلم معه وتتعايش مع سيدها الجديد ولكن الكلب يصعب تطويعه وجعله ينسى ويتناسى سيده وصاحب نعمته الأول لذلك كان له ذكر واسع في التراث الأدبي والحكواتي وحتى الديني للإنسان وليس خافية علينا قصة أهل الكهف وخامسهم كلبهم.
كتبت العديد من الروايات والقصص العراقية والعربية والعالمية على لسان الحيوان وخصوصا الكلب ونذكر بعضًا منها على سبيل المثال وليس الإحصاء :-
– رواية ((حرب الكلب)) لإبراهيم صنع الله.
– تحريات كلب – لفرانز كافكا .
– رائحة الكلب- للكاتب الجزائري جيلالي خلاص.
– مذكرات كلب عراقي- للروائي العراقي عبد الهادي سعدون .
– كلب آل باسكرفيل – آرثر كونان .
– الكلب الأبلق الراكض عند حافة البحر – جنكيز ايتماتوف .
– رواية حوار كلب – للروائي الاسباني ميغيل دي ثيربانتس سافيدرا.
– الكلب السائب – للكاتب الإيراني صادق هدايت .
– موت كلب – قصة للكاتبة بثينة الناصري
– ((كبرياء كلب وحنان كلب، وغيرة كلب، وبصمة كلب)) أربع قصص قصيرة للقاص والروائي حميد الحريزي .
هنا نريد أن نقول إن الكاتب مهدي علي ازبين الأول في كتابة رواية يكون فيها الراوي العليم الكلب ونؤكد كونه أبرز من اجترح هذا الأسلوب من السرد الروائي في العراق خصوصا حسب علمنا.
مراحل حياة ((كلب)) ازبين وتحولاته :-
لا يعطينا الكاتب صورة عن شكل ولون ومميزات كلبه الراوي العليم، فهو لم يؤثثه؛ بل وصفه بجرو يتعرض للملاحقة والمطاردة بدفع من قبل السلطات للقضاء عليه وعلى أبناء جنسه كونه مخلوقًا فائضًا سائبًا فائضًا عن حاجة الإنسان في بلد الدكتاتور الذي أراد أن يطوع الإنسان في بلده على العنف والكراهية وتمرينه على القتل دون تساؤل ودون تردد مبتدئًا بالحيوان المسالم البريء، ليعده نفسيًا وسايكلوجيًا وسلوكيًا لمهاجمة وقتل أبناء جلدته من البشر أيضًا دون تردد ودون تساؤل وإنما لإرضاء رغبة الحاكم والنظام القائم وهو ما حدث بعد ذلك ليكون ((الجرو)) شاهدًا على قتل الإنسان وإذلاله واغتصابه وليأخذ دور حاميه والمدافع عنه والمحافظ على وجوده وكرامته حيًّا أو ميتًا المهدورة من قبل أخيه الإنسان…
فكان الجرو المدافع ضد وجود سيدته ضد من فهم أن خطيبها يريد سلبها منه وخطفها من عائلته فعاجله بعضّة شرسة دامية في إليته حينما كان يتبختر ببدلة عرسه الجديدة…
ولكنه أحس بالجبن والعجز بالدفاع عن سيدته حينما تعرضت للاغتصاب من قبل العسكري حامل المدية الذي اقتحم الدار هو وزمرته واغتصب الابنة الكبرى وربما والدتها، مدعيًا بأن لا حول ولا قوة له بصدّ الجاني المغتصب بينما تصوب إلى جمجمته فوهة سلاح حارس المغتصب. فيردد مع نفسه متهمًا إياها بالتخاذل ((ألوم نفسي “متخاذل”)) ص45.
وهنا إشارة بأن الحيوان الحامي لا يمكن أن يكون بديلاً عن الإنسان في الدفاع عن حريته وصيانة كرامته، فماذا عساه أن يفعل حيوان لا يمتلك سوى أنيابه ومخالبه وسط خضوع وخنوع كل سكان المدينة مغلقة الأبواب خوفًا وهروبًا من بطش العسكر الذي استباح المدينة…
ولكن هذا الجرو الذي أصبح كلبًا ناضجًا كفر عن ذنبه ومهادنته وانهزاميته هذه في الاستبسال حد الموت في منع الكلاب والذئاب والثعالب والقطط من تمزيق جسدي سيديه الأب وابنه الأوسط اللذين وجدهما مقتولين في الأرض الجرداء، وتمكن من صد هذه الحيوانات المتوحشة وتمكن من دفنهما والحفاظ عليهما حتى حضور الأم الزوجة والولد الأكبر والعثور على جثتيهما بدلالة الكلب الوفي الذي ربما فارق الحياة بعد ذلك في المكان نفسه.
نسبية الخير والشر، الإنسانية والتوحش:-
وفي الوقت الذي أشار فيه الروائي إلى نسبية نزعة الخير والشر نزعة الإنسانية والتوحش عند البشر كذلك هي موجودة في عالم الحيوان ومنها الكلاب…
فكما كان كلب العائلة متمثلاً بأرقى قيم الإنسانية من حيث الرحمة والإخلاص والوفاء التي تخلّى عنها الكثير من البشر، كذلك هناك كلاب وحيوانات شريرة ومفترسة وشريرة، وقد تعرض أشرسها للهزيمة من قبل كلاب خيرة تمكنت من إصابته بعدد من الجروح وبتر ذيله الذي أصبح لعبة من قبل القطط!!
كذلك هناك تناظر لحالات الخيانة والدونية بين الأعداء في عالم الحيوان وعالم الإنسان حيث يكون الفرد وسيلة للإيقاع بابن جلدته متعاونًا مع عدوه، كما هو حال الكلبة الخائنة المتواطئة مع الثعلب وتمكينه من افتراس دجاج القرية في الوقت الذي يجب أن تكون هي الحامية لها من شر الثعالب.
للتعبير عن موضوعيته في سرد الأحداث وتظهير السلوكيات ذكر لنا الكاتب سلوكيات متباينة من قبل حتى عساكر النظام فربما يكون بعض منهم مغلوبًا على أمره وغير قادر على العصيان والتمرد للانتصار للقيم الإنسانية وقيم الحرية والعدالة ولكنه يحاول إثبات إنسانيته متى توفرت له الفرصة الممكنة غير القاتلة، مثال ذلك الضابط العسكري فارع الطول وبالغ الهيبة الذي أخذ الطفل الجريح وتطبيبه في الطبابة العسكرية وإعادته إلى أمه سيدة المنزل وهو طافح بالحنان والرقة والإنسانية، بالضد من العسكري حامل المدية وهي إشارة وتلميح ربما لقادة فدائي صدام وجلاوزة عدي أو بعض أفراد الحرس الجمهوري الخاص الذي كان بالغ العنف والشر والذي اغتصب النساء في المنزل دون رحمة، وعجز الجندي المتعاطف مع الضحية وكانت دموعه تسيل على خديه ألمًا وغضبًا لما جرى من عملية انتهاك واغتصاب لعفة وعذرية الفتاة الشابة في المنزل.
كذلك أشار لنا الروائي إلى وجود حالة من التضامن والمحبة بين الناس بعضهم البعض رغم كل أساليب السلطات على قتل هذه الروح ومحاولة تفكيك المجتمع وتجريف كل قيمه الايجابية النبيلة، كان هذا الموقف ممثلا من مجازفة ومغامرة الجارة على إيصال المرهم الشافي والضمادات للبنت التي أصيبت بالحرق في قدمها جراء انسكاب الزيت المقلي عليه، متحدية الرصاص والخوف متسلقة الجدار البيني بين المنزليين تمتلكها روح التضامن والدعابة لتخفف من الأم الجارة رغم المخاطر ولعلعة الرصاص.
الحبكة الروائية وأسلوب السرد :-
الرواية يمكن عدّها من الروايات المدورة حيث تبدأ من حيث تنتهي، كما الرواية تنحو منحًا غرائبيًا عجائبيًا حينما تجعل كلبًا راويًا عليمًا وليس أحد الشخصيات الروائية كما في العديد من الروايات التي أشرنا إليها سابقًا، وتجعله يصارع الكثير من الكلاب وغير الكلاب من الحيوانات المفترسة، بأشكال وهيئات مختلفة، ينطقها ويجعلها تحاور بعضها، وتجري في دواخلها منولوغًا حواريًا داخليًا، وكأنه يقوم بمتابعة وتظهير مشاعر الكلاب وتصوراته واسترجاعاته في أوقات مختلفة محاولاً قدر الإمكان أن يكون مستترًا خلف الكلب المأنسن بعد تكالب الإنسان المدجن من قبل السلطات ولم يحِد الروائي الكاتب عن هذه الحالة إلا في مداخلته وتساؤله حول سلوك الكلب وقيامه بحماية الجثتين لسيديه الأب وابنه الأوسط ((ميتان منذ صباح الأمس، ملقيان على الأرض.. والعجيب هذا الكلب لا يفارقهما، يتنقل بين الرجل والفتى. هل يحرسهما؟؟)) ص59.
نرى أنه إيضاح فائض عن الحاجة أكيد القارئ سيصل إلى هذه النتيجة وهو يتابع معاناة الكلب وإصراره على حفظ جثتيهما وحمايتهما من الحيوانات كي لا تنهش جسديهما، وقيامه بعملية دفنهما وتوسد قبريهما إلى حين حضور الزوجة والبنت والابن الأكبر، وكأنه يسلمهما الأمانة وليسلم روحه معهما بعد أن تعرض لأذى كبير وجروح خطيرة أثناء عراكه مع الكلاب والثعالب والقطط .
كان الكاتب فطنًا وذكيًا ومتابعًا لحركات وسكنات الكلب منذ دخوله لاجئًا إلى بيت الأسرة التي رعته وحتى هلاكه وهو يحرس الجثتين..
كما أنه كان دقيقًا في توصيف الضحايا وهم ناس مسالمين لم يحملوا السلاح ضد السلطة، فمثلا الأب طلب تزويده بعصا ليهشّ بها الكلاب الذي قد تعترض طريقه ولم يحمل سلاحًا ناريًا ولا سلاحًا جارحًا، وهي إشارة إلى مدى وحشية النظام وقذارته واستهدافه للناس العزل من كل سلاح وهذا بالفعل ما حصل للكثيرين أثناء أحداث انتفاضة آذار عام 1991.
رغم ذلك نرى أن هناك صعوبة في إقناع القارئ أن الكلب ذو حاسة الشم القوية جدا يقدم على شرب النفط متوهمًا كونه ماءًا، وكذلك صعوبة إقناع القارئ بأن الكلب قادر على الإمساك بقنينة الخمر ودلق محتوياتها في جوفه فيسكر، ناهيك أن شارب الخمر لا يمكن أن يرمي قنينة الخمر إلا بعد إفراغها تمامًا.. لا نرى أن للمؤلف حاجة في ذكر هذين المشهدين ولو من أجل تلطيف جو السرد وإدخال نوع من الطرافة في الرواية المشحون بالألم والمشاهد المؤلمة والحزينة، كنا نأمل أن يكتفي بطرافة عضّ الكلب لخطيب البنت، وبوصية الكلب الثري بأملاكه للناس من موظفين من دون ذكر القاضي الذي جعل من الكلب المذموم إنسانا مرحومًا طمعًا بحصوله على جزء من ثروته ((ألم يوصي المرحوم بشيء آخر)) ص62.
وتوصيف كلابنا للأجنبي محاولاً إقناعه بأن كلابنا أكثر ذكاءً من كلاب الغربيين، فهناك كلب يقوم بدور الشرطة السرية، والكلب الوسخ الملطخ بدهن السيارات ((إنه يصلح السيارات))، والكلب الغاطس في بركة قذرة ((إنه كلب عاطفي وحساس لقد سمع للتو بنبأ وفاة حبيبته)) ص68
و((هل أصبحت محلتكم كلها كلابًا)) ص69
من خلال سرد وعبارة رشيقة وجملة محكمة شدنا الروائي إلى متابعة حركات أفراد العائلة من كونها عائلة سعيدة ومنسجمة وهانئة ومحبة للخير وللحيوان، إلى عائلة مكلومة منكسرة فقدت الأب والابن الأوسط ، وعفة وشرف الأم والبنت الكبرى، ولكنه يبدو غير مقنع من الناحية المنطقية للأحداث وخطورة الوضع القائم أن يجعل الأم تقرر العودة ثانية إلى المدينة بدعوى تفقد الدار بعد أن تركتها مجبرة تحت تهديد السلاح وطلب العسكر إخلاء المدينة بأسرع وقت، مما عرضهما لمهاجمة العسكر والتعرض للاغتصاب خصوصًا وأن الزوجة تعلن موقفها حين تقول ((خسارة الأموال يمكن تعويضها، أما خسارة الإنسان لذاته فلا تعوض)) ص57 بمعنى أنها تفضل الحفاظ على النفس على المال كمبدأ حياتي لها فما الذي يدفعها للعودة للدار وتفقدها صبيحة اليوم الثاني رغم جسامة المخاطر؟ وكأنه لم يجد وسيلة لاغتصابهما إلا بعودتهما، في حين كان الأمر ممكن الحدوث قبل مجيئهما للواحة في المرة الأولى، كما أنه صنع هذه العودة ليبرر حالة عدم التقاء رب الأسرة وولده الأوسط للزوجة والبنت الكبرى ومن ثم البحث عنهما ومقتلهما في الطريق صوب المدينة.
نرى هنا خلل في الحبكة ويمكن اختزال الحدث واعتماد الحدث الأول لتصنيع وهندسة مشهد الاغتصاب ومقتل الأب وولده..
نرى أن الروائي تطرف في عملية الاختزال والتكثيف للمشاهد والصور التي يفترضها الحدث محملاً القارئ عملية تصنيع المشهد المفترض كما في توصيفه لعملية الاغتصاب وما يفترض أن يرافقها من صراخ ومقاومة وتمزيق ملابس الضحية ومصاحبة دماء النزف للضحية العذراء ضمن عملية الاغتصاب الوحشية من قبل العسكري المتوحش.
كما أن الروائي لم يؤثث شخصيات الرواية فهي مجرد تسميات أب وأم وطفل وبنت كبرى وولد أكبر والوسط وخطيب، دون ذكر أي توصيفات لأشكالهم وأطوالهم ولون العيون والحركة المميزة لكل منهم، لترتسم في ذاكرة القارئ صورة للشخصية تعايشه بعد الانتهاء من قراءة الرواية، كما فعل مثلا في توصيف ولو مختصر جدا للضابط الملازم أول الذي احتضن الطفل وتطبيبه في الطبابة العسكرية كونه شابًا فارع الطول ذا كبرياء وشموخ، وقسماته التي تدل على الحزن وعدم الرضا عما يحدث. في حين لم يصف المجرم المغتصب بما يتناسب مع شخصيته المتوحشة الشريرة.
كما أننا لم نستمع إلى الحوار الداخلي لأغلب هذه الشخصيات: البنت المغتصبة، والأم المكلومة، والأب الملهوف لرؤية ولقاء زوجته وابنته العزيزة وما اعتراهما في طريقهما للمدينة وتوصيف اللحظات الأخيرة لهما قبل الموت قتلا برصاص العسكر، بل حصر هذه الحوارية بالكلب فقط .
كذلك الحال بالنسبة للمكان فليس هناك توصيف للمكان: البيت، الحي، الواحة، فهي ليست أكثر من دوال الحضور بدون أية سمات وأشكال ومواصفات، ربما يرتبط هذه برغبة الروائي عدم الإفصاح عن مكان وزمن الحدث بالضبط كما أسلفنا عند الحديث حول عنوان الرواية.
لا شك أن الروائي أدهشنا في سعة خياله واجتراحه لهذا الراوي العليم غير المسبوق في الرواية العراقية على الأقل، وكما يقول أحدهم ((لو اكتمل الشيء مات)) فليس هناك عمل روائي مكتمل .
رواية ((هياكل خط الزوال)) عمل سردي مميز ومتفرد من حيث الثيمة وأسلوب السرد تحتسب للروائي المبدع مهدي علي ازبين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق