الشارع فارغ مليء بفتنة عاجزة و باستيحاش مفزع ،رغم ذلك هو في غاية الجمال ، أيكون كل الذين مروا فيه ماتوا ، هذا ما أعدت تكراره وأنا أمشي وكأني شاهد على جريمة ، أنا أيضا أعرف شيئا دقيقا أني مكبل بالتخمينات ، وفيما يتعلق بالتخمينات فقد وجدت أنها كثيرة ،حيث قيل أنه حدث ذلك في ظروف غامضة ، و قيل أنه شارع مرعب ومن الممكن أن يموت المرء فيه ، فكل شيء هنا خطير ربما هذا ما جعل إحساسي مضطربا ،حاولت أن أبتسم :
- هل أنا هنا بمحض الصدفة
هي ثرثرة خائف ،والرواية الحقيقية لا أحد يعرفها ،فالأسلاف مجرمون والأحفاد ضحايا ،والناس العاديون ماتوا.
- هل أنا هنا بمحض الصدفة
هي ثرثرة خائف ،والرواية الحقيقية لا أحد يعرفها ،فالأسلاف مجرمون والأحفاد ضحايا ،والناس العاديون ماتوا.
هذه التزامنيات تخصني وحدي ،لقد أذهلتني أن الأموات يتحركون بين الأحياء ،مفارقة مربكة ،هي خليط بين لونين لمنظر واحد ،شيء يشعرك أنك ضئيل ومحاط بوحشة الأموات .
قال لي الطبيب بعد أن كشفت له عن سري :
- أنت لديك ارتعاشات في الرؤيا ....واختلاطات عقلية ، وأن ما تراه وهم؟؟؟
- لا ...ما أراه ليس وهما فأنا أشعر بهم ...هم موجودون بيننا ...ويؤثرون على تفكيرنا
- لا تكلمهم
- يجب أن نتحاور معهم ...ونقنعهم بأن يغيروا تفكيرهم ، كي لا نكون نسخة عنهم
مر أمامي قليل من الناس ،تراءى لي أن أجسادهم تتصاعد لتنتهي بقوقعة،ربما كان الوقت العاشرة ،الضوء تكوم ركاما... جثثا متفحمة... صفائح ،والأسوأ من ذلك أن أشياء كثيرة اختفت دون أي وصية أو صورة تذكارية ،لكن وعلى ما أعتقد وبطريقة خاطئة يكتنفها الغموض،أن صوتا انزلق من الماضي :
-هل أستطيع مساعدتك
أضفى الصوت طابعا باردا على المكان الصاخب بالهدوء ،أردت أن أحرك قدمي بعض الشيء ، وأمشي ، وفي الواقع انتابني شعور بالعجز فتوقفت ،بدا لي وكأني في رحلة إلى حقبة سحيقة ،مصير أشخاصها شاهد على العصر التي عاشت فيه .
عندما يكون المرء هنا هذا يعني أنه يبحث عن شيء ثمين.المدينة التي عشت فيها قبل أن أموت، الذكريات هنا مجسمة تجلس على الأرصفة،أحيانا على هيئة رجال كبار السن،أو شباب في المقاهي يتعاطون النرجيلة،أما البنات البالغات كن ملفعات بالسواد،استدارت عيناي فشاهدت مجموعة من الشباب تخفق فوقهم أعلام سوداء،يقودون أمامهم امرأة حبلى عارية،وصياحهم يعلو" الله أكبر"، كان العرق يتصبب من وجوههم ،والرذاذ ينطلق من أفواههم ليفسد هواء المدينة،هرج ومرج،وهناك أشخاص يراقبون الجميع من أماكن مخفية،يلتقط أحدهم صورة رئيس البلاد ويمزقها بحقد،فتعلوا أصواتهم" الله أكبر"، شعار غريب،وعندما وصلوا إلى الساحة، أشاروا إلى الجميع أن يأتوا،شد قائدهم المرأة العارية من شعرها،وصرخ بها:
- أيتها الفاجرة
بقر بطنها ،فجرى الدم مسافة مترين قبل أن تغمض عينيها الشرقيتبن إلى الأبد.
التقط أنفاسي وسألت شاب يرتدي الجينز :
-ما اسم هذه المدينة ؟؟؟
- متحف مدينة الموتى
خدعت نفسي وصدقت ،وبدأت جولتي بالتنقل من مكان إلى مكان،هذه التحف يقدرها الغرب بالملايين ،كدت أن أنسى الأمر ، الصوت الذي كلمني والمشهد الذي رأيته كان لموتى ، توفوا في عام في2015 ، ونحن الآن في عام 2050 ، ذلك المتحف العجيب هو بقايا مدينة في بلاد الشام ، أعترف أن ذلك المشهد جذبني فسألته :
- أنا أبحث عن عائلتي ؟؟وأردفت
-على خلاف ما تظن أنا حريصٌ على التمسك بأصولي ولكن ليس هذا سبب مجيئي إلى هنا ، ويجب أن تسجل أن رؤية مدينتي الأم هي في الأساس للسياحة فقط .
كنت أتكلم العربية بلهجتهم ،ونجحت من خلال ذلك أن يعتبروني واحد منهم ،قال لي :
- ليس سببا تافها مجيئك إلى هنا، قل لي أين تود أن تذهب .
- دعني أتجول وحدي...
في مدينة أعرفها وأعرف ساكنيها ، هي ذكرى فاسدة لحياتي الماضية ،دخلت إلى مقهى شعبي ، كانت طلبات الشاي المقدمة مع ورق الشدة أو طاولة الزهر هي رغبة الجميع ، جلس بالقرب من شاب يشبهني تماما في مثل سني :
- هل تظن أن هذا غير معقول ؟؟
- بالطبع لا
لا بد أن هناك اختلاف في الزمن الذي يدور فيه الحديث الآن ، جلست وكأني قذفت إلى يوم من أيام آذار عام 2012 ، وكما ذكر لي هذا الشاب :
- أنا أنت
لم أسمح أن أناديه بلفظة أنا ،لأني شعرت بالقشعريرة أن أكون لست أنا ،فبعد أن هاجر والدي إلى أمريكا أصبحت أشعر أني مواطنٌ أمريكيٌّ ،وكان والدي يصف أسلافه بالقذارة ،مر أمامنا عدد قليل من الناس ،لكن الأغرب كان يقول لي أن في عقولهم حشرات تاريخية مؤذية ،كنت أشعر بأن ثمة حركة خفية خلف المقهى ،كان الشاب يتحدث معي بولع ، لدرجة دعاني إلى حضور وجبة الغذاء،قلت له بولع:
- ولم لا
في مدن الموتى يمكن أن تسأل المتوفى :
- كيف لفظت أنفاسك الأخيرة
وعادة وبحكم مهنتي لا أتلمس ما يأتي على الألسنة ،بل أركز بعمق على ما تنم عليه تعابير وجهه ويديه :
- لن أنسى الأمر ،موت يكتنفه الغموض ، كنت أقف في الشارع حاملا كيسا من الفواكه ،فجأة خرقت رصاصة رأسي ،هذا ما أتذكره.
-هل تظن أن أحد ما سخركم كألاعيب؟؟؟
- لم أشاهد أحدا منهم فالعديد من الأشخاص ماتوا بنفس الطريقة
- لماذا تم القتل في عرض مسرحي أمام حشد من الجمهور
صنف الحادثة على أنها عادية،وكأنة يريد أن يجعل من هذه الحادثة سببا وجيها لإدانة الوطن ، لمرات عديدة حاولت أن أسأله عن السبب ،وهو يكرر نفس الإجابة لإقناعي :
- كنا نريد الحرية
- الحرية ممن؟؟؟
- من الاستبداد
على كل حال لا يموت الإنسان لسبب تافه من أجل شعار الحرية والديمقراطية ،فلقد كنت على يقين أنه مراوغ ،وفهمت أن ما يعنيه بالاستبداد تلك الطائفة ، تخيلت نفسي وأنا واقف أمامه ،أني غير محظوظ ومحرج خاصة بعد أن سألني عن تفاهة :
- لدي إحساس غريب بأني لم أقنعك
ابتسمت وأنا أقول له:
- هذه ثرثرة مساكين وليست قصة الشيء الذي يدعى دمار مدينة.
كان في المقهى رائحة غريبة ، رائحة حمض الزبدة ، لم يكن مجيئي لمشاهدة أوهام مخلوقات تاريخية،الاضطراب الذي خالجني وأنا أخرج من المقهى ،جعل إحساسي بأن كل شيء ثانوي ،وبأن الماضي هو حلم كل إنسان .
فؤاد حسن محمد
جبلة - سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق