.. كنا أكثر من خمسين عاملا. تنأى بنا المسافات والمدن . الأيام حبلى، تختار لنا في كل مرة منفىً جديداً . نصل إلى مكان عملنا في السابعة صباحا .ندخلُ من باب التفتيش . بعد الفحص والتنقيب في جيوبنا وملابسنا وملامح هوياتنا، يدخلنا الحارس الضخم عبر البوابة ليستلمنا أربعة من العسكريين. نسير على طريق تقيس فيه خطواتنا بعدد أنفاسنا، يغلفنا صمت أخرق، وجوه الحراس جافة كأيامنا العطشى . طريق تزفر خوفاً ورعبا
.تتنازعنا مشاعر مختلطة .تطوقنا أسوار ملغومة، تذكرّنا أن حياتنا في هذا المكان تشبه فم ثعبان هائل مستعد لالتهامنا في أية لحظة .يتم اقتيادنا نحو مكان كبير مخصص لتربية الأسماك .المكان محاط بالأشجار من كل جانب وعبر ذؤاباتها نلمح الأسلاك الشائكة ونقاط الحراسة المشدّدة .المكا ن يحوي مجموعة من الأحواض الكبيرة ،بعضها دائري الشكل والبعض الآخر، بني على شكل حدوة حصان مفتوحة من جانب واحد.
على كل حوض ثمانية من الحراس. واجبنا الأساسي هو تقشير البيض المسلوق ورميه إلى الأسماك ..
كل حوض يحوي العشرات من الأسماك الكبيرة ..حالما نرفع أكفنا لنرمي اليها البيض، تفتح الأسماك أشداقها لتلتهمها بأقل من ثانية، لتعود من جديد تنظر إلينا باعينها المدورة، راغبة بالمزيد . المخصص من العلب لكل حوض حصة ثلاثة آلا ف بيضة مسلوقة .الأحواض الخمسة تستهلك في أربع ساعات ،خمسة عشر الفاً من البيض .تلك أوامر ولي الأمر(الرئيس ) فكنا نؤدي عملنا يوميا دون انقطاع . نعمل
طوال فترة الأسبوع دون استراحة ..نقبض أجورنا أسبوعيا . نحنُ الأجراء من مناطق شتى في بغداد. . فينا الكبير وفينا الشاب الفتي، اضافة إلى النساء بكافة الأعمار .حولنا تتآكل لوحة الألوان نجفل من كل حركة مريبة نحونا . من سفوح آلامنا نصنع ابتسامات الرضى . نطبع على وجوهنا الناحلة أحلاما تتناسل في الفراغ .علينا أن نعمل ونحن نصنع السعادة الموهومة.
، بعد العاشرة ينتهي عملنا ..يتركوا لنا بعدها مجالا للراحة حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ليسمحوا لنا بعد ذلك بالخروج بعد التفتيش الدقيق كالعادة ، ومن ثم الرحيل إلى منازلنا .
الأسماك معظمها استيراد من دول أجنبية، والبعض سمك عراقي يتم جلبه من الجنوب في أحواض خاصة .
وإذا رغب الزعيم بتناول وجبة منها، ،أتي شخص مختص في رفع السمك من الحوض وتسجيل العدد ونوع السمكة في ورقة تسلّم لرئيس الحراس.
كنتُ قانعة بأجري لأنني أعيشُ مع ولدي الصغير .زوجي فقدته في حرب الثماني سنوات مع إيران . كان على مقربة مني ثمة رجل عجوز .عامل جديد لم يمضِ أسبوع على وجوده بيننا . يقشَّرُ البيض معنا ، رأيت العجوز يختلسُ النظر نحو الحرّاس الذين يحيطون بالحوض، ثمّ ينظر إلينا وثمة خوف يرتسم في عينيه الصغيرتين. لمحته يستخرج ببيضتين من الصندوق ويدسهما في جيبه، وهو يزرد ريقه بوجل .لم يلمحه أحد كما ظننتُ أول وهلة، قلتُ له هامسة :
_ياعَمْ ..أحدهم شاهدكَ وأنتً تدسُّ البيض في جيوبك .
_ صدقيني يا ابنتي أني جائع ..لم اتناول طعام العشاء من ليلة أمس ولم أفطر لحد الآن ..
استمررنا يتقشير البيض وأنا أتوجس خيفة من الحارس النحيف في الزاوية القريبة ..كان ينظر إليه والغضب يرتسم في ملامحه و شواربه الكثة تتحرك باستياء واضح ..اقتربتُ من الرجل العجوز وهمستُ له بصوت خفيض:
_الله يحفظك عمّي ..أخرجْ البيض من جيب سترتك ؟!
_قلتُ لكِ أني جائع ..اسكتي أرجوكِ ..كي لا تثيري انتباههم؟
انتهى وقت عملنا كالعادة الساعة العاشرة صباحا ..قبل أن نتفرق لنجلس على الحشائش الخضراء لنتناول ما جلبناه من بيوتنا من طعام ، ونتنعّم بالمروج الندية المنعشة، ونتحدث فيما بيننا لتزجية الوقت المتبقي .فجأة اندفع أحد الحراس نحو الرجل العجوز وأمسك به من ذراعه بقوة ،
ثم نادى على الحراس الآخرين . جاؤوه هرولةً ووقفوا أمامه .أشار نحو الرجل العجوز وصاح بصوت عال :
_ سيّدي هذا حرامي ..يسرقُ من طعام الأسماك ويضعها في جيبه .
لم يفه الرجل العجوز وقد شملته رجفه من رأسه حتى قدميه ..دسّ كفه في جيبه وأخرج منه البيضتين ، تناولهما منه أحدهم فيما مدّ كبيرهم ذراعه وصفع العجوز على وجهه..تعثر الرجل بدشداشته وسقط على الأرض . ثم تقدّم أحدهم ووطأ رأسه ببسطاله الأحمر ..ماذا صنعتَ لنفسك عندما تدلّى الوجع من معدتك الخاوية ..ماذا تجدي الكلمات وأنت طائر مهيض الجناح.؟. مذ مزقنا ورقة التوت ونحن نعاني من العُري .. نركضُ في كل اتجاه ، بحثاً عن فجوة في السماء لنحتمي بها من الطوفان.
_ارحموا شيبتي ..سامحوني يا أولادي ..والله لن أفعلها ثانية .
قالها وهو يرتجف كالطير المبلول .
_أيها الكلب ..كيف تجرؤعلى سرقة طعام أسماك السيد الرئيس ؟
.قالها كبيرهم وأردف :
_أُسكت أيها المجرم ... لن يجدي اعتذارك شيئاً ...هيا خذوه ؟
لم تنفع توسلاته لهم وأراد تقبيل يد أحدهم ،فنهرهُ بلطمةِِ على وجهه ..
_والله جوعان ياناس. .أستحلفكم بالله أن تغفروا لي .
اقتادوا الرجل العجوز إلى مكان ما.. مكان نجهله خلف الجدران العالية ،قرب النهر سيفعلون به مثلما فعلوا بمن كان قبله ، من بين أكتافهم يلقي علينا نظرات أستغاثة والدمع يتحجر في عينيه ..لم نره بعد ذلك ..ولم يحرؤ أي واحد منّا على الدفاع عنه أو التشفّع له أو السؤال عنه ..اختفى الرجل العجوز ، وانقطعت أخباره ..كنّا نتمنى أن يكون رهن الحبس أو المعتقل أو حتى في زنزانة انفرادية على أقل الأحوال . ذهب إلى المجهول . تلهث خلفه ضغائن زبانية لاتتهاون في تنفيذ أوامر الزعيم ...جل ماكنا نخشاه أن يكون قد أُعدِم برميهِ في (المثرامة )*ليكون طعماً للأسماك الشرهة في نهر دجلة .
____________________
المثرامة /آلة ميكانيكية ضخمة لتقطيع الاجساد .
عادل المعموري
.تتنازعنا مشاعر مختلطة .تطوقنا أسوار ملغومة، تذكرّنا أن حياتنا في هذا المكان تشبه فم ثعبان هائل مستعد لالتهامنا في أية لحظة .يتم اقتيادنا نحو مكان كبير مخصص لتربية الأسماك .المكان محاط بالأشجار من كل جانب وعبر ذؤاباتها نلمح الأسلاك الشائكة ونقاط الحراسة المشدّدة .المكا ن يحوي مجموعة من الأحواض الكبيرة ،بعضها دائري الشكل والبعض الآخر، بني على شكل حدوة حصان مفتوحة من جانب واحد.
على كل حوض ثمانية من الحراس. واجبنا الأساسي هو تقشير البيض المسلوق ورميه إلى الأسماك ..
كل حوض يحوي العشرات من الأسماك الكبيرة ..حالما نرفع أكفنا لنرمي اليها البيض، تفتح الأسماك أشداقها لتلتهمها بأقل من ثانية، لتعود من جديد تنظر إلينا باعينها المدورة، راغبة بالمزيد . المخصص من العلب لكل حوض حصة ثلاثة آلا ف بيضة مسلوقة .الأحواض الخمسة تستهلك في أربع ساعات ،خمسة عشر الفاً من البيض .تلك أوامر ولي الأمر(الرئيس ) فكنا نؤدي عملنا يوميا دون انقطاع . نعمل
طوال فترة الأسبوع دون استراحة ..نقبض أجورنا أسبوعيا . نحنُ الأجراء من مناطق شتى في بغداد. . فينا الكبير وفينا الشاب الفتي، اضافة إلى النساء بكافة الأعمار .حولنا تتآكل لوحة الألوان نجفل من كل حركة مريبة نحونا . من سفوح آلامنا نصنع ابتسامات الرضى . نطبع على وجوهنا الناحلة أحلاما تتناسل في الفراغ .علينا أن نعمل ونحن نصنع السعادة الموهومة.
، بعد العاشرة ينتهي عملنا ..يتركوا لنا بعدها مجالا للراحة حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ليسمحوا لنا بعد ذلك بالخروج بعد التفتيش الدقيق كالعادة ، ومن ثم الرحيل إلى منازلنا .
الأسماك معظمها استيراد من دول أجنبية، والبعض سمك عراقي يتم جلبه من الجنوب في أحواض خاصة .
وإذا رغب الزعيم بتناول وجبة منها، ،أتي شخص مختص في رفع السمك من الحوض وتسجيل العدد ونوع السمكة في ورقة تسلّم لرئيس الحراس.
كنتُ قانعة بأجري لأنني أعيشُ مع ولدي الصغير .زوجي فقدته في حرب الثماني سنوات مع إيران . كان على مقربة مني ثمة رجل عجوز .عامل جديد لم يمضِ أسبوع على وجوده بيننا . يقشَّرُ البيض معنا ، رأيت العجوز يختلسُ النظر نحو الحرّاس الذين يحيطون بالحوض، ثمّ ينظر إلينا وثمة خوف يرتسم في عينيه الصغيرتين. لمحته يستخرج ببيضتين من الصندوق ويدسهما في جيبه، وهو يزرد ريقه بوجل .لم يلمحه أحد كما ظننتُ أول وهلة، قلتُ له هامسة :
_ياعَمْ ..أحدهم شاهدكَ وأنتً تدسُّ البيض في جيوبك .
_ صدقيني يا ابنتي أني جائع ..لم اتناول طعام العشاء من ليلة أمس ولم أفطر لحد الآن ..
استمررنا يتقشير البيض وأنا أتوجس خيفة من الحارس النحيف في الزاوية القريبة ..كان ينظر إليه والغضب يرتسم في ملامحه و شواربه الكثة تتحرك باستياء واضح ..اقتربتُ من الرجل العجوز وهمستُ له بصوت خفيض:
_الله يحفظك عمّي ..أخرجْ البيض من جيب سترتك ؟!
_قلتُ لكِ أني جائع ..اسكتي أرجوكِ ..كي لا تثيري انتباههم؟
انتهى وقت عملنا كالعادة الساعة العاشرة صباحا ..قبل أن نتفرق لنجلس على الحشائش الخضراء لنتناول ما جلبناه من بيوتنا من طعام ، ونتنعّم بالمروج الندية المنعشة، ونتحدث فيما بيننا لتزجية الوقت المتبقي .فجأة اندفع أحد الحراس نحو الرجل العجوز وأمسك به من ذراعه بقوة ،
ثم نادى على الحراس الآخرين . جاؤوه هرولةً ووقفوا أمامه .أشار نحو الرجل العجوز وصاح بصوت عال :
_ سيّدي هذا حرامي ..يسرقُ من طعام الأسماك ويضعها في جيبه .
لم يفه الرجل العجوز وقد شملته رجفه من رأسه حتى قدميه ..دسّ كفه في جيبه وأخرج منه البيضتين ، تناولهما منه أحدهم فيما مدّ كبيرهم ذراعه وصفع العجوز على وجهه..تعثر الرجل بدشداشته وسقط على الأرض . ثم تقدّم أحدهم ووطأ رأسه ببسطاله الأحمر ..ماذا صنعتَ لنفسك عندما تدلّى الوجع من معدتك الخاوية ..ماذا تجدي الكلمات وأنت طائر مهيض الجناح.؟. مذ مزقنا ورقة التوت ونحن نعاني من العُري .. نركضُ في كل اتجاه ، بحثاً عن فجوة في السماء لنحتمي بها من الطوفان.
_ارحموا شيبتي ..سامحوني يا أولادي ..والله لن أفعلها ثانية .
قالها وهو يرتجف كالطير المبلول .
_أيها الكلب ..كيف تجرؤعلى سرقة طعام أسماك السيد الرئيس ؟
.قالها كبيرهم وأردف :
_أُسكت أيها المجرم ... لن يجدي اعتذارك شيئاً ...هيا خذوه ؟
لم تنفع توسلاته لهم وأراد تقبيل يد أحدهم ،فنهرهُ بلطمةِِ على وجهه ..
_والله جوعان ياناس. .أستحلفكم بالله أن تغفروا لي .
اقتادوا الرجل العجوز إلى مكان ما.. مكان نجهله خلف الجدران العالية ،قرب النهر سيفعلون به مثلما فعلوا بمن كان قبله ، من بين أكتافهم يلقي علينا نظرات أستغاثة والدمع يتحجر في عينيه ..لم نره بعد ذلك ..ولم يحرؤ أي واحد منّا على الدفاع عنه أو التشفّع له أو السؤال عنه ..اختفى الرجل العجوز ، وانقطعت أخباره ..كنّا نتمنى أن يكون رهن الحبس أو المعتقل أو حتى في زنزانة انفرادية على أقل الأحوال . ذهب إلى المجهول . تلهث خلفه ضغائن زبانية لاتتهاون في تنفيذ أوامر الزعيم ...جل ماكنا نخشاه أن يكون قد أُعدِم برميهِ في (المثرامة )*ليكون طعماً للأسماك الشرهة في نهر دجلة .
____________________
المثرامة /آلة ميكانيكية ضخمة لتقطيع الاجساد .
عادل المعموري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق