ودعت إخوتها الصغار وأبويها ، ذرفت ” نجمة ” دمعتين ساخنتين مستنجدة بحب أبوين أثقلت كاهلهما الحاجة ، وكسرت أحلامهما البطون الجائعة لأطفالهما الخمسة ، و لسوء حظها ” نجمة ” كانت أكبرهم وطوق نجاة لأفراد أسرتها من مخالب الجوع والفاقة ، ألبسوها جلباب خادمة ، حملوها في سيارة ” سيدتها ” الجديدة ، في يدها رزمة صغيرة تحمل فيها بعضا من ثيابها البالية ، تحركت السيارة ، انطلقت نحو عالم تجهل ” نجمة ”
شكل ولون سمائه ، ظلت عيناها الواسعتان شاحبتين تنظران عبر زجاج النافذة الخلفية ، تلقي نظرة ألم ولوعة على إخوتها وهم يركضون ملوحين بأياديهم الصغيرة خلف السيارة غير عابئين بما أثاره المحرك من دخان وغبار، غربت الشمس ، وعينا “نجمة ” لازالتا متلألئتين يستحضران طيف عالمها الجميل المزين بدفء و حنان أسرتها، وبعنزتها التي كانت تعتني بها و بشجرة زيتون تظلل جانبا من كوخ أسرتها ……و بحنين أكبر تذكرت الفرن الذي تشعل فيه نار الحطب … تتوقف السيارة ، تخرج السيدة ،تفتح الباب ، تخاطبها : ” اخرجي .. خذي رزمتك ! ” تحملق بنظرات بريئة يمينا و يسارا ، تخرج رأسها الصغير من السيارة ، بأقدام متذبذبة تطأ أرضا صلبة قاسية ، تخطو نحو حياة ..‼
يستقلان مصعدا ، جحيم جامح يلتهم ما تحمله رزمتها من أمان ، يصلان إلى الطابق الرابع ، تخرج السيدة من حقيبتها مفتاحا ، تفتح به أول باب على يسار المصعد ، تدخل ، تدفع بقوة باب غرفة النوم ، قبل التوغل إلى الداخل تستدير و تكتشف أن ” نجمة ” بهامتها المنحنية ما زالت عالقة بعتبة باب الشقة ..
” هل تجمدت ؟ ” بنظرة آمرة تقطر غطرسة تأمرها بالمرور هي و رزمتها إلى الحمام ..تندهش من تواجدها بذلك المكان ، ملسوعة بوقع اللهجة القارسة ، تدفع بنفسها دفعا نحو الداخل ، تضع ما بيدها أرضا و تنظر حولها لا تدري ما تفعله ..
” بسرعة انزعي ملابسك و ادخلي حوض الاستحمام ..لا لا قبل ذلك ، ذلك الشعر الطويل لن ينفعك في شيء ، تعالي أخلصك منه و مما يحمل من حشرات !!! “
تهرع الصغيرة نحو الباب المحكم الإغلاق هاربة مذعورة ، لكنها لا تستطيع فتحه ،بذراعيها النحيفتين تحاول إبعاد المقص المندفع نحو أغلى ما تملك ، ضفيرتها التي طالما كانت تزهو بجمالها بين أرجاء قريتها ، ما زالت تحمل دفء لمسات أنامل أمها و هي تتفنن في ضفر خصلاته الناعمة الداكنة السواد ،يائسة تبعد رأسها عن طريق المقص تدفع بيد السيدة ، و لكن .. قُضِي الأمر ، تسقط الضفيرة على الأرض بدون حياة ، تتهاوى بجانبها منكسرة جاثية على ركبتيها تجهش ببكاء مرّ .. كان المطبخ هو المكان الثاني الذي تُقاد إليه ، مساحته تساوي مساحة بيت أسرتها في الدوار..! في ركن تحت نافذة ضخمة وُضع فراش بسيط ، بجانبه نعل بلاستيكي و لباس عليها ارتادؤه عند مزاولتها العمل ..، ستفعل ذلك في الصباح الباكر أما الآن فستخلد إلى نوم غريب عن مقلتيها المنهكتين ، تلقي برأسها الصغير العاري من ضفيرتيها الجميلتين ، والمملوء بحسرة سوداء على وسادة كالصخر تُذَكرها أنها لن تستيقظ غدا و لا بعده..على صياح ديك الدوار ..بل على أصوات لن تكون أقل بشاعة مما وقع لها و هي تطأ عتبة هذا البيت .. نائمة تستدير نحو النافذة إذا بضوء النهار يلقي التحية عليها متناثرا بهدوء عبر زجاج شفاف على جسمها النحيل ، صوت مزمجر يُصَبُّ بأذنها ، يقعدها رعبا ،تلتقط رداء العمل و تلبسه ميكانيكيا دون استيعابها لهول ما زلزل كيانها ..
“باراكا من نعاس جايَّ تخدمي مشي تنعسي..” ترفع رأسها فترى السيدة بنظرات تشتعل غضبا تردف آمرة ” عند الثامنة أعود و أجدك قد غسلت الأواني ورتبت غرفتي نبيل و كريم ، يللاه فيقي و باراكا من نعاس..” …تدخل دوامة شقائها من أوسع الأبواب سامعة طائعة ..تتزحلق بين تحذير ،تهديد،زجر و عقوبات … تمر الأيام في حياة نجمة متشابهة بطيئة تُلْحق بما في قلبها الصغير من اخضرار حرقة واحتراقا ، فمنفاها الإجباري يحبس أنفاس طفولتها و يسدل على غدها ظلمة تصبح حالكة حينما يزورها والدها آخر كل شهر و يأخذ من السيدة أجر خدمتها متعجلا العودة دون الجلوس إليها و تَفَقُّدِ أحوالها، ..كل مرة وهو يغادر تتسارع دقات نبضها محاولة تحميله شوقا بحجم براءتها إلى أمها و إخوانها ..، لكنه يغلق الباب الحديدي خلفه عائدا قبل إطلاق سراح ما على رأس لسانها ..!!! سيناريو حياتها يزداد مرارة ،تُحرِق ما لديها من تذاكر العودة إلى حضن أمها و عنزتها واستنشاق هواء الدوار،دخان ذلك الاحتراق يخنق يومياتها المتكررة و يُنْهك قلبها الصغير تحت وطأة غسل الأواني ، الكنس و الإهانة ، يوما بعد يوم تضيق دنياها ويصبح اليأس خبزها الحافي و الوجه الآخر لسيدة البيت .. تدق الساعة الثانية عشرة ليلا، و نجمة ما تزال في المطبخ متعبة تجر قدميها لإتمام عملها ..، الكل نيام تأخذ مكانها على فراش يشبهها . من شدة التعب لم تجد الصغيرة صعوبة في الارتماء بين أحضان عَدَم عبر نوم عميق .. تحت جنح ظلام حالك تمتد يد على جسمها لتفترسه و تنهش براءته ،تنتفض الصغيرة من شدة الهلع المغموس في الألم المبرح ، تحاول الصراخ ، لكن صوتها يُكتم ..! وأشعة شمس الصباح تُلَوِّح لها عبر النافذة بيوم جديد ،تبقى نجمة على فراشها ممددة دون حراك .. ” أيتها الخاملة، قومي ، أأُهيئ لك فنجان قهوة ..؟! تناديها السيدة وهي تقترب منها ..مستعدة لإعادة ما قالت ..تتوقف واضعة يدها على فمها مذهولة مما ترى فنجمة تبدو جثة منطفئة خالية من الحركة مُضْرَجة بدمها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق