اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

حينما يتحوّل التجريد إلى تجسيد ... *جواد غلوم


صموئيل بيكيت
جواد غلوم
عصفت بي فكرةٌ زحزحتْ مخيلتي وألحّ عليّ هاجسٌ طاغٍ ان أعيد قراءة أشياء من نتاج “صاموئيل بيكيت” مما كنت قرأتها سابقا وشاهدتُ بعضها على خشبة المسرح قبلا ، أحسست بإمعانٍ تام أني أعيش تزامنيا مع الحالات التي مرّت على شخوص بيكيت مع
فارق الزمن الطويل وكم كنتُ مصيبا وأنا أنغمس وأشرد بذهني في عوالم هذا الكاتب التي تتشابه تماما مع ما أنا فيه من كدر ويأس من الأوضاع المربكة التي تجري في محيطنا، استللتُ ثلاث مسرحيات مما ترجمه بول شاؤول وقرأتها تباعا وكأنني واحد من ممثليها مرةً صائتا صارخا بصوتٍ عالٍ وأخرى صامتا ساكنا وكانت خير مؤنس لي انطلاقا من مقولة ” شبيه الشيء منجذبٌ اليهِ ”
وأكاد أشبّه الحالة الغريبة الاطوار التي نعيشها الان بكل غرائبيتها وجنونها وشذوذها بحالة ” صاموئيل بيكيت ” نفسه ككاتب يتقمص شخوص ابطاله … أنقل هنا حدَثا واقعيا بعينهِ عاشه ” بيكيت ” يوم سافر من لندن متّجها الى باريس فهذه الحكاية ليست تجريدية أو عبثية مثلما يضجّ بها ادب كاتبنا البارع كما يخيّل اليكم لما اعتدنا من هذا الكاتب الايرلندي الساحر المشوّق الذي جعلنا نغمض اعيننا ترقبا لما قد يحصل ويسدل علينا ظلاما كي لانرى شيئا حتى لو قمنا بفتح انظارنا ودعوني اسردها عليكم تماما كما حصلت واقعيا دون رتوش او إضافات:
منذ ان استرخى صموئيل بيكيت على مقعد الطائرة في مطار ” هيثرو ” بصحبة اثنين من رفاقه وتفاجأ بالكابتن المسمّى ” غودو ” قائد الطائرة التي ستتجه به الى باريس وهو يمسك بالمايكرفون مناديا بابتسامة مصطنعة اعتاد عليها يوميا امام جموع المسافرين:
” مرحبا بكم اعزائي ضيوف هذه الرحلة ، انا الكابتن غودو أحييكم على متن الطائرة (….) في الرحلة (…..) القاصدة باريس متمنيا لكم سفرة سعيدة موفقة عبر بحر المانش الخلاّب، الرجاء شدّوا الاحزمة جيدا وامتنعوا عن التدخين، في الاعالي بعد قليل قد تشعرون بوجود مطبّات هوائية أرجو الاّ تثير فيكم بعض القلق، معذرة ايها الاصدقاء المسافرون، رحلة مصونة وعودة ميمونة
اية صاعقة احدثها هذا الكابتن الحقيقيّ المسمّى غودو الذي ظهر على حين غرّة من عالم تجريدي صنعه بيكيت ولم يدرِ انه سيمثل امام كاتب ابتكر “في انتظار غودو” والأغرب المخيف حقا ان اسمه يتطابق تماما مع هذا الذي يأتي ولايأتي، وها هو العمّ النحيف هزيل البنية بيكيت هلع خوفا وهو موقن بان موته آتٍ حتما حالما يطير في الجوّ وهاهو التجريد سيكون امامه تجسيدا والعبث يحيا ويكون موتا شاخصا امامنا والوهم سيتحول الى واقع والخرافة الى حقيقة وحالة الامل ستغدو يأسا لامحالة فإذا كان بيكيت نفسه قد خامره الرعب لحظة ما وهو يصغي الى الكابتن غودو فكيف بنا ونحن نصدم بآلاف الغرائب اللامعقولة العبثية ونراها امامنا متجسدة وليست اشباحا متخيلة
ايّة ارض تحتمل مثل هذا الخراب والتصحّر العاطفي والعنف الذي لامثيل له والامتهان الانساني الذي وصل الى حدّ بيع الانسان بخسا ومقايضة المرأة المخلوق الارقى والأجمل سبْـيا وبيعا في اسواق النخاسة وإشاعة القتل واستئجار البلطجية لمهام الخطف والاغتيال وزرع العبوات مقابل دراهم معدودة وتدمير املاك الناس والسطو عليها وحرقها في ظل قانون خائف مرتجف وايدِ مغلولة ودستور غارق في الاخطاء
صاموئيل بيكيت في مسرحية ” نهاية اللعبة ” يروي كيف مات ” نيل ” في حاوية النفايات مثلما يُرمى جسدٌ لإنسان مغدور عندنا في امكنة القمامة، هذه المسرحية تحكي عن الموت العائم بين ظهرانينا بعدة ألسنة وتتبين ملامحه في عدة وجوه ولنقرأ الدايلوج التالي على لسان الشخوص في “نهاية اللعبة”:
هام: البيت كلّه تنبعث منه رائحة الجثة
كلوف: كم هو بذئ هذا العالم
هام (غاضباً): فليذهب العالم الى الجحيم فالموت هو الحدث الغالب فينا، هذا هو تعريفه اصطلاحا وهو اللاحدث معنىً
كلوف: نحن شيء تابع نجري وراء هذا الحدث اللاحدث
هام: ألسنا نحن شيئا ما، شيئا في منتهى الوضاعة
كلوف (ضاحكا ضحكة قصيرة): هل تعني نحن الذين صرنا مجرد نكتة ظريفة في هذا العالم الماكر
هام: ألم أعذبك كثيرا ومع هذا اعتذر اليك
كلوف: بلى، هل نزفت كثيرا اليوم؟
هام: نعم، لكن نزفي كان أقلّ من يوم امس
هنا كل شيء صار حدثا عابرا رخيصا، الموت والعذاب والنزف وكأنه ” اللاحدث “، هذه هي بذاءة الحياة التي نعيشها الان مجرد نكتة تشيع في عالم مليء بالسخرية المرّة
اما في مسرحية ” فصلٌ بلا كلمات ” فنرى الانسان يقذف الى مكان ناءٍ ووجود صحراوي منعزلا عن العالم حيث الجدب والقحط والحياة الجافة والوحدة والانكماش عن الجموع البشرية ويغادر الامل ويحل محله اليأس والقنوط اذ لا بارقة تلوح في الافق تنبئ بان شيئا ما سيبعث الفرح والسلام والنماء ويبقى معلقا بين السماء التي لاتحنو عليه رغم توسلاته ودعائه الذي لايتوقف والأرض الملأى بالشرور والماحقة بالبشر حيث تنعدم الحياة الانسانية تماما وتفقد مقوّماتها بسبب الشرور وفقدان الغيرية وتفشي الانانية والإطاحة بالآخرين ونشر الاذى مع وجود عبثي نهلستي يتأرجح بين الحيرة والقلق
وهل هناك اكثر من بؤس الحالة التي نعيشها حيث الحروب العبثية العائمة وفقدان الاعزّاء وبعد الاحباب في الشتات والانزواء في وحدة قاتلة متصحرة من الاحاسيس والعواطف والتوادّ والمؤانسة
هذا التزامن الذي خلقه بيكيت والمكان الذي اختاره نائيا مجدبا من كل شيء يوحى اليّ كأنه كتب المسرحية لنا حصرا في خضم هذه البيئة والمستنقع الذي يحتوينا، عابرا عقودا من السنين ليحلّ بيننا ويبدي لنا حالتنا البائسة بكل غرائبيتها وتجريدها وأعاجيبها حتى بتُّ اقول في نفسي هل هذا الكاتب كان بيننا ويراقب وجوهنا ويعاني مانعانيه ؟!! ولا أتردد ابدا بالاجابة: نعم، بيكيت كان هنا
في العام / 1947 كتب صاموئيل بيكيت مسرحيته الشهيرة ” في انتظار غودو ” وطبقت شهرتها الآفاق ومازالت تمثّل الى وقتنا الحاضر، هذه المسرحية تدور حول شخصيات منعزلة ومنبوذة ومهمشة منسية في قيعان مجتمع قاسٍ غير رحيم برعيته وبقيت هذه الشخوص معدمة – كحالنا في هذا الزمن الوغد – تنتظر منقذا وهميا لكنه ترسخ في قلوبهم كائنا واقعيا لابدّ ان يأتي يوما ما وبعد فصلين من الحوارات الغائرة في النفس، المتطلعة الى شيء قد يكون وهما لنا لكنه يرسخ في الاعماق حاضرا بلا حاضر ومقبلا بلا مستقبل والتي يخالطها اللغو والثرثرة والترقّب لكن غودو لايأتي سواء تلبّس شخصية المسيح المنتظر او عندنا حينما نترقب مهديا يجيء او لايجيء، يدنو منا حين تتفاقم الاهوال ويغيب عندما يخفّ ثقل المأساة وهكذا يبقى الانسان يتأرجح بين الامل واليأس ويمسك الخرافة والوهم بكلتا يديه وكأنه موقن ان الحلّ آتٍ من معجزة ولا شيء غير المعجزة بلسما شافيا وعقارا مطبّبا طالما ان القلب قد بلغ الحناجر ويكاد يثب الى الارض قهرا وضيما، هنا يتعطّل العقل تماما ويفقد اتزانه وسطوته وقد يقترب من ساحل الجنون وربما يغور في عمق بحرهِ لو كانت الحالات غريبة الاطوار مما تحتمل من طبائع السلوك المذهل غير المألوف والشاذ
نذكر ان بيكيت تعرّض الى حادث غريب نوعا ما في واقع الحياة الباريسية حين ألحّ متسول يشحذ في الطريق العام على كاتبنا ان يعطيه مما عنده من مال وكان هذا الشحاذ في غاية الصلافة وآلى على نفسه ان يفرغ مافي جيب بيكيت من نقود للاستحواذ على شيء منها عنوةً لكن كاتبنا قابل اصرار هذا المتسول بموقف اكثر عنادا مما أغضب السائل فغرز الشحاذ سكينه في جسد بيكيت النحيف جدا مثل عود رشيق غضّ لايكتسيه اللحم وكاد ان يموت بسبب اصابته البليغة لولا رفيقه الكاتب الايرلندي الشهير جيمس جويس الذي آثر الاعتناء به والبقاء بجواره في المشفى حتى شُفيَ تماما
الغريب ان بيكيت سأل الشحاذ بعد ذلك حين انتهت فترة نقاهته عن سبب طعنه بالسكين ولماذا حاول قتله عامدا غير ان المجرم لم يُجب سوى كلمة واحدة ” لاادري”
هذه “اللاأدرية” بقيت ترافق كاتبنا في معظم اعماله ومسرحياته وتكاد تكون لازمة تتكرر على ألسنة شخوص مسرحياته كثيرا وبالاخص في مسرحيته الشهيرة “في انتظار غودو” ( waiting for Godot)، ولااريد ان استعرض احداثها فهي اشهر أثر أدبي كتبه بيكيت ومُثّلت كثيرا في معظم اصقاع الدنيا ولازالت تمثّل بالرغم من مرور مايقارب السبعين سنة على كتابتها فهي تتجدد سنة اثر اخرى في مغزاها ومعناها ورؤاها، حقا انها المرآة الساطعة لحياتنا الغريبة الاطوار، نراها واقعا معاشا الان مثلما كانت حالة الانسان الاوروبي قبل اكثر من ستة عقود وانغماسه في تيارات الوجودية ولامعنى الحياة منذ ظهور هيدجر وفلسفته التي أقضّت مضجع الانسان وأقلقت وجوده وتخبّطه في العدميّة ثم بلورها سارتر فيما بعد، ثم ان هذا الانسان قد خرج توّا من أتون حرب دامية اواسط اربعينات القرن الماضي، ولم تزل هذه الهموم والحالات تلازمنا بدءا من ضياع الانسان وحيرته واللامبالاة التي تعصف به وبحثه عن الخلاص حتى لو جاء طوباويا او من عوالم الخرافة واللايقين او الميتافيزيق، ليأتِ بايّ شكل كان فقد بلغت المنى هلاما والرواء سرابا ووصل الالم مداه الأوسع الذي لم يعد محتملا، وهل القلب الاّ وعاء صغير لايتسع لها الجريان الكثيف من الدماء وما العين الاّ صدفة صغيرة وكيف لها ان تستوعب هذه البرك الهائلة من الدموع التي تشيع فينا وتكاد تغرقنا بالأحزان وتخنقنا بالنشيج وغصص الجهشات والإشراق بالدموع
والمسرحية بكل ايجاز تحكي عن شخوص معدمة تماما ومنعزلة بعيدا تعيش على هامش الحياة ولا احد يعبأ بها او يلتفت لإنقاذها وتخليصها مما هم فيه، هؤلاء الشخوص ينتظرون وهْما يُدعى ” غودو ” لكنه ليس وهما بالنسبة لهم لأنهم يتشبثون به واقعا لابدّ ان يأتي يوما ما لينقذ، لينتشل هؤلاء من مستنقع معاش يوشك ان يغمر رؤوسهم ويغرقهم ولا أمل سوى غودو الغائب الحاضر، القريب والبعيد معا، الشارد والآتي، الموجود والمفقود ولهذا ترى تلك الشخوص يتمسكون بأمل اكتسى حُلّة اليأس، وهذه هي البشاعة بعينها عن حال الانسان الذي يرى امامه حروبا لاتنتهي ويريدها ان تنتهي عسى ان يجيء منقذ او نوح عاصم او مسيح جديد او مهديّ منتظر او حتى حبلٌ مشبك بخيوط من ضوء مصنوع من الأوهام وباقة ورود زرعها اليأس وسقيت من مياه السراب محال ان يمسك بكفّ مثل قبض ريح
لااستحي ان اقول انني يصيبني الخبل فيما ارى من واقع يكاد يكون اجواء من صنع بيكيت نفسه والاّ كيف نفسّر هذا التزامن الحاصل فيما نحن فيه وبين واقع تجريدي تخيله بيكيت منذ ستة عقود والحق اني ارى آلاف الوجوه هنا تشبه تماما وجه فلاديمير وهو يتطلع في الافق عسى ان يتبين شيء ما منقذا كان ام نوحا عاصما ام مخلّصا وقد يتجاوز هذا التزامن بين واقع ما يكتب بيكيت حتى يتحول الى زمن واحد يتطابق تماما فيما نحن فيه
فهذا ايستراغون العراقيّ الخارج من قمقم الدكتاتورية الصدامية الموغلة في الكبت يتطلع الى الديمقراطية الذي بشّر بها الغازي الماكر فلا يرى منها شيئا سوى شخوص مرعبة تتقاتل على المال وتتنازع على السلطة وتنبش في قمامة مطمورة لتظهر زفرتها ونتانتها مجددا، وتاريخ غير مشرف وقاتل وكريه لايعرف غير السيف حلا وعقدا وتظهر عفنه ورائحته المثقلة بالدم وذاك فلاديمير يبحلق في الوجوه لعله يبصر املا لكنه يصدم ويوقن بان كل الوجوه كالحة لايستبشر بطلعتها وفق هذا وذاك نراها تتكرر مع انها لاتجلب سوى التعاسة المضاعفة والأسى والبؤس واتساع المقابر واشاعة الكراهية وجلب مخلوقات داعشية لم نألفها من قبل الاّ في بطون اسفار السلف كي يتجسدوا امامنا ونلامس رعبهم بأيدينا ونرى البشاعة بأمّ اعيننا تماما مثلما كنا نقرأها ونفزع من هول ماجرى من قبل في عصور مضت وانقضت ليتم اعادته واقعا معاشا وليته كان سيناريو فيلم او حدث عرضي في مسرح عبثي تجريدي ولكنه امامك ملء العين ويعمل على وخزك كل يوم ويغرز في جسدك سيفه ويسلب منك كل عزيز عليك
فاذا كان مشاهدو في انتظار غودو عليهم ان يبقوا ساعتين في الظلام دون ان يملوا ويسأموا فكيف بنا ونحن نعد السنوات تلو السنوات ونقضيها في ظلمة دامسة، ليس هذا فحسب وانما الى جانب تلك الظلمة هناك الرعب والخوف والقلق والمناحات وأخبار القتل وما لايخطر على البال من الغرائب والعجائب المحزنة المبكية التي فاقت حتى التجريد
ونحن امام شخوص واقعية مهمشة جدا ومرمية على سبخ قرب شجيرة غير معطاء في سطح ارض اغرب من الخيال ففي كل يوم تلمح الف فلاديمير شريد يستظلّ بشجرة الامل التي لا تثمر خيرا ولا تظلل محموما كما في بيت الشاعر العربي ّمخاطبا اشجارا عاقرات عقيمات من النبت والثمار:
اذا لم يكن فيكنّ ظلٌ ولاجنى —– فقبحكنّ الله يا شجراتُ
يتطلع يائسا، آملا لاضير، وألف استراغون عميت بصيرته فصار يتشبث باللاشيء، ينتفض هلعا يترقب الآتي الغائب، المحظور والمسموح يدورون تائهين امام السيد ” بوزو ” الطاغية المستعبِد، هذه الصخرة التي لاينفجر ماؤها ويبقى المستعبَد المسكين ” لاكي ” لاخيط يربطه مع شخوص المسرحية ولو كان واهنا اشارة للتفكك العائم بين من يحيطون بنا في هذا العالم السوداوي غير المضاء بالحنوّ الانساني جراء الحروب والكوارث التي لامعنى لها سوى ان تردم الانسان وتطيح به وتعزله وحيدا ساهما وسط اهوال من العنت والخوف والمقبل المظلم والمصير المجهول الذي يصعب جدا احتماله، اما الصبيّ الغلام الشخصية الواهنة في المسرحية والذي يوحي بالأمل المترقَّب فهو الاخر مشلول الخطى مغلول اليد اخرس اللسان كآمالنا الضائعة ومقبلنا المتشح بالغموض والملامح غير البائنة لشدة قتامته واسوداده
تلك اذاً لامعقولية البناء تماما كما قال البير كامو بانّ مصير الانسانية يمثّل انعدام هدف في وجود غير منسجم مع محيطه وهذه هي النهلستية بعينها مثلما نعيشها الان، التجريد صار واقعا ملموسا مألوف الوجه واليد واللسان في بلاد أحنت رقابها تذلّلا لكل مشاهد الغرائبية فاللصوص ساسة ماهرون والسفهاء والجهلاء حكماء والقاتل عادل والمقدس مدنّس والانسان حيوان داجن ينتظر سلخ جلده وجزره وخداعه بالآمال الكاذبة تخديرا دائما ومسخ عقله ليدور طوال ايام السنة ينتظر ان تمنحه الاضرحة بلسما شافيا وعقارا مطببا من لدن حكيم مدرّب علمته السماء كيف يصون الادعية ويتقن لفائف الحرز والحجابات وتعليقا على الزنود وتعصيبها على الرؤوس المصدوعة وتدويرها حول القبور والمقامات الدينية والمزارات المصطنعة كي تفعل فعلها الناجع وتنتظر الفرج الذي لايأتي الاّ في مخيلة هؤلاء الذين سحقهم الجهل بأقدامه الشرسة وأمات فيهم روح التطلّع الى بشائر المستقبل، فما حاجتهم الى بناء الحاضر والمقبل طالما ان سدنة الخرافة ومزيفي العقل حاضرون وعلى اهبة الاستعداد لغسيل أدمغة الناس بالأوهام والخديعة والأضاليل
أنهيت ماقرأت تلك الثلاث مسرحيات في غضون اسبوع واحد ليس عندي غيرها في مكتبتي لكنها كانت كافية لأن يمسسني ضرّ من الجنون لولا رباطة جأشي وأخذي قسطا من الراحة لإعادة اتّزاني وترميم عقلي بفسحة شعرية بين آنٍ وآخر وقراءات مرطّبة للنفس أعادتني الى سابق عهدي فالدخول الى اقبية بيكيت يستلزم ايقاد العقل والنفس معا بمصابيح مضاءة لاسيما اذا كنّا نعيش حالات تتماثل تماما مع أبطالهِ وشخوصهِ السويّة وغير السويّة.

*جواد غلوم
jawadghalom@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...