في غرفة زميلي معاون عميد كلية الآداب المستنصرية ، لفت نظري الزجاج العاكس بطرق مختلفة ، فيمكن لكل فرد من جهتنا رؤية الوجوه خارج الغرفة عن قرب من دون ان ترانا .
والغرابة في هذا النوع من المرايا انها تعكس صورة الفرد من الجهة الأخرى ولا تعكس صورتنا من الطرف الاخر الذي نحن فيه ، فنحن لا نرى ذواتنا بل نرى الاخر ، ونهيم باستكشافه واستبطانه وتحليله .
ونحن هنا امام عمق للمرايا يحيلنا الى التطبيق والتشبيه بصورتين او اكثر منها ما جادت به قريحة الفيلسوف الفرنسي ديكارت فالانا لديه هي ذاتية تخرج من داخل الانسان ، ربما وتعود اليه ، وهذا يعني طرف المرآة التي تقع في الجانب الاخر ، فهم لا يرون الا انفسهم في عالم وجد فيه اخرون في الطرف الاخر ، وهم ينظرون اليهم ، ويتابعون تفاصيل وجوههم وضحكاتهم .
اما انا الذي ما زلت في غرفة صديقي وانظر الى مراته فأرى الاخرين وفق نظرة الفيلسوف الالماني هيكل الذي يصر على ان الانسان مرآة الاخر وان ذواتنا تتفتح بوجود الاخر . لان الانا هنا ليست متخشبة او ذاتية ، مع انها تحاول ان تكون عصامية .
وبين هذه وتلك تبرز نقاط التقاء الانا مع نفسها ومع الاخر والأخر مع الاخر ، وما يميز التجربة انها تجعلك تنظر الى الاخرين بصورة المستكشف ببعد الفضول العلمي ، وتنفرد بتحليل سلوكهم ومعرفتهم التي لا تصنع فيها فهي جثة معرفية امام مشرط الذات الصيادة التي تراقب من الطرف الاخر ، وهذه النظرة بالتأكيد ليست نظرة السماء ، فالأخيرة لا تستكشف وهي تراقب العالم بكل تفاصيله ، بل تسجل السلوك ، وتحصيه وتقيمه وتحفظه لإعادة الحساب فيما بعد .
وفي طرف المرايا العاكسة في الجهة المقابلة يمكن للآخرين رؤية المنعكس الذي لا ينفذ الى باطن المرايا بل ترتطم الصور بالمرايا فهي ظل او شبيه الظل ، وهي لحظة لا تختلف عن خارطة افلاطون لعالمه المثالي ، فالأشياء انعكاس .وقراءة هؤلاء للأفكار والأشخاص انما وفق رؤيتهم لأنفسهم لا الى تبادل مع الاخرين.
ان تطبيقات هذه المرايا لا تقف على عتبة الفلسفة بل تتأرجح على مساحة من علم النفس والاجتماع والسياسة ، وحتى عوالم الحيوان والنبات .
فالملاحظة الدقيقة لعدد من الحيوانات وهي سجينة في اقفاصها يحيلنا الى الدافعية التي تدفع الحيوان الى محاولة الخروج من سجنه الاسر الى ما بعده ، فهل هو الغريزة ام الحاجة ام التعويد ام الاثارة التي تجذبه للخروج واثبات ذاته ، فكل الافتراس اذما خرجنا من مساحة الحيوانات الماسورة في اقفاصها ، هو فعل لدوافع عديدة ملخصه صراع بين انا وذات أخرى .
وعبارة ان الاخر يثيرك عبارة منطقية وواقعية ، لكن ليس على نحو اثارة الطفل الصغير لأسد من وراء زجاج شفاف كما نرى اليوم بحدائق الحيوان ، وهي أيضا صورة أخرى مثلها مثل صورة الاخر في المرآة فلكل من الانسان والأسد الممنوع من الفتك دوافع لإبراز ذاته ، وبين الذاتين المختلفين التحام وتداخل .
ان المرآة التي تجعلنا نرى الاخر ولا يرانا مرآة باغية تشبه الفلسفة بنحو ما وتشبه الملعب الأولمبي الذي قسم فيه فيثاغورس الناس الى 1- انسان يتاجر 2- اخر يلهو 3- متأمل يراقب ، فالمتأمل هو مرآة ترى ولا ترى أحيانا
وهي الثلاثية التي لا تختلف عن تنظير الباسق علي بن ابي طالب بنحو العالم الرباني والمتعلم والجاهل ، وهذه المرآة التي تراقب الاخر ولا يراقبها او يراها ارادت القول ان ذواتنا لا تستغني عن الاخر الذي ربما يكون انسانا او طبيعة او وحيا او مثيرا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق