لم يكن هناك ما يذكر.. صحوت ذات يوم وجدت نفسى أمام قلعة عظيمة يحكمها خفاش ضخم، كنت أعزل إلا من جراب ماء.
حدثنى الماء قائلا: "لا أمل فى نجاتك سوى فى حكاية خرافية.. هناك ينتصر الخير بأخطائه، على الشر بدقته.. ففى الحكايات الخرافية فقط هوية الشر هى التدبير.. بينما هوية الخير هى اتباع الغرائز بصدق ".
من المضحك أن يتفلسف عليك جراب ماء فى صحراء بلا حكاية محتملة سوى الموت.
لكنى لم أجد أملا سوى الولوج فى حكاية خرافية.. الصحراء
أمامى.. وخلفى بوابة العودة.. إلى فراش دافىء وزوجة بلا أنياب وعمل مستقر.. لكن كل هذا الأمان الظاهر فى اتجاهى نحو بوابة العودة كان محض خدعة.
كنت أربح جيدا من عملى، فلم أكن أخلو من الموهبة.
وأنا صغير لم أكن أعرف إنها موهبة بل خطأ فادحا يستوجب الشعور بالذنب الذى لم يفارقنى أبدا حتى فى حكايتى الخرافية.. بل يصحو فزعا فى كل مرة كنغزات سكين فى بطنى.
فى بلدتنا، كان أبى يبيع الفازات، بلدتنا كلها كانت تفعل، لكن أبى كان الأشهر والأدق، الرجل الذى لا يعرف الخطأ، صانع الفازات التى لاتحيد عن تناسق مقدس.
وأنا كنت مفعوصا للدرجة التى لا تجعلنى أعرف الفارق بين كونى مفعوصا حقا وبين استخدام ذلك كمجاز.
بلدتنا كانت خلف تل، العالم أمامه كسجادة مكورة لم تفرش بعد، لم أكن أسأل عن العالم، كانت حيرتى الحقيقية هى المجاذيب الذين يطيرون إلى بلدتنا من خلف التل، لماذا لا يطيرون نحو ما يجذبهم ويجيئون إلى بلدة بلا لذات؟.
فيما بعد عرفت إن للذة مسارب لا يدركها أحد، كلذتى عندما كسرت الفازة الأولى، كان ذلك مخيفا وممتعا، ثار أبى، لابسبب الفازة بل لسخرية البلدة من ولده وارث
ملك الفازات والذى جعل سمعته كفازة مكسورة، تبع ذلك عقابا شديدا، لم يكن ذلك مؤلما قدر ما كان غريبا.
وقفت ثلاث ساعات على قدم واحدة، وأنا أحمل فازة ضخمة ومتناسقة بيدى، كان المارة يسخرون منى، اعتقد بعد كل هذه السنوات، إن هذا كان الهدف: أن أعرف قيمة الفازة وأن أفهم إن إهانة تناسقها يعرضنى أنا أيضا للإهانة.
لم أكن غاضبا من تلك السخرية، لم أفهمها وقتها، كنت متوائما تماما مع استحقاقى للعقاب، لذا كنت أبادلهم السخرية بانتكاسة فى الرأس، ووجه غارق تماما فى ماء الذنب وينتظر الغفران.
لكنى الآن غاضب وبشدة. كلما تذكرت أن أخطائى كانت عرضة للهتك، كلما احترقت بالرغبة فى حرق فازات العالم كلها.
كنت موهوبا فى كسرها بشكل متقن، لم أكن أحطمها، فذلك يحتاج للشر والغضب لا اللعب، فقط امنحها كسرا رقيقا، ينزع قطعة ليمحو تناسقها القبيح، المقدس بلا داع أراه.
لم أكن أعرف إنها موهبة، كنت فقط مجذوبا إلى كسرها، أشياء كتلك لا يمكن السيطرة عليها، ولا حتى بالوقوف على قدم واحدة لتقبل عزاء الكرامة.
بعد انتهاء الثلاث ساعات، عزمت على عدم العودة إلى الخطيئة، قاومت وبلغت فى ذلك شأنا عظيما، فلمدة ثلاث أشهر لم أقرب فازة، فبإمكاننا جميعا السيطرة على الواقع، لكن الأحلام، تلك التى تأتينا كالمجاذيب من خلف التل، لم يكن بالإمكان ايقاف اجتياحها، فقد كنت أحلم يوميا بفازات مقدسة، تتدلل على، وتقبلنى، لم تكن ترغب فى أن أكسرها ولا تحطيمها، بل بمضاجعتها، لم أحك لأحد هذا الحلم، ولم اخجل منه يوما، فهو مجرد حلم، ثم إنى لم أكن أعرف إن ما يحدث فى الحلم هو رغبة فى المضاجعة، فعضوى كان هادئا فى انتظار الفهم.
قاومت حتى عرفت سر أبى، صندرة بباب مسحور، يخبىء فيها فازاته المكسورة، لم اتساءل وقتها عن سبب احتفاظه بالدنس، فقد انشغلت بسكاكين الذنب التى تغازل بطنى.
كانت كسورا عادية، قبيحة، لا تحفز الرغبة، لكنها لم تكن حزينة، أو مستاءة، لا أجزم إنى رأيتها تفرح أوترقص أو تقيم حفلة ماجنة، تلك أضغاث رؤى طفل، عضوه لم يفهم بعد تدلل الفازات عليه.
لكن ذلك ما رأيته وأنكرته طويلا عندما كبرت واضطررت للاختيار بين حياتى وبين حكاية خرافية للخلاص من عدم الفهم المقيم فى الإنسان: حفلة تغنى فيها الفازات القبيحة وترقص وتوزع الكيك.
حكت لى إحداهن الحكاية: عن أبى الغاضب دوما، لأنه لم ينجح مرة أن يكسرهن بشكل جيد.
تقدمت منى فازة، كانت أقرب إلى التشويه، عرفت إنها نتيجة ثورة أخيرة لم يقرب أبى بعدها الفازات بغرض الكسر.
أثناء رقصى معهن، قدمت كسرا جديدا للفازة المشوهة، حولها إلى فاتنة، كان ذلك مخيفا وممتعا، لكن نغزات السكين، حولت متعتى إلى جحيم، لكن الجحيم الأكبر، كان رد فعل الفازات، ظننت إنها ستركع لى لأحول كسورها إلى فتنة، لكن ذلك لم يحدث، بل هجموا على الفازة الفاتنة، حطموها تماما، ثم طردونى خارج الحفل، الذى لم احتفظ منه سوى بالذكرى وقطعة من الفازة المحطمة.
ذلك ما أنكرته طويلا، ففى الحقيقة التى ندركها كبارا إنى من حطمت الفازة المشوهة، وأن الحفل الوحيد الذى أقيم كانت شقاوة طفل يعبث بدنس أبيه
خرجت من صندرة أبى، ثم مررت على فازات البلدة المقدسة، وكسرتها جميعا منتحلا الأداء المقدس لسيدنا إبراهيم، كنت اتفهم شجاعته تماما فالله يحميه، لكنى لم أفهم أبدا سر انجذابى، فلا أحد يحمينى، فالله ينحاز صراحة إلى أبى.
حتى إنهم عندما اكتشفوا فعلتى هددونى بالنار، نار الله الموقدة، التى تنتظر عقوقى البين.
كان ردى: بل فعلها شخص خلف التل، يجذبنى لكسر الفازات
أبى تعثر وبدأ فى بكاء لم افهمه، لكنه أشعل نغز السكاكين فى بطنى.
توقفت مرة أخرى عن كسر الفازات فى العلن، ولعبتها فى سرية تامة، حتى اكتشفنى مجذوب، قال لما رأى صنيعة يداى: سبحان الذى أودع فى الإنسان ما لم نعلم.. ثم باركنى معلنا: اكتشاف خبية أخرى من خبايا الله.. طاقته المودعة فى مذنبين صغار.
كنت أكبر قليلا لأسأله: أين يقف الله؟.. قال: لا أحد يعلم لكن ربما خلف التل.
ذات مساء راودنى حلم آخر، دفعنى للذهاب بعيدا عن تلك البلدة التى لم تفرش سجادة العالم.. كانت الفازات القبيحة تردم نبعا ما داخلى، نبعا مضيئا، لم أعلم أبدا إن كان مضيئا بالخير أم بالشر، ففيما بعد نطحنى السؤال: هل يعنى الضوء حقا إن الله بجانبك؟.
قمت مرعوبا، حملت القطعة الباقية الفازة الفاتنة، ورحلت بعيدا عن البلدة، مجذوبا إلى خارج التل، أو فارا من قبح الفازات، لا أذكر على وجه التحديد.
فى البداية، لم أجد شيئا خلف التل سوى ثلاث سكارى يتبادلون النكات حول العالم، الذى بدا ضبابيا، كسجادة مكورة لم تفرش بعد.
قال الأول للثانى: هل تعرف مالذى سيحل بنا يوم القيامة؟
قال الثانى: لن نشعر بشىء سنكون مخمورين.
سأل الثالث: لا أشعر إن الله ينوى تكرار التجربة بعد انتهاء العالم.. لو كان سيفعلها لمنحنا فرصة أخرى.
رد الأول: سبحوا لمن له الدوام.
تعجب الثانى وسأل: أين يقف الله؟
قال الثالث: هناك.. مشيرا إلىّ لكنه لم يكن يرد على سؤال الثانى، كان قد رآنى فقط.. ثم أكمل جملته: هناك شخص يراقبنا.
اقتربت منهم..ٍ سألتهم عن أقرب مكان لفك الحصرة، ضحكوا بصوت عال، ثم قالوا: لا يوجد أفضل من الخلاء للطرطرة.
قضيت حاجتى ثم سألتهم: أين ذهب العالم؟. ولم يبدو الطريق غائما هكذا؟
قالوا: لأننا سكارى..
نمت من التعب، أو الخوف، أو من انتظار أن تفرش سجادة العالم.. لا أذكر.
عندما استيقظت وجدت نفسى محشورا فى قطار، وسط أجساد قطيع من السكارى، لم أعلم إلى أين، فكرت فى الاعتراض أو الصراخ، لكن منظر الجنود الغاشمين، جعلنى أبتلع عدم الفهم.
سألت رجلا محشورا بجوارى: لم نحن هنا؟
فأجاب وهو مطأطىء الرأس: لأننا مذنبون.. بعضنا سيذهب إلى النار.. وبعضنا سيأخذ فرصة أخيرة للتكفير عن أخطائه.
فكرت فورا فى كسر فازات أبى، واعتقدت إن مصيرى سيكون النار.
سألنى زميلى المذنب عن خطيئتى، فكذبت: لا أعلم.. اعتقد إنى هنا بالخطأ فأنا لم أكن أسكر بل طرطرت على الخلاء فقط.
كبت ضحكة ثم قال: لسنا هنا من أجل الخمر.. قالها ثم تلفت يمينا ويسارا: لقد قلت شيئا عن الماما.. شيئا أغضب الحقيقة.
سألته ببلاهة: من هى الماما؟.. أمك؟.. وما هى الحقيقة؟.
متجاهلا أسئلتى قال بصوت مخنوق: هل تعتقد إنى سأنجو؟.
ثم بدأ فى بكاء دفع أحد الجنود إلى لكزه بكعب بندقيته.
كنت فى موقف صعب حقا، لكن هذا لم يمنعنى من الضحك على سذاجة رجل يساق إلى النار لمجرد خطأ تافه.
***
ثمة قصائد ميتة فى حوض سمك، وعاشق يحاول عبور سور عال لاصطياد الأرواح، غراب أبيض يشيع الفوضى فى كل شىء، يسرق الأعمار والنعال ويحيل اللعبة إلى جحيم.
كل هذا الوهن لم يمنع الماما من الشموخ والسطوع والطرطرة من فوق منبر عال على الخلق.
أنا ؟
الراوى ؟ وربما الماما هى من تروى لك تلك الحكاية لم أعد أدرى فقد اختلطت الأمور منذ زمن طويل حتى إن يقينى الوحيد بإنى أكره تلك الماما قد تزلزل تماما ولتوخى الدقة تشظى إلى آلاف الرغبات والمشاعر المتناقضة تماما.
احقاقا للحق لم تكن الماما وحدها هى المسئولة عن هذا التشظى، بل هؤلاء الذين لم يقتنعوا إنها ليست كائن رقيق، بل هى من ساعدت الغراب الأبيض على سرقة أعمارنا.
كنت أقول: صدقونى لست مخطئا.. أنا فقط معذب بالبصيرة لكنها بصيرة بلا حكمة، فلم أتمكن أبدا من هزيمة شخص مكشوف من اللحظة الأولى، لم أتمكن من جمع الدلائل المادية التى لا تصدقون سواها لأسد مؤخراتكم الثرثارة بها.
لذا توصلت إلى أسوء الحلول على الإطلاق، حل وسط، فقلت إن الماما ما هى إلا كائن رقيق يجب نسفه، لذا لم أنعم أبدا برقتها أو بمتعة نسفها.
لجأت إلى أضعف الايمان، قتلتها فى أحلامى، ثم فى اللحظات التى تسبق نومى، ثم استحال النوم بدون هذا الاحساس المريح: أن تمسك سكينا حادا وتمزق هذا الصدر الملىء بكل ما عرفته البشرية من قذارة، قذارة اسمها الأخلاق.
اعتذر عن الحدة، فأنا مضغوط ووحيد ومهزوم تماما أمام تلك الماما.. حتى إنى لم ابدأ الحكاية..
الحكاية؟
ربما أعرفها وربما تعرفها تلك الماما.. وحدها كما تخبرنا صباح كل يوم.. تعرف المنبع والمصب وتتحكم فى السريان وتمسك الحقيقة وتخبئها مننا نحن المساكين فى مؤخرتها (تلك للسخرية...) أعرف أعرف يجب أن أهدأ لأتمكن من الحكى.. أنا أحك بدافع الانتقام فى الحقيقة.. ومن الحقيقة التى لا تعرفها سوى الماما..
الماما؟
وجودها هو الشىء الوحيد المؤكد فى حياتى.. والذى يدفعنى نحو الانتحار أو سن السكين.. لا أمل لى للنجاة من براثنها سوى بحكى الحكاية.. لكن أى حكاية.
*****
عندما بدأ القطار فى التوقف فى محطات غريبة، كانت العصابات قد لفت أعيننا، قال أحدهم ساخرا: إن الظلام يجعل القدر أكثر إثارة.. ماذا تتوقع؟ لو كنت محظوظا سيحرمونك من خصيتيك مقابل فرصة أخيرة للتكفير عن ذنبك.
لم أكن اسمع سوى عويل وصراخ واستجداءات يائسة، كنت مرعوبا حقا لا من النار، بل من مصير الخصى، قلت لنفسى: هل سيسمحوا لى بالاختيار؟.. النار تبدو خيارا ملائما.
أراهنك بفازات العالم، إنك ظننت إنى اتحدث عن قطار الموتى، وإنى ذاهب لمحاسبة فورية لكسرى قداسة الأشياء، كنت أظن مثلك ذلك، لكن الماما تسيطر بشكل أو بآخر على الحكاية ولا أعلم يقينا ما إن كان ذلك قطارا نحو جهنم أم لمواصلة الدنيا.. كل ما أفعله هو المقاومة اليائسة لتخرج الحكاية بعيدا عن هيمنتها.
عندما وصلت محطتى، وجدت نفسى أمام قلعة عظيمة يحكمها خفاش ضخم، كنت أعزل إلا من جراب ماء.
الجنود اختفوا والقطار، تاركا القضبان كأثر، لحقيقة تلونت بسراب مخيف.
قال الماء: لا تفرط فى حكايتك الخرافية، امض وستنتصر إن اتبعت غرائزك بصدق.
كدت أمضى، لكن القلعة كانت سرابا، لم تكن سوى مصنعا لانتاج الفازات.
كان السكارى الثلاثة يرتدون بزات عمل متشابهة، مضوا إلى المصنع ومضيت معهم، لأن الجوع قرصنى، كرهت اللون المتشابه، لم أجد حلا سوى تمزيق الرداء مزقا خفيفا، لم أدرك إنه أكثر جمالا، حاول البعض تقليدى لكنهم شوهوا بزاتهم تماما.
كان عملى بسيطا، أن أجمع قطع الفازات المكسورة، كالبازل، ثم أسلمها لعامل يعيد طلاءها باللون الأحمر لتتشابه.
رغم بساطة عملى صنفت كعامل ضعيف.
كان على إن أجمع القطع التى تصلح للتمازج، لكنى كنت أجمع قطع متنافرة، اراها متمازجة برابط غريب كسراب.
تحملت سخرية كبيرة، شعرت إنى استحقها، عندما تقدم كبير العمال، وجعل عقابى أن أحمل فازة ثلاث ساعات، على قدم واحدة.
تكرار ذلك رغم سخافته نجح تماما فى إشعارى بقداسة ما أهنته بسرابى، حاولت أن أكون منتظما، غيرت بزتى بأخرى بدون قطع، سعيت للتعلم بكل الطرق، سر ذلك التمازج، الذى لم يكن سرا، كنت فقط أملك كل أسباب التشويش على ذلك بسراب التنافر.
لكن ذلك لم يعنى سوى فشلا جديدا، لكن على أى حال لم يخلو الأمر من معجبين ومشفقين، فقد كنت فى أوقات سرية وفارغة من العمل، احاول اختراع شيئا ما بذلك التنافر، كان الأمر شبيها بالاستمناء سرا كمسكن عن مضاجعة تتأخر. مضاجعة حافلة بالمتعة وسكاكين الذنب.
حتى فعلتها يوما، فازة جميلة، بقطع متنافرة بل وقبيحة كانوا يرمونها فى مقالب القمامة.
عندما اكتشفوها، صفق المعجبون وتعاطف المشفقون.
لكن سكير من الثلاثة، رد على الأمر بشخرة قائلا: هل تظن إنك مميز ؟ أنا حاولت من قبل ودفعت الثمن بالعمل مع حمقى.. ثم وشى بى لكبير العمال.
عندما جاء، هددنى بالطرد وبالحرق إن لم أكسر تلك الفازة حالا.. فعلت مبللا بذنب عظيم.. لكن الكسر جعلها أكثر جمالا. وصل الأمر إلى صاحب المصنع الذى قال: ذلك سيعجب الماما.. إنها تفضل المجانين.
ثم طردنى ولم أفهم لم إن كان ذلك سيعجب تلك الماما.
فى فترة عملى سمعت حكايات متناثرة عنها، عن طيبتها البالغة، ودفاعها المستميت عن حقوق العمال، فى الحصول على أجورهم. لكن لم أجد رابطا بين هذا وبين الأثر القاسى لغضبها.
كنت أعزل إلا من فازة تثير الغضب والإعجاب، وأجرى عن فترة عملى والذى كان قليلا، مع تحية مهذبة من الماما.
عندما نفذ المال، قررت بيع الفازة، مررت بها على كل المحال التى أعرفها، قوبلت برفض، أضاف معنى جديدا لهروبى: الفشل.
لكن أحدهم همس لى على استحياء: لابد أن ترضى الماما.. لم لم تمر عليها أولا؟.
لم يفسر لى ذلك شيئا.
يقولون إن الماما كقطتها، هادئة وناعمة وكسولة، تنام نصف النهار وتأكل نصف الليل وتحبل بلا انقطاع -متى تجد الوقت لكى تملأ كل حكاياتى هكذا- يقولون إن القطة هى نقطة ضعف الماما وقوتها. فهى مثلها تغرى بالهجوم، حينها تتبدل القطة شيطانا يبتلع الأرواح.
إرضاء القطة هو سر كل من تعفو عنهم الماما، لكن متى ترضى أحدا ينام نصف النهار ويأكل نصف الليل ويحبل بلا انقطاع؟.
الممرات إلى العالم أصبحت ضيقة، كخرم عذراء.
لم أجد سوى بيت شلبية، قوادة تملك بيتا كبيرا أعلى التل، وعمرا فوق الخمسين بقليل، وأنوثة مكتنزة: أعطيتها الفازة المكسورة مقابل بنتا مكسورة.
وأنا فى الغرفة، صفعتنى البنت بقولها: أين خصيتيك؟... خرجت من الغرفة وأنا أصرخ.. أما شلبية كانت تضحك وتضحك حتى إنى توقفت تماما عن الصراخ.. ظللت أنظر إليها فى بلاهة فقط.
قالت لى ببرود: لا أحد يغضب الماما.
لكن أى ماما، ومتى أغضبتها؟.
خرجت صامتا، منكس الرأس، لكن ألم شديد باغتنى، كأن يدين شرستين تعتصران خصيتيى، كانا هنا، طوال الوقت إذن؟..
صرخت بقوة: تلك الماما.. لو لم تكن سرابا لكانت شرا.
فيما بعد صار اعتصار خصيتى بديلا عن السكاكين التى كانت تنغز بطنى.
****
هههههههههه...آآآآآآآآآآه ...هههههه.
ذات يوم أشعلت النار فى ذيل قطتها... ولم أعبأ بألمى الهائل.
******
سقطت أشياء كثيرة من ذاكرتى، انتصارات بسيطة ومرضية، دلائلى المادية على إن الماما كائن رقيق يجب نسفه، لم تتبق سوى ومضات تباغت ذهنى مصحوبة بألم فى الخصيتين، ثم تختفى كأن شيئا لم يكن -بصقت، تمردت، شخرت، تشاجرت، وربما أشعلت حروبا ضد الماما، لم يتبق منها سوى آثار غرز، وربما جرحتها أيضا.
فى مدينة بعيدة عن سيطرة الماما، نجحت فى بيع الفازة الأولى لى، توالت بعدها الطلبات، وحققت شهرة لم تخفف ألم خصيتى، أيقنت لسنوات طويلة إنى موهوب، وهو يقين صار كفازة محطمة.
لكن النجاح الحقيقى، بدأ عندما عرفت إن قدرتى على "افساد" الأشياء، لا يقتصر على الفازات بل إلى كل شىء:
الجدران، البيوت، الستائر، الملابس، النفوس، الحيوانات، النظام، القوانين، الهيبة.. كل شىء.
كنت رائعا.. وعندما وجدتنى الماما، كنت أكثر حيطة، فأقراص المسكنات لم تفارق جيبى، فأحبطت حيلة الذنب.
لكن كل شىء تغير، عندما وصلتنى رسالة الماما.. "أنت موهوب.. ونحن نريدك".
ذهبت إلى صاحب المصنع الذى طردنى من قبل.
بدأ بهدوء: مصنعنا تعرض لموجات تغير الأذواق، لقد قاومنا الأمر كثيرا، أنكرناه فى البداية، ثم تجاهلناه، لكن عندما بدأ الأمر فى الضغط على خصية الإدارة لجأنا إلى نصيحة الماما.. التى قادتنا إليك..
سألت متشككا: هل ترغبون حقا فى أن أفسد الفازات؟
قال صاحب المصنع: ليس بالظبط.
قلت بحماس: استطيع تطوير المصنع.. لم يقتصر على الفازات فقط إن كنت استطيع افساد كل شىء؟..
رد باقتضاب: سنتدوال مع الماما.. إنها تعرف كل شىء ونحن نثق بها.
كنت أريد أن أراها، فى شوق بالغ لاكتشاف حقيقتها.
لم تظهر أبدا، لكنها كانت حاضرة فى كل شىء، كنت اتلقى كل صباح ورقة مرسلة منها بها مهام عملى، كانت رسالة رقيقة تؤكد فيها إن اتباعى ما ذكر فى الرسالة، يقينى شر صاحب المصنع وزملائى.
مع الوقت بدأت فى الاطمئنان، فى حب تلك الماما، التى لم تكن بهذا السوء.. فى إحدى الرسائل اعتذرت عن ايلامى.. قائلة إن الألم كان يصب لصالحى وإن ذلك كان لحمايتى من شر باعة الفازات ومن شر نفسى عندما دلفت إلى بيت شلبية لأضاجع بنتا مكسورة.
لذا فضلت أن افسد لها ورقة المهام، فكنت أنجز ما تريد دون اتباع ما تقوله، كنت مدفوعا برغبتى فى استخدام ما جئت من أجله: افساد الأشياء. فعودتى إلى المصنع لم تشهد أى تغيير، مجرد تدريبات أقسى على مزج قطع الفازات المكسورة، لم يتغير شىء سوى زيادة الراتب، وتربيتات الكتف من صاحب المصنع.
لم أعرف إن ذلك قد يعكر مزاجها، قطيع من القطط هاجم المصنع، ثم ظل يضغط على خصيتى، ويحطم كل ما صنعته.
لم تشفع المسكنات، تلك المرة،كنت تحت قبضتها تماما، عاد الشعور بالذنب بهيمنته البالغة، لم أشك إنها على حق، وإنى استحق العقاب.
حاولت التدرب أكثر واكثر على الطاعة، قبلت ذيل قطتها الشاردة فى أنحاء المصنع، كل يوم، انتهزت كل فرصة للصراخ عن انجازات الماما، وأخلاقها التى لا تقبل الشك أو المماطلة، ولم أعبأ بتلميحات السكارى الجارحة.
لكن الألم لم يخف، لم تصدق طاعتى إذن؟ كانت فقط حيلة مجرد حيلة، رغم الاقرار التام بالذنب، لأقدم خطتى مكتوبة إلى صاحب المصنع حول تطويره، أول مصنع فى سجادة العالم لافساد الأشياء.
*****
كانت فى شبابها على يسار الرب، تدافع عن أجور العمال وحقوقهم بضراوة، ودفعت ثمن ذلك، عندما اكلت حقوقها، فلم تجد سوى صراخا مستميتا، بلا فاعلية، فانتقلت إلى يمين صاحب المصنع، لتدافع عن حقوق الله والعمال، عندما ادركت إن العمال يسهل استقطابهم لصالحها، إذا ما دافعت بضراوة عن رواتبهم الهزيلة، لأن ذلك كان يجعل ثمنها أعلى فى نظر صاحب المصنع، كما إن الحديث نيابة عن الله يمنحها أجرها وأجر العمال.
ثم وجدت إن أكثر الأمور أمانا، هى التنقل بين يمين الله ويساره، وفقا للظل الذى يصنعه الشمس.
هذا ما أظنه عنها، لا أملك اليقين، أنا فقط أعرف ذلك ببصيرة المذنبين، أمر ينكره العمال، ويؤمن به السكارى.
***
لم أكن أنا من أطلق النكتة الأولى على الماما، لم أكن املك الشجاعة، لكنى أوحيت بها، عندما كنت اتسلم ورقة مهامى كل يوم، كنت افسد بندا صغيرا تافها به، لا يكاد يلحظ، عبرت الحيلة على الماما وعلى صاحب المصنع، مع الأيام عدت لافساد ورقة المهام كلها دون أن يشعر أحد.
لكن العمال عرفوا، أدركوا مع الوقت صنيعة يدى، وأطلق أحد السكارى، نكتة، نكتة واحدة، ضعيفة وهشة، لكنها جعلتنا نستهزأ بهجوم القطط، واستطعنا اشعال النيران فى ذيولها، نيران هائلة من الضحك.
تزايدت النكات، وضعفت هيبة الماما، بدأ العمال فى افساد بنود صغيرة تافهة فى مهام العمل، ثم مع الوقت عرفوا كيف ينجزون المهام على طريقتهم لا طريقة الماما.
صار العمل ممتعا، حتى إنى فى لحظة قررت أن أهب المصنع حياتى، ونذرت نفسى لافساده.
للمرة الأولى، رأيت الماما، لم تكن غاضبة، بل هادئة تماما.. كانت قبيحة جدا وشائخة كفازات أبى، وبطنها منتفخة من حمل جديد.
كانت على يمين صاحب المصنع، عندما رمقتنى وقالت بهدوء: غبى.
تحملت، رغم غرقى التام فى ماء الذنب، وقدمت لصاحب المصنع خطتى لتطوير مصنعه: كانت خطة كاملة، محبوكة، بسيطة، عبقرية.. وضعت فيها خلاصة ما منحتنى إياه الموهبة، وعلمتنى إياه الخبرة.. شرحت له كيف سيجنى مئات الملايين من الجنيهات، وتفرد مصنعه فى الافساد.
قال صاحب المصنع للماما ببرود: القطار ينتظرك فى الخارج.. اعتقد إن الوقت حان.
وجدت نفسى على يسار العمال وعلى يمين صاحب المصنع.. وقفت فوق منبر عال لأطرطر على الخلق بقذارات كثيرة عن أهمية الأخلاق وأوجه القطط للضغط على خصى العمال.
منحنى صاحب المصنع كل شىء، وصار لى فراش دافىء وزوجة وعمل مستقر، واختفى ألم الذنب تماما إلا من ومضات بسيطة تباغتنى عن قلعة كبيرة يحكمها خفاش ضخم وجراب ماء يتفلسف على فى صحراء بلا حكاية محتملة سوى الموت.. "لا أمل فى نجاتك سوى فى حكاية خرافية......"..
لكنى لم أصدق سراب الماء فالسراب يضعف هيبة الماما، وفضلت على ذلك أن أنام نصف النهار وأن أأكل نصف الليل وأن أحبل بلا انقطاع.
أحمد الفخرانى
مصر
حدثنى الماء قائلا: "لا أمل فى نجاتك سوى فى حكاية خرافية.. هناك ينتصر الخير بأخطائه، على الشر بدقته.. ففى الحكايات الخرافية فقط هوية الشر هى التدبير.. بينما هوية الخير هى اتباع الغرائز بصدق ".
من المضحك أن يتفلسف عليك جراب ماء فى صحراء بلا حكاية محتملة سوى الموت.
لكنى لم أجد أملا سوى الولوج فى حكاية خرافية.. الصحراء
أمامى.. وخلفى بوابة العودة.. إلى فراش دافىء وزوجة بلا أنياب وعمل مستقر.. لكن كل هذا الأمان الظاهر فى اتجاهى نحو بوابة العودة كان محض خدعة.
كنت أربح جيدا من عملى، فلم أكن أخلو من الموهبة.
وأنا صغير لم أكن أعرف إنها موهبة بل خطأ فادحا يستوجب الشعور بالذنب الذى لم يفارقنى أبدا حتى فى حكايتى الخرافية.. بل يصحو فزعا فى كل مرة كنغزات سكين فى بطنى.
فى بلدتنا، كان أبى يبيع الفازات، بلدتنا كلها كانت تفعل، لكن أبى كان الأشهر والأدق، الرجل الذى لا يعرف الخطأ، صانع الفازات التى لاتحيد عن تناسق مقدس.
وأنا كنت مفعوصا للدرجة التى لا تجعلنى أعرف الفارق بين كونى مفعوصا حقا وبين استخدام ذلك كمجاز.
بلدتنا كانت خلف تل، العالم أمامه كسجادة مكورة لم تفرش بعد، لم أكن أسأل عن العالم، كانت حيرتى الحقيقية هى المجاذيب الذين يطيرون إلى بلدتنا من خلف التل، لماذا لا يطيرون نحو ما يجذبهم ويجيئون إلى بلدة بلا لذات؟.
فيما بعد عرفت إن للذة مسارب لا يدركها أحد، كلذتى عندما كسرت الفازة الأولى، كان ذلك مخيفا وممتعا، ثار أبى، لابسبب الفازة بل لسخرية البلدة من ولده وارث
ملك الفازات والذى جعل سمعته كفازة مكسورة، تبع ذلك عقابا شديدا، لم يكن ذلك مؤلما قدر ما كان غريبا.
وقفت ثلاث ساعات على قدم واحدة، وأنا أحمل فازة ضخمة ومتناسقة بيدى، كان المارة يسخرون منى، اعتقد بعد كل هذه السنوات، إن هذا كان الهدف: أن أعرف قيمة الفازة وأن أفهم إن إهانة تناسقها يعرضنى أنا أيضا للإهانة.
لم أكن غاضبا من تلك السخرية، لم أفهمها وقتها، كنت متوائما تماما مع استحقاقى للعقاب، لذا كنت أبادلهم السخرية بانتكاسة فى الرأس، ووجه غارق تماما فى ماء الذنب وينتظر الغفران.
لكنى الآن غاضب وبشدة. كلما تذكرت أن أخطائى كانت عرضة للهتك، كلما احترقت بالرغبة فى حرق فازات العالم كلها.
كنت موهوبا فى كسرها بشكل متقن، لم أكن أحطمها، فذلك يحتاج للشر والغضب لا اللعب، فقط امنحها كسرا رقيقا، ينزع قطعة ليمحو تناسقها القبيح، المقدس بلا داع أراه.
لم أكن أعرف إنها موهبة، كنت فقط مجذوبا إلى كسرها، أشياء كتلك لا يمكن السيطرة عليها، ولا حتى بالوقوف على قدم واحدة لتقبل عزاء الكرامة.
بعد انتهاء الثلاث ساعات، عزمت على عدم العودة إلى الخطيئة، قاومت وبلغت فى ذلك شأنا عظيما، فلمدة ثلاث أشهر لم أقرب فازة، فبإمكاننا جميعا السيطرة على الواقع، لكن الأحلام، تلك التى تأتينا كالمجاذيب من خلف التل، لم يكن بالإمكان ايقاف اجتياحها، فقد كنت أحلم يوميا بفازات مقدسة، تتدلل على، وتقبلنى، لم تكن ترغب فى أن أكسرها ولا تحطيمها، بل بمضاجعتها، لم أحك لأحد هذا الحلم، ولم اخجل منه يوما، فهو مجرد حلم، ثم إنى لم أكن أعرف إن ما يحدث فى الحلم هو رغبة فى المضاجعة، فعضوى كان هادئا فى انتظار الفهم.
قاومت حتى عرفت سر أبى، صندرة بباب مسحور، يخبىء فيها فازاته المكسورة، لم اتساءل وقتها عن سبب احتفاظه بالدنس، فقد انشغلت بسكاكين الذنب التى تغازل بطنى.
كانت كسورا عادية، قبيحة، لا تحفز الرغبة، لكنها لم تكن حزينة، أو مستاءة، لا أجزم إنى رأيتها تفرح أوترقص أو تقيم حفلة ماجنة، تلك أضغاث رؤى طفل، عضوه لم يفهم بعد تدلل الفازات عليه.
لكن ذلك ما رأيته وأنكرته طويلا عندما كبرت واضطررت للاختيار بين حياتى وبين حكاية خرافية للخلاص من عدم الفهم المقيم فى الإنسان: حفلة تغنى فيها الفازات القبيحة وترقص وتوزع الكيك.
حكت لى إحداهن الحكاية: عن أبى الغاضب دوما، لأنه لم ينجح مرة أن يكسرهن بشكل جيد.
تقدمت منى فازة، كانت أقرب إلى التشويه، عرفت إنها نتيجة ثورة أخيرة لم يقرب أبى بعدها الفازات بغرض الكسر.
أثناء رقصى معهن، قدمت كسرا جديدا للفازة المشوهة، حولها إلى فاتنة، كان ذلك مخيفا وممتعا، لكن نغزات السكين، حولت متعتى إلى جحيم، لكن الجحيم الأكبر، كان رد فعل الفازات، ظننت إنها ستركع لى لأحول كسورها إلى فتنة، لكن ذلك لم يحدث، بل هجموا على الفازة الفاتنة، حطموها تماما، ثم طردونى خارج الحفل، الذى لم احتفظ منه سوى بالذكرى وقطعة من الفازة المحطمة.
ذلك ما أنكرته طويلا، ففى الحقيقة التى ندركها كبارا إنى من حطمت الفازة المشوهة، وأن الحفل الوحيد الذى أقيم كانت شقاوة طفل يعبث بدنس أبيه
خرجت من صندرة أبى، ثم مررت على فازات البلدة المقدسة، وكسرتها جميعا منتحلا الأداء المقدس لسيدنا إبراهيم، كنت اتفهم شجاعته تماما فالله يحميه، لكنى لم أفهم أبدا سر انجذابى، فلا أحد يحمينى، فالله ينحاز صراحة إلى أبى.
حتى إنهم عندما اكتشفوا فعلتى هددونى بالنار، نار الله الموقدة، التى تنتظر عقوقى البين.
كان ردى: بل فعلها شخص خلف التل، يجذبنى لكسر الفازات
أبى تعثر وبدأ فى بكاء لم افهمه، لكنه أشعل نغز السكاكين فى بطنى.
توقفت مرة أخرى عن كسر الفازات فى العلن، ولعبتها فى سرية تامة، حتى اكتشفنى مجذوب، قال لما رأى صنيعة يداى: سبحان الذى أودع فى الإنسان ما لم نعلم.. ثم باركنى معلنا: اكتشاف خبية أخرى من خبايا الله.. طاقته المودعة فى مذنبين صغار.
كنت أكبر قليلا لأسأله: أين يقف الله؟.. قال: لا أحد يعلم لكن ربما خلف التل.
ذات مساء راودنى حلم آخر، دفعنى للذهاب بعيدا عن تلك البلدة التى لم تفرش سجادة العالم.. كانت الفازات القبيحة تردم نبعا ما داخلى، نبعا مضيئا، لم أعلم أبدا إن كان مضيئا بالخير أم بالشر، ففيما بعد نطحنى السؤال: هل يعنى الضوء حقا إن الله بجانبك؟.
قمت مرعوبا، حملت القطعة الباقية الفازة الفاتنة، ورحلت بعيدا عن البلدة، مجذوبا إلى خارج التل، أو فارا من قبح الفازات، لا أذكر على وجه التحديد.
فى البداية، لم أجد شيئا خلف التل سوى ثلاث سكارى يتبادلون النكات حول العالم، الذى بدا ضبابيا، كسجادة مكورة لم تفرش بعد.
قال الأول للثانى: هل تعرف مالذى سيحل بنا يوم القيامة؟
قال الثانى: لن نشعر بشىء سنكون مخمورين.
سأل الثالث: لا أشعر إن الله ينوى تكرار التجربة بعد انتهاء العالم.. لو كان سيفعلها لمنحنا فرصة أخرى.
رد الأول: سبحوا لمن له الدوام.
تعجب الثانى وسأل: أين يقف الله؟
قال الثالث: هناك.. مشيرا إلىّ لكنه لم يكن يرد على سؤال الثانى، كان قد رآنى فقط.. ثم أكمل جملته: هناك شخص يراقبنا.
اقتربت منهم..ٍ سألتهم عن أقرب مكان لفك الحصرة، ضحكوا بصوت عال، ثم قالوا: لا يوجد أفضل من الخلاء للطرطرة.
قضيت حاجتى ثم سألتهم: أين ذهب العالم؟. ولم يبدو الطريق غائما هكذا؟
قالوا: لأننا سكارى..
نمت من التعب، أو الخوف، أو من انتظار أن تفرش سجادة العالم.. لا أذكر.
عندما استيقظت وجدت نفسى محشورا فى قطار، وسط أجساد قطيع من السكارى، لم أعلم إلى أين، فكرت فى الاعتراض أو الصراخ، لكن منظر الجنود الغاشمين، جعلنى أبتلع عدم الفهم.
سألت رجلا محشورا بجوارى: لم نحن هنا؟
فأجاب وهو مطأطىء الرأس: لأننا مذنبون.. بعضنا سيذهب إلى النار.. وبعضنا سيأخذ فرصة أخيرة للتكفير عن أخطائه.
فكرت فورا فى كسر فازات أبى، واعتقدت إن مصيرى سيكون النار.
سألنى زميلى المذنب عن خطيئتى، فكذبت: لا أعلم.. اعتقد إنى هنا بالخطأ فأنا لم أكن أسكر بل طرطرت على الخلاء فقط.
كبت ضحكة ثم قال: لسنا هنا من أجل الخمر.. قالها ثم تلفت يمينا ويسارا: لقد قلت شيئا عن الماما.. شيئا أغضب الحقيقة.
سألته ببلاهة: من هى الماما؟.. أمك؟.. وما هى الحقيقة؟.
متجاهلا أسئلتى قال بصوت مخنوق: هل تعتقد إنى سأنجو؟.
ثم بدأ فى بكاء دفع أحد الجنود إلى لكزه بكعب بندقيته.
كنت فى موقف صعب حقا، لكن هذا لم يمنعنى من الضحك على سذاجة رجل يساق إلى النار لمجرد خطأ تافه.
***
ثمة قصائد ميتة فى حوض سمك، وعاشق يحاول عبور سور عال لاصطياد الأرواح، غراب أبيض يشيع الفوضى فى كل شىء، يسرق الأعمار والنعال ويحيل اللعبة إلى جحيم.
كل هذا الوهن لم يمنع الماما من الشموخ والسطوع والطرطرة من فوق منبر عال على الخلق.
أنا ؟
الراوى ؟ وربما الماما هى من تروى لك تلك الحكاية لم أعد أدرى فقد اختلطت الأمور منذ زمن طويل حتى إن يقينى الوحيد بإنى أكره تلك الماما قد تزلزل تماما ولتوخى الدقة تشظى إلى آلاف الرغبات والمشاعر المتناقضة تماما.
احقاقا للحق لم تكن الماما وحدها هى المسئولة عن هذا التشظى، بل هؤلاء الذين لم يقتنعوا إنها ليست كائن رقيق، بل هى من ساعدت الغراب الأبيض على سرقة أعمارنا.
كنت أقول: صدقونى لست مخطئا.. أنا فقط معذب بالبصيرة لكنها بصيرة بلا حكمة، فلم أتمكن أبدا من هزيمة شخص مكشوف من اللحظة الأولى، لم أتمكن من جمع الدلائل المادية التى لا تصدقون سواها لأسد مؤخراتكم الثرثارة بها.
لذا توصلت إلى أسوء الحلول على الإطلاق، حل وسط، فقلت إن الماما ما هى إلا كائن رقيق يجب نسفه، لذا لم أنعم أبدا برقتها أو بمتعة نسفها.
لجأت إلى أضعف الايمان، قتلتها فى أحلامى، ثم فى اللحظات التى تسبق نومى، ثم استحال النوم بدون هذا الاحساس المريح: أن تمسك سكينا حادا وتمزق هذا الصدر الملىء بكل ما عرفته البشرية من قذارة، قذارة اسمها الأخلاق.
اعتذر عن الحدة، فأنا مضغوط ووحيد ومهزوم تماما أمام تلك الماما.. حتى إنى لم ابدأ الحكاية..
الحكاية؟
ربما أعرفها وربما تعرفها تلك الماما.. وحدها كما تخبرنا صباح كل يوم.. تعرف المنبع والمصب وتتحكم فى السريان وتمسك الحقيقة وتخبئها مننا نحن المساكين فى مؤخرتها (تلك للسخرية...) أعرف أعرف يجب أن أهدأ لأتمكن من الحكى.. أنا أحك بدافع الانتقام فى الحقيقة.. ومن الحقيقة التى لا تعرفها سوى الماما..
الماما؟
وجودها هو الشىء الوحيد المؤكد فى حياتى.. والذى يدفعنى نحو الانتحار أو سن السكين.. لا أمل لى للنجاة من براثنها سوى بحكى الحكاية.. لكن أى حكاية.
*****
عندما بدأ القطار فى التوقف فى محطات غريبة، كانت العصابات قد لفت أعيننا، قال أحدهم ساخرا: إن الظلام يجعل القدر أكثر إثارة.. ماذا تتوقع؟ لو كنت محظوظا سيحرمونك من خصيتيك مقابل فرصة أخيرة للتكفير عن ذنبك.
لم أكن اسمع سوى عويل وصراخ واستجداءات يائسة، كنت مرعوبا حقا لا من النار، بل من مصير الخصى، قلت لنفسى: هل سيسمحوا لى بالاختيار؟.. النار تبدو خيارا ملائما.
أراهنك بفازات العالم، إنك ظننت إنى اتحدث عن قطار الموتى، وإنى ذاهب لمحاسبة فورية لكسرى قداسة الأشياء، كنت أظن مثلك ذلك، لكن الماما تسيطر بشكل أو بآخر على الحكاية ولا أعلم يقينا ما إن كان ذلك قطارا نحو جهنم أم لمواصلة الدنيا.. كل ما أفعله هو المقاومة اليائسة لتخرج الحكاية بعيدا عن هيمنتها.
عندما وصلت محطتى، وجدت نفسى أمام قلعة عظيمة يحكمها خفاش ضخم، كنت أعزل إلا من جراب ماء.
الجنود اختفوا والقطار، تاركا القضبان كأثر، لحقيقة تلونت بسراب مخيف.
قال الماء: لا تفرط فى حكايتك الخرافية، امض وستنتصر إن اتبعت غرائزك بصدق.
كدت أمضى، لكن القلعة كانت سرابا، لم تكن سوى مصنعا لانتاج الفازات.
كان السكارى الثلاثة يرتدون بزات عمل متشابهة، مضوا إلى المصنع ومضيت معهم، لأن الجوع قرصنى، كرهت اللون المتشابه، لم أجد حلا سوى تمزيق الرداء مزقا خفيفا، لم أدرك إنه أكثر جمالا، حاول البعض تقليدى لكنهم شوهوا بزاتهم تماما.
كان عملى بسيطا، أن أجمع قطع الفازات المكسورة، كالبازل، ثم أسلمها لعامل يعيد طلاءها باللون الأحمر لتتشابه.
رغم بساطة عملى صنفت كعامل ضعيف.
كان على إن أجمع القطع التى تصلح للتمازج، لكنى كنت أجمع قطع متنافرة، اراها متمازجة برابط غريب كسراب.
تحملت سخرية كبيرة، شعرت إنى استحقها، عندما تقدم كبير العمال، وجعل عقابى أن أحمل فازة ثلاث ساعات، على قدم واحدة.
تكرار ذلك رغم سخافته نجح تماما فى إشعارى بقداسة ما أهنته بسرابى، حاولت أن أكون منتظما، غيرت بزتى بأخرى بدون قطع، سعيت للتعلم بكل الطرق، سر ذلك التمازج، الذى لم يكن سرا، كنت فقط أملك كل أسباب التشويش على ذلك بسراب التنافر.
لكن ذلك لم يعنى سوى فشلا جديدا، لكن على أى حال لم يخلو الأمر من معجبين ومشفقين، فقد كنت فى أوقات سرية وفارغة من العمل، احاول اختراع شيئا ما بذلك التنافر، كان الأمر شبيها بالاستمناء سرا كمسكن عن مضاجعة تتأخر. مضاجعة حافلة بالمتعة وسكاكين الذنب.
حتى فعلتها يوما، فازة جميلة، بقطع متنافرة بل وقبيحة كانوا يرمونها فى مقالب القمامة.
عندما اكتشفوها، صفق المعجبون وتعاطف المشفقون.
لكن سكير من الثلاثة، رد على الأمر بشخرة قائلا: هل تظن إنك مميز ؟ أنا حاولت من قبل ودفعت الثمن بالعمل مع حمقى.. ثم وشى بى لكبير العمال.
عندما جاء، هددنى بالطرد وبالحرق إن لم أكسر تلك الفازة حالا.. فعلت مبللا بذنب عظيم.. لكن الكسر جعلها أكثر جمالا. وصل الأمر إلى صاحب المصنع الذى قال: ذلك سيعجب الماما.. إنها تفضل المجانين.
ثم طردنى ولم أفهم لم إن كان ذلك سيعجب تلك الماما.
فى فترة عملى سمعت حكايات متناثرة عنها، عن طيبتها البالغة، ودفاعها المستميت عن حقوق العمال، فى الحصول على أجورهم. لكن لم أجد رابطا بين هذا وبين الأثر القاسى لغضبها.
كنت أعزل إلا من فازة تثير الغضب والإعجاب، وأجرى عن فترة عملى والذى كان قليلا، مع تحية مهذبة من الماما.
عندما نفذ المال، قررت بيع الفازة، مررت بها على كل المحال التى أعرفها، قوبلت برفض، أضاف معنى جديدا لهروبى: الفشل.
لكن أحدهم همس لى على استحياء: لابد أن ترضى الماما.. لم لم تمر عليها أولا؟.
لم يفسر لى ذلك شيئا.
يقولون إن الماما كقطتها، هادئة وناعمة وكسولة، تنام نصف النهار وتأكل نصف الليل وتحبل بلا انقطاع -متى تجد الوقت لكى تملأ كل حكاياتى هكذا- يقولون إن القطة هى نقطة ضعف الماما وقوتها. فهى مثلها تغرى بالهجوم، حينها تتبدل القطة شيطانا يبتلع الأرواح.
إرضاء القطة هو سر كل من تعفو عنهم الماما، لكن متى ترضى أحدا ينام نصف النهار ويأكل نصف الليل ويحبل بلا انقطاع؟.
الممرات إلى العالم أصبحت ضيقة، كخرم عذراء.
لم أجد سوى بيت شلبية، قوادة تملك بيتا كبيرا أعلى التل، وعمرا فوق الخمسين بقليل، وأنوثة مكتنزة: أعطيتها الفازة المكسورة مقابل بنتا مكسورة.
وأنا فى الغرفة، صفعتنى البنت بقولها: أين خصيتيك؟... خرجت من الغرفة وأنا أصرخ.. أما شلبية كانت تضحك وتضحك حتى إنى توقفت تماما عن الصراخ.. ظللت أنظر إليها فى بلاهة فقط.
قالت لى ببرود: لا أحد يغضب الماما.
لكن أى ماما، ومتى أغضبتها؟.
خرجت صامتا، منكس الرأس، لكن ألم شديد باغتنى، كأن يدين شرستين تعتصران خصيتيى، كانا هنا، طوال الوقت إذن؟..
صرخت بقوة: تلك الماما.. لو لم تكن سرابا لكانت شرا.
فيما بعد صار اعتصار خصيتى بديلا عن السكاكين التى كانت تنغز بطنى.
****
هههههههههه...آآآآآآآآآآه ...هههههه.
ذات يوم أشعلت النار فى ذيل قطتها... ولم أعبأ بألمى الهائل.
******
سقطت أشياء كثيرة من ذاكرتى، انتصارات بسيطة ومرضية، دلائلى المادية على إن الماما كائن رقيق يجب نسفه، لم تتبق سوى ومضات تباغت ذهنى مصحوبة بألم فى الخصيتين، ثم تختفى كأن شيئا لم يكن -بصقت، تمردت، شخرت، تشاجرت، وربما أشعلت حروبا ضد الماما، لم يتبق منها سوى آثار غرز، وربما جرحتها أيضا.
فى مدينة بعيدة عن سيطرة الماما، نجحت فى بيع الفازة الأولى لى، توالت بعدها الطلبات، وحققت شهرة لم تخفف ألم خصيتى، أيقنت لسنوات طويلة إنى موهوب، وهو يقين صار كفازة محطمة.
لكن النجاح الحقيقى، بدأ عندما عرفت إن قدرتى على "افساد" الأشياء، لا يقتصر على الفازات بل إلى كل شىء:
الجدران، البيوت، الستائر، الملابس، النفوس، الحيوانات، النظام، القوانين، الهيبة.. كل شىء.
كنت رائعا.. وعندما وجدتنى الماما، كنت أكثر حيطة، فأقراص المسكنات لم تفارق جيبى، فأحبطت حيلة الذنب.
لكن كل شىء تغير، عندما وصلتنى رسالة الماما.. "أنت موهوب.. ونحن نريدك".
ذهبت إلى صاحب المصنع الذى طردنى من قبل.
بدأ بهدوء: مصنعنا تعرض لموجات تغير الأذواق، لقد قاومنا الأمر كثيرا، أنكرناه فى البداية، ثم تجاهلناه، لكن عندما بدأ الأمر فى الضغط على خصية الإدارة لجأنا إلى نصيحة الماما.. التى قادتنا إليك..
سألت متشككا: هل ترغبون حقا فى أن أفسد الفازات؟
قال صاحب المصنع: ليس بالظبط.
قلت بحماس: استطيع تطوير المصنع.. لم يقتصر على الفازات فقط إن كنت استطيع افساد كل شىء؟..
رد باقتضاب: سنتدوال مع الماما.. إنها تعرف كل شىء ونحن نثق بها.
كنت أريد أن أراها، فى شوق بالغ لاكتشاف حقيقتها.
لم تظهر أبدا، لكنها كانت حاضرة فى كل شىء، كنت اتلقى كل صباح ورقة مرسلة منها بها مهام عملى، كانت رسالة رقيقة تؤكد فيها إن اتباعى ما ذكر فى الرسالة، يقينى شر صاحب المصنع وزملائى.
مع الوقت بدأت فى الاطمئنان، فى حب تلك الماما، التى لم تكن بهذا السوء.. فى إحدى الرسائل اعتذرت عن ايلامى.. قائلة إن الألم كان يصب لصالحى وإن ذلك كان لحمايتى من شر باعة الفازات ومن شر نفسى عندما دلفت إلى بيت شلبية لأضاجع بنتا مكسورة.
لذا فضلت أن افسد لها ورقة المهام، فكنت أنجز ما تريد دون اتباع ما تقوله، كنت مدفوعا برغبتى فى استخدام ما جئت من أجله: افساد الأشياء. فعودتى إلى المصنع لم تشهد أى تغيير، مجرد تدريبات أقسى على مزج قطع الفازات المكسورة، لم يتغير شىء سوى زيادة الراتب، وتربيتات الكتف من صاحب المصنع.
لم أعرف إن ذلك قد يعكر مزاجها، قطيع من القطط هاجم المصنع، ثم ظل يضغط على خصيتى، ويحطم كل ما صنعته.
لم تشفع المسكنات، تلك المرة،كنت تحت قبضتها تماما، عاد الشعور بالذنب بهيمنته البالغة، لم أشك إنها على حق، وإنى استحق العقاب.
حاولت التدرب أكثر واكثر على الطاعة، قبلت ذيل قطتها الشاردة فى أنحاء المصنع، كل يوم، انتهزت كل فرصة للصراخ عن انجازات الماما، وأخلاقها التى لا تقبل الشك أو المماطلة، ولم أعبأ بتلميحات السكارى الجارحة.
لكن الألم لم يخف، لم تصدق طاعتى إذن؟ كانت فقط حيلة مجرد حيلة، رغم الاقرار التام بالذنب، لأقدم خطتى مكتوبة إلى صاحب المصنع حول تطويره، أول مصنع فى سجادة العالم لافساد الأشياء.
*****
كانت فى شبابها على يسار الرب، تدافع عن أجور العمال وحقوقهم بضراوة، ودفعت ثمن ذلك، عندما اكلت حقوقها، فلم تجد سوى صراخا مستميتا، بلا فاعلية، فانتقلت إلى يمين صاحب المصنع، لتدافع عن حقوق الله والعمال، عندما ادركت إن العمال يسهل استقطابهم لصالحها، إذا ما دافعت بضراوة عن رواتبهم الهزيلة، لأن ذلك كان يجعل ثمنها أعلى فى نظر صاحب المصنع، كما إن الحديث نيابة عن الله يمنحها أجرها وأجر العمال.
ثم وجدت إن أكثر الأمور أمانا، هى التنقل بين يمين الله ويساره، وفقا للظل الذى يصنعه الشمس.
هذا ما أظنه عنها، لا أملك اليقين، أنا فقط أعرف ذلك ببصيرة المذنبين، أمر ينكره العمال، ويؤمن به السكارى.
***
لم أكن أنا من أطلق النكتة الأولى على الماما، لم أكن املك الشجاعة، لكنى أوحيت بها، عندما كنت اتسلم ورقة مهامى كل يوم، كنت افسد بندا صغيرا تافها به، لا يكاد يلحظ، عبرت الحيلة على الماما وعلى صاحب المصنع، مع الأيام عدت لافساد ورقة المهام كلها دون أن يشعر أحد.
لكن العمال عرفوا، أدركوا مع الوقت صنيعة يدى، وأطلق أحد السكارى، نكتة، نكتة واحدة، ضعيفة وهشة، لكنها جعلتنا نستهزأ بهجوم القطط، واستطعنا اشعال النيران فى ذيولها، نيران هائلة من الضحك.
تزايدت النكات، وضعفت هيبة الماما، بدأ العمال فى افساد بنود صغيرة تافهة فى مهام العمل، ثم مع الوقت عرفوا كيف ينجزون المهام على طريقتهم لا طريقة الماما.
صار العمل ممتعا، حتى إنى فى لحظة قررت أن أهب المصنع حياتى، ونذرت نفسى لافساده.
للمرة الأولى، رأيت الماما، لم تكن غاضبة، بل هادئة تماما.. كانت قبيحة جدا وشائخة كفازات أبى، وبطنها منتفخة من حمل جديد.
كانت على يمين صاحب المصنع، عندما رمقتنى وقالت بهدوء: غبى.
تحملت، رغم غرقى التام فى ماء الذنب، وقدمت لصاحب المصنع خطتى لتطوير مصنعه: كانت خطة كاملة، محبوكة، بسيطة، عبقرية.. وضعت فيها خلاصة ما منحتنى إياه الموهبة، وعلمتنى إياه الخبرة.. شرحت له كيف سيجنى مئات الملايين من الجنيهات، وتفرد مصنعه فى الافساد.
قال صاحب المصنع للماما ببرود: القطار ينتظرك فى الخارج.. اعتقد إن الوقت حان.
وجدت نفسى على يسار العمال وعلى يمين صاحب المصنع.. وقفت فوق منبر عال لأطرطر على الخلق بقذارات كثيرة عن أهمية الأخلاق وأوجه القطط للضغط على خصى العمال.
منحنى صاحب المصنع كل شىء، وصار لى فراش دافىء وزوجة وعمل مستقر، واختفى ألم الذنب تماما إلا من ومضات بسيطة تباغتنى عن قلعة كبيرة يحكمها خفاش ضخم وجراب ماء يتفلسف على فى صحراء بلا حكاية محتملة سوى الموت.. "لا أمل فى نجاتك سوى فى حكاية خرافية......"..
لكنى لم أصدق سراب الماء فالسراب يضعف هيبة الماما، وفضلت على ذلك أن أنام نصف النهار وأن أأكل نصف الليل وأن أحبل بلا انقطاع.
أحمد الفخرانى
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق