يعيدنا القاصّ الفلسطينيّ مازن معروف في مجموعته الجديدة “الجرذان التي لحست أذنيْ بطل الكاراتيه” إلى بداية تشكّل الحركات المستقبليّة أوائل القرن العشرين في أوروبا، في براءة أسئلتها وفي سخريتها من الواقع وعودتها إلى مناطق اللعب السردي الطفوليّ حيث الخوارق والأبطال الكرتونيّة، وفي توظيفها للحلم والألعاب السحرية كفضاءات يتحرّك داخلها النّسق القصصيّ.
سحر الطفولة
عبر قصص المجموعة العشر يأخذنا مازن معروف إلى حدائق مسيّجة بعيدان الكبريت تمرح فيها الأرانب المسحورة والهامستار والدببة القطنيّة والجنود أيضا، وداخل هذه الأجواء الطفوليّة تتحرّك الأحداثُ دون قيود المنطق، لا حدّ للمتوقّع هنا، من أخفت نأمة يولد انفجار كونيّ ومن حدقة لا تكاد تُرى تخرج صورٌ ومشاهد تجسّد تاريخ حضارة، ومن قطع أمعاء هي كلّ ما بقي من أشخاص فُقدوا في انفجار تخرج حيوات أخرى، ومن أعواد كبريت يقام بنيان وحدائق..
فالقصّ عند معروف لا يقف عند عملية التحنيط السرديّ وإنما يتجاوز ذلك ليكون عمليّة بعث وإحياء من الدّمار والفراغ والخواء الذي تخلّفه الحرب في المكان والإنسان.
قصص تعود بقارئها إلى المراحل الأولى لاكتشاف العالم ولاختبار الحواسّ، في المنطقة العميقة من الإنسان وهي طفولته، والتي تحدّد ملامح شخصيته وعلاقاته بالألوان والعطور، وتنسج في النهاية سيرته.
في قصة “جلو” مثلا يتحدّث القاصّ عن طفلٍ يُدخل رأسه في إبريق جلو، هذا المشهد الغريب كان مدخل القصة وخاتمتها أيضا، لتأخذنا الأحداث بين المشهدين أو بالأحرى المشهد المكرّر، عبر دوائر سرديّة متشابكة تشبه أضغاث الأحلام، لنرى فيها مشاهد تعذيب أطفال بطرق غريبة مثل إلزامهم على مضغ بودرة الجلو لتعطيشهم، ولنشاهد كذلك أمّ الطفل الراوي في القصة التي تشتغل في غرف تعذيب السجينات، وأباه المقتول بطلقة بارود من أمه بينما ساقه متروكة في أكواريوم السمك، والعريف حارس السجن الذي يموت بمجرّد أن ينظر الطفل الراوي إلى أذنيه. تبدو مشاهد القصة مأخوذة من الواقع الدمويّ الذي تطالعنا به الصحف والشاشات، لكن الأسلوب الغرائبيّ الذي رُبطت به الأحداث أعطاها هالة من السوريالية الخافتة.
الخيال والواقع
تقيم قصص مجموعة “الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه” الصادرة عن دار المتوسّط في منطقة بين الواقع والخيال، فشخصيات القصص تحمل وشم الحياة اليوميّة مثل شخصية “سمية البندوق” في قصة “سكند هاند رابت”، الذي يقول عنه القاصّ هو نسخة خاصّة جداّ من السّرّاق، والناس تعاطفوا معه بسبب حكايته، يقول إنهم سحلوا أمه أمامه على أحد محاور القتال، أو مثل شخصية “غاندي المارلبورو” وهو فرد في ميليشيا، تقطّعت أصابعه العشرة نصفيا بانفجار، أو مثل شخصية “كرم الهامستار”، الذي يعرّفه القاصّ بأنه أحد أشهر المسلّحين، ومن مقاتلي خطوط التماس البارزين. إذن هي شخصيات من ضحايا الحروب والنزاعات أخذها القاصّ إلى مناطق سردية مدوّخة تقوم على الألعاب السحريّة وحركات الخفّة، وعبر سير تلك الشخصيات كان القاصّ يقتفي الخيوط الشفيفة الفاصلة بين الموت والحياة وبين اللذّة والألم وبين الحلم والقسوة.
يصطدمُ القارئ بغرابة العنوان “الجرذان التي لحست أذنيْ بطل الكاراتيه”، والمعلوم أنّ العنوان هو عتبة من عتبات النصّ، فلمَ اختار القاصّ هذا العنوان المطوّل لمجموعته؟
أوائل القرن العشرين وضع الشاعر السوفييتي ماياكوفسكي عنوانا لمجموعته الشعرية “الحواريّ الثالث عشر” استفزّ به السلطة الدّينيّة خاصة، وبعد ضغوط كبيرة غيّر عنوان المجموعة إلى “غيمة في سروال” للسخرية من الفكر الكهنوتي الذي لم تزحه الثورة البلشفيّة. وكان هذا العنوان الشاذّ ثورة على مستوى الذّوق العام، خاصّة أنّ العنوان هو الواجهة التي يضعها الكاتب لأفكاره، لكن وضع ماياكوفسكي يبدو مختلفا تماما عن وضع “مازن معروف”، فلم اختار هذا العنوان الغريب الذي يبدو كأنّه وُضع لإحدى قصص الأطفال؟
لا شكّ أنّ هذا التساؤل سيطرحه كلّ قارئ يباشر هذه المجموعة، لكن ضباب الأسئلة سينقشع بمجرّد التوغّل في عوالم القصص التي ضمّتها المجموعة، والتي تقوم أساسا على الغرائبيّ والمستفزّ من المعاني، فمازن معروف في مجموعته هذه بكونه يكتب بمخيّلة طفل وبتقنيات سارد عجوز، وهذا ما يخلق من قصصه عوالم مفتوحة على خيال مشتعل بحطب الواقع، هي توليفة عجيبة نجح إلى حدّ بعيد في نسجها دون التوظيف الأسطوريّ والتاريخي أو استعمال الهوامش النصية التي تدعم أفكاره، فبدت قصصه مثل جزر عذراء لم تدجّن طيورها ولم تُثقّف أشجارها، بناؤها يقوم على الفوضى التي تخلق قوانينها من داخلها.
يمثّل القاصّ الفلسطيني مازن معروف إلى جانب مجموعة من القاصّين العرب الشباب حركة طليعيّة في السرد العربي الحديث تحاول تنشيط المخيّلة العربيّة الكسلى، مستفيدين من الحركات الأدبيّة العالميّة وموظّفين الواقع العربيّ كمادّة للسّرد الحيّ، وكطابع يميّزهم عن التجارب السرديّة الأخرى في العالم. وهذا ما يؤكده مازن معروف في مجموعته الجديدة “الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه”.
سحر الطفولة
عبر قصص المجموعة العشر يأخذنا مازن معروف إلى حدائق مسيّجة بعيدان الكبريت تمرح فيها الأرانب المسحورة والهامستار والدببة القطنيّة والجنود أيضا، وداخل هذه الأجواء الطفوليّة تتحرّك الأحداثُ دون قيود المنطق، لا حدّ للمتوقّع هنا، من أخفت نأمة يولد انفجار كونيّ ومن حدقة لا تكاد تُرى تخرج صورٌ ومشاهد تجسّد تاريخ حضارة، ومن قطع أمعاء هي كلّ ما بقي من أشخاص فُقدوا في انفجار تخرج حيوات أخرى، ومن أعواد كبريت يقام بنيان وحدائق..
فالقصّ عند معروف لا يقف عند عملية التحنيط السرديّ وإنما يتجاوز ذلك ليكون عمليّة بعث وإحياء من الدّمار والفراغ والخواء الذي تخلّفه الحرب في المكان والإنسان.
قصص تعود بقارئها إلى المراحل الأولى لاكتشاف العالم ولاختبار الحواسّ، في المنطقة العميقة من الإنسان وهي طفولته، والتي تحدّد ملامح شخصيته وعلاقاته بالألوان والعطور، وتنسج في النهاية سيرته.
في قصة “جلو” مثلا يتحدّث القاصّ عن طفلٍ يُدخل رأسه في إبريق جلو، هذا المشهد الغريب كان مدخل القصة وخاتمتها أيضا، لتأخذنا الأحداث بين المشهدين أو بالأحرى المشهد المكرّر، عبر دوائر سرديّة متشابكة تشبه أضغاث الأحلام، لنرى فيها مشاهد تعذيب أطفال بطرق غريبة مثل إلزامهم على مضغ بودرة الجلو لتعطيشهم، ولنشاهد كذلك أمّ الطفل الراوي في القصة التي تشتغل في غرف تعذيب السجينات، وأباه المقتول بطلقة بارود من أمه بينما ساقه متروكة في أكواريوم السمك، والعريف حارس السجن الذي يموت بمجرّد أن ينظر الطفل الراوي إلى أذنيه. تبدو مشاهد القصة مأخوذة من الواقع الدمويّ الذي تطالعنا به الصحف والشاشات، لكن الأسلوب الغرائبيّ الذي رُبطت به الأحداث أعطاها هالة من السوريالية الخافتة.
الخيال والواقع
تقيم قصص مجموعة “الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه” الصادرة عن دار المتوسّط في منطقة بين الواقع والخيال، فشخصيات القصص تحمل وشم الحياة اليوميّة مثل شخصية “سمية البندوق” في قصة “سكند هاند رابت”، الذي يقول عنه القاصّ هو نسخة خاصّة جداّ من السّرّاق، والناس تعاطفوا معه بسبب حكايته، يقول إنهم سحلوا أمه أمامه على أحد محاور القتال، أو مثل شخصية “غاندي المارلبورو” وهو فرد في ميليشيا، تقطّعت أصابعه العشرة نصفيا بانفجار، أو مثل شخصية “كرم الهامستار”، الذي يعرّفه القاصّ بأنه أحد أشهر المسلّحين، ومن مقاتلي خطوط التماس البارزين. إذن هي شخصيات من ضحايا الحروب والنزاعات أخذها القاصّ إلى مناطق سردية مدوّخة تقوم على الألعاب السحريّة وحركات الخفّة، وعبر سير تلك الشخصيات كان القاصّ يقتفي الخيوط الشفيفة الفاصلة بين الموت والحياة وبين اللذّة والألم وبين الحلم والقسوة.
يصطدمُ القارئ بغرابة العنوان “الجرذان التي لحست أذنيْ بطل الكاراتيه”، والمعلوم أنّ العنوان هو عتبة من عتبات النصّ، فلمَ اختار القاصّ هذا العنوان المطوّل لمجموعته؟
أوائل القرن العشرين وضع الشاعر السوفييتي ماياكوفسكي عنوانا لمجموعته الشعرية “الحواريّ الثالث عشر” استفزّ به السلطة الدّينيّة خاصة، وبعد ضغوط كبيرة غيّر عنوان المجموعة إلى “غيمة في سروال” للسخرية من الفكر الكهنوتي الذي لم تزحه الثورة البلشفيّة. وكان هذا العنوان الشاذّ ثورة على مستوى الذّوق العام، خاصّة أنّ العنوان هو الواجهة التي يضعها الكاتب لأفكاره، لكن وضع ماياكوفسكي يبدو مختلفا تماما عن وضع “مازن معروف”، فلم اختار هذا العنوان الغريب الذي يبدو كأنّه وُضع لإحدى قصص الأطفال؟
لا شكّ أنّ هذا التساؤل سيطرحه كلّ قارئ يباشر هذه المجموعة، لكن ضباب الأسئلة سينقشع بمجرّد التوغّل في عوالم القصص التي ضمّتها المجموعة، والتي تقوم أساسا على الغرائبيّ والمستفزّ من المعاني، فمازن معروف في مجموعته هذه بكونه يكتب بمخيّلة طفل وبتقنيات سارد عجوز، وهذا ما يخلق من قصصه عوالم مفتوحة على خيال مشتعل بحطب الواقع، هي توليفة عجيبة نجح إلى حدّ بعيد في نسجها دون التوظيف الأسطوريّ والتاريخي أو استعمال الهوامش النصية التي تدعم أفكاره، فبدت قصصه مثل جزر عذراء لم تدجّن طيورها ولم تُثقّف أشجارها، بناؤها يقوم على الفوضى التي تخلق قوانينها من داخلها.
يمثّل القاصّ الفلسطيني مازن معروف إلى جانب مجموعة من القاصّين العرب الشباب حركة طليعيّة في السرد العربي الحديث تحاول تنشيط المخيّلة العربيّة الكسلى، مستفيدين من الحركات الأدبيّة العالميّة وموظّفين الواقع العربيّ كمادّة للسّرد الحيّ، وكطابع يميّزهم عن التجارب السرديّة الأخرى في العالم. وهذا ما يؤكده مازن معروف في مجموعته الجديدة “الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق