سار محاذيا للبحر يبحث عن مدينته التى أحبها.
البحر هناك أزرق كالعادة.
الشمس حامية ولكن النسيم رقيق كالعادة
الأمواج تجرى نحو الشط كالعادة.
تأتى من البعد في أجنحة بيضاء، رقيقة وصغيرة، تكبر وتمتد، تزيد سرعتها وهى تجرى نحو الشط، تريد أن تحلق. لا تحلق بعيدا. تلطم الصخر العنيد وتتفتت مطرا فضيا، يتطاير ويلمع، ليعود من جديد إلى أحضان البحر ويحاول مرة أخرى.
كان البحر يشتت فكره أم هو العمر؟
قال لنفسه: «كبرنا» .. «كبرت». ثم توقف وفكر: لِمَ أخدع نفسى؟ «شِخْتُ». «كبرت» كلمة صغيرة. يمكن أن تكون جيدة. «شخت» هي الكلمة. «شخت» هي الحقيقة، فلا تكابر. «عاند من تطيق له عنادا.»
سار بأقدام مهتزة نحو الخليج.
نعم، حدوة الحصان تلك التي يرتاح في حضنها البحر ويهدأ.
هنا عندما قالت له في عصبية: إن كنت تريد إن ننتهى فلننتهِ بسرعة. لا تؤلف أعذارا!
يذكر جيدا هذه الجملة، ولكنه لا يذكر كيف رد. هل قال لها: لا أؤلف شيئا .. هل قال لها: مع السلامة ما دام هذا رأيك؟ هل قال: أنا أحبك؟
ابتسم لنفسه. كان يحبها بالفعل، ولكن ما أهمية هذا الآن؟
ولكن هل كان يحبها بالفعل أم كان يحب زوجته؟ هل كان هو الذى استدرجها أم هى التى استدرجته؟
تلك الابتسامات الدائمة كلما مر أمامها ففي المكتب. ترفع وجهها وهى جالسة وتتطلع إليه بنظرة ثابتة. لا تلتفت إلى يمين أو يسار. لا تتشاغل بالنظر إلى أوراق على مكتبها. فقط تنظر إليه. هو الذى كان يفعل ذلك حين تدخل مكتبه، فهو كان الرئيس. لم يكن ينظر إلى وجهها أبدا.
يوقع الأوراق، يسأل بصوت محايد عن أخبار العمل، ومع ذلك يدق قلبه كثيرا ويخشى أن ينفضح، أحيانا يتفصد عرقه وينهى المقابلة بسرعة. بعد أن تخرج من مكتبه يتنهد في ارتياح. يفكر في أولاده، في زوجته، في سمعته. لا مستحيل.
حول نظره إلى البحر. ذلك هو ما بقى. الموج الذى يأتي ويذهب. الزبد الذى يمكث فى البحر، يتشكل أجنحة ورذاذا وفقاقيع، وحين يرتد يترك زهورا بيضاء.
في حديقة البحر. استنشقها بقوة تلك الرائحة التي أحبها عمره كله.
ذلك ما بقى. ورائحة البحر. ولكن ذلك الألم في الساقين؟ لو يختفى! لم تنفع الحبوب التي أعطاها له الطبيب آخر مرة. هل يجلس قليلا ليرتاح؟
لا يفهمون شيئا هؤلاء الأطباء. فقط يتقاضون أجورا فاحشة، ولا يفيدون شيئا. ولكن ماذا كنت تريده أن يفعل؟ أن يرد لك الشباب.
أيكون السبب هو السكّر الذى فاجأه أخيرا؟ الذى أضيف إلى كل شيء آخر؟ ذلك الوخز الحاد في الساق قرب الفخذين. يأتي ثم يختفى. في الحقيقة يأتي ثم يبقى، لكنه أحيانا ينساه. الآن صعب أن ينساه. ربما لأنه سار كثيرا كي يصل إلى هذا المكان. ذكريات يا افندم!
ابتسم في سره مرة أخرى. أي ذكريات يا أستاذ وأنت نفسك أصبحت ذكرى؟
حفيدته الفقرية تقول يا جدى أنت ترى بالنظارة، وتأكل بطاقم أسنان، لماذا؟ يرد وهو يضحك لأنى عجوز. تضحك هي أيضا وتقول عجوز جدًا. جدو جدًا. عجوز جدًا.
تعلمت أخيرا كلمة «جدًا» وأصبحت تضعها بعد كل كلمة. تسأل على الأكل: ممكن ملح جدا؟ تعانق أمها وهى تقول إنت ماما جدًا. ولكن في هذه المرة لم تخطئ بالفعل جدو عجوز جدًا جدًا.
جلس على المقعد الحجري وهو يكز على طاقم أسنانه من الألم. لو يتوقف ذلك الوخز في رجليه؟ ولماذا في الاثنتين دفعة واحدة؟ شرايين؟ أعصاب؟ هباب؟ عضلات؟ إلا هذا! لم تبق أي عضلات!
غير مهم. ولماذا ترك غرفته في الفندق وهو يرى منها البحر وهو راقد في السرير؟ ولماذا جاء إلى الإسكندرية في الأصل؟
فهمنا، تحب البحر. اجلس في الشرفة وانظر إلى البحر. يكفى هذا ويزيد.
ولكنه كان قد فعل ذلك في الحقيقة. جلس ساعات في الشرفة يراقب البحر الذى يحبه، بحره الذى لا يكف عن التشكل والتلون، أمواجه وأصواته. كان وهو صغير يدخر أو يقترض ليأتي من القاهرة إلى هنا. يخفق قلبه وهو يسير في الطريق الصاعد إلى البحر عند شاطئ ستانلي. يشم الرائحة من بعيد ويفرح. وعند نقطة معينة في المرتقى يهل البحر فجأة، تنبسط الزرقة اللانهائية أمام عينيه بكل جلالها، ينحدر في المنحنى الهابط وقلبه يخفق كأنه يطير نحو البحر. تتشكل بالتدريج حدوة الحصان ويرى الخليج الأزرق الذى عشقه طول عمره.
ازداد حبه له بعد أن عرفها. يحج إليه كلما زار مدينته وبحره. والآن، بدون كذب، فهو كان يقاوم كثيرا. يعرف نفسه. يذكر دائما كلمة صديق عمره محمود، رحمة الله عليه. من أيام الجامعة قال له: أنت لا تفعل شيئا آخر في الدنيا غير الغرام». يا ابنى انت بتحب على روحك» من نظرة من ضحكة من كلمة سلام عليكم؟ بدون سبب على الإطلاق؟ حاسب على نفسك!
لم يستطع مع ذلك أن يعمل بنصيحة محمود. ظل يخرج من قصة حب ليدخل في عذاب حب جديد. يستمرئ العذاب؟ أبدا. ماذا تقول الآن في آخر العمر؟ أي الكفتين ترجح؟ العذاب أم الفرحة؟ ياه! لكم كانت الحياة تصبح مُرة دون ذلك الرحيق! حتى العذاب يستحيل مع الوقت فرحة. ذكراه واحة في صحراء العمر. ما الذى أتى به الآن على ساقين مريضتين غير صورتها التي استدعته. تلك التي عذبته وأماتته وأحيته؟
سألها مرة وهى تقف أمامه في المكتب، تتطلع إليه بتلك النظرة الثابتة. سألها في ضراعة، في يأس، متمنيا أي إجابة تخلصه من صورتها، من وجهها المدور وعينيها العسليتين اللتين تطلان عليه في البيت والمنزل والطريق سألها: ماذا تريدين منى يا نوال؟ فردت بهدوء راشد: أنت! قال ولكن لماذا؟ قالت بالهدوء نفسه: لأنك تخصني!
هذا، ثم فتحت أبواب النعيم.
قال لها مرة ــ وهما وحدهما: ظللت طول عمرى أطارد النساء وأفشل في معظم الأمر. فلماذا أنت التي تطارديننى؟
قالت وهى تضع يدها على كتفه: تعنى لأنك لست جميلا، ولست غنيا، ولست حرا، ولأنك رجل امرأة أخرى؟ نظر إليها مستفهما فضحكت وهى تقول. ألم أقل لك إنك تخصني؟ ألا تصدق أن في هذه الدنيا هناك واحد بالذات لكل واحدة، وواحدة لكل واحد؟ عندما رأيتك عرفت أنك أنت.
ثم واصلت ضحكتها وهى تقول متظاهرة بالاستسلام بختى أن تكون أنت، فماذا أفعل؟ ثم ضمته نحوها وقبلته قبلة حقيقية.
(2)
كل هذه الضجة عن الحب، وها هي النهاية!
كل القراءة، كل الشعر، كل الأفلام، كل الأحلام، كل خفقان القلب والدموع في الأعين والسخونة في الأيادي والخدر في الأجساد والرعدة في تلامس الشفاه والرغبة في التحليق بعيدا، لأن الأرض أضيق من أن تستوعبه، كل ذلك إذن كذب؟
أن تنظر إلى عينيه فيحملها شراع إلى قلب أمواج تتوثب كقلوب تنبض، أن يلمس يدها فيسرى في الجسم كله دفء وعرق خفيف وتتفتح المسام كزهور تنثر له عطر الروح والجسد، تهديه كونها كله..
أن تندس في حضنه وتشم رائحته ويكون ذراعاه حولها، يحتويها، يغمرها. ينكمش جسدها وتعود جنينا، تحلم لو ينفتح هو رحما يحتويها فلا يفلتها إلى الأبد ..
أن تكون في الليل وحيدة في فراشها، تسمع الموسيقى في الظلام ووجهه يحيط بها من كل جانب: طيف عينيه الرماديتين، شعره الغزير المهوش الذى لا يعرف أبدا كيف يرجّله، حاجباه الكثيفان، أثر الجرح القديم تحت شفته السفلى الممتلئة، كل تفاصيل الوجه، كل تفاصيل الأنامل الطويلة، نبرة صوته وعباراته الأثيرة تحيط بها، تغزوها والموسيقى في وقت واحد، يملؤها هو وتلك الألحان التي تحبها. لا تكفى الدموع لتخفف وطأة ذلك الامتلاء الذى تتشبث به وتتمنى في الوقت نفسه لو تتخفف منه. تقول لنفسها نعم، لا يتسع الجسد لكل هذه التخمة بالفرح.
كل تلك إذن أوهام؟ أكاذيب صنعتها بنفسها لنفسها؟ الحياة إذن ليست شيئا آخر غير المشي على الأقدام، والبرد والحر، وفتح الفم للكلام والأكل، مذاكرة الدروس ثم التوظف، الزواج ومضاجعات الفراش (ما أسخفها)، إنجاب أولاد يكررون الدورة العبثية نفسها؟
عندما فتحت باب الشقة بالمفتاح كانت عتمة وصمت. لم يكن الخادم هناك. قالت هذا أفضل. ولكنها عندما أضاءت النور أفزعها شكلها في مرآة المدخل، وجهها المحتقن وعيناها المحمرتان. ليكن.
دخلت غرفتها. ظلت تذرع المكان. تدور حول قطع الأثاث وتدور حول نفسها، منهكة ولكنها لا تستطيع أن تكف عن الحركة.
وقفت مرة أخرى أمام المرآة. توقعت أن أدفع ثمنا، ولكن لم أعرف أنه سيكون باهظا إلى هذا الحد.
(3)
القبلات، يعرف طعمها: القبلات الحيية والودودة، والقبلات البريئة والقبلات الكاذبة والقبلات التي هي شهوة لا غير. نوال وحدها هي التي أعطته القبلة الحقيقية. القبلة التي تنفذ من الشفاه والفم إلى الروح والجسد، التي تجعل من اثنين واحدا. القبلة التي تسرى في الدم فتبقى هناك.
أعطته ذلك وأكثر منه. علمته حبا لم يعرفه إلا معها. كيف يصبح بالفعل هو الذى يخصها وهى التي تخصه، كيف يكون بداخلها وكيف تكون في داخله واحدا لا ينفصم. أصبح يحب الطعام الذى تفضله هي، صارت هي تعشق ألوانه التي يحبها، وحين كانت تسمع الموسيقى، وتستغرق فيها بكل كيانها، كانت موسيقاها تنساب في سمعه وقلبه حين يمسك يدها وحين يضمها إليه.
أعطته كل شيء، فماذا أعطاها؟
الحب المختلس في القاهرة؟ الإسكندرية في آخر الشتاء وفي آخر الصيف؟ الإسكندرية حين تكون خالية من الزحام وجميلة؟ هي لم تطلب أكثر من ذلك.
كانت تبدو سعيدة وهما يجلسان هناك في ذلك المقهى الداخل في البحر، وحدهما تقريبا. يجفلان حين يدخل المقهى أحد، كأنه اقتحم بيتهما. لم يقبلا ثالثا سوى البحر. المياه الناعمة المجلوة الزرقة في أيام الصحو، والبحر الرمادي المتجهم في الشتاء الذى تهجم أمواجه عبر زجاج المقهى أشرعة جبارة بيضاء، تندفع نحو السماء، ثم تتمزق وتختفى في سحابات من بخار. البحر كله، أيا كان حاله، غاضبا أو راضيا، يدخل فيهما، يجلس معهما، يستمع إليهما. ذلك البحر الحنون، بحرهما.
ابتسم يوم قالت له وهما يجلسان هناك: هل تعرف متى أدركت أنى أحبك؟ متى أيقنت أنه هو أنت الذى يخصني؟ ذات مرة رأيتك في المكتب وقد اغرورقت عيناك، وارتعشت شفتاك، فشعرت بالخجل وحاولت أن تخفى وجهك. لا أذكر السبب ولكن حزنك كان حقيقيا.
سألها محبطا: أحببتني بسبب الغم؟ الحب يكون للفرح! قالت: ويكون للحقيقة. أعرف أنك لا تكذب حين تحبني، وأنا لا أكذب. أعرف أن حبنا حقيقي.
والآن وهو يجلس على المقعد الحجري في الشمس كانت هي أيضا معه والبحر. كانت الصور والأصوات والمشاهد تأتى حية، وشجن شفيف يسرى في جلده. شجن كأنه اللذة. يتغلغل في دمه ويخدره. ينسيه حتى الألم.
لو أنه يكتب مذكراته لعاد إليها ولقرأها كل يوم؛ ليعيش من جديد لحظات الحب والحقيقة تلك. لكنه لم يكتب. يجهد ذهنه ليتذكر تفاصيل ما كان، لكنه ينسى. يوما بعد يوم ينسى أكثر. هل سيأتي وقت ينسى فيه كل شيء؟ حتى نوال؟ فماذا يبقى؟ الأفضل أن يرحل قبل ذلك.
يجب أن يسجل ما يذكره قبل أن ينسى. قبل أن تهرب نوال مرة أخرى كما هربت من قبل.
تحمس للفكرة، راح يفكر من أين يبدأ؟ أخذ يحدق أمامه فاجتذبه البحر من جديد. غاص في الزرقة اللامعة ودمدمة الأمواج، وحين استطاع أن يعود إلى نفسه من أسر البحر تنهد في ارتياح. كان الوخز في ساقيه قد خف بالفعل ولكنه خشى إن قام ومشى أن يعاوده الألم من جديد، فظل في مكانه.
ــ وسع يا حاج!
كان المقعد واسعا بما فيه الكفاية لكنه تزحزح حتى طرفه، فجلستا إلى جواره، وأكملت المرأة التي خاطبته حديثها لصاحبتها.
ــ قلت لها: إياك! إلا المصاغ. لو أخذه اليوم فمن يضمن؟
سألت الأخرى: ولكن هل عنده عقد عمل؟
فردت الأولى: لا. يريد أن يسافر في العمرة ثم يبحث عن عمل.
ضحكت صاحبتها هازئة وهى تقول: كان غيره أشطر!
قالت الأولى بحماس: وحتى يا أختي لو فرضنا واشتغل من يضمن؟ ربما لو جرى القرش في يده يتزوج عليها. وأصل المصاغ…
قام وسار بحذر نحو حاجز (الكورنيش) المعدني. كان الشاطئ مزدحما بأطفال يلعبون وسط رمال تتكدس فيها أوراق مهملة وعلب وزجاجات بلاستيكية فارغة. مد بصره إلى البحر، فوجد نسوة يسبحن بجلابيبهن التي تنتفخ بالهواء وتطفو فوق الماء.
ما له وذاك؟ مد بصره أبعد وأصم أذنيه عن صراخ الأطفال الذين يلعبون تحت على الشط. رأى من جديد بحره الأزرق الممتد حتى السماء ورأى عند خط الأفق باخرة مسمّرة في مكانها.
قال لنفسه لم يخطئ الشعراء الذين وقفوا على الأطلال. ربما حين تنهار الديار يصبح أصلها في الذهن أجمل مما كان في الحقيقة. أم ربما كان الأمر عكس ذلك بالضبط. ربما يبعث الضياع الجمال الذى كانت العين غافلة عنه والأصل قائم.
ما الذى يعنيه الحنين على أي حال؟ هل هو يد ممدودة تقاوم زحف الزمن؟ يد ضارعة تتشبث بالحياة؟ هل يأتي إلى هذا المكان كل عام ليقول: أنا ما زلت أحيا؟ هو فقط يأتي ويحوم حول الخليج. يسير حول مقهاه القديم، لا يدخله.
حين غامر وعاد إليه قبل سنين أوشك أن يبكي. أصابه الفزع. وجد مكان الموائد الخشبية البسيطة، بمفارشها النظيفة، موائد ثقيلة من خشب سميك، تحوطها مقاعد جلدية حمراء بشعة, ووجد حول الجدران تشكيلات من نحاس مذهب، ربما أريد بها أن تكون زخارف لزهور أو لأسماك، ولكنه رآها أسلاكا شائكة تمنع أي جمال من دخول المكان. كان مقهاه قاربا صغيرا خفيفا يطفو على الموج فيصبح جزءا من البحر، وكان هذا المقهى الجديد قلعة راسخة للقبح، تخرج لسانا بذيئا متحديا للبحر. وبدلا من عم إبراهيم العجوز الذى كان يحنو ببسمته الودودة على المحبين، حاصره بمجرد أن دخل المكان (جرسونات) متجهمون متأنقون، يلبسون سترات ضيقة صفراء و(بابيونات) سوداء (لماذا؟).
حاصروه بنظرات بقشيشية افتراسية. ولم تجد نظراتهم مع ذلك شيئا. فحين جاء وقت الحساب، ولم يكن قد أخذ شيئا غير فنجان من الشاي الساخن وشطيرة واحدة وجد أن ما معه يكفى بالكاد ليسدد الحساب الذى قدموه له. رد (الجرسون) على نظرته المتسائلة باقتطاب «مينيمام شارج!»
لم يفكر بعدها أن يكرر التجربة أبدا. ولماذا يفعل؟ لم يجد فى ذلك المقهى المشوه طيف نوال. لم يجد عطرها.
عطرها يأتيه الآن من البحر وحده.
تعب من الوقوف ومن ضجة الأطفال على الشاطئ. التفت برأسه للوراء فوجد مقعده الحجري خاليا. انصرفت المرأتان إذن، والمصاغ وعقد العمل، ويمكنه أن يعود إلى مكانه. رجع بخطاه البطيئة وجلس في طرف المقعد ليتركه واسعا لمن يشاء ولكى يتركوه في حاله. وتساءل: فيم كان يفكر؟
نعم. أن يكتب حكايته مع نوال. يسجلها قبل أن ينسى كل شيء. ولكن ما أقل ما يذكره الآن بالفعل!
هو يذكر جوا ما، سعادة ما، أما التفاصيل فقد غابت. يذكر يوما قال لها بطريقة عابرة، معك يا نوال أشعر أنى مطمئن. لم أعرف مثل هذه الطمأنينة في حياتي.
أشرق وجهها ببسمة صافية وقالت: هذا أجمل غزل سمعته منك. ما أجمل السكينة في الحب!
ولم يكن يكذب. كان هدوء ونعمة يغمران وجوده. لم تكن هناك حقيقة سواها، ومع ذلك كانت الحياة ممتلئة وراضية. في المكتب كان يعمل أكثر وأفضل وجاءته أيامها ترقيات كثيرة فى الشركة. حتى علاقته بزوجته كانت في أحسن أيامها. كفت المشاجرات والغيرة. لم تعد تسأله عن سبب تأخره في الليل. كانت في معظم الأحيان تستطيع أن تتصل به في المكتب وأن تجده هناك. لم تعد تستغرب أسفاره المتكررة إلى الإسكندرية (للعمل). كانت تجد زوجا وصديقا لم تعرفه بمثل هذا الصفاء والود من قبل. هل كان يخدعها، يلعب دور الزوج الخائن الذى يجامل زوجته حرصا على بيته؟ أبدا. هو لم يفتعل شيئا. هو فقط كان يعيش في سكينة الحب. بالعكس جاء الجنون والعنف وتهديد الطلاق، بعد أن انتهى ما بينه وبين نوال. بعد أن اختل انسجام الكون حوله، وبعد أن رحلت السكينة وعادت فوضى الحياة ووجهها الآخر الذى كان يخفيه وجه نوال. وبدون نوال تكسرت الأجنحة فهوى للأرض.
لو طلبت نوال منه مرة أن يتزوجها لما تردد. ولكنها لم تطلب. الحقيقة هي أنها لم تطلب شيئا أبدا، ولكن من يدري؟ ربما كانت تريد وإن لم تطلب.
وكيف كان له أن يحدس؟ كانت تبدو سعيدة معه طول الوقت. يذكر جيدا قولها: معك أشعر أنى أذكى من حقيقتي، وأنني أجمل. معك لا أحتاج إلى سواك. ولكن هل كان هو عمرها الحقيقي، مثلما كانت هي عمره الوحيد، دون تلك البقية الكاذبة المملوءة بالمواعيد وبالزواج والغرام العابر وأوراق المكتب التي ظلت تتكدس على مكتبه بلا نهاية، ثم فجأة حين رحلت وجد نفسه مكشوفا ووحيدا وبلا نوال؟
كيف كان له أن يحدس؟
بدا له أنها تكره الزواج. حدثته مرة واحدة عن زوجها السابق. قالت بمرارة إنه كان يكره أن تسمع الموسيقى، وإنه كان يسخر منها. أما في غير هذه المرة فكانت ترفض دائما أن تتحدث عنه أو أن تذكر سبب الانفصال.
كيف كان له أن يحدس؟
وإذا كتب قصتهما معا فهل يسجل أيضا ذلك اللقاء الأخير؟
ما الذى يذكره منه غير الدموع وغير سؤاله المتكرر؟
ــ هل تحبينه؟
وذلك السؤال الذى ردت به: هل تحب زوجتك؟
قال لا أكرهها، فكررت وراءه: وأنا لا أكرهه.
أما الكلام الآخر، ذلك الكلام الكثير الذى قالته عن حبهما والزمن، عن أنهما عاشا معا كل الحب المقدر لهما، وأن كلا منهما سيبقى في الآخر إلى الأبد، أما ذلك الكلام فلا يذكر منه إلا القليل.
ولكن على الأقل هي لم تكذب: بقيت بالفعل في داخله إلى الأبد. هي العمر الحقيقي وبدونها الأيام العابرة.
ومع ذلك فلم يكن هذا هو اللقاء الأخير. رآها بعده بعشر سنوات أو أكثر أو أقل. حين وقفت أمامه في الطريق. حين واجهته بتلك البسمة وتلك النظرة الثابتة كما كان الحال في الزمن القديم. جميلة ظلت كما كانت. لم تتغير. على الأقل هو لم ير أي تغير.
قالت سلمى على عمو يا سلوى.
فانحنى هو يقبل نوال الطفلة ذات الثوب الأبيض والجورب الطويل الأبيض.
سألها بعد فترة رجعت إلى مصر؟ فهزت رأسها بالنفي وقالت: إجازة.
مدت يدها تصافحه وقالت: سلام. فقال: سلام.
ولكن ذلك لم يكن لقاء. لم يكن أيضا وداعا. لم تكن هي نوال ولم يكن هو نفسه. لم يكن هناك البحر ولا المقهى ولا الخليج المدور ولا السكينة ولا الغضب. لم يكن هناك شيء. فهل يسجل أيضا تلك اللحظة العابرة على الرصيف؟
ظل لحظة شاردا لا يفكر في شيء. كان أناس يأتون ويجلسون إلى جواره فلا يسمع ما يقولون. ربما يكون أحدهم قد سأله عن الساعة. ربما يكون قد أراد السؤال مدخلا لحوار معه، ولكنه لم يكن راغبا في الكلام. فلماذا انتبه إلى هذين الرجلين الذين جلسا إلى جواره دون أن يلتفتا إليه؟ كان أحدهما يهز ساقه التي تجاور العجوز في عصبية شديدة. هل تؤلمه الساق هو أيضا؟ هل بدأ فيها دبيب كالذي عاد للتو قرب قدميه؟
سمعه يقول وكأنه يبكى: خرب بيتي! فقال الآخر بلهجة مواسية لا تظلمه. ربما لا يكون هو السبب. كيف يفعلها وهو شريكك؟
رد الذى يهز ساقه في هذا الزمن لا تخاف إلا من شريكك. أصله …
قام وأعطى ظهره للبحر. قال لنفسه وهو يبتعد لا يعنيني هذا الزمن الذى تخاف فيه من شريكك. زمانكم لا يخصني والحمد لله. لا يعنيني مصاغكم ولا شركاؤكم ولا جرسوناتكم بستراتهم الصفراء الضيقة ولا المينيمام شارج، ولا نساؤكم اللائي يسبحن في البحر بجلاليبهن. كم أنا فرح لأنى رأيت عالما غير عالمكم! كم أنا فرح لأنى عشت زمنا آخر! لأنى أذكر مكان عمائركم تلك التي يلفظها البحر بيوتا صغيرة جميلة يحنو عليها البحر وتحنو عليه. كم أنا فرح لأن زمنكم لا يخصني! أنا ماشي!
وقف على حافة الرصيف. كان يعرف أن العبور إلى الناحية الأخرى محنة، لأنه إن توقفت السيارات من أحد الاتجاهين فهي لا تنقطع من الاتجاه الآخر. انتهز لحظة خلا فيها الطريق من الاتجاهين ونزل من الرصيف. ولكنه سمع الصيحة قبل أن يسمع (فرملة) السيارة.
ــ حاسب يا اعمى!
تراجع متخبطا نحو الرصيف فتعثر وسقط. جاهد لكى يقوم فوجد يدا تسنده. كانت يد شاب مذعور الوجه يقف إلى جوار باب السيارة المفتوح، قال له:
ــ حقك على يا جدى سامحني. أنا أصلى خفت عليك. هل حدث لك شيء؟
قال: لا. لم يحدث شيء فقط ساعدني لكى أقوم. سنده الشاب حتى وصل إلى الحاجز المعدني فوقف ممسكا به بيديه وهو يعض على شفتيه من الألم.
كان دبيب النمل في ساقيه يتحول بسرعة إلى لسع النحل. أراد أن يصرخ ولكنه همس وهو ينظر أمامه مخاطبا البحر:
ــ ساعدني يا صديقي. ساعدين يا نوال.
ولكن دموعا نزلت من عينيه ولم يعد ير البحر.
أحنى رأسه وغمغم وهو يقبض على الحاجز ويتشبث به: كله يهون.
- عن مجلة الكلمة – لندن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق