استطعتُ أن أنجو ، انطلقتُ راكضاً ، بعدَ أن
تسللتُ على أطرافِ أصابعي ركضت،ُ بسرعةٍ جنونية ،
يسبقني لهاثي ، يربكني قلبي بخفقانهِ ، يعيقُ الظّلام من
سرعتي ، خاصة وأنَّ أزقتنا مليئة بالحفرِ وأكوامِ
القمامة .
أخيرا وصلتُ ، على الفور أيقظتُ الشّرطة ،
تثاءبوا ، تمطّوا ، رمقوني بغضبٍ ، وحينَ شرحتُ لهم ما
أنا فيه ، أخذوا يتضاحكونَ ، سألني الرقيب :
ـ هل أنتَ تهذي ؟!..
أقسمتُ لهم بأنّي لاأهذي ، ولستُ في حلم ، بل ما أقوله
حقيقة ، وإن كانوا لا يصدقونَ فعليهم أن يذهبوا معي ،
ليشاهدوا بأعينهم ، وليشنقوني في حال كان كلامي
كاذبا .
لكنَّ المساعد المناوب ، أخبرني ، بعد أن تظاهر
بالاقتناع :
ـ نحن لا نستطيع تشكيل دورية للذهاب معك ، إلاً
بعد أن يأتي سيادة النقيب .
وحينَ سألته ، عن موعدِ مجيءِ سيادة رئيس المخفر ،
أجاب :
ـ صباحا .. بعد التاسعة .
ولولا خوفي الشّديد من رجالِ الشّرطة ، لكنتُ
صرختُ بوجههِ :
ـ لكنّي لا أستطيع الإنتظار ، إنّ الأمرَ غاية في
الخطورة .
كبحتُ انفعالي ، وسألته برقةٍ واحترام :
ـ ألا يوجد هاتف في منزل سيادته ؟ ..
صاح المساعد ذو الكرش المنتفخة :
ـ أتريد أن نزعج سيادته ، من أجلك أيّها الصعلوك ؟.!.
وتمنيت أن أرد :
ـ أنا لست صعلوكاً ، بل مواطناً ، أتمتع بالجّنسية ،
والحقوق كافة ، ولكنّي همست :
ـ حسناً يا سيدي ، هل لك أن تدلّني على منزل
سيادته ، وأنا أتعهد لك بالذّهاب إليه ، والحصول على
موافقته بتشكيل الدّورية .
وما كدتُ أنهي كلامي ، وأنا في غايةِ التهذيبِ
والاحترام ، حتى قذفني المساعد بفردةِ حذائهِ المركونِ
قربَ سريره ، وبصراخهِ المخيف ، قائلاً :
ـ أنتَ لا تفهم ؟!.. وحقّ الله إنّكَ "جحِش " .. أتريد
أن تذهبَ إلى بيته ؟!!.. يالشجاعتكَ !!!.. انقلع ..
وانتظر ، وإياكَ أن تعاود ازعاجنا .. قسماً " لأحشرنك "
بالمنفردة .
جلستُ أنتظر ، لم أستطع الثّبات ، أخذتُ أتمشى
بهدوءٍ شديدٍ ، عبرَ الممرّ الضّيق ، وأنا أراقب عقاربَ
السّاعة .. الدقيقة ، كانت أطول من يوم كامل ..
وعناصر الشّرطة عادوا يغطّونَ في نومٍ عميقٍ ، اكتشفت
أنّ جميعهم مصابونَ بداءِ الشّخيرِ ، صوتُ شخير المساعد
أعلى الأصوات ، رحتُ أتخيّل مقدار قوّة الشّخير
عند سيادة النّقيب .
تململتُ ، ضجرتُ ، يئستُ ، فقدتُ قدرتي على
الصّبرِ ، فصرختُ :
ـ يا ناس أنا في عرضكم ....
رفعَ الشّرطي رأسه ، حدجني بعينينِ ناعستينِ ،
وزعقَ :
ـ اخرس يا عديمَ الذّوق .
خرستُ ، وانتظرتُ ، عاودتُ المشي في الممرِّ ، ومراقبةِ
الثّواني ، دخّنتُ مالا يحصى من السجائرِ ، أحصيتُ عددَ
بلاط الممرّ عشرات المرّات ، طالَ انتظاري ، تجدّدَ
وتمدّدَ ، ضقتُ ذرعاً ، نفذ صبري ، وطلعت روحي ،
اكتويتُ بنار الوقت ، قلقي يتضاعف ، فمرور الوقت ليس
من صالحي ، عليّ أن أفعل شيئاَ .. هل أعود بمفردي ؟..
لكن ، يجب أن يكون أحد معي ، شخص له صفة رسمية ،
لكن ما باليد حيلة .. فخطر لي أن ألجأ إلى أخي ، فهو
أقرب الناس إليّ .
خرجتُ من المخفرِ خلسة ، هرولتُ ، ركضتُ ، وكنتُ
أضاعف من سرعتي ، حتى أخذتُ الهث ، العرقُ يتصبّب
منّي غزيراً .
قالت زوجة أخي " عائشة " ، بعد أن رويت حكايتي
لأخي :
ـ نحنُ لا علاقة لنا بالمشاكلِ .. عد إلى الشّرطة .
خرجتُ من بيتِ أخي " عبدو " ، والدّموعُ تترقرقُ في
عينيّ ، تذكّرت كلام المرحوم أبي :
ـ الرجل الذي تسيطر عليه زوجته لا ترج منه خيرا .
توجهت إلى أبناء عمي ، طرقت عليهم الأبواب ،
وتوالت الأكاذيب :
ـ [ محمود ] .. ذهب إلى عمله باكرا .
ـ [ حسن ] .. مريض ، لم يذق النوم .
وبخشونة .. قال [ ناجي ] :
ـ أنت لا تأتي إلينا ، إلاّ ووراءك المصائب .
[ يونس ] ابن عمتي ، أرغى وأزبد ، أقسم وتوعد ، لكنه
في النهاية ، نصحني أن أعود للمخفر ، حتى لا نخرج
على القانون .
قررت أن أعود إلى حارتي ، هناك سألجأ إلى
الجيران ، قد تكون النخوة عندهم ، أشد حرارة من نخوة
أخي ، وأبناء عمي ، والشرطة ، ولمّا بلغت الزقاق ،
صرخت :
يا أهل النخوة الحقوني .. الله يستر على أعراضكم .
فتحت الأبواب بعجلة ، خرج الناس فزعين ، التفوا
حولي ، يسألوني ، وأنا أشرح لهم من خلال دموعي ،
لكن جاري [ فؤاد ] ، أخرسني :
ـ نحن لا علاقة لنا بك وبزوجتك ... اذهب إلى
الشرطة .
عدت إلى المخفر ، وجدت المساعد ونفرا من
العناصر مستيقظين ، واستبشرت خيرا ، حين ناداني :
ـ هل معك نقود أيها المواطن ؟.
ـ نعم سيدي .
ـ إذا اذهب وأحضر لنا فطورا على ذوقك ، حتى
ننظر في أمرك .
دفعت معظم ما أحمل في جيبي ، تناولوا جميعهم
فطورهم بشراهة ، تمنيت أن أشاركهم طعامي ، فكرت
أن أقترب دون استئذان ، أليست نقودي ثمن طعامهم
هذا ؟.!.. وحين دنوت خطوة ، لمحني المساعد واللقمة
الهائلة في فمه ، فأشار إلي أن أقترب ، سعدت بإشارة
يده ، واعتبرته طيب القلب ، نسيت أنه ضربني ليلة
أمس ، بحذائه الضخم ، وحين دنوت منه ، أشار :
ـ خذ هذا الإبريق واملأه بالماء .
اشتعل حقدي من جديد ، اشتد نفوري منه ، ومن
عناصره .
ها هي الساعة تتجاوز الحادية عشرة ، ورئيس
المخفر لم يأت بعد ، ولما اقتربت من المساعد
مستوضحا :
ـ يا سيدي .. لقد تأخر سيادة النقيب .!
رمقني بغضب ، وصاح :
ـ لا تؤاخذه ياحضرة ، فهو لا يعرف أنك بانتظاره .
في الثانية عشرة وسبع دقائق ، وصل النقيب ، هرعت
نحو مكتبه ، لكن الحاجب أوقفني :
ـ سيادة النقيب لايسمح لأحد بالدخول ، قبل أن
يشرب القهوة .
المدة التي وقفتها ، تكفي المرء أن يشرب عشرة فناجين
من القهوة .. ولما هممت بالدخول مرة أخرى ، أوقفني
الحاجب من جديد :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول ، قبل أن يوقع
البريد .
انتظرت ... دخنت لفافتين قبل أن أتقد م ، لكن الشرطي
باغتني بصياحه :
ـ سيادته لا يقابل أحدا قبل أن يطلع على جرائد
اليوم .
لاحت بالباب فتاة .. شقراء .. ممشوقة القوام ، لا
تتجاوز العشرين ، عارية الفخذين ، والكتفين ، والصدر ،
والظهر .. تضع نظارة ، وتحمل حقيبة ، تجر خلفها كلبا
غزير الشعر ، مثل خاروف .. نبح عليّ بوحشية ، راحت
تخاطبه بلغة لم أفهمها ، اتجهت نحو مكتب النقيب ،
انحنى الشرطي ، فتح لها الباب ، دلف الكلب للداخل ، ثم
تبعته ، دوت في أذنيّ عبارة حفظتها :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول ...
لكنني مددت رأسي ، وحاولت الدخول خلفها ، جذبني
الحاجب من ياقة قميصي ، وثب الكلب نحوي ، نابحا
بعصبية واحتقار :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول ، قبل أن ينصرف
ضيوفه .
أدخل الشرطي إليهم ثلاثة فناجين من القهوة ، سألت
نفسي :
ـ هل يشرب كلبها القهوة أيضاَ ؟؟؟!!!...
طال انتظاري ، الضحكات الشبقة تتسرب من خلف
الباب ، والشرطي في كل رنة جرس ، يدخل حاملا
كؤوس الشراب ، الشاي ، الزهورات ، المتة ، الكازوز ،
الميلو ، الكاكاو ، وإبريق ماء مثلج ، وأخيرا .. دخل
حاملا محارم [ هاي تكس ] ، الضحكات تتعالى ، ونباح
الكلب يزداد ، كلما نظرت نحو الباب .
تمنيت أن يفتح الباب ، ويطل عليّ كلبها ، حينها
سأرتمي على قوائمه ، وأتوسل إليه ، ليكون وسيطاّ لي ،
عند سيادة رئيس المخفر ، لكنني تذكرت ، فكلبها للأسف
لا أفهم لغته .
وبدون وعي مني ، وجدتني أهجم نحو الباب
الموصد ، أدقه بعنف .. وأصرخ :
ـ أرجوك يا جناب الكلب ... أريد مقابلة النقيب .
وما هي إلاّ لحظات ، حتى غامت الدنيا ، توالت
اللكمات ، الرفسات ، اللعنات .................
والنباح يتعالى ... ويتعالى .. ويتعالى .
وحين بدأ العالم يتراءى لي ، وجدت نفسي .. ملقى
في زاوية الزنزانة ، غارقا في دمي .
*مصطفى الحاج حسين .
حلب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق