يقرع الحزن اوتاره ليختبر مشاعر البشر مراهنا عن قصف القلوب العاجية التي تشتهي الفرح والعزوف عن لبس الحداد او معانقة اللحد .
أحاول الانفلات من شقوق الظلال ، وأشعل عود الكبريت الأخير في وجه الظلام لينبثق شعاع من ملح أرضه التي أعطته تفاصيل الميلاد ليحوم بعدها في سمائي سرب الغربان، أين ينتصر اللون الرمادي على خيوط الشمس الذهبية. فأمشي في أرض قاحلة يتناثر
فيها تراب أجوري مثقل بالرمال ،لأرقب بشارة دحرجها نسيم الليل لتشفى أرضي من تجاعيد صفدت أهازيج البلبل، وأحرقت كبريائي بسلاسل الصلب ،لتتلاشى بعدها أنفاسي في كل مكان تبحث عن خلاص فلا تجد إليه سبيلا سوى أمل زهيد يرتعش في سكون الليل لينتقل مع مياه المطر في فجر متعب انطفأت في عيونه فوانيس هاربة من القرون الوسطى لم تحتمل الخشوع لحظة تهليل الجبال لتزحف جيوش القهر وترابط بيني وبين قوس قزح ،فتذبل أغصاني في أرض النوميديين التي نهبها البيزنطيين ونهلوا الفرح من شرفات قصورها الزرقاء المنمقة بزخرف الفسيفساء فوق تكتلات من الرمال الحمراء التي عشقها قياصرة الروم، وبقت أطلالهم منمقة بالأحجار المنثورة على منحدرات أهداب العذارى التي تضلل سفوح الجبال الرمادية المنسابة من جفون الممالك الأمازيغية لتمنحنا روح ذكرى كوكب دخانه انهار فوق أطلال الحضارة العثمانية . ما كنت أدري أن السعادة تأتي اليوم لتذهب غدا ،ويذبل كل شيء كأوراق الخريف ،و تبقى جوارحي باردة ترتعش في الخلاء ،ومعها جماجم أجدادي الأمازيغ التي تسبح فوق رقائق الجليد على طول ألاف السنيين فشعبهم العريق يعشق الحرية ،وذكراه مرهونة بتفاصيل ملوكها.وإذ بأشكال خارقة تتسلق صرحهم وتنهب مآثرهم ، فتندثر أحلامهم في خط الزمن وترتحل أساطيرهم في دجى الليل عبر دهاليز المرارة،ويبقى موج الغضب يتأجج بداخلي يصارع الحزن ،وليته خنقه لأرتاح من ألمي،فكم هو صعب مزج فصل الموت بربيع الأمل ،والتحرر من شتاء اليأس ليصبح عندنا كل شيء بعدما أوشكنا على فقدان كل شيء . تتزاحم الأحداث في معصمي كلما اقتربت من حلقة الفراق ولوعة الوداع ، فتستحي أحلامي من البقاء لتصبح ذكرياتي أطلال ،تغرب فيها الشمس وتشرق في مكان آخر رغم أن الحياة الأولى وجه جميل نعشق رؤيته ، وهي امتحان وهدية الرحمان في نفس الوقت، وتقلباتها تبقينا في قلق، نجابه وحشيته وخوفه القاسي ، ونعيد ترتيب الأمسيات، والغوص في فجوات الهروب رغم أن البدء من نقطة النهاية هو خيانة للحياة الأولى لكن أحلم باستبداله بحياة ثانية بدون تقبل أسوأ مخاوفي لأنه لا يوجد مجال للتراجع ،وسيأتي يوما تشرق فيه الشمس وتغرب ويحل الليل بعتمته ويبزغ الفجر بخيوطه الفضية، ويأتي الشتاء بغضبه ،والربيع بأزهاره والصيف بصفاء سمائه وزرقة بحره ،والخريف بلونه الرمادي واصفرار أوراقه عندها لن أكون موجودة لأني رحلت إلى حياة ثانية...... فهل هناك تنتظرني أشياء جميلة أتمتع بها وأحلام أستطيع عيشها ،وأجد من يقرأ قصائدي وتكون بقربي أنية وغصن زيتون ورائحة الزيزفون، وأمي وطفولتي ؟..هل سأجتمع بكل من فارقني والجلوس إليهم وتبادل أطراف الحديث معهم وبث أشواقنا فوق العشب الأخضر... ؟. هل سيرحل معي عذابي وكل انكساراتي ولا تفارقني أهاتي؟ .أم سأرتاح من كل هذا، وسأنعم بالسكون وتكون لحياتي الثانية رائحة ولون مختلفان عن الحياة الأولى؟ أم تنكسر أفراحي ويصبح كل جزء في غريب، ويتحرر مني ليكون شاهدا ضدي؟ . إن الحياة تبقى هي النهر وهي العطش، وعندما نتسابق معها تفوز علينا في الشوط الأخير، ويصعب علينا زرع ذكرى جميلة لأن الأرض لم تعد أرضها ولا الزمان زمانها. فتعود الوحدة تسكنني وتتسرب الغربة إلي وأتنفس أحزاني وأحترق في اللهيب لأنه لم تعد لدي فرصة في الحياة الأولى لإصلاح أخطائي أو فعل الأشياء الجميلة ،والحقيقة الدامعة ذائبة في جوف قهوة بمذاق الحنظل حين أحلم بحياة ثانية رغم أنها خيانة للحياة الأولى. تسيل فوق وجنتي أنهار من رواسب الذكريات المؤثرة تجمع أثار الفجائع والأحزان المكدسة ، وتمر في سمائي سحائب خفيفة ناسفة ، لترسل الشمس عويلها عبر شقوق بازلية مدرجة بألوان ممزوجة بأسود رمادي .فيصرخ الغريب في الضفة المقابلة أين تحاوره ساقية محاطة بصبار، ونخيل أغصانه أشجان ،وثماره مذاقها يكمل بساتين بلقيس. فيحاور الغريب صمت الليل لعله يهتدي لقصرها المشيد بالدخان فيتسع خراب قلبه ويتسلل السم من شفاه الورد، فتهديه الغابة منديل أوراق التوت التي جمعت من حديقتها العاجية علها تكون بلسم يشفيه من سقمه، ويبعد عنه حزنه العتيق. أذكر جيدا كم لعبنا وذرفنا الدموع لفراق الأحبة، وكيف شاب الفؤاد حين دغدغه شوق الشاطئ الذي يضمه ،وماتت فرحتي في حضن قوس قزح المغري. فتبعثرت لأجلي أحزاني ورقصت لها دموعي فوق وجنتي معلنة الحداد، وذكرى جيوش الجلادين الزاحفة لأرضي ،وهم عطشى لجفون عذراء تعشقها أرض الزيتون. ،فتعبر سمائي طيور مهاجرة من الشرق إلى الغرب معلقة بين السماء والأرض أجنحتها تحلق وفق تصريف الرياح،وقبل حلول الليل ينهار ضباب خارق لينساب منه الوشاح على كتفي ،فتتلاشى أفراحي في ضفاف سكون الليل فأحاول التوغل في أحلامي المتبقية لعلي أستطيع عيشها، ولن أنظر بعد ذلك لطول الحياة لأنها لم تعد لي؛ فاختراق الألوان لحياتنا تنسينا أنها زائلة ،وإذا اخترقت الظلال حيز وجودنا عندها فقط هي من تلقي الأوامر لتسلبنا الراحة والسكون . تشرق الشمس وينطفئ النهار في معطف الليل ،وتبقى أفكاري تتمايل في جوفي لا تعي سوى الدوران في الفراغ ،وقوافل النعيم من نصيب أحبة الله . فأتأهب للرحيل وهناك في المقبرة ...احلم بزهر ينبت على قبري، وقبل صعود روحي أرغب بقراءة وصية الوداع على أحبتي . لم تزل روحي في أطراف الفرح قابعة وإذ برياح الجنوب هبت، فعصفت بأغصاني المورقة ، ومزقت أزهاري المتفتحة، فحمل جفن اليأس عطري المتبقي إلى الأفق قبل نهوض الشمس من مرقدها وإدراكها لشقاء روحي المنهكة من أمانيها المتبقية، ليبقى الغصن شاهدا على ذكرى الدهور والأعوام. فأستحي من أمي حين تحضر في جوف الصباح بعد سهاد طال جفون الذئاب لتمشط جدائلي ولن تجد سوى ذاكرة المكان ....... . الاقتراب من الحقيقة يجعلني احترق ،وأصير كومة رماد ، وتنتابني رغبة كبيرة في امتلاك جناحان لا ينكسران ،لأرتحل لأرض مبشرة بالبقاء لأنني أخاف من كلمة الفناء، أو أمسي في ذاكرة النسيان لا احد يذكر اسمي رغم أني كنت في الماضي زهرة تنبت في قلب الملح تجمع بين اللون الأحمر والأصفر تسقى من نهر ماؤه غدق عطري تكثيف للتوليب والأوركيدا أتربع على عرش وجودي أعانق في شغف ذكرى مجد الملك صيفاكس لأن الغوص في الماضي هو نسيان الموت ولو للحظات.وانهي معاناتي بتمزيق صفحات مذكرتي. لقد أوشك الرحيل ونهاري أدراجه مثيرة بألوانه الأصفر الأبيض، والأزرق الصارخ للسماء ،ودنوت من جفن الرحيل النائم بغفوة كاذبة مخادعة في لحظة الانصهار لينتهي حلمي في قلب الحقائق المجهولة ، فتنساب كثبان الضباب من قلب السماء لتتبخر ثم تعود من جديد ،فتتهدم تلك الأكوام المسحوقة بوحشية الخوف قبل أن يحل الليل وأشهد بزوغ الفجر ...اعتدت نسيم الصباح والسجود للمولى في خشوعا حبا وخشية عقابه ،وتقبيل جبين أمي ،والمشي مع أحبائي في الطرقات ، لكن جسدي الآن يرتجف والكلمات تنكسر في محاجري،و الدمع يحرق وجنتي تاركا وراءه أثار المرارة ،وكلما أذكر الأشياء ورائحة الربيع التي عطرت أيامي تتزايد درجة الخوف والرهبة. فيغزوني الشعور باني على حافة الوداع . لقد بللت حبات المطر جفوني التي يعلوها الصراخ حين أوشكت على فقدان قلادة الحياة، وماتت في شفتي ابتسامة عذراء حين صار القبر محتم والصبر لباس.فيا روحي ارحلي وعيوني معك فلا تيأسي من هجرك لأحضان باردة فلا مفر لجسد تنتظره قطعة قماش ،ولسوف ترثيك عيون أحبتك وخرست في جوف الوداع ...لم يعد الخيار من نصيبك للبدء من آخر النهايات، ولم تعد هناك ألوان ولا رائحة ولا شوق لحبيب أو رغبة في سماع صوت قرع الطبول سوى صوت أوراق الخريف وهي تسقط على الأرض في انكسار. دعوا حروف الموت تسقط في مدينة عيوني لتذرف دموعا تذبل منها الورود وتهرم حين تساق روحي للمنايا ،وسرب الحمام يزفني لموكب الجنائزي،يا موت أنتظر هناك في المحطة الأخيرة أم أنك لا تتعبك المسافات، فأرجوك انتظر حتى أسرح جدائلي، وأسدلها على كتفي وأضع الكحل في عيني ،وأتعطر برائحة العنبر الزكية ،وأرتدي ثوبي الأصفر المفضل لدي، وأضع في معصمي الساعة السويسرية، وأضبطها على مواقيت لقائنا. يا موت، انتظر حتى أنهي صلاتي ودعائي وتقبيل أمي وإخوتي وأحبائي وجدران غرفتي والوقوف عند حديقة منزلنا ،وأرشف الفنجان الأخير من القهوة رفقة أمي. يا موت ،أمهلني فرصة زيارة المقبرة لأعلم أبي وإخوتي انني آتية ليحضروا لي استقبالا يليق بلقاء البنت والأخت بعد غياب طويل. يا موت ،اتركني أختار لون كفني ومن يخيطه لي ويغسلني . يا موت ،عندها تقدم نحوي في هدوء وأكشف لي عن وجهك لأتمعن فيك قبل رحيلي وأكون غريبة عنك. يا موت ،أعلم أنني لن أجلس إلى طاولة التفاوض معك ولن أناور بل سأعلن استسلامي لأني أعرف جيدا أنك قناصا تصيب هدفك. يا موت، امنحني فرصة أتلفظ فيها اسم الجلالة عندها فقط . يا موت ،لا عتاب لي عليك لأنك انتظرت. فعيوني في المدينة دامعة وهي تودع الأحبة ،وروحي شوقها يمور وهي تصعد لعنان السماء بعدما أنهكني النظر في دياجي وقناديل الجوزاء المعلقة في سقف غرفتي شاهدة حين عبرت أجنحتي المعبر الأخير ، فينطق الحصار من حولي ،وينقطع عني جسر الحياة ،فتذبل مواسم الأفراح في قلبي لتتعانق الآهات والآلام بداخلي معلنة عن ميلاد جديد لحياة ثانية تاركة ورائها كل أحبائي ولعبي وذكرياتي، فارحل مع ضوء القمر متوغلة في ساعة ذاكرة الحدث الذي يمر من هناك ولن يعود حاملة في جعبتي أعمالي وروحي ملفوفة في قطعة قماش، وبخطى متثاقلة أسلك مساري حيث أكون وحيدة مودعة كل ما هو جميل وفان وفي أعماقي ترقص فرصة الحلم بالأمل في فرصة ثانية للبدء بعد مرحلة الحياة. تقتطف ورقة رحيلي من اللوح المحفوظ ، وتغدو روحي المقتلعة في رجة الوجدان كما تقتلع الجذور من الصخرة الأم ، ويزرع القمح الأبيض على جداريه المشهد لحظة خراب لحق بزنابق بحيرة السلام.
*حكيمة شكروبة
هناك تعليق واحد:
كلام جميل ومنبثق من واقع معاش واحاسيس فياضة وأمل مرتقب من الأرض المباركة التي ترابها مثل المسك لانه مسقي بدماء الشهداء الأبرار.مشكورة لادائك الرائع دمتي متألقة انشاء الله
إرسال تعليق